آلان جوفروا
(فرنسا)

ضياء العزاوي: حداثة إيجابية يا لها من قصة غريبة!

أنا بالكاد أتكلم اللغة العربية ولم أدرسها مطلقاً ولكنني سافرت منذ وقت بعيد حقاً إلى بلدان عربية مختلفة ولأكثر من مرة كما هو الحال مع اليمن، لبنان، مصر والمغرب. ولكن الحقيقة التي يجب أن أنوه إليها وبقوة : أنني عندما ألتقي رساماً أو كاتباً عربياً أشعر براحة أكبر وانسجام أكثر مع محدثي مما لو كنت في محترف فنان أو مكتب أديب أوروبي سواء في باريس أو أي مكان آخر. لماذا؟
هل هو تعاطف خاص مع العرب بشكل عام، بسبب ثقافتهم وتاريخهم ما قبل وما بعد الإسلام وبسبب التمييز الذي يتعرضون له؟

لا أعتقد هذا وخصوصاً ليس من أجل تلك الأسباب فقط. فيوجد تشكيليون ومثّالون عرب وكذلك شعراء وأدباء ممن لم أجد معهم أرضية مشتركة. وهذا ليس غلطهم فقط بل غلطي أنا أيضاً بالطبع. لم يحصل هذا مع ضياء العزاوي، هذا الرسام العراقي الذي التقيته مؤخراً. منذ أن دخلت إلى محترفه في تلك الضاحية القريبة من لندن حيث يعمل منذ وقت طويل، وحيث نفى نفسه في تلك المدينة كما لو كانت بغداد خيالية. منذ أن رأيت لوحاته وألوانه، رسوماته ومنحوتاته، شعرت "بشيء ما" يحصل بسرعة كبيرة، شيء أشبه ما يكون بالولادة، في سعادة الصداقة التي تولد من مشاركة حقيقية.

ومع أن لي أصدقاء عراقيين آخرين في المنفى كالشاعر شوقي عبد الأمير، فأنا لم أذهب أبداً إلى العراق ولن أسافر إليها غداً. إذاً لم يكن العراق، كونه بلداً أو حتى كونه تقاليد متوارثة، هو ما شكل لنا صلة وصل فورية في الإصغاء والتفاهم المتبادل. لقد كان اتفاقاً بين فردين في غاية التمايز ولكن بنفس درجة التحرر.

خلال كتابتي لهذا النص الذي سيكون تقديماً للمعرض الاستعادي الذي خصصه معهد العالم العربي في باريس للفنان عام 2001، أتألم برغم كل شيء للخسارة الكبيرة لأنني لم أر بساتين النخيل ولا المدن والآثار الفريدة على ضفاف دجلة والفرات، هناك حيث ولدت الكتابة، النبع الحقيقي للحضارة الغربية بكاملها. أكتب في هذا الغياب للأصول المادية الإقليمية لضياء العزاوي. ولكن تلك هي المفارقة، فغياب هذه المعرفة المادية، بدل أن يشلّني، يدفعني إلى ابتكار طريقة أخرى لرؤية وفهم الأشياء وأولها رسمه.

ولد العزاوي في بغداد عام 1939 التحق بكلية الآداب لكي يدرس فيها علم الآثار واعتباراً من العام 1962 تابع صفوف مدرسة الفنون الجميلة حيث تعلم تقنية الفن الغربي الحديث. منذ البداية، كان انبهاره بفنون حضارة بلاد الرافدين ومعرفته المتزامنة بالحداثة، هو ما وجه وضلل في آن واحد، الخط العقلاني والمرهف الذي انتهجه حتى اليوم وبكل حرية.

