الموناليزا تنتقل إلي صالة جديدة في متحف اللوفر في باريس

عبد الإله الصالحي
(باريس)

الموناليزاعندما تتململ الموناليزا يتزلزل متحف اللوفر. وحالما تغير الموناليزا أو الجوكندا رائعة الرسام الإيطالي ليوناردو دافينتشي مكانها ولو بضعة أمتار قليلة في اللوفر فذلك حدث ثقافي وإعلامي بارز يتطلب تدابير وإجراءات خاصة وعناية فائقة لا تحظي بها حتى أكثر الأميرات والملكات بذخا في العالم وهو الأمر الذي يفسر تدفق مئات الصحافيين أول أمس علي متحف اللوفر في قلب العاصمة الفرنسية لمعاينة الموضع الجديد لهذه العمل الخالد لعصر النهضة والذي يبلغ عمره الآن أكثر من 500 عام. والموناليزا أو الجوكندا ليست فقط أشهر وجه مرسوم في التاريخ بل هي نجمة إغراء حقيقية في الفن الغربي ذات سحر وجاذبية وألق لم يذبل علي مر العصور. ويبدو أن رواية دان براون الأخيرة شيفرة دافنتشي التي حققت نجاحا عالميا منقطع النظير بعد أن بيع منها ما يفوق العشرين مليون نسخة أججت من وتيرة التوافد علي متحف اللوفر للتملي بمشاهدة الموناليزا التي يحضر طيفها بقوة في هذه الرواية.

الموناليزا تحت العناية الفائقة

الحدث إذن تمثل في تغيير مكان لوحة ليوناردو دافينتشي الخالدة ووضعها في صالة فسيحة مخصصة للرسم الفينيسي جنب 52 لوحة أخري في مواجهة لوحة زواج كانا الضخمة للرسام الايطالي فيرونيز. وقد تمت إحاطة الموناليزا بأجهزة تكنولوجية متطورة لحمايتها من التلف ومن جشع اللصوص أو المعتوهين. وهي محمية بزجاج أبيض شفاف واق من الرصاص يبلغ سمكه أربعين ملمترا يؤمن درجة حرارة مستقرة في حدود العشرين درجة. كما أن الصالة الجديدة مزودة بأجهزة إنذار متطورة علي شكل خطوط لايزر خفية لا تُري بالعين المجردة. ونظرا لكون اللوحة لا تقدر بثمن فقد اتخذ مسؤولو اللوفر إجراءات أمنية مشددة لنقلها ليل الأحد الماضي بعد الإغلاق بشكل سري في ثامن رحلة لها منذ أن استقرت بمتحف اللوفر عام 1789. فمن أجل ذرع مسافة 150 مترا فقط داخل أروقة المتحف تم لفها في ورق خاص ومحايد لا يؤثر علي الألوان ونُقِلت في عربة آلية إلي صالتها الجديدة كي يتم تنظيفها بمواد كيماوية خاصة. لكن قبل تثبيثها علي الجدار خضعت اللوحة لفحص طبي شامل قام به طاقم من 15 شخصا منهم علماء ومتخصصون في صيانة اللوحات الفنية ومصورون ومهندسون في الكيمياء. ذلك أن الجوكندا بدأت منذ عقود تعتريها بعض عوارض الشيخوخة التي تجلت في بروز بعض الشقوق الجانبية في الحواف. لكن المتخصصين خلصوا إلي أن اللوحة رغم بعض الوهن فهي تتمتع بوضع مستقر. لكن للأسف، كما لاحظنا ذلك، بالعين المجردة لا تبدو الموناليزا مرتاحة في وضعها الجديد حيث عمد المسؤولون إلي تثبيتها تحت قوس من الإسمنت يبلغ طوله عشرة أمتار. كما أن لا أحد انتبه إلي كون الأشعة تتسرب عبر زجاج نوافذ الصالة الجديدة في أوقات محددة من النهار حين يكون الجو صحوا في الخارج وتؤثر علي رؤية المشاهد.

