في ذكرى رحيله الـ 13: تمرد على تراث
الخط وحضور بارز لرباعيات صلاح جاهين

محمود قرني

خميس شحاتةالقاهرة - “القدس العربي” أصدرت سلسلة “بريزم للفن” كتاباً للوحات الفنان والخطاط خميس شحاتة، الذي رحل عن عالمنا عام 1996، التي أعاد فيها تخطيط بعض رباعيات الشاعر صلاح جاهين، وهي اللوحات التي تقدم رؤية جديدة وخلاقة للشعر من جانب وللتشكيل الخطي من جانب آخر، حيث تتبدى ثورة خميس شحاتة التشكيلية والزخرفية واكتناه أساليب جديدة تغادر معظم الخطوط التقليدية التي عرفها فن الخط، وقد عمد الفنان خميس شحاتة إلى رسم الرباعية الواحدة في نفس اللوحة بأكثر من أسلوب خطي.

يقول عنه الفنان حامد سعيد: تراه سعيداً راضياً مرضياً، لأن قيمته طوع بنانه هو، ينطلق بها عمله، ولأنه يحيا كإنسان يتسع وعيه، ويتجدد بحثه، ويثمر أعمالا خلاقة جديدة، إنسان عرف كيف يحيا، ثم يضيف ان المدرسة المصرية في الفن والحياة لا تحيط بها جدران ولا يستبعد منها إنسان، ولكنها موجودة حيث يوجد عمل مصري جلل وكلل حياة قلب مصري تفانى في العمل، فأحياه العمل أستاذا معلماً لكل من أراد أن يتعلم أن معنى العمل هو معنى الحياة، لقد شرح وبين هذا الفنان عمليا، يضيف سعيد، كيف نتواصل مع التراث لنحييه، كيف يمكن لصناعة طباعة المنسوجات أن تنشر للناس كافة بعض روائع ذلك التراث، كما شرح وبين أن هذا التراث المنبثق من الرؤية الروحية الإسلامية المصرية لم ينقطع الخلق المبدع فيه بعد، وأنه من الممكن أن يحيا ويعطي الشيق والجديد.

أما إليزابيث رودينبك فتقول عن الفنان خميس شحاتة “1918- 1996- “
منذ أن بدأ يرسم وهو في السابعة من عمره، كرس خميس شحاتة طاقاته الإبداعية وأفكاره، بل حياته ذاتها للتعبير بالفن، فعلى مدى الخمسين عاما الماضية أعمل ملكاته الخلاقة الى أقصي حدودها فحق له أن يشعر بقدر من الرضا عند استرجاعه لهذه السنوات، أن ما يفعله خميس شحاتة في تشكيله وزخرفته للأشياء، أو من خلال تجسيده للأفكار الجميلة بالرسم والزخرفة، سواء كانت هذه الأفكار آيات من القرآن أو قصائد قديمة أو أمثالا شعبية، أو أغاني قصيرة بسيطة مستمدة من ذخيرة مصر من الفن الشعبي فإن كل ذلك امتداد مباشر للتقاليد المصرية العظيمة، وتضيف رودينبك: إن انتاج خميس الخصب وبراعته في وضعه للتصميم وكتابته للخط العربي أو في توضيحه للفكرة من خلال الزخرفة والرسوم جميعا تعكس البهجة التي يشعر بها في تناوله لتراثه المحلي، وقد استطاع باتساع عقله وقلبه أن ينقل ذلك الإحساس الى جيل الشباب في مصر وأجزاء أخرى من العالم العربي.

ولد الفنان خميس شحاتة بمدينة الإسكندرية، لكنه تربى بحي السيدة زينب بالقاهرة بجوار مسجد ابن طولون، وقد أحيط بحياة غنية وعبقة وكان هو الإبن الأوسط بين خمسة أشقاء وكانت والدته التي أصبحت أرملة في سن مبكرة تشجعه على الرسم وتلهب خياله بالأغاني والحكايات، درس بكلية الفنون التطبيقية حيث تخصص في قسم الزخرفة والزجاج المعشق بالرصاص، ودرس التصوير بمعهد التربية الفنية للمعلمين، وكانت أول وظيفة له في الدلتا، حيث عمل مدرسا للتربية الفنية بمدرسة تدريب المعلمين بشبين الحكوم، وفي هذه الأثناء استمرت روابط الصلة الوثيقة بينه وبين أصدقائه وزملائه بالقاهرة.

وتضيف إليزابيث في بطاقة التعريف: في عام 1953 دُعي خميس شحاتة للعمل مفتشاً للتربية الفنية بالكويت حيث بقي عدة سنوات شارك خلالها في تقدمها وتطورها الملحوظ وقام بدور فعال في إنشاء أول متحف قومي صغير بمساعدة وتشجيع عبدالعزيز حسين وزير التعليم بالكويت حينذاك، وبدأ خميس شحاتة يجمع الأشياء التي تتسم بالجمال والنفع في آن واحد بمساعدة المعلمين الذين تولوا الإشراف عليها واهتم بشكل خاص بصائدي اللؤلؤ الذين شكلوا مصدر الدخل الرئيسي بالكويت لعدة قرون، وقد التقى مصادفة بعجوز كويتي من أصل إيراني يدعى مرزوق وكان رغم أميته، يقوم بتنفيذ أشكال رائعة من السفن الشراعية القديمة.

