علي رشيد
(العراق)

1

علي رشيدتعتبر العملية الإبداعية في المجال البصري بشكل عام وفي التشكيل بشكل خاص ، محاولة للخروج من زحمة الواقع وتعقيداته إلى هلامية وشفافية المخيلة لدى المبدع لتؤسس مناخها المركب ذهنيا وروحيا في سياق العمل الإبداعي .
تتمثل رؤية الفنان التشكيلي في موازنة العمل الفني وفضائه البصري ، لذلك يرى اللوحة محورا لتشكيل هذه الموازنة بين حركة التاريخ ( التأسيس اليومي للفرد ومفرداته الحياتية ) وكينونته في ترسيخ قيمه وسلوكه ، وبين انعكاس هذه القيم والمفاهيم الشخصانية على النتاج الإبداعي .

2

لذلك حين يمارس الفنان عملية خلق عوالمه المنسوجة في مساحة البياض ، يحاول أن يكون المصدر الأساسي لفاعلية اللوحة بناء ومعنى ، أي أنه سيلخص الذات التي هي ( الأنا ) في أطار التركيبة المعرفية والسلوكية ، بشرط أن تكون هذه الذات ، ذاتا معممة ، وليست ذاتا منحازة له بأنانية مشوهة ، تحاول أن تفرض على الآخر خصوصيتها ، بل العكس ، حين يتلمس خصوصيته في تفعيل هاجس المخيلة في سرد المشهد الفني منقادا لمناخه النفسي ، ولمفردته البصرية ، يلكزز هذا المناخ والمفردة كي تبسط امتدادها المتناص مع مناخ ومفردة الآخر ، أو مفردة التأسيس ( الانتماء ) .

3

علي رشيدإن أي عمل فني محكوم بالسياق الجمالي لمفهوم الفن وقوانينه الأكاديمية في تأسيس هذا العمل ، ففي اللوحة مثلا هناك اشتراطات ومعايير دراسية ، تتضمن دراسة اللون ، وعلاقتة في تنضيد الشكل ، وإيحاءاته لمفهوم الكتلة والفراغ ، وبالقدر نفسه من وجوب التزام الفنان بهذه الاشتراطات والمعايير ، هنالك اشتراطات ومعايير أخلاقية تتوازى في أهميتها مع المعيار الجمالي في صدم المتلقي ، ليس روحيا ، بل ذهنيا أيضا في التفاعل مع ما تحمله اللوحة من تساؤلات أو طروحات ، تجعل منها انتصارا لفعل الفن في تحريك الآخر ( المتلقي ) وإدخاله في موضوعة العمل كمحاور وشريك أساسي في التعبير عن ماهية الإبداع ، تماما مثل المسؤولية التي تقع على عاتق الفنان في استخلاص وتفعيل المفردة الفنية وفعلها الجمالي والأخلاقي .

4

علي رشيدليس بالضرورة أن يكون العمل الفني مباشرا في طرح مفاهيمه ومعانيه ، لأننا في هذه الحالة سنساهم في تسكين الآخر ( المتلقي ) ، وإلغاء فاعليته كمشارك أساس في تحرير الإيهام في اللوحة ، بل سيخضع المتلقي باستسلام لما يمارسه عليه العمل الفني من طروحات ومرموزات واضحة ومباشرة ، فيأتي استيعابها سريعا ومن خلال معاينة بصرية ستعطي مفرداتها المحسوبة دون تلغيز أو إيهام ، وهذا مايمكن مشاهدته في الكثير من الأعمال التي تحمل طابعا زخرفيا أو تصويريا أو انطباعيا ، كمثال على أعمال لا تحمل المتلقي على التساؤل ، بل ستحيله إلى متلقي
سلبي .

لذلك ينظر إلى اللوحة أو إلى أي عمل فني علىأساس قابليته على الإدهاش وتحرير المتلقي من سكونيته في التعامل معه ، وخلق مساحة جدلية تدخله في متاهاتها لاكتشاف العمق الجمالي والتأويلي لهذا النتاج وبفضاءات مغايرة للسائد ، وبمعالجات ووسائل التجريب في ابتكار متعة بصرية تقترح الصدمة .

لا تتطلب اللوحة أو العمل الفني سمات وملامح محددة لتشكيل هذا الحوار ، بل أن الكثير من الفنانين وبمختلف مدارسهم واتجاهاتهم الفنية تمكنوا من صياغة مساحة تحمل مشاكستها في الإمساك بالمتلقي ، وجعله فاعلا في تحرير عوالم ومسالك العمل الفني المنسوج بمعطيات تنسج الراهن .

5

علي رشيداللوحة بالنسبة لي ، تلمس لباطن يفرض تعاويذه المتشبثة بالنطق البصري
سيرة تكرس قيامة الابتكار
مساحة لتدوين الذاكرة ، الذاكرة التي تستمد خصوبتها من مرجعية حضارية تتمثل بحضارة وادي الرافدين الممتدة إلى أكثر من أربعة آلاف عام .
إنها النطق الأول لمفردة المعرفة وبناء الكيان المدني للإنسان .
كذلك الذاكرة الحاضرة والتي تتوزع ، بين ذاكرة ترسم شكل المدينة وألفتها ورائحة الأهل والأصدقاء والظلال ودفئها ، و بين ذاكرة جمعية مثقلة بالحزن والفجيعة والدم والنواح ،
ذاكرة تحمل ألم الحروب والمذابح الجماعية .