غموض الموناليزا الأبدي

الموناليزا لوحة بحجم 77 سنتمترا علي 53. ولا توجد لوحة في العالم أجمع تضاهيها في الشهرة والعز. وكل يوم يتسمر أمام ابتسامتها الخجولة والرهيبة عشرون ألف زائر يحجون للوفر من مختلف بقاع العالم. بل أنها لوحة الزوار المفضلة بامتياز بحيث أن تسعين في المئة من الستة والستين مليون زائر الذين يقصدون المتحف كل عام يفعلون ذلك لرؤية الموناليزا بالأساس. وإذا كانت لوحة الجوكندا قد ثورت فن البورتريه خلال عصر النهضة فهي ليست قطعا أجمل لوحة في العالم بل أن اللوفر نفسه يضم في أروقته لوحات أكثر روعة وبهاء. لكن ثمة سحرا خفيا ورهافة جمالية وغموضا أزليا يشع من هذه اللوحة ويجعلها مصدر جاذبية أبدية علي مر القرون والعصور. وإذا كان دافينتشي رسم لوحته بمعايير عصر النهضة الجمالية السائدة آنذاك في فلورنسا فالجديد آنذاك تمثل في شخصية الموناليزا التي تخاطب مشاهدها مباشرة، عيناها في عينيه وشفتاها تشع بابتسامة خفيفة وملغزة. كما أن الشخصية المرسومة كانت وما تزال موضع التباسات تاريخية متناقضة رسختها كأسطورة فنية هائلة. والطريف أن أجيالا متعاقبة من المتخصصين والعلماء انكبوا علي البحث عن صاحبة الابتسامة الغامضة وقد توصل أحدهم وهو ايطالي الجنسية ويدعي جيسيبي بالانتي بأنها موناليزا واسمها الحقيقي ليزا جيراديني كانت زوجة تاجر حرير من فلورانسا يدعي سير فراتنشيسكو ديل جوكوندو وأنه كان علي علاقة بدافينتشي وهو الذي طلب منه انجاز بورتريه لزوجته. غير أن هناك نظريات عديدة بشأن هوية السيدة التي تجسدها الموناليزا. فبالنسبة للبعض قد تكون فتاة هوي كان دافينتشي يعاشرها في شبابه. ومنهم من يقول أنها رجل في زي وهيأة امرأة وأنها تعكس ميولات رسامها المثلية الجنس. ومنهم من يقول بأنها ليست سوي صورة دافنتشي نفسه.

الموناليزا أو الأيقونة التي عُبِدَتْ وسُرِقَتْ ورُمِيَتْ بالحجارة واستُنْسِخَتْ حتى الابتذال

لوحة الموناليزا كانت في الأصل تلبية لطلب من إحدى ثريات فلورنسا وقد اشتغل عليها دافينتشي أربع سنوات كاملة ابتداء من عام 1502 ثم فضل الاحتفاظ بها في نهاية المطاف. وعندما استضافه الملك الفرنسي فرانسوا الأول حملها دافينتشي في حقيبته إلي باريس وقبل سنوات من موته اشتراها الملك الفرنسي منه عام 1517 لقاء مبلغ ضخم لم يُعرف أبدا رقمه الحقيقي.

