حسن موسى
(الامارات)

جيوبوليتيك الخطقالوا إن المستعصم كان على ولع بفن الخط وكان مجلسه عامراً بخيرة خطاطي عهده . وكان الخليفة يولي عناية خاصة لأحد عبيده ممن أظهروا البراعة في فن الخط اللّيّن الذي أرسى قواعده “ابن البوّاب”، عميد الخطاطين العباسيين . قالوا إن العبد الخطاط، جمال الدين ياقوت، الوافد من نواحي آسيا الصغرى، فضلاً عن تجويده للخط على طريقة ابن البواب، كان فطناً واسع الثقافة، عارفاً بالآداب، فلقبه أهل زمانه قبلة الكتّاب .

قالوا إن ياقوت الذي كان يعرف إعجاب الخليفة بخط ابن البواب، كان يعرض على مولاه كل يوم نماذج مما يستنسخه من آثار ابن البواب، وكان الخليفة ينظر في الخطين ويخلص في كل مرة إلى تفضيل خط ابن البواب على خط مملوكه ياقوت .

وجاء وقت شعر فيه ياقوت أن خطه يضاهي خط ابن البواب إن لم يكن يفوقه . وعزم على حمل مولاه على تغيير رأيه، فكتب سطرين ووضع على أحدهما توقيعه الخاص وعلى الآخر توقيع ابن البواب، ووضعهما بين يدي الخليفة .

قالوا إن المستعصم نظر في السطرين وفضّل سطر ابن البواب كعادته . عندها قال ياقوت: “الحمد لله، لقد حكم الخليفة باستحقاق ثناء كتابة عبده الحقير” .

قالوا إن الخليفة امتعض من هذه الحادثة وأهمل ياقوت زمناً، ولم يظهر له علامات الاستحسان، ومن جهته لم يعد ياقوت يحرص على عرض خطوطه لمولاه وزهد في تجويد الخط .

ال “جيوبوليتيك” مصطلح يدل على منهج مستحدث في مقاربة ظواهر العلاقات الدولية بأسلوب يعتمد تعدد مناظير فحص الظاهرة التاريخية .

وأكتفي من تعريف المتفائل للجيوبوليتيك بمبدأ تعدد المناظير لفحص علاقة السلطة والكتابة، على خلفية تناقض المصالح بين الفرقاء الاجتماعيين، ذلك لأن إشكالية علاقة السلطة والكتابة، التي تتمدد عبر الفضاء التاريخي والجغرافي تجعل من الكتابة موقفاً سياسياً بالغ التركيب، فالكتابة التي تسمي نفسها “فن الخط العربي” أو “الخط الإسلامي”، انمسخت، تحت تأثير مؤسسات الرعاية الإيديولوجية، إلى جزء من جهاز التغريب الأيديولوجي الكوني الذي يسهم في تغريب الجمهور العربي عن معطيات العالم الواقعي ويستبعدهم في حظيرة الهويولوجيا القومية الضيقة، وهم سعداء سعادة لا تضاهيها إلا سعادة القرد أمام حاسديه . ف “الشرق شرق والغرب غرب” (كبلنغ) و”العقلانية هيلينية والعاطفة زنجية” (سنغور)، وابشروا ب “صدام الحضارات” (هنتينغتون) .

لقد تملّك إيديولوجيو الاستعمار مفهوم “الغرب” كعلامة للهوية الأوروبية، ثم جعلوا من الغرب وأوروبا شيئاً واحداً، ثم استبعدوا من “الغرب” ذلك الجزء العربي من العالم الذي صنفوه شرقاً . وتجاهلوا وقائع تاريخ تشهد عن اتصال الإسهام العربي في تأسيس أصول النهضة الحضارية الأوروبية منذ القرون الوسطى . وقد صدّق العرب المعاصرون، الذين تربوا ضمن ثقافة الاستعمار، هذا الاختلاق وتمترسوا وراء وهم “الشرق” يلعنون “الغرب” ويتنبأون بقيامته ويتمنون تشييد نسختهم العربية من حضارة الغرب على أنقاضه .

