(طعام مرّ مهمته إشباع المسطح الأبيض)

عمران القيسي
(لبنان)

آكل اللون فان جوخ “إن الأساس المجرد لكل لون هو المنير والمعتم، وحين يستخدم هذا التعارض لذاته، من دون أي فارق لوني آخر يحصل لدينا التعارض بين الأبيض كنور، وبين الأسود كظل، وكذلك الفروق الدقيقة بينهما. لذلك يندهش الرسام المثابر عندما يتجلى لديه الجانب التشكيلي من الشكل المرسوم”.

هكذا فسر “هيغل” في كتابه فن الرسم خاصية اللعب العصابي للرسام المعتمد على الضربة المكثفة التسمية النقدية لهؤلاء هي الفوفزم أي الوحشية- حيث يؤكد الرسام هنا على خاصيتين أساسيتين هما. أننا نقف ونحدق بلوحة مرسومة ألوان على كانفاس- لا تذهب بنا صوب الوهم البصري، بل تسمرنا أمام مرحلة تخطت ليونة الانطباعية. فيما الخاصية الثانية هي إبراز الجوانب الانفعالية لدى الفنان، في لحظة انغماسه العصبي والروحي في العمل الفني.

إننا إزاء رسامين ذوي مهمة حياتية تصل إلى مستوى المصير. فاللوحة ليس حسب ما يرغب أن يراها الجمهور، بل حسب ما يتصورها الرسام، أو وفق العالم الذي يعيه هذا المفسر الآخر للخارج. فهو موقف نقدي بالغ الوعي والإدراك للتركيب الجيني للعناصر التي يتألف منها العالم برمته.

كان “فان كوخ” يرى العالم كما يرسمه، بل يرغب أن يصير العالم على شاكلة لوحته ولم لا يكون كذلك، فهؤلاء الفلاحون المتعبون ليسوا صورة من صور البؤس الإنساني. فلماذا يرسم حقولهم بألوان فرحة؟ ولماذ يرسم الفرح على وجوههم؟ إن الحزن هنا هو الموضوع المركزي للعمل الفني، لذلك نحن أمام انطباعية نفسية أو إذا شئنا انطباعية موضوعية لا شكلية. تخطى بها (فان كوخ) و(بول غوغان) و(ادغار ويغا) 1834-1917 كل هواجس الرعيل الانطباعي الذين واكبهم بدءاً من الأستاذ الأول للانطباعيين “ادوارد مانيه” 1832-1883 إلى خليفته الشاعري (كلود مونيه) 1840-،1926 إلى المعلم (يوجين بودان) 1824-،1898 إلى (أوغست رينوار) 1841-1919 إلى (بول سيزان) 1839-1906 إلى (كاميل بيسارو) 1830- 1903.

لذلك نرى بأن (فان كوخ) يُصنف ضمن رعيل ما بعد الانطباعية، وهو رعيل بالغ الخطورة والأهمية. لأنه أسهم بشكل غير مباشر في فتح الباب على مصراعيه أمام الحداثة ولأنه أوجد مبررات تقنية مقنعة لتأليف حداثوية على مستوى التكنيك الفني الذي لم يكن متداولاً في السابق. فهو الذي جعل من فن (جان فرانسوا ميليه) 1814-1875 القروي الفرنسي مقبولاً بمواضيعه التي كانت مرفوضة في السابق من قبل النخبة الصالونية في باريس، بل إن البعض يرى بأن الفنان (جورج سورا) الذي أراد أن يحيي نظرية (يوجين شيغرول) التي تتحدث عن (قانون التناقض التلقائي في اللون) لم يتشجع إلا بعدما أدرك بأن جماعة متفردة من الفنانين باتت تسعى لتثبيت مناهجها أو أساليبها الجديدة في الرسم.

