نجوان درويش
(الجزائر)

لوحة من معرض رشيد قريشي مستوحاة من «قصيدة بيروت» لدرويش

الشاعر الفلسطيني مكرّماً في بلد المليون شهيد

مدن عربيّة عدّة استعادت صاحب «ورد أقلّ» منذ رحيله قبل 14 شهراً... لكن الاحتفاء بالشاعر في الجزائر، موطن جميلة بوحيرد الذي شهد «إعلان دولة فلسطين» (1988)، له وقع عاطفي مشحون بالأبعاد الرمزيّة. استعادة لـ«النزعة التحررية في شعره» بين المعارض والأمسيات والندوات عالية ومشحونة بالرمزيات هي لحظة احتفا الجزائر بمحمود درويش، بعد 14 شهراً على رحيله. ليس الأمر مجرد تكريم لحياة شعرية أساسية ومؤثرة بين تجارب الشعر العربي المعاصر. لكنّ بلاد الشهداء، بكل ما تعنيه في الوجدان العربي وضمير العالم، احتفت بالقيمة التحررية لشعر محمود درويش. هنا لا يمكن فصل تكريم الشاعر عن تكريم قضيته، وتأكيد ثوابتها. محمود درويش صار - في الربع الأخير من القرن العشرين - بمثابة أيقونة شعرية للقضية الفلسطينية. هذه القضية التي ستبقى حاضرة لربع قرن على الأقل، حتى تفكيك المشروع الصهيوني وعودة أرض فلسطين إلى اسمها العربي الجريح.

الفنّان رشيد قريشي قدّم صيغاً بصرية وتخطيّطية لنصوص الشاعر الراحل

الاحتفالية ركّزت في بعض جوانبها على علاقة الشاعر بالجزائر، وقد أُدخلت هذه العناصر إلى معرض «أمة في المنفى» الذي يُعرض في المناسبة في «متحف الفنون الحديثة والمعاصرة» في قلب العاصمة، ويستمرّ حتى 7 تشرين الثاني (نوفمبر).

معرض رشيد قريشي الذي اشتغل على تقديم صيغ بصرية وتخطيطية لنصوص قصائد محمود درويش، بدأه عام 1984 وواصل تطويره حتى 1991، وقد شاهدنا بعضاً منه في «دارة الفنون» في عمّان قبل أكثر من 10 سنوات. لكنّه بدا جديداً وأكثر حيوية في تجهيزه الجزائري. إذ أدخل إليه قيّم المعرض (زميلنا سفيان حجاج) ثلاث شاشات فيديو: إحداها تسجيل التلفزيون الجزائري عام 1971 لأول أمسية شعرية قدّمها صاحب «في حضرة الغياب» في الجزائر، والثانية لمقابلة تلفزيونية تحاور الشاعر والفنان في هذه التجربة. وشاشة ثالثة تبث تسجيلات لـ«إعلان الدولة الفلسطينية» الذي صاغه الشاعر وأُعلن في الجزائر عام 1988. والكاتب سفيان حجاج الذي أفاد من خبرته بوصفه معمارياً في تجهيز معرض قريشي، كان أيضاً المبادر من خلال «منشورات البرزخ» التي يديرها مع سلمى هلال، إلى احتفالية محمود درويش التي نظمتها «الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي» ورعتها وزارة الثقافة.

ولعل ما أخرج الفعالية من النمط التأبيني، السائد عربياً، هو الندوات النوعية التي حاولت مقاربة مناطق محددة من شعر درويش. إحداها كانت مع مترجميه: الإسبانية لوث غوميز غارثيا، والإيطالية فرنشيسكا كوراو، والسوري/ الألماني عادل قرشولي، أدارتها «مديرة المعهد العالي للترجمة» في الجزائر إنعام بيوض، وتناولت ملابسات ترجمة الشاعر. وهو أيضاً ما تطرق له صديق الشاعر الراحل وناشره بالفرنسية فاروق مردم بك. وكان يفترض أن تضم مترجمه إلى الفرنسية إلياس صنبر، لكن الأخير سافر قبل موعد الندوة التي أدارها رشيد بوجدرة، وشارك فيها أيضاً الفنّان رشيد قريشي. نشير أيضاً إلى ندوة ثالثة بعنوان «التحولات في مسيرة محمود درويش الشعرية»، جمعت أربعة شعراء من حساسيات وأجيال مختلفة: الجنوب أفريقي برايتن بريتنباخ واللبناني عباس بيضون والمغربي محمد بنيس وكاتب هذه السطور، وأدارها حكيم ميلودي.

وكما أن من الصعب تجاهل الرمزيات العالية في احتفالية الجزائر بدرويش، فإنّ من الصعب أيضاً ألا يكون المرء نقدياً حين يتحدث في ندوة، يُفترَض بها أن تقدّم رؤى تتنوع وتختلف، لا أن تدور في فلك النص المحفوظ للتأبين، ولا سيما أننا نتحدث الآن بعد 14 شهراً على رحيل الشاعر. كان لا بد من أن يخيّب المرء ظنّ مَن لا يخرج كلامهم عن تعداد كرامات الراحل وإعجاز سيرته الشعرية، ومن يقفلون كلمتهم بـ«نم قرير العين يا محمود». ولم تكن صعبة ملاحظة حدّة ردّ الفعل الذي فاجأنا به فاروق مردم بك، حين تحدث كاتب هذه السطور عن مصادر شعر درويش، وأنّه من الشعراء الذين لا يصرّحون بمصادرهم ومؤثراتهم الشعرية... وصولاً إلى آخر قصيدة نشرها محمود وعلاقة التناص بينها وبين قصيدة «صور» لعباس بيضون. كل من قرأ «صور»، سيلاحظ العلاقة بين القصيدتين، فهي واضحة منذ مطلعها «من أنا لأقف بين المنشدين» الذي يتكرر كلازمة بتنويعات مختلفة على المطلع/ اللازمة... وعلاقته بمطلع قصيدة محمود «لاعب النرد»: «من أنا لأقول لكم؟». واللازمة التي تتكرر في القصيدة.

الحديث عن مصادر شاعر ما في ندوة تتحدث عن تحولات تجربته الشعرية، يبدو لنا زاوية مناسبة لرصد هذه التحولات. لكن ثمة مَن يفضلون التأبين اللانهائي، أو النقد التسبيحي الذي لا يكتشف سوى «كرامات» إبداعية. وحين عبّرنا عن رأي شخصي، مفاده أن شاعرنا المفضل بين الشعراء الفلسطينيين هو توفيق صايغ (192-1971)، هبّ فاروق مردم بك معلّقاً بأن توفيق صايغ «ليس شاعراً»، بل أضاف: «وهل ستقول إنّ جبرا إبراهيم جبرا شاعر أيضاً؟». تجدر الإشارة إلى أن شاعراً عراقياً كان يعدّ من مثقفي حزب البعث، هو سامي مهدي أصدر أخيراً كتاباً خاصاً عن شعر توفيق صايغ وتجربته؛ فهل مردم بك المثقف المعارض لكل أشكال البعث، يطلب منّا أن نؤمن بـ«الشاعر الواحد»؟ بأي حق ننفي صفة الشعريّة عن مبدعين قدّموا مقترحات مختلفة ومغايرة للذائقة المهيمنة مثل توفيق صايغ؟ خلاصة الأمر أن محمود درويش، في الجزائر، كان راعياً لكل هذه الخناقات والاختلافات...

* * *

«أمّة في المنفى» - حتى 7 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل - «متحف الفنون الحديثة والمعاصرة» (الجزائر العاصمة) للاستعلام: www.aarcalgerie.org

الاخبار
الاربعاء 7 تشرين الأول