والمواد الملتقطة وحيدر يفتح النوافذ علي التأويل والفتنة

يحيي القيسي
(الاردن)

yahya_alqaissaiعمان ـ القدس العربي:
تحتضن دارة الفنون خلال الفترة ما بين 4 من شهركانون الأول (ديسمبر) الجاري وحتي 21 من الشهر المقبل المعرض المشترك للشاعر اللبناني من اصل سوري أدونيس والفنان التشكيلي العراقي المقيم في باريس حيدر ،وذلك بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي في عمّان، وكانت قد أقيمت أيضا أمسية للحديث عن هذه التجربة بمشاركة ادونيس وبإدارة امين عام وزارة الثقافة الشاعر جريس سماوي، ومن الملاحظ في تجربة أدونيس اعتماده علي العناصر الالصاقية الكولاج لمواد مختلفة علي القماش، إضافة إلي بعض اللوحات التي خطت ارضيتها الورقية البيضاء أحبار بأشعار أدونيس وبمختارات من الشعر العربي للمعري وأبي تمام ووضاح اليمن وغيره، وقد آلف بين قطع كرتونية ملونة بالأكريليك وهذه النصوص بشكل أعطت فيه تناقضا مثيرا للانتباه، ولعل هذا الحوار اللوني الكولاجي الخطي قد منح اللوحات أيضا جماليات بصرية خلاقة.
ولكن أدونيس الشاعر والناقد الشهير المولود في سورية سنة 1930 اعترف في حديثه عن المعرض بأنه ليس فنانا تشكيليا انني لا اعد نفسي فنانا تشكيلياً وانما طفلاً احب المغامرة، واللعب للخروج دائما من القوالب والقواعد التي تسقط الانسان في الرتابة ، وأضاف: لدي نوع من التذوق الفني جعلني اذهب الي الرسم وقال مستعرضا الصدفة التي قابل بها مدير متحف برلين وعرض عليه بعض الاعمال علي استحياء من جملة لوحات كان اشتغلها الشاعر ادونيس في عزلة ما ان مدير المعهد لم يكتف بابداء اعجابه بالاعمال وانما اقترح اقامة معرض، اقيم بالفعل ولأن في نفس الشاعر قلق المبدع كما أشار الناقد التشكيلي حسين نشوان في الرأي الأردنية اعرب عن لا يقينه في ما يقترح قائلا: اشك في تجربتي الفنية ولكن هناك من احتضنها. وبرر ميله الي التشكيل انه يتيح له ان يفصح عما لا يستطيع ان يترجمه من افكار شعرية.. متسائلا عن كنه الاعمال التي ينجزها موضحا ان مبعث تساؤلاته تنطلق من تشككه بما انتجه فيها، ولكنه كما يقول: يركن الي الطمأنينة وهو ما يكون ايضا مبعث حيرته في الكتابة الشعرية، ولفرط تشككه وقلقه ابدي الشاعر استعداده لأن يمحو ثلاثة ارباع ما كتب من الشعر والنقد دونما ندم علي حد قوله ليس الا لرهان الشاعر الذي بلغ عقده الثامن علي المقبل وليس المنقض، قائلا: كأنني اجيء من المستقبل لا الماضي. اما تجربة حيدر فقد اشتملت علي مجموعة من الاعمال التي تناولت الجدران والابواب والنوافذ، حيث عمل الفنان علي السطح بالمواد المختلفة المكونة من الاسمنت والالياف والقطع القماشية والخيش التي تمنح ملمساً خشناً ونافراً ومن الواضح أيضا وجود بعض القطع المعدنية مثل البراغي والصواميل ومفاصل الأبواب الصدئة والأسلاك علي مساحات صفراء من الخشب اعطت انطباعا عن وجود نوافذ، وأخري ذات لون بنفسجي تحيل إلي دلالات متعددة التأويل، وتقول سيرة الفنان حيدر بأنه من مواليد العراق سنة 1954، وقد عرض أعماله للمرة الأولي في بغداد سنة 1973. ثم استقر شاباً في فرنسا ليحقق المنجز اللافت في تجربته التشكيلية، وهو يعرض هناك وفي البلدان الأوروبية بانتظام منذ اثنتين وثلاثين سنة. وأقام ما يقارب 70 معرضاً شخصياً وجماعياً في فرنسا وبلجيكا وسويسرا وألمانيا، وغيرها. وهذا المعرض هو الأول لحيدر في الوطن العربي منذ أن هاجر إلي باريس، وقال في معرض حديثه عنه برفقة أدونيس هي تجربة عبرت عن نفسها بدلالتي اللون والابواب، واللون يمثل الضوء. بمعناه الحسي والرمزي، فالاول لجهة الحنين اما الثاني فكان لمصلحة الامل، وقال أن الابواب والنوافذ والجدران تحمل اثر الانسان وذكرياته، وهي ابواب في غالبيتها موصدة، وجدران مليئة بالاشارات والخربشات والتحذيرات التي تنطوي علي دلالة تحفر في الذاكرة.