عمل لمدة 7 سنوات في المتحف العراقي للّقى الأثرية حيث كان مسؤولاً عن تنظيم المعروضات الجديدة. كان تدربه على الألوان على يد أستاذه فائق حسن وشغفه المبكر بالرسام والنحات العراقي جواد سليم الذي عُرف في العراق كرائد للنهضة الفنية في الثلاثينات، هو ما دعا العزاوي أن يتبنى هذا الطريق المزدوج والذي لم يكن ينظر إليه إلا كواحد. بيد أن من شجعه، وفي مرحلة مبكرة، على المزج بين تأثير التقنية الغربية و الإرث السومري والآشوري والبابلي وحتى الخط العربي، كان جواد سليم، هذا الرسام والنحات الحداثي. وكانت نصيحة ممتازة من معلم حقيقي لتلميذ نجيب.

بعد التزامه السياسي، تابع العزاوي أيضاً صفوف مدرسة لتحفيظ القرآن. وقد ساعده القرآن كما مارسه، على حد قوله، على "فهم أفضل للحياة الاجتماعية" بمظاهرها المختلفة. لم يجعل منه متعصباً "دينياً" بل على العكس. تأثر بجماعة من الفنانين كانوا يدعون أنفسهم ( جماعة الانطباعيين ) وكانوا يعتقدون أن موضوع اللوحة - الطبيعة، والحالة هذه - أهم من الجمالية المتبعة، بدأ بالاهتمام بالتماثيل القديمة والأختام الأسطوانية. ولكنه بعد ذلك شغف بالإشارات الباطنية، بالفن الشعبي، بالمخطوطات وقبل كل شيء بفن الخط حيث كرس نفسه لمواضيع الأدب والتاريخ العربي. وهكذا اختار مواضيعه الأولى من ألف ليلة وليلة، ملحمة جلجامش و الحسين الشهيد.

أقام أول معرض خاص له في بغداد عام 1965. ومن ثم توالت المعارض في بيروت، طرابلس، الكويت، القاهرة، البحرين والهند. لهذا ولكونه مقرباً من الجماعة العراقية "نحو الرؤية الجديدة" والتي وقع بيانها العام مع هاشم السامرجي ومهر الدين عام 1969، ابتدأ العزاوي بعد أن ترسخ سياسياً، يتعامل بحماس مع المسألة الفلسطينية والكردية عن طريق الملصق، لكي يوصل رسالته إلى العدد الأكبر من الناس، وكذلك عن طريق التشكيل، الرسم، الطبع والحفر.

بفضل اكتشافي لبعض لوحاته في لندن حيث عاش في السبعينات، فهمت أنه مع اتساع إنتاجه فإنه ما زال ينهل من تجاربه الأولى الفنية منها والسياسية وأنه لا يمكن فصله عن تلك التجارب بدون تنكر جسيم لقضيته. ما أسعدني أنني لاحظت، في محيط تلك العلاقات التي ما زالت مجهولة في أوربا ما بين التقاليد والعصرية العربية، نهجاً لرؤية جديدة ساعدت على إرشاد رواد المعرض، الغربيين منهم والشرقيين، إلى مفهوم جديد عالمي بالفعل ( وليس "عولمي") للعلاقات بين أفراد البشر المتمايزين، الذين يعتقدون (أو الذين يريدون) أن ينعزلوا ولكن مهما حصل أمام أعينهم ومهما كانت مصائبهم، فإنهم في النهاية لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً: بسبب ارتباطهم الكبير - وهذا حاصل قبل اختراع الإنترنت بوقت طويل - فإنهم يستطيعون، إن أرادوا حقاً، أن يوجدوا تعريفاً جديداً لما يدعا بالإنسانية.