وقد عرفت الموناليزا عدة مغامرات في تاريخها الطويل. ففي 21 أغسطس (اب) من عام 1911 قام عامل ايطالي مهاجر يدعي فينشينزو بيرغيا يشتغل في مصلحة الصيانة بالمتحف بالضحك علي ذقون حراس اللوفر وسرقها بسهولة كي يعود بها إلي بلاده معتبرا أن فرنسا لا يحق لها أن تحتكر كنزا وطنيا ايطاليا بهذه الدرجة من الخلود.
وشكت السلطات الفرنسية آنذاك في ضلوع رجال الاستخبارات الألمانية في عملية السرقة لكن التحقيق لم يسفر عن أي نتيجة تفضي إلي السارق الأمر الذي خلق ضجة إعلامية جعلت من هذه السرقة شأنا سياسيا وطنيا آنذاك. واستمرت الضجة زهاء سنتين كاملتين إلي أن قام أحد تجار الفن بمدينة فلورنسا بتبليغ السلطات عن شخص مشبوه اتصل به عارضا عليه شراء الموناليزا ليتم القبض عليه واستعادة اللوحة. والغريب في هذه الفترة أن الزوار كانوا يتهافتون من جميع أنحاء العالم علي اللوفر لمشاهدة مكان اللوحة الفارغ ورؤية الصالة التي سُرِقَتْ منها وكأن غياب اللوحة هو حضور في حد ذاته. وقد ساهمت فضيحة السرقة تلك في إضفاء هالة أسطورية علي اللوحة وتكريسها ككنز قومي فرنسي.
وخلال الاحتلال النازي قام محافظ اللوفر بإخراجها من المتحف ونقلها من قصر لآخر خوفا عليها من جشع الضباط النازيين. وعام 1956 ستتعرض الموناليزا لاعتداء وحشي حين قام مواطن بوليفي مجنون برميها بالحجارة ولولا نباهة الحراس والزوار الذين ارتموا عليه لضاعت الموناليزا إلي الأبد وهي المعروفة بهشاشتها. ورغم أن اللوفر حاليا يحرص علي عدم إعارة الموناليزا أو حتى إخراجها من المتحف فقد سمح لها في السابق بأن تسافر خارج الديار الفرنسية فيما يشبه المهمة الدبلوماسية. فعام 1963 حطت الرحال في واشنطن ونيويورك حيث تزاحم الآلاف من الزوار لمشاهدتها وعلي رأسهم الرئيس الأمريكي جون كينيدي وزوجته جاكي اللذان تأملاها مستمعين لشروح وتعليقات الكاتب اندرو مالرو الذي كان يشغل منصب وزير الثقافة الفرنسية آنذاك. وبعد احد عشر عاما تم عرضها في طوكيو ثم موسكو حيث تجمهر الآلاف عند مدخل المتحفين اللذين احتضناها للظفر بثوانٍ معدودة أمام ابتسامتها الملغزة.

الموناليزا بين الحضور والغياب
في قلب الحداثة الغربية

منذ أن طاف بها دافينتشي في الصالونات الباريسية وبلاط الملك فرانسوا الأول تحولت الموناليزا إلي رمز للجمال الفني وصار تأملها درسا لا مناص منه لطلبة الفنون منذ ذلك العهد. لذا فكل التيارات الفنية التي تعاقبت منذ عصر النهضة إلي الآن اتخذت في وقت من الأوقات وبدرجات متفاوتة موقفا من هذه اللوحة التي تحولت إلي أيقونة مقدسة تجسد النظرة الفكرية الغربية للجمال. فمع مرور العقود راكمت الموناليزا طبقات رمزية كثيفة بحيث أن المرء عندما يتأمل الموناليزا فهو لا يري فقط ابتسامة الشابة الغامضة والأبدية بل يري أيضا فكرة مكرسة عن الفن وعن الأنثى. لذا فليس من الغريب أن تتحول اللوحة إلي هدف سهل للفنانين الذين يرفضون فكرة الجمال التي تجسدها. فانتقاد الموناليزا أو التعرض لها هو انتقاد لفكرة مثالية عن الجمال الكوني ودحض للميكانيزمات الثقافية التي جعلت منها هذا العمل الخالد العابر للعصور والثقافات والجغرافيات. وابتداء من القرن العشرين مع تبلور الأفكار الحداثية في الأدب والفن والفلسفة بدأت سهام الانتقادات تتجه بقوة إلي الجوكندا. هل يجب علينا حرق الجوكندا؟ تساءل الشاعر لوتريامون صاحب أغاني مالدرورو عام 1911 في إحدى قراءاته الشعرية. لكن الضربة الموجعة لرمزية الموناليزا ستأتي عام 1919 عندما قام الفنان مارسيل ديشون وهو في ذروة مرحلته الدادائية بنسخها مع إضافة شنب ولحية صغيرة في الذقن وعنوان في غاية الاستفزاز انها هائجة جنسيا . هذا الاختطاف الدادائي للموناليزا، الذي كان وراءه أندريه بروتون علي ما يبدو، أثار وقتها حنق وغضب الأوساط الأكاديمية، لكنه أيضا كان بمثابة إعلان نوايا فنية ومانفيستو صريح للدادائية الوليدة التي ستتبلور لاحقا في الرسم السوريالي.
بعد مارسيل ديشون ستتوالي عمليات اختطاف وتحريف الموناليزا بدرجات متفاوتة من النجاح. حيث قام أندي وارول باستنساخها ثلاثين مرة من خلال عمل سينوغرافي تحت عنوان ثلاثون مرة أفضل من مرة واحدة . كما أنجز سلفادور دالي بورتريه ذاتي علي شاكلة الموناليزا بشاربيه الشهيرين. وقام سيرج الثالث باستنساخ الموناليزا لكن بوجه ممحي لا أثر فيها للابتسامة ولا النظرة الخالدتين.