الكولاج عند أدونيس:
رسوم ذاتية لأشياء متعددة

هنا مقاطع تعرض تجربة أدونيس للناقد الفرنسي آلان جوفروي ترجمتها إلي العربية د.مي محمود:
منذ بداية التسعينات، حقق أدونيس ما يربو علي مئة عمل وأكثر من الكولاجات، تميزت جميعها بفرادة واضحة. ويظهر في هذه الأعمال مرتاحاً، رشيقاً، عميقاً، جلياً، ومحيراً، كعهدنا به دائماً. ونكتشف نحن هذه اللوحات كمن يكتشف بلدا للمعرفة، كما لو أننا عدنا لاكتشافها بعد أن نسيناها. نقع علي أثره بعد مغادرته لها، نتعرف علي نظره، وبصمته، ونحن ننتقل من عمل إلي آخر، علي الطريق المتعرجة، المستقيمة، الوعرة، السالكة ذاتها، إنها ذات الطريق التي يفتتحها من قصيدة إلي أخري، ومن كتاب إلي آخر. في هذه الكولاجات، يجعلنا أدونيس نري ما تجعله الكلمات أحيانا حاضراً دون أن نراه، محسوساً ولكنه عصي علي الإدراك. وتشكل هذه الأعمال مجتمعة ما يشبه مساحة الأرض، هو مالكها، إنها مسلات صغيرة تقود سيرنا داخل المتاهة الشاسعة لأعماله المكتوبة.

المبدأ السائد علي هذه اللوحات بسيط، إذ أن أدونيس يجمع أينما مر مواد صغيرة، بقايا من خشب، وحجر، وخرق، وورق، ومقطعات غير مرمزة من واقعنا العادي.
يكتفي أدونيس بتجميع لقطهِ وترتيب بعضها مع البعض الآخر، طبقا لمعايير الشكل والمادة واللون، علي غرار العديد من فناني التجميع، ولا يرضي بالتوقف عند هذا الحد، إنما هو يلصقها علي خلفيات من ورق أو من ورق مقوي ويخط عليها، لا قصائده هو، بل قصائد مكتوبة لمن أعجب بهم من شعراء عرب، ويقدمها لنا لنقرأها في آن واحد، كما لو أن كلمات الآخرين والأشياء المجهولة تكون كلاً واحداً يحتاج من يفك رموزه.
أمامنا كولاج فوق لوحة الخط، وإن كان هذا الخط في بعض الحالات هو لكتابة مختلقة وغير مقروءة، تعوضه عن الاستشهاد بنصوص بينة. وهكذا نجد أن اللغة المكتوبة تستخدم كخلفية أولي للأشياء التي تواجدت صدفة. وهنا يكمن الابتكار الأساسي لأدونيس في هذا المجال الذي باتت الابتكارات الحقيقية فيه معدومة تقريباً.
لكننا نميل مع ذلك إلي تصنيف الكولاج عند أدونيس طبقاً للألوان السائدة فيه، فهنالك علي سبيل المثال، الأسود والأحمر، الأسود والأبيض، الماروني والبيج أو الأحمر، الرمادي والأسود. ولكن هذا التصنيف لأعماله، وإن سهل إجراءه، لا يخدمنا كثيرا في قراءتها أو تفسيرها. إن الغاية التي يضعها أدونيس لنفسه في هذه اللوحات هي ليست بالغاية الجمالية حصراً، مثلما لا يمكن اختزال الغاية في قصائده بالإغواء الأدبي.
بمعية أدونيس، نلج في الدوام الوقتي وملازمة المحتمل والممكن، جماعات وفرادي، نحن في سبيلنا إلي ولوجها. إن الصدف واللقاءات العرضية التي هي وراء كولاجاته قادته إلي أن يحمّل بالمعني كل نظام، مرصود ومثبت بقانون ديني أو بأي قانون آخر، ليحرمنا في الواقع من كل معني حي.