لم أعد أعتقد منذ زمن بعيد، وقد قلت هذا سابقاً وبينت أسبابه - فيما يتعلق باليابان وكوريا أولاً - بوجود هذا التناقض التقليدي، الهرم بل والبالي، بين "الغرب" و "الشرق"، وكما طرح وعيش وسيّر عبر القرون الماضية. وأن المبدعين الحقيقيين، شعراء أو رسامين، من مشرق الأرض أو من مغربها، استطاعوا، ومنذ الثلاثينات، تجاوز تلك الفكرة واحتواءها تماماً ولكن بطريقة مختلفة عما كنا نتوقعه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إن ذلك التناقض يغير من طبيعته بدون شك مع نهاية الحرب العالمية الثالثة التي وصلت أحداثها بدون علمنا إلى أوربا، والتي تضرب في كل مكان وبطريقة أكثر مأساوية وإجراماً دوماً، الديانات والجنسيات والأعراق بعضها ببعض.

ضياء العزاوي، الذي لم أعد أذكر من لقبه بـ بيكاسو العالم العربي، الواعي لهذه المأساة العالمية الجديدة، عمل على طريقته كما فعل بيكاسو الذي زاوج بين الفن الإفريقي والإيبيري وبين الفن الغربي العصري مما أعطاه مزيداً من الثقل والتأثير العالمي. عمل العزاوي أيضاً كما فعل ماتيس في المغرب ولكن بالعكس. بدون أي تنازل للذوق و الموضة التجارية وبدون أي مجاملة للفن الشعبي الشرقي المتميز، كامل العزاوي بطريقة غاية في التفرد والإقناع، بين العمارة السومرية - في المعابد والأبراج - وبين ديناميكية الحداثة، كما ظهرت وتنوعت في مختلف البلدان المتقدمة. على حد علمي، كان الفنان العربي الوحيد الذي حقق هذا الانتصار، بكل يسر وجلال، وبحرية مطلقة لا يسعنا أمامها سوى الدهشة لأنه ما من شخص أو صالة عرض أو أية مؤسسة رسمية طلبت منه أن يفعل هذا قط.

يشعر المرء أمام لوحاته، كبيرة كانت أم صغيرة، وكذلك أمام إنتاجه الآخر من الرسم والحفر، والطبع والنحت - فهو يستعمل كل التقنيات -، يشعر بالدهشة من فرط حيويتها. بمعنى آخر، يدهشنا هذا الحدس والخبرات الحساسة، الداخلية والخارجية، التي ينطوي عليها انتشار الطاقة هذا. وأكثر ما تتجلى في إعادة اكتشاف الأشكال العتيقة التي يزيد عمرها عن الخمسة آلاف عاماً، كما في معالجة الألوان، تناسقها وتنافرها، اشتعالها، تخاصمها وتصالحها الموسيقيين، وبكل امتزاجها. بكلمة واحدة، شدوها العميق ما يدعى في الأندلس بـ Cante Jondo .

لكثرة التأمل في هذا الامتداد نتساءل للحظة ما إذا كنا نصغي لسمفونية، ملونة ومنحوتة ذات بعدين وثلاثة. كل الأشياء مقدمة بعظمة وبطريقة عامودية. يخامرنا شعور أننا نقف أمام جزء من قلعة أو سور مهدم كما في اللوحة الكبيرة : سنوات ذبح الفلسطينيين (1967). لا شك أن التوزيع الرائع للألوان موجود لسبب ما، ولكن بناء كل لوحة من لوحاته هو ما يوحي بهذه الاستعارة المعمارية والتي تمكننا من تشبيه تلك اللوحات بالأبواب، و إطاراتها، أو بالنوافذ كما تصرح عناوين لوحاته نفسها ( نافذة، 1986، نافذة في طنجة، رقم 1 و2 ، 1996، ورائعته كتاب الباب، 1994).

غير أن في كل لوحاته صوراً عديدة منتصبة في الفضاء تطالعنا كالأطلال: مثل عبد الله يغادر مدينته رقم 2 (1983)، ماذا قال النفري لعبد الله رقم 4 (1983)، حلم أميرة مصرية (1995) ومجنون ليلى III (1995) . أطلال رمزية مشخصة، تتحرك وترقص أحياناً ولكنها منتصبة في منتصف الفوضى، كما في الرجل الصامت (1992-93): بطريقة ما، تتجلى لنا للمرة الأول أصناف زرادشتية مأساوية ومرحة.