لكن الإختطاف الأكثر إبداعية لرمز الموناليزا كان في الواقع علي يد الفنان روبير فيليو وهو من تلامذة مارسيل ديشون من خلال لوحة عنونها الجوكندا في الدرج ونري فيها مكنسة وممسحة وسطل ماء ويافطة كتب عليها السؤال التالي: أين ذهبت الموناليزا؟ . طبعا لا أثر للموناليزا في اللوحة لكن العنوان يحمل الجواب إنها في الدرج كما لوكانت بوابة عمارة مكلفة بأشغال النظافة. لوحة فيلو تستحضر غياب الموناليزا فالفنان لم يكتف بإضافة شارب أو خربشات بل بإخراجها نهائيا من فضاء اللوحة بغية تدمير الأيقونة التي تجسدها. كما لو أن سهرة رمز الأنوثة والجمال التي دامت قرونا كاملة انتهت ولم يتبق في النهاية بعد افتضاض الجمع ومغادرة المدعوين سوي حجرة فارغة ومكنسة وممسحة وسطل ماء من أجل تنظيف البقايا. وهذا ما يعطي لهذه اللوحة بعدها التفكيكي بالمعني الرمزي للكلمة.

إذا كانت الموناليزا ما تزال قادرة علي السحر والغواية رغم الزجاج الواقي السميك وجحافل السياح المثيرين للاشمئزاز، والكليشيهات المتقادمة التي تلفها فلأننا نري ربما من خلالها المرأة كما هي اليوم. امرأةٌ تنظر إلي المُعْجَبِ بجرأة وتعلو محياها ابتسامة إغراء هامسة. امرأة تخرج من الإطار الذي سجنها فيه الفن والثقافة والتاريخ لتتماهي مع المشاهد لبرهة قبل أن تعود أدراجها للوحة. لأن الموناليزا، هي في العمق، كما المرأة الحقيقية ليست ولن تكون مِلكا لأحد. ولأن نظرتها الصريحة المشوبة بكآبة خفيفة تؤكد لنا بأن الجمال والسعادة مجرد احساسين عابرين.

القدس العربي
2005/04/08

*******

موناليزا دافنشي "العطوبة" في قاعة اللوفر الجديدة التأهيل

لزوّار المتحف أن ينظروا إليها بعد اليوم من بعيد

نزيه خاطر
(لبنان)

الموناليزالم أكن أخال حتى ذاك اليوم في 1963 كم هي دقيقة ومشددة ويقظة إلى كونها مرتفعة الكلفة من دون سطح، الحماية التي ينبغي حكما تأمينها كلما غادرت إحدى الروائع الفنية مكانها في المتحف إلى عنوان آخر، قريب أو بعيد. وما سمعته يومذاك من أستاذي في اللور في علم صيانة الأعمال الثمينة جدا عند سفرها، وخاصة تلك التي لا يتوافر سوى القطعة الفريدة ولو أصيبت بعطب لأصابت الإنسانية خسارة، بدا فائق الأهمية والى اليوم لا أزال اتذكر أقوى نقاط مداخلته الأكاديمية التي دارت بأكملها حول الوسائل المتّبعة كلما أعطى أذن متحفي لنقل عمل فني نادر جدا، وإن قام به اختصاصيون إلى فضاء آخر. والقاعدة الأولى تقضي بألاّ يُسمح بذلك رغم ان من حق الناس على المؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة إلا يُحرموا من متعة تذوق الروائع، وخاصة تلك التي تمثل حضارات الشعوب.