لقد خلقت تطورات العولمة فرزاً جديداً بين مفهوم أوروبا ومفهوم الغرب . هذا الفرز مهم لأنه يكشف عن أن اتساع هيمنة رأس المال مكّنت القوى الأوروبية من فرض قيم السوق على الجميع، مثلما هيأت لها فرص انتحال حق القوامة على فكرة “الغرب” . وباسم “الغرب” افترس الأوروبيون “الشرق” وابتلعوه واحتلوا فضاءاته، فاضمحلت مفاهيم “الغرب” و”الشرق” معاً، وانخرط الجميع في حضارة رأس المال التي لا فرق فيها بين غربي أو شرقي إلا بموقعه من علاقات السوق . وتحت هذه الشروط أنظر لتناقضات الصراع الاجتماعي داخل المجتمعات “العربسلامية” كتنويع لصراع طبقات زمن العولمة الذي يتحرك الفرقاء فيه ضمن جغرافيا كونية جديدة متجاوزة للجغرافيا القومية البائدة . لقد تولت طليعة الطبقة الوسطى الحضرية مهمة تجسير المسافة بين ثقافة المجتمع “الشرقي” قبل الرأسمالي وثقافة الحداثة الرأسمالية، في نسختها الأوروبية النصرانية . وقد تمثل جهد التجسير في السعي لإنجاز دمج المجتمع “العربسلامي” في بنى اقتصاد السوق الرأسمالي، وهو دمج يستلزم تحويلاً جذرياً لمجمل القيم والمفاهيم الثقافية الموروثة من ثقافة التقليد قبل الرأسمالي، هذا التحويل كان في قلب المشروع الاستعماري الذي تذرّع بمهمة تمدين غير الأوروبيين لإخضاعهم ونهب مواردهم، مثلما هو اليوم في قلب مشروع الهيمنة المعولمة الذي يتذرع بفرض “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” للسيطرة على موارد المجتمعات العربسلامية .

إن قوى رأس المال المعلوم تطمح لأن تمسخ العالم وموارده وأهله لسوق مفتوح من دون أية حواجز أو حدود سياسية أو عقائدية أو أخلاقية أو عرقية . سوق داخله كل شيء يباع ويشترى وفق قانون العرض والطلب، ومن ينظر في مجموعة قوانين “منظمة التجارة العالمية” يرى تجليات عقيدة السوق في أفضل أحوالها .

تعهد مؤسسات العولمة الرأسمالية للطبقة الوسطى الحضرية في المجتمع العربي بإنجاز مهمة بالغة الالتواء على كافة الصعد، فالمطلوب من هذه الطبقة الوسطى الحضرية أن تنجز دمج المجتمع العربي الإسلامي المعاصر في بنى اقتصاد السوق باسم حداثة رأس المال، لكن حداثة رأس المال تمثل في الوقت نفسه كتجسيد حي لخيانة الأوروبيين التاريخية لمعاني الحداثة الإنسانية . وأنا أعني الحداثة الإنسانية التي كانت تبشر بها نهضة التنوير التي بنت عليها حضارة الأوروبيين بأسها الأخلاقي الذي يموضع الإنسان في قلب يوتوبيا التقدم . ويتفاقم الالتواء في مهمة الطبقة الوسطى الحضرية “العربسلامية” لأنها تتوسل للالتحاق بحداثة رأس المال على مزاعم صيانة التقليد الموروث من ثقافة مجتمع شرقي قبل رأسمالي . (المصارف الإسلامية لتجنب الربا ومجالس الشورى لتجنب الديمقراطية و”الجهاد الأكبر”، “جهاد القلب” لتجنب حرب التحرر . .) .

في الوقت نفسه يملك “جيوبوليتيك العولمة” أن يتكشف عن فرص جديدة أمام المستبعدين لبناء يوتوبيا تليق بقدر الإنسان في مقام يتجاوز حدود القوميات والعقائد التي أدت بالعالم في مسد الأزمة الراهنة .