وقد أصبحت هذه النماذج مصدر الجذب الرئيسي بالمتحف، الذي أقيم بفيلا أعيد تجديدها. وتشكل مقتنيات خميس شحاتة الآن جزءا من المجموعة المختارة بالمتحف القومي الجديد، ثم عند عودته إلى مصر عام 1958 دعي للعمل بقسم البحوث الفنية التابع لوزارة الثقافة في بيت السناري الشهير، وهو مبنى إسلامي الطراز بحي السيدة زينب بالقاهرة، وقد كان هذا القصر مقرا لرئيس البعثة الفرنسية التي قامت بوضع كتاب وصف مصر، كانت الحجرات التي استخدمت لجمع مادة كتاب وصف مصر أثناء الحملة الفرنسية على مصر عام 1799 هي نفسها الاستوديو الذي قام فيه الفنان بجمع وتنفيذ التصميمات، وتقول إليزابيث إن خميس شحاتة استمر لمدة عشرين عاماً في عمله يجمع ويستلهم من الموتيفات التقليدية وينتج الآلاف من التنويعات مستخدما مختلف الوسائط، حتى أصبح أستاذا بارعا في هذه العملية، ومنذ تقاعده عام 1978 استمر ينتج ويعرض انتاجا بنفس الوفرة دائماً، وقد عرضت أعماله في مصر والخارج وشارك في معارض بباريس وروما وفيينا وبراغ بتشيكوسلوفاكيا، ومؤخرا عرضت له ثمانية أعمال في معرض دولي بوارسو.
يقول الفنان خميس شحاتة عن معرضه في كلمة كتبها في 17 نوفمبر 1986: في عام 1967 تقابلنا للتعارف في بيت السناري وكنا أربعة: صلاح جاهين، وصديق فنان، وأنا وكان رابعنا شعور غامض، كان لقاء خاطفاً وفراقاً بلا وداع، فما تعارفنا، ولا تفاهمنا وبعد..

رحل أحدنا، ولم يكن صلاح جاهين، رحل ذلك الشعور الغامض في أول لقاء، وبعد عشرين عاما، يسعى كل منا نحو الآخر، من دون وسيط، فنتعارف، ونتفاهم، ونتفق يعود إلينا جاهين حيا نابضا، مستمر العطاء، قابلته في عشرين رباعية وتحاورنا، فكان هذا المعرض لقاءنا الثاني، “لا بد ما يموت شيء عشان يحيا شيء” مات الشعور الغامض، وعاد إلينا صلاح جاهين حيا في بيوته رباعية الجدران، النابضة بالإنسانية، والحب والحياة.

أما صلاح جاهين فهو واحد من كبار شعراء حقبة الحداثة في مصر، وقد ولد جاهين في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1930 في بيت شبرا القاهري العريق يملكه جده الصحفي الوطني أحمد حلمي وتشرب صلاح الروح الوطنية من جده رغم أنه مات وهو بعد في السادسة ومن والدته التي شاركت في ثورة 1919 مع نساء جيلها.
ويضيف الكتاب في بطاقة التعريف بصلاح جاهين:
انه تنقل في طفولته بين محافظات مصر، صعيدها، ودلتاها حيث كان أبوه وكيل نيابة ينقل من بلد لآخر كعادة الموظفين العموميين في ذلك الزمان، وتشربها صلاح كلها ريفها ومدنها، أرضها وسماءها، إنسانها وحيوانها وطيرها.
ويقول الكتاب عن الرباعيات موضوع المعرض والكتاب: بدأت الرباعيات بالصدفة، إذ كان صلاح جاهين في أحد أيام 1959 سائرا في طريقه لمجلة صباح الخير وإذا بأبيات تتردد في ذهنه:

مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقى ناس أشرار وناس طيبين

فإذا بصلاح جاهين يعلق بصوت عالي على ما تردد للتو في ذهنه قائلا: عجبي، وحين وصل للمجلة التقى بأحمد بهاء الدين صديقه ورئيس تحرير صباح الخير آنذاك فقال له: اسمع دي وأنشده الأبيات الأربعة: فقال له بهاء: أنا عايز أربع أبيات زي دول كل أسبوع، وهكذا ولدت الرباعيات واستمر صلاح جاهين يكتبها أسبوعيا في صباح الخير منذ ذلك اليوم من أيام عام 1959، حتى ترك صباح الخير عام 1962 ليعمل في الأهرام، ثم عاد لكتابتها عام 1966 حين رجع لمجلته رئيسا للتحرير ليتوقف بعد ذلك نهائياً عن كتابته للرباعيات بعد عودته للأهرام مرة ثانية عام 1967.

23/12/2009