عُلق على الباب ملصق لمعرضه، وتحتل مساحة الملصق لوحة بأسلوبه الخاص وبعوالمها الزخرفية، ولا بأس بأن تشاهد أشكالا لرموز نباتية وحيوانية وربما إنسانية في بعض الأحيان، والتي اعتبرها بعض المتابعين أنها عبارة عن تصاميم سجادة وبكل إجحاف، وعندما تهُم بدخول المكان لا بد أن تمرّ بزحمة اللوحات المتناثرة على جانبي المدخل إلى أن تصل إلى المكتبة في الفناء الرئيسي للمرسم والذي يضج بالألوان والأدوات، حتى أرضية المرسم هي استمرار لتداعي اللوحة وصخبها بما تمتلئ به من أعقاب السجائر ومخلفات اللون وقصاصات الورق، وبالكاد تجد لنفسك مكاناً للجلوس بين زحمة الألوان والأدوات واللوحات وحتى قصاصات الكرتون على الطاولة الكبيرة التي كان يولّف بها تقنياته من خلال الكولاج والألوان المائية أحياناً.
إنه عالم الصمودي ومحترفه الذي تخرج منه لوحاته لتعانق جدران المعارض الكثيرة التي أقامها سواء بشكل فردي أو من خلال البيناليات والمشاركات الجماعية ... هذا المكان لم يكن مجرد مرسم بل استراحة ومجلسا للفنانين العابرين ونقطة لقاء بل تعدى ذلك الى أن يكون أيضاً مقر استضافة لأي فنان من الأصدقاء قادم للإمارات لإقامة أي معرض أو نشاط فني، وفجأة يتوقف كل هذا الصخب وهذا النشاط يوم الجمعة الحزين ليرحل مغادراً هذا العالم في الرابع والعشرين من حزيران (يونيو) ليصمت المكان وتحزن اللوحة على فراق صاحبها وتطفأ الأنوار، ولكن...
كان يتردد اسم الصمودي في جلسات النقاش والحوار التشكيلية وخاصة عندما تحدث الدكتور الفنان ممدوح النابلسي من خلال لقائي به في الشارقة بعد عشر سنوات من تعرفي عليه في أوائل الثمانينات، وذلك من خلال حديثه عن اللقاءات الفنية في مرسم عبد اللطيف في عجمان ليؤكد لي على ضرورة هذه التجمعات الفنية للحركة التشكيلية وتطورها، ثم بعد حوالي السنة كان المعرض العام في المجمع الثقافي في أبو ظبي لألتقي بالصمودي أول مرة بوجهه المبتسم ثم لأزوره بمكتبه في المقر القديم لدائرة الثقافة والإعلام، وعلى طاولته لفتت نظري صورتين شخصيتان له ولطلال معلا، فعدت بذاكرتي لحديث بعض الفنانين عن المشاريع والطموحات الفنية إلى جانب الصداقة التي تجمع بين هذين الفنانين ولمست تلك الحميمية بالعلاقة التي تربطهما، وعدت بذاكرتي إلى تلك الجلسات التي تحدثت فيها مجموعة الفنانين عن هذه العلاقة الفنية وأهمية ما يتمخض عنها من مشاريع وبين متحمس لذلك وبين منتقد، ولكن ليست الأهمية هنا فقط إنما الأهمية في تلك العلاقات المميزة مع مجموعة من الفنانين العالميين سواء من خلال عبد اللطيف أو طلال وما تثمر عن صقل للأنشطة الفنية والتي ستصب فيما بعد في ولادة البينالي القوية.

وجه مبتسم بلحية يغلب عليها البياض، كان يصر عليها وبأنها فأل خير عليه، وتلك الثقة والحماس بغيرته على التشكيل وتشجيع الأفكار الإبداعية وتبنيها في بعض الأحيان لإغناء الحركة التشكيلية في الإمارات، وجهده المتواصل إلى جانب سهره ومتابعته الدقيقة لتنظيم المعارض ولو تطلّب ذلك السهر حتى الفجر في صالة العرض. لمن يهتم بشأن التشكيل الإماراتي لا بد أن يمرّ معه هذا الاسم: عبد اللطيف الصمودي الفنان التشكيلي الناشط والمنسِّق للمعارض في دائرة الفنون وبينالي الشارقة الدولي منذ تأسيسه، هذا الاسم سيمر من خلال الكثير من المعارض الجماعية والفردية، وخاصة بينالي الشارقة بالإضافة لأسماء فنية إماراتية وعربية من المؤسسين والمنظمين الأوائل لهذه التظاهرة الفنية وقد عاصرت بعض دوراتها مشاركاً، ولمست ذلك الحرص منه على الظهور بأفضل شكل مشرّف من خلال أي نشاط فني.