أعرف أن كلماتي أعلاه لا تدعي الإحاطة بإشكالية الشرق والغرب كأمكنة مفهومية اخترعتها إيديولوجيا الاستبعاد الاجتماعي، لكني أركن للتعريف البسيط المنسوب لفرانسوا شاتليه: “الغرب هو مجمل الأرض حيث تغرب الشمس” .

ما الكتابة؟

جيوبوليتيك الخطتنطرح الكتابة كفعل سياسي من لحظة تحققها كرسالة مبذولة في المجال العام، من طبيعتها كصورة للفكرة، ومن طبيعتها كوسيط اتصال جماهيري، ومن طبيعتها كوسيلة هيمنة إيديولوجية ومن طبيعتها كعلامة هوية جمعية .

وأعني ب “طبيعة” الكتابة جملة الأبعاد المادية والمعنوية التي تميزها كفعل إنساني يلعب دوراً مركزياً في تنظيم الحياة الاجتماعية . والبعد المادي لفعل الكتابة يتمازج مع أبعادها المعنوية بحيث يصعب الحديث عن دور الأداة والخامة والمسند بمعزل عن جوارح الجسد وبصيرته التي تعقلن الحضور الجمالي للكتابة كصورة للفكرة .

أعني بالبعد المادي للكتابة الممارسة التي تعتمد نظاماً خطياً (غرافيكيا) من الاتفاقات المشفرة التي ترسم الأفكار وتيسر تداولها بين أعضاء الاتفاق الكتابي . هذا التعريف البدائي لا يؤدي ما لم نعضّده بمعنى الكتابة كقيمة ثقافية تاريخية ذات محمول رمزي نفسي وسياسي، يملك أن يؤثر سلباً أو إيجاباً وبشكل حاسم في البعد الأداتي للكتابة .

ما الخط؟

أميل لتعريف الخط كاحتمال بين احتمالات التدبير المادي للكتابة الجميلة . فما شروط الكتابة الجميلة؟

أول شروط الكتابة الجميلة هي مقروئيتها كنص وكحركة جسدية، وكحضور أداتي . والمقروئية هي الطريقة التي تشفر عليها الجماعة بنية الاتفاقات بين العلامة الغرافيكية والمعنى اللغوى الذي تحمله . وغياب المقروئية الأدبية يملك أن يمسخ الكتابة لتراكيب زخرفية لكنه لا يلغي مقروئيتها التشكيلية كصورة .

وثاني شروط الكتابة الجميلة هو تجليها كرغبة واعية في بذل نفسها تجسيداً لطموح جمالي، ولو شئت قلت: ك “خط” . والخط كتجسيد للطموح الجمالي يبدأ في حيز الرغبة وينتهي فيه . لأن الرغبة دينامو الحياة تحرك الإرادة وتوجه اليد، وصبر الخطاط على الخط إنما يفهم في مقام أحوال الرغبة . ومن اللحظة التي يرغب فيها الكاتب في إحسان الكتابة، فهو ينخرط في كفاح الخط .

هذا التداخل بين وسائل الكتابة المادية والمفهومية هو في صميم فعل الكتابة، ووضعه في الاعتبار ضروري لأية مقاربة تتحرى مباحث الكتابة .

وفي الأفق الكائن وراء منفعة تقييد الكلام بالرسم، يتاح للجميع التأمل في الكتابة كتجسيد مادي لأحوال النفس، ك “هندسة روحانية” . ومسوّغ هذا المفهوم الغريب ل “هندسة الروح”، يتلخص في قدرته على الانفتاح بالكتابة نحو مقام التحليل النفسي للأثر البصري كشهادة على صورة النفس في منظور علم تأويل العلامات الكتابية، لو جازت ترجمتي لعبارة ال “غرافولوجيا” وميزة اعتماد منهج الغرافولوجيا في النظر للأثر المكتوب تتلخص في أن القارئ الغرافولوجي يقبل أية كتابة على الاطلاق . وقبول الكتابات كلها بلا استثناء يلغي خطوة “الخط” الرسمي بين تصانيف الكتابة التي تزعم نفسها “كتابة جميلة” . لكن منهج الغرافولوجيا الذي لا يبالي بالخط الرسمي يفتح الباب في الوقت نفسه للنظر لأية كتابة شخصية كمشروع خطوطي من اللحظة التي يعمل فيها الكاتب، أي كاتب، على إحسان كتابته بنية تصعيدها لمقام الجمال .