وردت في بالي تلك الأفكار مع مطالعتي دراسة علمية مختبرية عن "الوضع الصحي" إذا جاز القول لإحدى روائع النهضة الايطالية التي لمجرد ذكر اسمها أي "لاجوكوند" أو "الموناليزا" يطفو الكلام الروائي على سواه، كلام يغذيه كمّ عريض من القال والقيل في المنحى البوليسي يترافق و"اللوحة النجم" من لحظة اقتناء البلاط الملكي الفرنسي لها في السنوات الأولى من القرن السادس عشر، إلى الأمس القريب لا يتجاوز الأسابيع الثلاثة اذ بادرت إدارة متحف اللور في باريس، مالكة رائعة دافنشي، إلى إعادة "صمدها" (من "صمدة العروس" في قرى الجرد) في الغرفة التي أعيد تأهيلها لتتلاءم فضاء ومناخا وإضاءة مع مستلزمات المحافظة على عمل فني أظهرت التحاليل المخبرية انه سريع العطب وينبغي أحاطته بالدفاعات المتحفية العلمية الكاملة. ودامت ورشة التأهيل للغرفة سنوات أربع (من 2001 إلى 2005) وبلغت تكاليفها بالاورو ثلاثة ملايين ونصف مليون تولى تغطيتها كاملة متبرع ياباني. وكانت "لاجوكوند" لدانشي في 1963، كما هي اليوم، منطلق كلام أستاذي في متحف اللور عن صون الروائع من إخطار الانتقال من موقع إلى آخر. ويقال في جدية كبيرة "لو حُرّكت الموناليزا من مكانها يرتجف متحف اللور". والقول رصين ومسؤول وعلمي، ويكفي سرد عدد جزئي مما يأخذه حافظو اللور من حيطة ضد الأخطار الناتجة من أي عملية سفر، وإن افتراضية، لأدراك درجة الحذر العالية التي ترافق أي موافقة على إخراج إحدى الروائع المصنّفة "عرضة للعطب".

الموناليزايومذاك، وضمن حملة إعلامية أرادها اندريه مالرو في خدمة الإشعاع الفرنسي بحسب الجنرال ديغول، كان القرار ان تتمحور تلك الحملة حول جولة عالمية لتحفة الموناليزا، ولذلك تم اختيار محطات أربع لتطواف "جوهرة اللور" في نيويورك بعد واشنطن، وموسكو بعد طوكيو. وهنا انتهت السياسة وبدأت متاعب حافظي المتحف، فعلى هؤلاء تقع مسؤولية ضمان سلامة قطعة فنية رائعة في رحلة سندبادية عابرة للبحار والأجواء فيما يفرض على هذه القطعة حصار يحد من تحريكها حتى داخل متحف اللور. ولم يكن أمر إخضاع "لاجوكوند" للتحليل المخبري عرف عامذاك، أي في 1963، النتائج العلمية الكاملة نظرا إلى الواقع التقني المحدود في مختبر اللور. إما اليوم وبعد الإضافات التقنية المتطورة جدا التي رفعت هذا المختبر إلى مرتبة أولى بين المتاحف المصنفة "عالمية"، وبعد انجاز كشف "صحي" علمي دام أعواما ثلاثة نتجت منه معرفة "متحفية" دقيقة بكل التفاصيل إلى الخفية منها، ظهر موقف صارم شبه نهائي يمنع من الآن رفع "الموناليزا/ الجوكوند" عن الجدار المهندس ليوافق مساحتها في "صالة البيانات" في جناح دونون داخل متحف اللور. وكانت هذه المساحة لأشهر لوحة تفاجئ زوارها دوما بحجمها غير المنتظر، فتطل عليهم حميمة ومنمنمة على عكس الحضور الذي لها في مخيلة الرأي العام، ومعروف عن الموناليزا ان ليوناردو دانشي (1452 - 1519) رسمها على لوح من شجرة حَوْر ارتفاعها 77 سم وعرضها 53سم وسماكتها 13 ملم. وانه امضي زمناً طويلا يعمل لانجازها. وانه اختبر تقنية "السوفماتو" Sfumato المبنية على مثل ضباب شفاف يكاد يغطي السطح من خشب الحور بقشرة لونية شبه معدومة الوجود. ويقال ان أكثر من ثلاثة أعوام بين 1502 و1506 لزمنه لتكوين قناعة تجعله يوقّع عمله.