وننسى هنا أن نتشه أحال، كما فعل رِمبو وبدون علم الأخير، الغرب إلى شرق. ولكن رمبو الذي تنبأ بكثير من الأشياء، لا يتكلم مسبقاً في ( أن تكون جميلاً) عن صور وألوان العزاوي، عندما يذكر "جراحاً قرمزية وسوداء" "تتفجر في الأجساد الرائعة"، عن " ألوان الحياة نفسها" التي "تندفع، تتراقص، وتتحرر حول مجال الرؤية في الورشة"؟ أليست أعمال العزاوي "ورشة" استثنائية، ليست أثرية فحسب، بل ذات بناء حديث؟ أليست ألوانها الأساسية، تحديداً، القرمزي والأسود؟

هذا الانسجام والتوازن، بالمعنى البودليري للكلمة، بعيداً عن التحكم والمصادفة يشكلان حقائق مهمة يتوجب إدراكها على الذين سيبدؤون، على أبواب الألفية الثالثة ، بالتعرف على أعمال العزاوي في فرنسا حيث لم يعرض سوى أربع أو خمس مرات في باريس، وتحديداً، في معهد العالم العربي- صالون أيار - FIAC - و L'Espace Cardin . وهي مهمة أيضاً للذين يحاولون المفاضلة، دون جدوى، بين ما هو "عربي" وما هو "غير عربي" في تلك الأعمال، مع أن ذلك مرتبط بطريقة مبهمة في كل أعماله. ولن يجد هؤلاء مهما حاولوا أي شيء دخيل في أعماله بما فيها تلك التي خصصها للمغرب ومراكش، والتي ألهمته ألواناً وتنسيقاً أشد براعة، ما يذكرني قليلاً بـ (بول كلي) وتصميماته لدى انبهاره باكتشاف أنوار وألوان تونس.

خالف ضياء العزاوي بالفطرة كل أنواع الإمبريالية والاستعمار التي ما زالت تشوش الفكر الغربي وتسيّر علانية - وثقافياً في الخفية - سياسة البلدان الغربية. لم يصبح "إقليمياً" أكثر من كونه غير "عالمي" بما أنه لا يخضع لقوانين الرسم الموحدة "العالمية" الرائجة. إن تفرد أشكاله وأسلوبه يجتاحان النظر من كل صوب. لا يتنازل العزاوي كذلك، للمنطق الاقتصادي للعولمة المقيدة للفنون، فهو ينتج رسوماته الخاصة عن معرفة عميقة بالقضية، ويقف، بكل استقلالية أمام الاستبداد اللامرئي لهذا "الفن العالمي" الذي يريد أن يخضع كل شيء إلى تقليد سهل دون هوية أو معنى.

لقد أوجد العزاوي، لكل المهتمين، فناً جديداً شكلت أساسه أركان ما قبل الإسلام، مع أنه لم يكن بأية حال، التعبير الماضوي التواق الأقل قومية عن تلك الأركان. بالنسبة له: بلاد ما بين النهرين الدنيا: سومر، والعليا: آشور وكذلك مصر الفرعونية، هي الحاضر دوماً: طرق فريدة ولكنها عالمية، للرؤية وجعل الآخرين يرون، للتفكير وجعل الآخرين يفكرون. يمكن أن يفسر هذا في كل مكان وكل يوم كما يمكن تفسيره في كل مكان اليوم وغداً وبعد غد ما دمنا نملك الثقافة الكافية لتحمل هذا الشكل من الانكشاف الهائل لبدايات الحضارة الغربية.

