علي رشيد
(العراق/هولندا)

Ali

يتسم خطاب الفنان التشكيلي علي جبار (رسام ونحات ) بالتعرية ، حيث العمل لديه ينكشف من خلال سرد ينفتح على الإنسان بكل تجلياته وانكساراته ، بل وينفتح على عالم يرمز ولا يصرح ، عالم ينحت مفاهيمه وتحولاته في بنية هذا الكائن السارد في غيابه النفسي والكياني . فالفنان يمتلك القدرة على إحالة شخوصه إلى كيانات وصفية تنحاز إلى الاستفهام بتقفي عزلتها الغامضة ، وانكفائها في مساحة تسم غموض المكان وتوهم الكائن ببداهة هذا المكان .

كرسام يتناول الفنان سكونية الزمن ، ودلالة الاغتراب لدى شخوصه ، فالفضاء لديه يولم عزلة الإنسان المستسلم لإشكالية وجوده الناشز في زمن يستهلك أحلامه وطموحاته وعلاقاته بل و كيانه أيضا ، في معضلة كهذه لا يجد كائن علي جبار من بد سوى النكوص لمحيطه الأكثر أمنا وهو في الغالب البيت الذي يمثل عالمه الأليف ، ليداوم فيه خوفه أو أمنه ، مسراته أو أحزانه فوق أرائك يستلقي عليها كقيامة توجز فسحة لدرء الضجيج الذي يتكاثف خارج هذا المحيط . أرائك تسحق طاقته ولكنها تمنحه الاسترخاء الذي يولده السكون ، استرخاء مر ، وهامشي ، وعابر و قلق ولكنه خيار ملزم إزاء الفزع الذي يرسمه عصره الضاج بالاستلاب وسط عالم متفرد بتشرذمه و تعميم أخطائه الفادحة لتكبل الإنسان بالوحدة والفصام الروحي والنفسي والحياتي وتكثف عزلته التي تندرج كرهان يحبط تواصله وهذا العالم السارد في غيبته وتغيبه .

الأرائك هنا فعل مكان يعكس مفردة الانتظار لشخوص تنقاد لتطلعاتها الغامضة وسكونها الواهن وكذلك تعبئة لعزلة الكائن و تقاطعه مع الزمن أو الواقع. فتتداخل بثيمة هذا الكائن الملغز المختفي خلف ضبابية الملامح التي يتعمد الفنان تمويهها ، كمحاولة لتعميم الذات الكامنة في هذا الشخص أو ذاك بذواتنا التي تنقاد لصورتها في شخوص علي جبار الرابضة خلف خيباتها وعذاباتها وانتظارها الأبدي .

تستحوذ مفاهيم العصر وحداثته على كائن علي جبار ، هذا الكائن المعاصر الذي يعيش زمنه ويتبنى خطابه ، فهو يرفض الفكرة الواحدة ، بل وعدم القناعة بالأشياء ومطلقها ، أو اختزال الظاهرة وفعلها بتفسير محدد ، منتبها لبديهية وجود أكثر من حقيقة ولذلك هو يتشكل خارج مفاهيم المطلق أو الثابت حتى داخل كيانه هو ، فتأتي شخوصه غير مكتملة بل تتناثر كأجزاء يعاد التصاقها بشكل كولاجي تتقاطع مع كمالها داخل المشهد ، وكأن هذا التقاطع هو الثيمة الحياتية التي تسم التناقض ليس بين الفرد ومحيطه ، بل بين الفرد وذاته . فيتشكل هذا الفرد بأكثر من ملمح وبوجوه متعددة كتعدد القناعات التي ترسمها المشاهد اليومية للأحداث وتأثيرها على هذا الكائن المنكسر بعزلته وحيرته وقلقه الحياتي ، قلق يحشد متاهته البوح بخلخة المشهد وتسييد الافتراض .

aliينجز الفنان ملامح مضببة لوجوه لا تتمكن من تحديد شخصها أو كشف هويتها ، وبالضرورة لا يمكنك تلمس أي طريق لألفة معها ، كونها مندغمة خلف تداخل أوجه عدة أو وشاحات تلغي الملامح وتستبدلها . و على العكس من الوجوه التي أخفى ملامحها الفنان كي يعمم هويتها أو يحكم أسرارها ، فأن أناقة الرجال أو النساء الباذخة و أجسادهم الضاجة بالشهوة والانتظار تشير إلى الغياب الرابض في المشهد من خلال التأكيد على رسم الملابس بتشخيصية عالية
( أثواب ومعاطف نساء أو قطع لملابس رجالية ) تتصدر العمل وبرمزية تحيلنا إلى فكرة أن القيمة الفعلية هنا هي الظاهر أي بمفهوم أدق تفوق الظاهر ( الشكل ) على الباطن ( الجوهر ). كذلك يستخدم الفنان الملابس كبديل عن الإنسان بتدوين أثره ووحدة من يتلمس هذا الأثر .

في أعماله تتداخل الأجساد ، وتختلط أنوثتها بذكوريتها محاولة لتعميم النكوص خارج مفهوم الرجل - المرأة ، بل الكائن بشموليته وإنسانيته هو الناضح لخطاب وحدته بتداخل عناصره بحياديتها التي ترمز لعالمه ومناخاته حيث الغرف الضيقة والجدران المندغمة بأجساد شخوصه المتوحدة مع ظلالها المنكسرة بعزلتها وحيرتها وقلقها الحياتي .