6

تدوين الذاكرة في العمل الإبداعي ، جدلية تنفتح على ثنائية التجربة بواقعيتها ويقينها ، والحلم بعفويته وهذيانه ، ومن خلال الكتابة ( شعر ) والرسم ( اللوحة ) ، تكشفت لديّ العلاقة بين الخط والحرف في التدوين وأمكانية أن يدخل النص في اللوحة كي يتمظهر بشكل تشكيلي تقني وليس نصا قرائيا جامدا ، تجسدت بمجموعة تخطيطات نفذت بداية الثمانينات لتدوين يوميات الموت على سواتر الحروب المشبوهة ، والتي صدرت فيما بعد بكتاب عنوانه (أضحية رمزية لمعارك الله) عن دار مخطوطات في هولندا.

7

لهذه الذاكرة المنجذبة لشهادتها ، التواقة لترسيخ مسؤوليتها في شرعنة التدوين ، وفي تلخيص الوعي الملتزم في تكثيف صدى الأنين في الفن .
مسؤولية تلزم المبدع ، تتلخص في طريقة استحضار الذاكرة ورفدها باليومي ، ايمانا في بناء حاضر لا يخلخل كيان الكائن أو يرسخ نفيه ، بل ينهض بفاعلية الأنسان في بناء مستقبله ، وهو ما ينفرد به احيانا ، السياسي ( بعد إقصاء المثقف ) والذي قد يقود لخراب عالمنا المتسارع في انهياره وانهزامه .

8

علي رشيدكل هذا الإرباك الحياتي المعاصر والمتزامن مع عولمة قبيحة ، عولمة سياسية بحتة أوجدت مناخا فنيا يلخص الرؤية التي أنشدها في العمل الفني و المتمثلة في الإندماج في عصرنة اللوحة وتشكيلها الحداثوي الرحب والمصاغ بلغة تشكيلية تنشد الانفلات مما قد يسحب حريتي ويقودني إلى مايلزمني كتقليد وصياغة صارمة في العمل ، ومتأنيا في الوقت نفسه من فوضى القفز على كل الخطوط والقيم التي يحتاجها الفن ليبني خطه الأحمر، بين الفن كمفهوم جمالي ولكن متحرر، والفن كبدعة وتزوير وبشاعة ، ولكنه يتخندق بمواقع الحداثة وحرية الرؤى ، وهو أشاع مايمكن أن أسميه فن اللصوص والنساخين ودهاقنة ابتزاز القيم الجمالية والأخلاقية في العمل الإبداعي والفن بشكل خاص ، والذي مكن العديد من الأميين من دخول عالم اللوحة ليعبثوا ببياضها البكر الجميل ، مفتضين بكارتها بزبد أرواحهم المريضة وأميتهم التواقة للعبث بكل جميل وتشويهه تحت مظلة الحداثة في الفن .

9

الفن ليس ما أشاعه الغرب من حرية كما أنه ليس صرامة وتقاليد مدارسنا في الشرق ، لهذا فإن جودة العمل لا تتأتى من التشخيص أو الفضاء المجرد ، بل من مساحة الخيال والمتعة والحزن واللحظة والرغبة في أن تبسط فعل المخيلة على مساحة البياض لتسري عصيانك أو ألفتك ، أنه بيان الدهشة وغواية الانصياع لصدفة ، تكثّف الحنين إلى المتخيل وتسعى لتهشيم طوق النمطية .

10

علي رشيديمكن تلخيص هاجسي في التعامل مع المفردة التشكيلية في اللوحة بين تحرري الشخصي في العمل وتجلياته التجريدية وعوالم الانعتاق من قداسة الشكل وهذا محوري كفنان ، وبين التزامي بمسؤولية أخلاقية وتاريخية اتجاه مايجري في وطني ، وهذا مايحتم عليّ أن أخصص بعضا من قدرتي لتشخيص الحالة المعاشة هناك في جحيم البؤس والموت لصدم المتلقي وتعريفه بعذابات من أحب هناك .

إنها نفس المسؤولية التي ألزمت بيكاسو في رسم ( جورنيكا ) ، المدينة التي قصفها ( فرانكو) دكتاتور اسبانيا بالطائرات . وهنالك فنانون آخرون ممن خاضوا التجريب و الحداثة إلى أقصاها، ولكنهم رسموا الموت المشخص وبشاعة الجريمة وعذابات من أحبوا أو من تركوا خلف هجراتهم .

لا أعرف كيف يمكن للفنان العراقي أن يقفز فوق الآف ( الجورنيكات ) في بغداد و كربلاء والبصرة والناصرية والسليمانية وسامراء ؟ ، أو أن يكون بمنأى عن نتاج عصر الطغاة من مقابر جماعية وانتهاك كرامة الإنسان وحتى مواجع الاحتلال وبشاعة الإرهاب المفخخ؟.

14-5-2004

www.alirashid.exto.nl