أحمد عكو
(سوريا)

1

خليل عبدالقادر

خمسة عشر عاماً من الغياب والكآبة والوجد القاتل، بعثرتك المنافي، وأنا لازلتُ أذكر تلك الأيام التي كانت تضج في أرواحنا، قبل سنين عديدة. حيث الخرنوب والعوسج المتناثر على الطريق الترابي المتعرج كالأفعى إلى "حسي أوسو"؛ قريتك الجريحة الكليلة، الغارقة في الوحول والظلام ودوالي العنب المتناثرة. وبيتكم الطيني الرطب في لهيب تموز، وفي ليالي الشتاء الحزينة، نقتسم رغيف الحنان والحرمان، نغيب وراء الأغنام في الليل، ونتيه في البرية. نصطاد قطا أو عصفوراً دورياً، أو رغيف تنور تجود علينا به فتاة ريفية، تحرق أفئدتنا قبل أيدينا. نتلصص على النوافذ المضاءة بنور خافت في عتمة الليل، نسترق السمعَ لأنين فتاة في ليلة عرسها. والقمر الفضي يفضح المتعبين، ينامون في ساحة الدار، ونحن على الأسطح نراقب ذاك المشهد المثير. يطاردنا الكبار، نفرُّ هاربين إلى جحر قنفذ أوأفعى أو ثعلب، لنقوم بملعنة شيطانية أخرى.
مرّت سنواتٌ عجاف. أحببتك لدرجة الغضب، أتهلل لرؤيتك وأنت تمسك بثوب أمك المزركش الوحيد في العزاءات والأفراح، وزيارة بيت خالك في عامودا، مروراً بنهرها الجاف وخيمة "عزو" المصنوعة من التنك وقساوة أهلها. تفوح منك رائحة التبن القادم من بيادر القرية، وأنت متخم بألوان نوروز المشعة من نسائها، فرشتها على قماشة روحك الطيبة الحنونة الصبورة. تراك تضيق صبراً، أيها الهارب، من ثنايا القلوب، حاملاً أوجاعك ومواويل البراري وأنغام البيادر إلى عالم وهميّ آخر، تطلق جناحيك للريح والشمس، لتكتبَ تاريخاً جديداً لآلام جديدة. مهما غبتَ فستظل ملتصقاً برحم المكان الذي صرخت منه، والوجه الذي لازمك طويلاً وأحببته كثيراً؛ ولطالما شربتَ الخمرة بنزق وشهوانية يستفز الآخرين، ليقولوا عنك مخربٌ أنت، وفاضح؛ كنت تريد أن تزيلَ الأوساخ والنفايات لتزرع زنبقة وياسميناً، لتصنعَ عالماً جميلاً وحباَ يسع الحب كله.
أشعلت و"عنايت عطار" كل حطب الجزيرة ليلة نوروز للكرنفال العظيم . حننت لعمر مضى وذكريات جميلة، ضمتك وأصدقاء رائعين بعثرتهم المنافي، بحثاً عن حلم سرابي، طالما راودهم ووأدته الغربة القاسية. عرفتَ الألم باكراً، رسمتَ مشاعرك وحنانك بحكمة وذكاء، بكل جسدك وانفعالاتك وفلسفتك العفوية العميقة، ومعاناتك وملاحظاتك الدقيقة. رشقت بآلامك بياضَ اللوحة، لتخرجَ جمال روحك، وتكشف القناع عن الوجوه المزيفة بمهارة صياد اللون الساحر. لم تكن بهلواناً وراقص سيرك كما المشهد الفني اليوم، ـ الشهرة للسحرة ولاعبي السيرك على المساحة الواسعة من اللوحة ـ.

لقد كانت لوحتك لعنتك، وسر بقائك وخيانتك الأولى، حاولتَ أن تهرّبَ الحلم الجميل بأحاسيسك إلى هذا العالم المسكون بالفجيعة والخراب والألم. شاغبتَ مع المرأة كثيراً، فقد كانت أرضاً عطشى؛ وزوبعة من الأسئلة كانت تحيرك وتمتص وحدتك ووحشتك، وجدت في وجهها منفاك.
في حلب والنزوح المر وحضن المكان الهادىء، تلاقتِ الأرواح مع ألوان الفراشات، ومها تدثرك برقتها، وتقدم لك البابونج في لياليك الشتائية الباردة، وأنت تراها بعين الحب، وتمسح عن قلبها ماعلق من ألم بفوضاك المرتبة، وجنونك الساحر، تقطف من وجنتيها وردتين جميلتين: "إيفار وجوان"، شوق الياسمين للمطر، نهاية الحزن والألم.
الآن فقدتَ كلامك وظللتَ صامتاً، إلا ما تخطه يدك على لوحتك البيضاء شخوصاً مفعمة بالحيرة والقلق والخوف، تريد أن تتنفس هواء نقياً نقاءَ لونك، تحوله إلى أعاصير وبراكين. تقطر الطفولة منك، وتحن إلى مكانك الذي انطلقتَ منه، عارياً إلا من ريشة ولوحة بيضاء، كأنه ضوء القمر ساكن هادىء، ويظل السؤال اللغز كالعشب وذاك القمر.