كل هذا يردنا لما أعتبره ثالث شروط الكتابة الجميلة، وأعني به شرط تحققها كصورة، وأعني بالصورة صورة الفرادة المادية والنفسية التي يتميز بها الفنان مثلما أعني بالصورة صورة الهوية الجمعية للسلطة التي ترى ذاتها الطبقية في مرآة الخيال الجمالي للكاتب .

في هذا المشهد يمكن أن نعود لحكاية الخليفة المستعصم، رمز السلطة الكاملة السيادة، مع الخطاط المبدع ياقوت . فالخليفة لا يقبل إبداع الخطاط إلا كامتداد في تقليد يتمثل مرجعية النموذج الثابت المنسوب ل “ابن البواب” . وياقوت مضطر للمراوغة والغش حتى يحصل على اعتراف السلطات بفرادة عمله . وفحص موضوعة “المقروئية السياسية” على ضوء حكاية ياقوت مع المستعصم تعيننا على فهم سر تمسك الخليفة الدوغمائي بأفضلية خط ابن البواب على خط ياقوت . ذلك أن الخليفة يدافع عن أسلوب الخط المنسوب لابن البواب، ضد أي خط آخر، لأن ابن البواب يقيم في مقام المرجع النهائي للمقروئية الجمالية التي اصطفتها السلطات، فابن البواب يمثل، ضمن المشهد العباسي، وريثاً شرعياً رسمياً لابن مقلة، الرائد الذي أسس فن الخط العربي على جملة من الاختراعات التشكيلية “الغرافيكية” (حول نسب الحروف ومقاييسها) واللقيّات النظرية الجمالية (رسالتان في الخط: “ميزان الخط” و”رسالة في علم الخط والقلم”) التي مازالت تحكم خيارات الخطاطين حتى اليوم .

والحكاية تتيح التفكر في موضوعة النموذج النهائي وفي الطبيعة السحرية للخط بوصفه تصعيداً تعسفياً لخيار غرافيكي بعينه لمقام النموذج الجمالي السامي . وصفة “السحر” في طبيعة الخط إنما تتأتى من كون الخط لا يصبح خطاً لأن الخطاط اجتهد في تخليقه وتنضيده، ولكن لأن السلطان قبله وأجازه . واعتباطية التكريس تكمن في الطبيعة التي تجيز بها السلطة السياسية تصعيد كتابة بعينها لمقام المثال وموالاتها بالتعضيد المادي والرمزي لتصبح خطاً . والسلطة في نهاية التحليل إنما تنهض على جملة من المياسم الاصطلاحية التي تندمج في حياة الناس كأمور طبيعية بديهية فيقبلها الناس، الذين هم على دين آبائهم، بقوة العادة غالباً، ويقبلون معها حضور السلطة التي تبثها وتدعمها كأمر واقع . ومن يتأمل في صورة الخط العربي المعاصر ضمن واقع جيوبوليتيك الثقافة العربية يلمس القبول التام وأحياناً الحماس الكبير الذي تبديه سلطات الثقافة الرسمية، من الخليج إلى المحيط تجاه الخط العربي . ويلتقي في ذلك الحماس كافة القائمين على مؤسسات الرعاية الثقافية سواء صدروا عن حساسية قومية علمانية (الحروف العربية) أو صدروا عن حساسية قومية دينية (الحروف الإسلامية) . وحماس سلطة أنظمة الطبقة الوسطى، لفن الخط كقرينة هوية قومية أو دينية يموّه، بشكل أخرق، موقف الاستحواذ السياسي لفن الخط المعرّف ب “العربي” تارة وب “الإسلامي” طوراً باعتباره رافعة سياسية مهمة ضمن آليات الواقع السياسي للمجتمع العربسلامي المعاصر .

* (من أوراق الندوة الدولية - كونية الحرف - ملتقى الشارقة للخط، كون 2012)

الخليج
30/04/2012