حيدر و فتنة السرد علي الأبواب

أما الناقد العربي المقيم في روما موسي الخميسي فقد تناول تجربة التشكيلي حيدر، وهنا بعض ما كتب عنه:
تتحول الأشكال في العمل الفني عند حيدر إلي ما يشبه الإشارات والرموز والدوائر، كعناصر فنية مبعثرة من دون تنظيم أشبه ما تكون صوراً متداخلة كأنها صنعة كولاج، تختبئ داخل مساحات شبيهة بالأبواب والشبابيك، لتشكل مصدر تجريب الفنان، في لعبة حوار لوني. الشكل عنده يتسع بامتداد تلك المساحات، ليحتوي قوي غير مرئية تُظهر أحياناً قدرة الفنان في لحظة الخلق ونشوته ورغبته في تكامل الشكل وتجاوبه، علي أن يكون كل ما يرسمه داخل وحدة السطح، حيزاً لتلاقي النقائض. يتعايش هذا الجمع الغريب من الأشكال بعضها مع بعض، في وحدة وجودية مطلقة، ليتضح من خلالها الخطاب التشكيلي الذي يرتجيه، بوصفه لغة بصرية تواصلية سابقةً للكلام متجاوزةً حدود المكان واللحظة الزمنية.
هنا تتفتح تعابير الأشكال التي يعرضها حيدر أمامنا في سطح اللوحة، بمشاهدها الفجائية الرائعة، ليبدأ أمام كل لوحة، سؤال حول ما يريده من تلك الإشارات والرموز والتعاويذ والمفاتيح والمغاليق، إلي جانب المسافات المحسوبة بالقياسات الرياضية وهي تأخذ شكل الأرقام والأسهم والدوائر والنقاط، يتشكل منها نوع من الحوار الحضاري مع الآخر، في اندماج بصري ذي توجه فضولي، وهي النقطة التي تظفر بها نفس المتلقي، لتطرح تساؤلاتها بفرح، وهي رحلة للكشف والارتياد، رحلة التأرجح والتردد، بهذا الكم من التفاعلات التي قد تخص المتلقي نفسه أكثر مما تريده وتسعي إليه التأملات الرمزية الباطنية التي يريدها الفنان. إنه يتنقل من لغة إلي أخري بعيداً عما تراه العين في ظواهر الطبيعة والحياة، غير متتبع لظواهر الخطوط والكتل وقياس مساقط الأضواء والظلال علي السطوح كما فعل عدد من الفنانين الأقدمين من قبله.

وهو يبتعد عن النمطية في أسلوب تركيب اللوحة، يجتهد حيدر في إشاعة جو من التنويع الحار، وهو تنويع في أسلوب نسج العلاقة في ما بين تلك العناصر، يقسم لوحته بمهارة متميزة تقوم علي التناظر والتقابل والتضاد وما إلي ذلك من تقنيات بصرية يفتتن بها ويفتننا بأسلوب تقديمه، كل جزء فيها أشبه بالسرد المتنامي يفيض بالحركة الداخلية الانفعالية.
مثل هذا التواصل تضيع فيه مسافات كثيرة، ما بين القصدية والتقنية، انطلاقاً من أن التحليل الظاهراتي للعمل الفني ينتهي إلي رؤية الموضوع الجمالي بوصفه موضوعاً قصدياً. وكل عمل فني من أعماله يتمتع باستقلالية ذاتية تساعده علي الانحسار ضمن الإطار الخارجي للوحة التي هي أشبه بباب أو شباك بيت، يتشكل بانورامياً أكثر إفلاتاً من أن ينحصر في حدود معينة، إذ إن حيدر يراعي بحذق وذكاء هذا التدفق العاطفي الحزين في إطار ما هو حركي، وتصادم ضوئي ولوني، مؤكداً الفروقات اللونية والحركية، من خلال تشتت الوحدات التشكيلية الصغيرة، أو ما يريد خلقه في بنية الباب أو الشباك المعمارية، وهو الأمر الذي يجعل الأعمال في تحولها الانفعالي، خاصة إذا ما تنقلت بالبصر عبر اللقطات المتجاورة، أشكالاً تتدفق من الأعماق، مصحوبة برغبات تريد رؤية النور.

القدس
14/12/2007