2

خليل عبد القادر، فنان تشكيلي معاصر، سجل حضوراً متميزاً منذ بداياته، وهو يقدم مشهداً تشكيلياً مغايراً بما تناوله من مواضيعَ، تنبع من أحلامه وذاكرته الخصبة، خارج قوانين الأكاديميات؛ فقد درس الفن دراسة ذاتية. ظل يرسم بعفويته الخاصة، وبخطه الجريء، متمكن من أدواته، مستفيد من خبرته الطويلة، وثقافته البصرية الغنية. رسم المرأة بكامل أناقتها، وجسد من خلالها اغترابه الشديد، بأسلوب رومانسي مدهش، بالرغم من أعماله الواقعية المائلة للتعبيرية أحياناً، هارباً من قيود المدارس الفنية. تناول المرأة الريفية كجانب جمالي، قادمة من مواسم القطن والقمح على ضفاف الخابور، وفي بيادر القرى البائسة، جعلها إلهة للحب والعطاء، وشّحها بتجريداته الخلفية الرائعة؛ موظفا التراث الشعبي بشكل حداثوي: (الحلي والزينات والبسط والأثواب المزركشة). استطاع أن يوفق بين الحداثة والمعاصرة في أعماله بجدارة منقطعة النظير؛ بعيداً عن الفانتازيا، وإن بالغ قليلاً في رسم جسدها العاري، الممتلىء بالرعشات الساحرية. شخوصه على الرغم من ذاتيتها، غارقة في البيئة السورية الريفية ـ الجزيرة ـ. وجوه أحبها كثيراً وغاص في أعماقها؛ هرول إليها على مساحة اللوحة بمهارة حكيم حاذق وتناسق بين اللون والخط؛ تسمع أنغام البيادر من خلال ألوانه الحارة المركبة المستوحات من واقعه المعاش، بعيداً عن الاحساس الأكاديمي، وتدرجات البنفسج والأزرق والأصفر، موشحة بأشعار المحبة كأنها ومضات برق؛ تتغلغل في أعماق اللوحة، باحساس يقظ للظل والنور إلى حد كبير بحيث يخدم موضوعه بدقة، كما الزخارف على ثياب نسائه الريفيات. حيث تشكل تناغماً لطيفاً وترديداً لونيا متوازناً؛ كذلك وزع عناصر اللوحة بخبرة كبيرة بحيث يتحقق التكوين والتوازن بين الفراغات والعناصر وبين الدرجات اللونية، وخاصة في لوحات الطبيعة الصامتة (لوحة الخريف). الأشجار كانت تستهوي خليل في كل فصولها، بشمسها وظلالها على الأرض، مؤكداً أبعاد اللوحة، محققاً فكرة المنظور الهوائي، ومستفيداً من درجات الظل والنور كتكوين أساسي للوحة. إنّه لا يحفظ لوناًً واحداً، يكرره في أعماله، بل يستخدم اللون المناسب للتكوين بلمسات خشنة وبارزة في معظم أعماله لتخرج مثل أيقونة.
لازال اللون يتجمل عند خليل في الغربة برمادياته وحرقة الحنين حتى صار وطناً وذاكرة. لازال الحلم عنده خيط أمل، يشده إلى الحياة، ولازال وفياً لنسائه على اللوحة، أكثر من الحياة.

ببيوغرافيا

  • خليل عبدالقادر، مواليد قرية "حسي أوسو"، الحسكة، 1955.
  • درس الفن دراسة خاصة.

بعض من معارضه الفردية في أوربا:

  • 1995 معرض في صالة الاوبرا المانيا Konzerthalle/ Bad Salzuflen
  • 1997 معرض في المركز الثقافي الدولي بالمانيا Internationales Kulturzentrum/ Hannover
  • 1998 معرض في غاليري بالمانياAusstellung/ Bielefeld
  • 1999 Ausstellung in Werkplatz/ Herford
  • 1999 معرض بمناسبة مرور مائة عام على انشاء شركة اوبل للسيارات Austellung bei Opel/ Herford
  • 1999 معرض في صالون نانت بفرنسا Ausstellung 22 éme Salon National/ Mans (Frankreich)
  • 1999 معرض في نانت بفرنساAusstellung Bienalle de nantes/ Bretagne (Frankreich)
  • 1999 معرض صالون Ausstellung xxx eme Salon des Arts/ Frankreich
  • 1999 الجائزة الالى في التصوير الزيتي1. Preis im Internationalem Kunstfestival/ Angers (Frankreich)
  • 2000 معرض في متحفAusstellung Erich Maria Remarque Friedenzentrum/ Osnabrück
  • 2006 أنجز جدارية عمل زيتي لصالح مدينة هيرفورد الألمانية بقياس 18 متر طولاً وارتفاح 5 أمتار
  • 2000 عرض في البنك الالماني Ausstellung in der Sparkasse Herford
  • 2008 معرض في فندق ماريتيم الدولي بالمانياAustellung im Maritim Hotel/ Bad Salzuflen
  • 2010 معرض في فنق ميلانيوم الدولي بهانوفرAusstellung MILLENIUM Copthorne Hotel Hannover
  • 2010 انجاز جدارية عمل نحتي رولييف لصالح بلدة مدينة هيرفورد الالمانية
  • والعديد من المعارض المشتركة والجماعية في المانيا واوربا

أعماله مقتناة وموجودة، في:

  • امريكا - نيويورك غاليري Arnot art
  • المانيا نورنبيرغ-غاليري Rahmen und kunst
  • المانيا - اوسنابروك متحفMaria Remarque Friedenzentrum
  • وفي العديد من المجموعات الخاصة في فرنسا وبريطانيا.