كانت لوحته وإن أخذت السمة الزخرفية في أغلب الأحيان ولكن عندما تدخل التفاصيل تجد أنك بملحمة يقودها الشكل ويؤسس اللون أركانها وهي وإن كانت تحمل من الصخب عناوين، ولكن عندما تمعن في التأمل تجد أنك أمام تفاصيل توصل إلى المدلول العام للفكرة من خلال متعة بصرية خاصة ولا تكاد تغادر إلى لوحة أخرى إلا وتجد نفسك بحاجة إلى العودة مرة ثانية للّوحة السابقة، والشكل الزخرفي وإن تكرر عن طريق تقنيات مختلفة منها قوالب الطباعة التي استخدمها الريفيون في طباعة أقمشتهم سابقاً وقد أسس لهذه التقنية أستاذ الحفر والفنان السوري الراحل مصطفى فتحي الذي أخذ منه عبد اللطيف مُعترفاً في أكثر من مناسبة أنه أستاذه في ذلك، ولكن المختلف في تقنية عبد اللطيف أنه وظفها في لوحة تنتمي للتصوير الزيتي أو المائي وحتى إن احتاج لتقنية الكولاج في بعض الأحيان، فخرج من بوتقة الحفر التي تنتمي إليها تلك التقنية بالأصل وإن كانت بسيطة وريفية. في عدة جلسات كنت أراقبه وهو يرسم مصراً علي أن أبقى مع أني كنت أخبره بأني سأتركه مع حالته الفنية الخاصة ولكن كان لا يهتم بمن حوله وهو يمسك نفس الفرشاة ويعالج اللوحة كلها بتلك الفرشاة، مبرراً أن اللوحة بذلك تبقى كل مساحاتها بنفس الروح، فلا تكلف باستخدام الأداة بل هي نفحات من المودة بينه وبين اللوحة ليخرج بنهاية المطاف بعمل يحمل العاطفة إلى جانب التقنيات اللونية والتشكيل الزخرفي.
وكانت الأسطورة تقترب من خلال بعض اللوحات من خلال المعالجة الشعرية ليدخل النص بشكل غير مباشر متحدثاً عن ذلك وهو يرسم أشكاله الحيوانية الرمزية والتي تتغلغل من خلال بعض المتواليات الهندسية المقتربة من الزخرفة في بعض الحالات، وفي ذلك الكثير من المغامرة بالتكوين إلى حد ما ولكنه كان يقبل بهذا التحدي عن طيب خاطر وكأنه يريد إقحام النص وإن لم يظهر بشكل مباشر عبر مساحة اللوحة، فيترك بذلك الخيار للمشاهد لترتيب النص كما يراه ليصبح المشاهد هو الشاعر.
وهو بذلك يمارس الحيلة على المتلقي لتوريطه أكثر من خلال المشاهدة فلا يستطيع البقاء على الحياد وإن حاول بل سيدخل ضمن التفاصيل الكثيرة ويدخل عالم الفوضى الذي ورطه فيه ويدخل متاهة اللوحة وبالكاد يستطيع الخروج، وتبقى تلك التفاصيل ملاحقة له وإن سينسى تفاصيلها فيما بعد ولكن لن يستطيع الفكاك من تأثيرها.
هذه اللعبة كان يستمتع بممارستها من خلال فبركة سيناريو الشكل واللون بالسكين تارة وبالفرشاة أخرى وأحياناً بأنامله وبالقوالب التي يصممها ليطبع بها وبتكرارية خاصة توليفاته الزخرفية على المساحات المترامية من القماش وفي أغلب الأحيان كان يرسم على الجدار الكبير الذي خصصه لذلك عدة لوحات متجاورة في نفس الوقت ويرسم هذه اللوحات في توقيت واحد مبرراً ذلك لوحدة روح الأعمال كتبريره مسألة استخدام الفرشاة الواحدة، فلا مجال لاستخدام مقاسات مختلفة.
هكذا كان يملأ المكان بنواتجه التي ستخرج إلى قاعة العرض لينتقل بجدليته إلى خارج المرسم ناقلاً إشكاليات لونية وشكلية، ولتبقى هذه الجدلية مساراً خاصاً يحتكره، فلا أحد منا سيستطيع نسيان ما فعله الفنان عبد اللطيف باللوحة حتى وإن مضت عقود على رحيله او نسيان ذلك السحر الذي تركه عبد اللطيف إرثاً في الذاكرة نسترجعه مع السنة الرابعة لرحيله، فلا نستطيع إلا أن نتذكر وإن رافقنا الحزن على فراق فنان.
القدس العربي
26/06/2009