كان مكتشفاً لآفاق جديدة من دون أن يدرك ذلك، وكان صرخة بلا صوت، وعمقاً بلا قرار، لذلك كان فان كوخ عالماً آخر. يلقي بكل ثقله على ذاته، ويضع هواجسه وتفسيراته بين طبقتي الصخرة التي تطحن بكل ما يقع بين شقيها. إنه أكثر من رسام لأنه لم يكن يسعى لإنتاج رسمة تتماثل تصويرياً مع الخارج المرصود بهواجس تحليلية، تفسخه مرة ثم تعيد تركيبه أكثر من مرة.

يرسم بصوت داخلي يطلع من بين أضلاعه لحظة، ارتطام اللون بالقماشة.. لذلك كان يشعر بأن هذا المسطح الأبيض يلتهم الألوان. ومهمته هي أن يطعمه اللون حتى يشبع، فمهمة اللون هي الإشباع لا التلوين ولا الخداع البصري، إنه طعام مر يرتطع بالسطح التصويري فتبدأ معركة التكوين، هنا العالم الذي لا يولد لوحة تطرب البصر، بل ينتج لوحة تنغرز في وجدان البصيرة، وتجالس الضمير الواعي للمتلقي الآخر. وقد لا تجد هذا المتلقي في جيل برمته، لكنها سوف تلتقي به بعد أجيال، أو في عوالم أخرى. فنحن حيال أعمال فنية مرسومة لزمان قادم. ومن يصادف في متحف من المتاحف العالمية لوحة (لفان كوخ) سوف يدرك معنى الزمان المؤجل والتفسير المؤجل والجواب المؤجل. لأنك كواحد من الذين يعيشون وعيهم النقدي سوف لا يرون العناصر المرسومة وفقاً للتكوين الحاصل، بل وفقاً للتغيير الذي سيحصل، ولا تلوم بذلك رسام الأيقونات الروسي (كاندينسكي) الذي حاولت له حياته (كومة القش) اللوحة التي عرضت في معرض في موسكو قبل نهاية القرن التاسع عشر بقليل.
ولكن هل كان (فان كوخ) مجرد روح معاندة، أم هو الجسد المتمرد أيضاً؟

معاندة الروح للجسد:

“كيف نسمح بأن تكون هناك امرأة وحيدة تعيشه على الأرض؟”.

لكن موقفه الإصلاحي هذا كان موعظة أخرى يطلقها قس من الهواة على مسامع غانية من لاهاي قرر أن يصلحها وأن يعمر روحها التالفة... لكن النتيجة كانت خراباً أصاب روح القس الشاب. والعطب الدائم الذي رسم أوسع مسافة بين جسده وروحه.

عنون شجرة جرداء مزروعة في أرض فقيرة بعنوان “الحزن” فكان يعلن غياب السعادة، وأن النص الذي يسعى إليه هو نص إيضاحي يحكي عن تعاسة الكائن البشري، حتى اختصر هذا الكائن البشري في ذاته، فصار مرتكزاً للأحزان، وخزاناً للمعاناة.

مرة ذهب صوب الترميز، ففي لوحة (البذار) أراد أن يشرح بالكتابة ما لم يحققه كلياً بالنص التصويري، فهو الذي قال: “إن الواقع كله حقيقي ورمزي في آن واحد. لذلك أرسم كل هذه الرمزية الكامنة في داخلي.. الواقع أنه كان يرسم متأثراً بآراء الرسام (فرانسوا ميليه) 1814-1875 لأنه كان يعتبره واحداً من صنّاع الذاكرة التصويرية، ولهذا رسم (فان كوخ) لوحة (آكلو البطاطا) على نسق (ميليه) أو وفق الاتجاه (الباربيزوني) على حد تعبير (الآن باونس) في كتابه (الفن الأوروبي الحديث).