لا يشكل الزمن والتاريخ، برأي العزاوي، سلسلة من العتبات المتعاقبة - بحيث تفضي كل منها إلى هاوية مختلفة -، أو انقطاع راديكالي علومي، بل إن الزمن والتاريخ عبارة عن اتصال ذي امتداد أبدي، وتشابك فضائي-زمني ملهم. وبناء على هذا، فإن لوحاته تقدم تأكيداً على أزلية متماسكة بين عدة ثقافات وعدة حضارات متقاربة. كما تجيب بوضوح عن الوعي بهذا الحدث العالمي الجديد الذي لا يتكلم عنه أحد. كان أدونيس، أحد أندر شعراء العالم الذين أبرزوا ذلك منذ وقت طويل، ليس فقط من خلال دراساته ولكن من خلال قصائده أيضاً، وهو ما يفسر الترابط العميق الذي انعقد بين الشاعر والرسام الكبيرين. في الواقع، حملت لوحات العزاوي أول وأكمل برهان بصري على ذلك.

كيف تسنى له ذلك؟ أولاً بفضل ثقافته الواسعة، التي تتخطى كثيراً الإطار العربي، مع احترام مطلق له. أيضاً وبالطبع، بفضل سيطرته الخاصة على الفراغ، وتمرنه التصويري، ما كان رمبو يدعوه بـ "النظر"، "الأنظار". يتجاوز الفنان، ذهنياً وجسدياً، الفضاء-الزمن الذي يمضي: كل الأزمنة التي تعبر في كل البلدان وكل الأراضي في كل حيواتنا. لقد برع في هذا وأجاده بكل حرية، لدرجة مخالطة الشعراء والتعبير بحدة عن أعمالهم. تحديداً، وبعد حصار مخيم تل الزعتر الفلسطيني في بيروت بقليل ومع نشر ألبوم " النشيد الجسدي " (1978 و 1979) حيث رافقت صوره المطبوعة قصائد محمود درويش، الطاهر بن جلون و يوسف الصائغ، والتي دمج أجزاء منها بصوره. وقد كتب في هذا الصدد: " تلك صور أردتها لكي أنشد الحصار. ليست للعزاء أو وثيقة عن مجزرة في الليالي السوداء. إنها تعبير يحاول أن يخلق ذاكرة حرة مستمرة ضد القمع، إلى أن ينبثق لهيبها مشعاً".

يمكننا القول - من هذه الناحية كما من نواح أخرى - أن فنه يشكل تحدياً للفاني وللموت وبنفس القدر، للنسيان. فهو ينتشر من لوحة إلى أخرى بصورة قوية وصلبة لمستقبل ذلك السالف. وإذا قلت أنها تتكون في نظري من نوع من الطبيعة المدينية الحديثة، الخيالية والحقيقية، فلأنني أشعر فيها بأنني في الفضاء المتشابك لشوارع لندن، القاهرة، بيروت، منهاتن وكذلك في الشرفات، الخيالية والحقيقية، لبابل على السواء. تماماً كما نقرأ رمبو في قصيدته التي خصّ بها المدن، الإضاءات حيث قاطع وطابق لندن وقصرها الكريستالي (Crystal Palace )، بروكلين، البندقية، بغداد وبابل، الغرب و"الشرق القديم" .

هنا كل مكان و اليوم هو دائماً: لا يوجد ما يمكن أن يلغي قانون هذه الحداثة الإيجابية، والبعيد كل البعد عن الإكراه على التقبل السلبي لكل ما يحدث - وما لا يحدث - في "البربرية الحديثة" للعالم المتمدن بوحشية. بالنسبة له، لا يمكن لفكرة "كالحداثة السلبية" كما نتكلم عنها اليوم في فرنسا، أن تحمل أي معنى. ولكنه بفضل رغبته المتمردة في التجديد الكلي للعروبة فإنه لا يقع في فخ مماثل، سلبي و رجعي للغاية، بالمعنى الحرفي وليس الإيديولوجي للعبارة الأخيرة. تبقى "الحداثة المطلقة" في نظر العزاوي هي " المكان والصيغة" للحياة والبقاء.

إذا كان ضياء العزاوي، العراقي الذي يعيش في المنفى منذ أكثر من ثلاثين عاماً قد تحول إلى واحد من سكان لندن - على غرار ما حاول رمبو تحقيقه، ولو قليلاً لدرجة إدراج بعض الكلمات الإنكليزية في قصائده- فإن القصد ما كان نسيان إن لم نقل نكران بغداد، ولكن لكي يعطيها حياة جديدة مستقبلية. كما فعل دانتي في الكوميديا الإلهية بعد الهجرة من فلورنسا. ولكن رساماً عربياً وحده كان قادراً على إنجاز مثل تلك السابقة ومثل هذا التجاوز في القرن العشرين وعلى أعتاب الألفية الثالثة. على أية حال، ليس بمقدور أي رسام غربي في مكانه تحقيق مثل هذا الإنجاز في الوقت الحاضر. ما كانت لتتوفر له الأفكار، وحتى لو توفرت بمعجزة، لكانت تنقصه الوسائل الذهنية الضرورية لتحقيقه ولكان سوف يبقى أمامه أبكم فاغر الفاه.

لن نستطيع بالتأكيد أن نحصر مواضيع العزاوي باستحضار المدن أو المساكن، حديثها أو قديمها. بعيداً عن هذا، تشكل لوحاته أنواعاً من "مندالة" غير دينية، إشغال الفراغ بما يصعب تمثيله، ابتكار الفراغ، بالمعنى التصويري الحصري لكلمة "الفراغ". بشكل عام، كان مظهر تلك اللوحات يوصف بـ " المجرد" حسب المصطلح النقدي للفن ( والذي تجاوزه الزمن). إنها تركيبة أشكال وألوان يمكن أن توحي، إذا ما تأملنا فيها، بمغامرة جمالية تزيينية حيث تختفي المعاني - التي يحرص عليها في أعماله - وأفضل مثال على ذلك معرضه نماذج تزيينية عام 1984. ولكني أراهن على أن الانطباع الذي خرج به أغلب رواد هذا المعرض هو أن العزاوي فنان عربي مغمور أو شبه معروف. يمكن أن يكونوا مصيبين على طريقتهم، بألاّ يروا في فنه كمشاهدة أولى سوى ما يربطهم بالرسم الغربي، ولكنهم بالتأكيد مخطئون بأن يعتقدوا أنهم "على صواب" بهذه السرعة.

فهم غير قادرين من النظرة الأولى أن يميزوا كل ما تحتويه تلك اللوحات من إشارات من الخط العربي امتزجت بمهارة يصعب معها إدراكها. إذ أن وجود الخط العربي في عمارة لوحات العزاوي يبدل في بعدها الرمزي العميق بحيث لا يمكن اعتباره "نماذج تزيينية".

يرى العزاوي الكتابة والعمارة والحدائق العربية كوحدة. وتبدو أعماله كأنها لوحات مكتوبة بالعربية تشبه أحياناً مخطوطات ضخمة مزخرفة. كما هو الحال في واحدة من روائعه، حديقة مخططة (1988 - 89 ). فلم يكن من قبيل المصادفة - أو مجرد نتيجة لسلوك مألوف - أنه أصدر كتباً وملفات بالتعاون مع شعراء من بينهم أدونيس وأبو القاسم الشابي، حيث لم يكتف "بتزيينها بالرسوم" ولكنه بناها أيضاً بطريقة نحتية وتصويرية ليجعل منها نصباً تذكارياً لحب الكتاب، كل الكتب : إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي, مختارات لأدونيس. ليس حباً دينياً بالمعنى الأرثوذكسي لكلمة "دين"، ولكنه حب حقيقي مادي، حسي، روحاني - ورائع الشهوانية. ولم يغب عن تلك الأعمال وجود المرأة الجسدي، كما يمكن أن نفترض، بل أظهر وجهها مجسماً كما في مجنون ليلى رقم 1 (1995).