الموناليزاحادث كاد يترك أثرا درامياً أصاب لوح الَحْور يوم نُقلت لاجوكوند في 6 حزيران 1952 من "الرواق الكبير" في اللور إلى غرفة المختبر في الطبقات السفلى، فلوحها تقوّس بضغط الفارق في رطوبة المكانين، والحالة معروفة جيدا لدى علماء الترميم وحافظي المتاحف. ولم يمنع هذا "الوضع المرضي" إذا جاز القول إدارة المتحف من الموافقة بعد عدة أعوام، أي في 1963، على إيفاد الموناليزا لاجوكوند كسفيرة كاملة الصلاحية إلى العواصم الكبرى لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي واشنطن ونيويورك وطوكيو وموسكو، وبمرافقة الكبير أنديه مالرو شخصيا. وشروط قاسية جدا فرضها المتحفيون الفرنسيون على السياسيين كي يسمحوا بالعملية، ومنها:

  1. رفض استخدام الطائرة فلا نجاة في حال وقوع حادث.
  2. ضرورة "صندقتها" علمياً ضد الغرق في كل نقل بحري لها.
  3. ضرورة حمايتها المشدّدة ضد اعتداء بعض المهووسين كذاك الشاب البوليي المدعو اوغو اونغازا فيللغاس الذي رماها بالحجارة في 1956، وهي تحمل إلى اليوم الخدوش الناتجة من هذا الاعتداء.
  4. ضرورة توافر مسافة آمنة فعلا بين نقطة وقوف الزوار والعمل على الجدار.
  5. ضرورة ضبط الأدوات ضد السرقات، وكانت الموناليزا تعرضت للسرقة في 22 آب 1911 على يد ايطالي يدعي فنسانزو بيرّوجيا أعلن يوم القبض عليه بعد سنتين في فلورانس انه فعل ذلك لاستعادة تحفة حضارية ايطالية سرقها بونابرت يوم احتل ايطاليا.والحقيقة غير ذلك اذ لم تخرج الموناليزا من محترف الفنان إلا بعد وفاته في 1519 في مدينة امبواز الفرنسية حيث اختار العيش بعد هجرته من وطنه في 1516، والملك فرنسوا الأول هو الذي اشتراها من خزنته الخاصة من منفذ وصية الفنان، واللوحة مقيمة في قصر اللور إلى اليوم وقد تحول إلى متحف للفنون الأثرية والتشكيلية حتى بدايات التاسع عشر.

ويقال ان لرائعة دانشي عددا مرتفعا جدا من "البادي غارد" والمرافقين بما يلائم قيمتها المميزة في المؤسسات المتحفية التي يحلم معظمها باستقبالها لمدة ولو قصيرة ضمن فضائها.

وإذا كان الوجه المعلن للمردود المالي لوجودها إلا ان هناك أكثر من فائدة بين معنوية وتطبيقية وثقافية وفلسفية يقطفها زوارها أينما وجدت.

وتصب النتائج التي تكونت لدى علماء مختبر اللور بعد المعاينة الأخيرة للموناليزا في ان الأفضل إلا تغادر تحفة دانشي الفسحة الجدارية المخصصة لها في "قاعة البيانات" بعدما تم تأهيلها لتستقبل قربها ثماني وستين تحفة فنية من مدرسة البندقية وفي مقدمها أعمال مختارة في اعتناء نقدي مخمّر لأمثال لوتيسيان ولوتنتوريه ويرونيز، وللأخير تكريم خاص من خلال تعليق لوحته "أعراس قانا" قبالة الموناليزا وبين العملين نحو 28 مترا وهي المسافة نفسها طولا لقاعة الطعام في دير سان جورجيو مادجوري التي كانت ستستقبل تحفة يرونيز. وأعطى المهندس السينوغرافي الموكل إليه تأهيل "قاعة البيانات" متحفياً أي مناخا ورطوبة وإضاءة وفضاء مؤتيا لرؤية جيدة، وكي تقدم أجمل خدمة لزائري المجموعة الايطالية المعقودة على أهم ممثلي مدرسة البندقية، وفي صدارة هذه الخدمات إبراز ما هناك من تضاد وشبه بين تحفتي دانشي ويرونيز.
لكن اللمس ممنوع، والاقتراب البدني الزائد محرّم، وعلى من يرغب في النظر العلمي إلى الأعمال المعلقة في المتحف ان يستعين بمنظار يسهل عليه الرؤية القريبة رغم الوقوف بعيداً تحت رقابة "البادي غارد".

* بدأت الصالة الجديدة في متحف اللور في استقبال الزائرين يوم الأربعاء الفائت.

النهار
السبت 9 نيسان 2005


أقرأ أيضاً: