أنطولوجيا الفن التشكيلي اللبناني منذ البدايات حتى اليوم

يقظان التقي

  

يرسم جورج الراسي بالكلمة والصورة بيروت في أزمنة اللوحة والتشكيل وفي فضاء كامل وحميمي وبنزعات فردية حرة يعززها بأسماء كثيرة من انطولوجيا الفن التشكيلي اللبناني من البدايات إلى اليوم، في سبر لنحو 250 فناناً وفنانة تحت عنوان "ذاكرة بيروت الثقافية" ومن جديد "دار الحوار".

هو ذلك الفضاء الواسع وبالألوان لبيروت مختبر التيارات والمذاهب والاتجاهات الفنية والثقافية في لوحة وأخرى بمعزل عن لغة الطوائف والأقطاع والقبلية والمناطقية وأجيال فنية تعاقبت في بناء تعددية في الأساليب والتجارب والمواقع والثوابت التقليدية ذهبت معها اللوحة التشكيلية اللبنانية إلى مواقع تراثية وأخرى جديدة بالانتقال من زمن الى آخر ومن جيل الى آخر.

  

إصدار جامع وبجهد كبير لجورج الراسي يتذكر بقوة تعبيرية ذلك المسار التشكيلي على غناه وتنوعه منذ بداياته الى اليوم وبمنهجية جمع وتوثيق وإعداد تمثل حاجة ملحة لتوثيق ومتابعة تنفسات المدينة وتعبيراتها واختياراتها كمدينة حية مع الكم الكبير في عدد الفنانين الذي يبرز تعددية مهمة على مستوى متابعة الأفكار والمدارس الفنية الغربية وعلى مستوى الحركة الثقافية في بيروت في علاقة الفنانين التشكيليين والمفكرين والشعراء والأفكار.

انطولوجيا جامعة تتجلى فيها الريادة اللبنانية في الفن التشكيلي العربي والنزوع المبكر للتحرر الاجتماعي والالتحاق بالحداثة بإيقاع مديني بناء، والانخراط في أوجه النهضة الغربية على مدى مئة وخمسين سنة وأكثر، كانت فيه الإرهاصات الفنية والمجتمعية والسياسية.
هذا إذا تجاوزنا قليلاً الرسومات الصخرية التي تركها الإنسان الأول منذ آلاف السنين في دقة خطوطها، يقول جورج الراسي في التقديم لكتابه:

في لبنان

"في لبنان تحديداً، وفي العالم العربي على وجه العموم، الفن التشكيلي رغم أنه حديث العهد نسبياً، فهو متقدم بأشواط بعيدة، لا على بقية الفنون فحسب، ولكن كذلك على مستوى البُنى الثقافية والاجتماعية.. ولعل من شواهد غنى وتألق الفن اللبناني توزعه على معظم المدارس العالمية وبشكل خاص الانطباعية والتجريدية. صحيح أن الغلبة هي للمدرسة الفرنسية، ولكن خريجي المدارس الأخرى لا يقلون شأناً كالايطالية (داود القرم مصطفى فروخ يوسف الحويك، حسين ماضي...) والإسبانية (رفيق شرف، حسن جوني، جوليانا ساروفيم، جوزيف مطر...) والأميركية (جبران وصليبا الدويهي وجميل ملاعب...) والروسية (نزار ضاهر، وهيب تيديز...) والمصرية (رشيد وهبي...) الى مَن حصلوا علومهم في الصين والهند وغيرها من عواصم العالم.

هذا التوزيع على المدارس والمذاهب والتجارب يؤكد جوهر المدينة بيروت وانفتاحها المبكر على العالم وعلى اختلاف الأساليب والفنون والآداب والفكر في انطولوجيا ذهنية مفتوحة على قيم حداثية عالمية وبقيمها التعبيرية الأساسية، ولمختلف طرائق التعبير البسيطة والمركبة والناسخة أو الناقلة أو تلك القليلة التي تقول وترسم أفكارها الجديدة بلغة معينة مبتكرة، وهذا في الفن التشكيلي أو الشعر أو الرواية أو المسرح.

هذه النهضة الفنية يجمع جورج الراسي مادة كبيرة في مقاربتها في انطولوجيا كبيرة متوازنة نسبياً بمعنى القدرة على موازاة التعددية الفكرية بمساراتها ومستوياتها المتفاوتة وتأثيراتها المتبادلة وإلى حد ما مع نقاط أو إشارات إلى المجتمع الذي كان جزءاً مهماً من تعبيراتها أو ما خلفها ووراءها، من نوع المجتمع اللبناني الذي كان يسعى إلى اكتشاف الأفق الواسع ما حوله وما هو أمامه عبر التمرد ومحاولة التجاوز والتخطي ومن مواقع الساحة اللبنانية التقليدية وبجراحات واجتراحات مهمة بين حدثي الانطباعية والتجريدية.

يطلع جهد جورج الراسي كبيراً حين يجمع الأسماء الكثيرة وإن غابت أحياناً أسماء أخرى في هذا الفصل أو ذاك، ما يعني أن المشهد التشكيلي في الانطولوجيا ليس كاملاً مع أسماء غائبة ويمكن تجاوز ذلك مع تذكرهم لنخب طليعية وأخرى من الأجيال الحداثية، مع أنه كان يمكن ترك بعض العناوين بمنطق المعايير النقدية، وهي أمور متقاوتة جداً ومحكومة بنظرات نقدية مختلفة. لكن هذا الهامش الحلم لا يلغي التحرك البناء والرائع لجورج الراسي في تدوين انطولوجية مرجعية جديدة لمسار الحركة التشكيلية ويكرونوجيا زمنية تمتد من البدايات إلى اليوم.

الكتاب هو خاتمة سباعية "ذاكرة بيروت الثقافية" التي انطلقت مع إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب عام 2009، والتي تضمنت ستة عناوين أخرى، حاولت الإحاطة بمختلف أوجه النشاط الثقافي اللبناني والعربي الذي حضنته بيروت منذ أواسط القرن العشرين وحتى اليوم في مختلف مجالات الأدب والمسرح والسينما والموسيقى وتيارات الفكر والثقافة، وهو جهد شامل وكبير لمتابع حقيقي (جورج الراسي) يقارب المدينة بيروت كما يقارب الفعل الشعري وبقصد يرتقي بالمدينة انتاجاً وحداثة. ثم إن أهمية متابعته أنها تأخذ بعضها من بعض وتتقارب أحياناً كثيرة من بعضها في طبيعة لينة ومرنة لها سماتها ولغتها القريبة لعلاقتها مع المسارات الفنية كافة وبالنخب الفنية وبيروت المختبر والحياة والفنون.

الأسماء

مقاربة لها أثرها ومرجع يمكن العودة إليه، وإن بتفاوت لأسماء كثيرة لا تزال تطرح أسئلة ولها ثباتها وسحرها وأخرى متحولة، أو تلك المتروكة هامشياً وبسير موجزة جداً لها أثرها من مثل: شوقي شمعون، منصور الهبر، غريتا نوفل، مروان رشماوي، رندة علي أحمد، فلافيا قدسي، لميا جريج، ريما أميوني وشارل شهوان وآخرون. أو المهمشة ضمناً وهي في إطار الشغل والتجريب الدائم الحي على مادتها. جورج الراسي أدخل الى مادته عناصر فوضوية وأخرى حوّلها الى مادة عرض سريعة بحيث الكل يصعد على الخشبة كقطعة نثر واحدة حيناً، التوسع في مكان والايجاز في مكان آخر، استخدام القوة التعبيرية أو جزء من رواية وسيرة وأحياناً كثيرة دمج أسماء وصهرها في بوتقة واحدة وأضحى لدى كثيرين رؤيتهم الخاصة مرتكزاً على أنطولوجية موسعة كوحدة، معتمداً التمييز في تبويبها الى مرحلة التأسيس والمرحلة الريادية والجيل الثاني ثم الأجيال الصاعدة، وبتداخل ما للفعل النقدي المقصود بين اليقين والحذر.
في الملاحظات وفرة الأسماء ولا سيما في صفوف الفنانات التشكيليات وبعد أن كان عددهن في القرن الماضي لا يتجاوز أصابع اليد أو العشرات صار عددهن اليوم بالمئات وبعضهن حمل الريادة كسلوى روضة شقير وايفيت اشقر وهلن الخال وسامية عسيران جنبلاط.

الملاحظة الثانية يعتمد جورج الراسي على منهجية يبني عليها ايراد قوائم الفنانين والفنانات مع معلومات مرافقة عن كل منهم أو منهن، وهو مرجع ينضم الى مصادر توثيقية قليلة بدأت تصدر تباعاً منها انطولوجيا عن رواد الفن التشكيلي اللبناني للناقدة مهى سلطان الى ألبومات ونشرات يتولاها عدد من مراكز وغاليرات العرض المهنية، وتأتي في الطليعة نادين مكداش صاحبة غاليري جانين ربيز، والمفارقة غياب عدد مهم من فنانيها عن الانطولوجيا، الى الألبوم السنوي الذي تصدره لجنة ملحق سرسق، صالون الخريف، وما يصدر حديثاً عن مركز بيروت للمعارض وبعض الكتب الفنية التي تصدر فردياً وبصورة مستقلة لعدد من الفنانين الذين لهم سحرهم وآثرهم: حسين ماضي، أمين الباشا، جميل ملاعب، سلوى روضة شقير، وجيه نخله، وجورج قرم الذي أرّخ لمسيرة والده بألبوم فخم، ورياض الريس في مجموعة إصدارات، الى دراسات موثقة منها أيضاً لديما زكريا رعد..

ويؤخذ على المنهجية المعتمدة طغيان بعض الشخصانية والتميز في فصل بين الريشة النسائية وزملائها في المهنة تجاوزت منذ ما بعد التأسيس التصنيف الجندري بين الجنسين. ثم كان يمكن تطوير النهج البحثي بالاستفادة أكثر والشغل على إعادة النقدية في مساهمة تجذرية للمادة التوثيقية والذهاب بها إلى أمكنة أخرى، وعتبات أخرى لمشهدية تشكيلية هي الأقوى في المنطقة العربية.
إلى التمهيد للانطولوجيا فيطلق الراسي من مدخل الى قراءة نشأة وتطور الفن التشكيلي اللبناني ونشأة التصوير اللبناني المرتبط بالمواضيع الدينية والدوائر الكنسية، أسوة بما حدث في أوروبا في عصور سابقة ومن التصوير الديني الكنسي وفنون الجداريات، يعزز ذلك ما ورد في تاريخ الدويهي. ويعود إذن بالنهضة الفنية الى القرن السابع عشر مع نشوء المدارس والاهتمام بالغرب أيام فخر الدين المعني والمقدمات الأولية للنهضة في أواخر القرن الثامن عشر احتكاكاً بالغرب. أما بداية الحركة التشكيلية في لبنان فتعود فعلياً الى منتصف القرن التاسع عشر، بعد سلسلة من النشاط الفردي المتفرق وغير المنضبط كمنهجية تراكمية متجانسة.

الفصل الأول يتناول الرواد: عصبة الخمسة التي ميزت نشوء الفن التشكيلي اللبناني:
داوود القرم (1852 1930) وابنه جورج (1896 1971)، وحبيب سرور (1860 1938) وخليل الصليبي (1870 1928) وفيليب موراني (1875 1970)، وجبران خليل جبران (1883 1931) وهو ما يمكن اعتباره بداية النهضة التشكيلية اللبنانية والتقاء مدرستين هما مدرسة روما (القرم وسرور) والمدرسة الانكلو-سكسونية والأميركية مع جبران، ثم خط الانطباعية الفرنسية وبدايات التخصص الأكاديمي في حرفة الرسم.

الفصل الثاني: رعيل النهضة الأول وبرزت منه أسماء مبدعين عديدين منها مصطفى فروخ، وعمر الأنسي، وقيصر الجميل، وصليبا الدويهي، ورشيد وهبي، ويوسف الحويك وميشيل بصبوص مع أخويه يوسف وألفريد وتحديداً بدءاً من العام 1920، ودخلت مؤسسات أكاديمية كالجامعة الأميركية على خط الدعم، واكتشف هذا الجيل الانطباعي أثر هواجس التعبير عن الهوية اللونية وارتعاشات الضوء والظل والشعر اللوني للأمكنة الأرضية.
الفصل الثالث: رعيل النهضة الثانية، جيل الخمسينات مع بول غيراغوسيان، اسادور، جان خليفة، فريد عواد، ابراهيم مرزوق، سعيد عقل، عارف الريس، شفيق عبود، أمين الباشا، لور غريب، ايفيت اشقر، سلوى روضة شقير، ايلي كنعان، رفيق شرف، موسى طيبا، حسين ماضي، وجيه نحلة، ميشال بصبوص، مفرز روضة، منير نجم، هلن الخال، نقولا نمار، ميشال المير، سمير خداج، مارون الحكيم، فؤاد جوهر، سمير صايغ، فيصل سلطان، الياس ديب وآخرين من جيل الخمسينات (خطأ تقني ربما يدخل اسم ايمن بعلبكي على تلك الأسماء!) اسادور بازديكيان، ارام جوغيان، سعدالله لبس، وآخرين..

الفصل الرابع: رعيل النهضة الجديدة، جيل ما بعد الحرب، مع أن المقاربة هي سنية تحمل بعض التلاوين والحساسيات ما بين التيارات وتداخلها ما قبل الحرب وما بعد الحرب، والأسماء هنا كثيرة مع غيراغوسيان التحريري الى حدود التعبير القصوى بعد الحرب (1926 1992) وابراهيم مرزوق ورغيف الخبز (1937 1975) وعارف الريس الناقد الاجتماعي والسريالي الساخر، وحسن جوني ولقاء الناس، وأمين الباشا واللون المثقف من دون إشهار لغة العنف، وايتل عدنان ومدن ونساء..
من الأسماء ما بعد الحرب: سمير أبي راشد وشارل خوري وبسام صعيتاني وجان مارك نحاس وجوزف حرب ومنصور الهبر ورودي رحمة ورودولف الرفاعي ومحمد سعيد بعلبكي وايمن بعلبكي واسامة بعلبكي وشوقي شمعون! (من الأسماء التي لها سحرها بين أسماء الجيل الثالث والمتواصل مع الجيل الثاني)، فؤاد نعيم، مازن كرباج ومحمد شمس الدين.
أما الفصل الخامس فيتناول الريشة النسائية والمخضرمات منهن والرائدات والشابات الصاعدات وهنا تغيب أسماء كثيرة مع تفاوت في المستويات والفوضى في الايقاع العام كمسرحة حضور أنثوي تشكيلي لكل عناصر مادة العرض والتجربة والاختبارات والتجريب والتأليف كشيء عام لانطولوجيا عامة.

جورج الراسي له حضوره المميز، ويطل على الواقع التشكيلي اللبناني وكمنظر تشكيل عام وتعددية الأسماء وكثرتها كموقع الصدى والأثر لزمن ثقافي أو أزمنة متداخلة ولحيوية انتاجية لا تخلو من فوضوية وكانطولوجيا غير منجزة تماماً. ولكن لها وزنها المرجعي ارتباطاً بمعدها الذي يتمتع بعين طرية وحضور مميز وخبرة تأتي من تجربة وحيوية لذيذة لا تخلو من برودة تؤدي الى تصدعات محمولة. لكنه زمن تشكيلي أخذ مكانه باكراً برموزه وأسمائه، وبين فضاءاته الواسعة والعالية تكبر أسماؤه أكثر وأكثر وما زال غير مكتمل. والانطولوجيا عريقة بنوعية أسماء لها سحرها وأثرها ويقظتها، وأخرى بهامشية الكمية لا تسكر ولا تطرب أسماؤها.
ولكنها انطولوجيا عهد مشكور له ما يستحقه حين يطل على تجارب كثيرين نقلوا المشهد اللبناني الى المياه والضوء والحياة

المستقبل - الاثنين 13 شباط 2012