بالنسبة للعزاوي، لا يمكن فصل الرسم عن الشعر، عن الفكر الحر المتحرر والمحرر والذي هو الشعر الحقيقي. يهوي الرسم دون الشعر، كعاجز أصم أو مشلول، في مطب عدم التأثير في والملاءمة مع العالم الحقيقي. يجب النظر إلى كل الكتب التي تصورها العزاوي وأنجزها مع الشعراء بنفس الفهم الذي نرى به لوحاته. وأنا أصر هنا، يجب أن نفهمها ونحترمها كجزء من إنتاجه وليس كتتمة غير ضرورية لأعماله. كل الأعمال التي تصورها لمحمود درويش، صلاح ستيتية، يوسف الخال، نبيل ياسين، وللشاعر الصوفي الكبير المتنبي، ولكثير من الشعراء الآخرين، القديمين منهم والمعاصرين، كانت كلها بنىً للرسوم والخطوط مشابهة، بل ومعادلة، للوحاته المخططة. النسيج نفسه والطاقة نفسها وحتى الخيال التخطيطي نفسه تداخلت لكي تعبر عن إرادة الانعتاق والتحرر في مقابل كل النصوص المقدسة، الإنجيل المدّعي والقرآن الذي لا يقل "ادعاء" . ليس من باب مخاصمتها ومن جهة أخرى الاستغناء عنها، بل من أجل التحليق فوقها، كتلك الحمامة التي غالباً ما نراها في لوحاته، كما صور براك بعض الطيور في أعماله.

منذ استقراره في لندن، أعجب العزاوي بمجموعة المخطوطات الإسلامية في المكتبة البريطانية ووعى الأهمية الكبرى للكتاب في الحضارة العربية. كان كل ما حققه في مجال الرسم، حيث كان قد استعمل الخط، قد هيأه منذ وقت بعيد لهذه التوليفة الممتازة من الكلمات والرسوم والإضاءة والتي صنعت أصالته الاستثنائية. تجلت تلك الأصالة على أكمل وجه في الملفات التي حققها لأدونيس بين العامين 1996 و 1999: يد الحجر ترسم المكان، 1996، أغنية، 1997، الجسد، 1998، قبل أن ينتهي الغناء، 1998-99، وردة الأصيلة 1999، و أغنية إلى حروف الهجاء، 1999 حيث قدمت الأولى في معهد العالم العربي أثناء معرض أعمال أدونيس. وشكلت مجموعة الكتاب مجتمعة: كتب-منازل، كتب-نوافذ، كتب-أبواب، كتب-جداريات، كتب-بانوراما، وكتب-آثار، حاضرة خيالية للكتاب مجدت دوره المعتق.

يساهم العزاوي، بأعماله المنفتحة جداَ على الإنسان وعالمه، المعترضة والمتجاوزة، المحملة بالمعاني العديدة الوجودية والسياسية، التي تحمل تناقض المأساوية والفرح، والتي تغلّب الحياة على الموت وهواجسه، بإظهار الحضارة العربية الجديدة التي ستنبثق عاجلاً أم آجلاً من خلال تمزقاتها الداخلية ومن مصائبها وجنونها الانتحاري. والعزاوي، في عمله الدؤوب المحمل بالحب لهذه الغاية، ينسج من حبال في غاية الدقة شبكة الخلاص التي سيعيد بها اصطياد أسماك الطوفان الجديد. لقد رفض أن يصبح "الخاطب اليتيم" لبلاده ولن تخط يده وساعده اللتان قوتهما الغربة على القماش أو الورق، أي "صورة عزيزة" أو عتيقة، ولا أي صيغة مستعادة من العالم القديم أو المعاصر.

هدفه هو إضفاء السعادة بواسطة الخلق وحده.

أيار
حزيران 2001