إن حلاً سحرياً لقضية الانفصال بين الروح والجسد لا يوجد سيما إذا كان الكائن المسكون بهذه الحالة الانشطارية لم يلمس إلا انصاف الحقائق في كل ما آمن به، وما انتجه من نصوص تصويرية، أو مدونات كتابية، لقد استمرت المعاندة على هيئة صراع انتهى حتماً إلى إتلاف الجسد وإطلاق الروح في تهويمتها الأخيرة.

إن للفعل الفني نموذجيته الخاصة به، إنه يصير فعلاً قائماً بذاته، حاملاً لمواصفاته التي تطلع من صلبه، ولا يصير صدى أو ارتداداً لصوت خارجي، بل يصير فعلاً إبداعياً خالصاً يذهب بكامل عناصره صوب البؤرة الداخلية. هكذا هو الفن الحديث أو المعاصر كما يجب أن نتعامل معه، كقوة تجريدية تشتمل على ديالكتيك فاعل ربما يستنتج كل نتائج التناقضات، لكنه في المحصلة (نقض للنقيض). لقد أصبح الفن غاية في ذاته.

ملاحظات على هامش النص:

في زمن حكم نابليون الثالث لفرنسا، قامت إشكالية بين مجموعة من الفنانين الشباب على رأسهم رسام شاب يدعى (إدوار مونيه)، وذلك أثر رفض لجنة تحكيم صالون باريس لسنة 1863 كافة أعمال هؤلاء، لكنهم وبعد التماس الامبراطور سمح لهم بتنظيم معرضهم الخاص بهم والذي حمل اسم (صالون المرفوضات)، فكانت الاعمال المعلقة في ذلك الصالون الإشارة الأولى للحداثة الانطباعية.
في الفترة المحصورة ما بين 1863-1874 كانت هناك لوحة وحيدة تثير الجدل في كل موسم، ولم تكن تمثل اتجاهاً واضحاً، ولكن العلاقة بين عدد من الرسامين الشباب والشعراء المكرسين ستصير سبباً في بلورة الإنطباعية التي اكتسبت من الشعر رهافته، ومن الواقع نورانيته.. فقد كان (مانيه) صديقاً للشاعر (شارل بودلير) وكان العديد من الرسامين الانطباعيين الشباب أصدقاء للشاعر (ستيفان مالارميه) بل هو الذي أطلق تسمية (انطباعية) على فنون مونيه درينوار وديغاوسيزان وبيسارو.
مثل أية حركة فنية ارتبطت بالشعر وتأثرت به، كان لا بد من انبثاق جيل متمرد يطرح مفاهيم تقنية جديدة، وهذا الجيل كان بدوره مرفوضاً من قبل الذين كانوا مرفوضين في السابق، لكن مسار الفن يتحقق دائماً بالتجاوز وهكذا كان فن (فان كوخ) و(بول غوغان) اللذين مهدا الطريق للتعبيرية ولتيارات الحداثة كما فتحا الأبواب أمام التجريد.

القلق الإنساني

نقرأ (لأرنولدهاوزر): “...في البدء كان كل لون من ألوان النشاط الروحي يتحدد في دقة بالغرض المفيد الذي يخدمه، بيد أن لألوان النشاط الروحي هذه القدرة على التحرر من غرضها الأصلي، والميل بأن تستقل بنفسها. واللوحة تصير كائناً مضافاً أيضاً إلى الطبيعة فلا تقلدها، أو تصفها ولا الفنان يتضرع لكي يصل إلى اكتمالها، لأنه حضور فاعل ومخترع.. نص ينبع من المسافة الكامنة بين الروح والجسد، بل هو مجموعة من الأصوات المتداخلة التي نتجت عن لغة مستحدثة لنص اراد أن يكتبه أو يرسمه أو تؤشره حواسه كلها. إن لوحة “ارنست فان كوخ” التي انتبه إليها العالم منذ أواسط ستينيات القرن العشرين هي الصبغة الجينية التي تحمل الصورة الموروثة عن القلق الإنساني الأعمق.

الخليج
السبت ,10/01/2009