اللوحة لدى علي جبار نص يقوم برصد تفاصيل الحياة اليومية بقدرة احترافية تمكنه من بسط حسه الفني في تفعيل الفكرة واستيعاب مضامينها في تشكيل هذا النص بصريا وتثوير عالمه الفني الذي يرمز لهواجسه وإدراكه لضرورة طرح هذه الهواجس عبر الإشارة إلى نمط الحياة المعاصرة وتأثيرها على الواقع . يولي الفنان بحثه الجمالي أهمية ، حيث يستثمر قدرته الفائقة في الرسم واستخدام اللون كقيمة معبرة وفاعلية بوحيّة في تفعيل المشهد الذي يرمي من خلاله تأكيد منجزه الدلالي والفني ، حيث تكبل الألوان بطاقتها الجمالية الرامزة بعتمة المكان الشخوص بفردانيتهم في حين لاتتقاطع جدلية القيمة والمعنى في العمل .

بمهارة يستخدم الفنان اللون الرمادي أو الجوزي المحروق أوالأزرق المعتم كخلفية للمشهد وبهارمونية أدائية تقترب من عوالم كائناته التي تحجب عنا أسرارها ، بل تقودنا نحو مطلقها الكامن في شرط سكونها وعزلتها . بينما ينضج هذه القساوة المعتمة بنقاء لوني نافذ بجاذبية تندرج بين الأحمر والبرتقالي أو الأزرق أو الأبيض ليحدد بها مرموزات المشهد وعناصره ، فالثياب أو الأرائك أو الأشياء المبعثرة هنا وهناك هي الوهج الذي يديم فاعلية العمل وقيمه البصرية . فهو يسعى إلى الموازنة بين التأويل (علاقة الكائن بالمكان ) وصياغة العمل وتقنياته الفاعلة في تحديث الفن البصري وتعميم خطابه التشكيلي والجمالي ، وكفنان واعي بحداثة اللغة البصرية وخفايا هذه اللغة نراه يستثمر قدرته التشخيصية في تأسيس واقعية رمزية تتكئ على اللون كقيمة تعبيرية في تفعيل الدلالة وإدراك القيمة الحسية لمناخ اللوحة وأدائها المتفرد.

ali2

في النحت ينحو الفنان علي جبار منحى مغايراً عن اللوحة لدية ، فنحوته تتشكل وفق المعايير الكلاسيكية الحديثة في التعامل مع الكتلة محتكمة لعلاقتها بالفضاء وفي تفعيل الخامة ومصادرها احتكاما لعناصر الطبيعة ، ربما لأن أعمال الفنان النحتية تحتكم إلى البيئة وعلاقتها بأشكاله المصممة ، فبين عمله اليومي كرسام في مغتربه الدنماركي وبين مشاريعه النحتية التي كثيرا ما تأتي من تكليف ومشاركات دول خليجية في الغالب ينجز الفنان أعماله النحتية ( نصب كبيرة) هناك منقادا لفعل البيئة وفضائها ، حيث الصحراء الشاسعة وفاعلية الضوء المشع والتي كما يصفها الفنان ( الضوء الفاقع يملأ العين ، ولن يترك مجالا لدفقة الألوان المتناقضة لأنه مشبع باللون ) . ولأن البيئة الصحراوية كما يعتقد الفنان ( تتقبل كل أشكال المركبات النحتية ، لكنها تتبنى بقوة الأشكال التجريدية والعضوية ) . لكل تلك الأسباب اعتمد الفنان علي جبار على الكتل الكبيرة من الحجر المشكل بتجريدية تعبيرية حديثة من خلال تشذيب الكتلة وإعادة تشكيلها حسيا بما يخدم المشهد وعلاقة العمل بالعناصر الأخرى التي تتمثلها البيئة . ولم يتوقف الفنان عند حد خبرته في التعامل مع الحجر بل عمد إلى مشاغبة الكتلة في تعميق التضاد فيها من خلال مزاوجة عناصر وألوان لأحجار مختلفة في تكوينها البلوري منقادا لرغبته في تحريك العمل ومنحه الديناميكية التي تتولد من خلال تأثير الضوء وانعكاساته بموجات متباينة على ملمس الأحجار المختلفة ، هذه الديناميكية الفاعلة هي الهدف الذي يحاول من خلاله الفنان مشاغبة الصمت الذي يطبق على شساعة البيئة وانسيابها الساكن .

تخرج الفنان علي جبار ( مواليد 1963 ) في معهد الفنون الجميلة في بغداد/ 1987، وواصل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد/1990، ومدرسة كوبنهاغن للتصميم التخطيطي ، عضو في الجمعية الدولية للفنون ، واتحاد الفنانين العرب ، وجمعية التشكيليين العراقيين . أقام سبعة معارض شخصية، خمسة منها في الدنمارك و في اسبانيا و ألمانيا. شارك في بينالة طهران- إيران، بينالة القاهرة الدولي- مصر، بينالة الشارقة -الإمارات العربية المتحدة- كذلك له مشاركات جماعية في كل من العراق- تونس-الدنمارك- فلندا- النمسا- النروج- لتواينا- الولايات المتحدة الأمريكية- أيسلندا- فرنسا- شيد نصبا تذكاريا/ ندوة أنقرة/ تركيا- ، 2004و نصبا تذكاريا آخر/ ندوة دبي/ الإمارات العربية المتحدة ،كما نفذ نصبا تذكاريا/ ندوة البحرين/ 2003 . حصل على الجائزة الأولى لمهرجان الواسطي - العراق 1985 و الجائزة الأولى لندوة ( إمار ) الدولية - الإمارات العربية المتحدة 2005 . يقيم ويعمل كفنان متفرغ في الدنمارك .