أحمد بزون
(لبنان)

فنان اللافن .. فنان الأسئلة

أحمد بزونرحل الفنان الأكثر شهرة بين أقرانه في العالم، الفنان الاسباني أنطوني تابييس، الذي يعتبر واحداً من أهم الفنانين الأوروبيين الذين شغلوا مساحة واسعة من النصف الثاني للقرن العشرين. 89 عاماً من العمر، وما يقرب 65 عاماً من الإنتاج الفني، حصد خلالها، إضافة إلى الشهرة، عدداً كبيراً من الجوائز، ومبالغ طائلة من المال، ثمناً عالياً لأعماله التي تنوعت بين التصوير اللوني والنحت بشكل أساسي، إضافة إلى الغرافيك. آخر تكريم له كان من قبل ملك اسبانيا الذي منحه منذ عامين لقب ماركيز الفن الاسباني، وفي لفتة مميزة أصدرت السلطات الفرنسية طابعاً في أوائل التسعينيات، حمل صورة إحدى لوحاته، ولائحة المجد الذي حظي به في بلده والعالم طويلة.

مناسبتان لا تزالان عالقتين في ذهني عن تابييس، الأولى عندما أقامت أليس مغبغب معرضاً لأعماله، في صالتها التي كانت في سن الفيل، في منتصف التسعينيات، وقد أحضرت نسخاً مرقمة من أعماله، بعضها أصابها تابييس بضربة فرشاة طازجة كافية لأن يصبح ثمنها قرابة مئة ألف دولار. المناسبة الثانية كانت حين زرت مؤسسته، أو متحفه، الكائن في شارع غارسيا في برشلونة، العام 2002، وهو من أشهر الفنانين الكتالانيين، كان يقيم حينها ويعمل في ريف يبعد حوالى ستين كيلومتراً عن برشلونة. وقد رأيت في هذا المتحف ما يختصر تجربة الرجل، أي أن مئة عمل تقريباً، في مقابل عشرة آلاف عمل في متحف زميله خوان ميرو، يعتبر قليلاً، لكنها كانت كافية لنثر الكثير من الأسئلة، ليس حول كل عمل، إنما حول الفن عموماً.

سوريالية ومعاصرة

الفنان الذي شغل العالم، ويعد أشهر الفنانين الأحياء حتى يوم أمس الأول الذي رحل فيه عن 89 عاماً، تنقل بحياته الفنية بمراحل بدأت، بعد الحرب الاسبانية والحرب العالمية الثانية، بسوريالية أسطورية، لتصل إلى آخر تمثلاث الفن المعاصر، التجهيز واللوحة المفهومية وما إلى ذلك من إبداعات ترفض بماهيتها اللوحة السائدة أو المنحوتة المتعارف عليها في العالم. فهو بدأ يرسم بمخيلة كابوسية إنساناً بلسان كلب، أو طيوراً خرافية، أو سوى ذلك من الأعمال التي تنحرف نحو الدادائية ايضاً، قبل أن ينتقل في مراحل لاحقة إلى عبثية غريبة، يقدم فيها خزانة تندلق منها ثياب ملونة، أي أنه بات يفضل الفكرة على البراعة الفنية، بل يقيم كسوره الكثيرة على اللوحة وإطارها، فيلغي اللوحة لصالح أشكال فنية هجينة يركبها على مزاجه، يداخل فيها الورق والشرائط المعدنية والأخشاب والأقمشة والأتربة، أو يضع على لوحة مثلاً كومة طين، أو يعرض لوحة مقــلوبة على قفاها الفارغ، أو يعرض لوحة من دون ألوان ســوى لون القمــاش المؤسَّــس بالأبيض.

لم يكن يريــد أن يــترك في اللوحــة مقولة ما أو فكرة عميقة، ولو أنه كــان في مرحلة من عمــره مهتماً بالفــلسفة. كل همه أن يثير في المشاهد أسئلة، حــتى الرموز التــي كان يستخدمها مثل حرف A أو T أو شكل X أو رقم 8 واقــفاً ونائماً ومائلاً. كل ذلك وسواه كان رمز اللارمز، وفي أعمــال قدم فن اللافن، وإن كان في أعمال أخــرى استخدم التقنيات التشكيلية المعتادة. كان همه عموماً كسر الســائد، وعدم الاستسلام للواقع، فبدا في أعماله ساخراً من الطراز الأول، ساخراً من المفاهيم والقيم المتداولة، غير مهتم بسوق اللوحة والفن الاستهلاكي، وقد قدم العديد من الأعمال غير القابلة للتداول.

الساخر من الفن

لم يخلص في أعماله إلى نتائج ونظريات ومدرسة، بقدر ما كان اهتم بتصوير الأسئلة وإثارتها على هيـــئة عمل فــني. هو مثلاً لم يصوّر الصلب كرمز معــروف، إنما كان يصور في عدد من لوحاته صلبــانه بشــكل ملتــبس، فمرة نرى الصليب خشباً ثقيلاً على كتــف رجل، وثانية يقلب خشبة الصليب ويضــع فوقها أشرطة شائكة، وثالثة يضيــف إلى مشهد الصلب آثار دعستي قدم... يضع الشكل أو الشيء دائماً لا لنفسه إنما ليكون منطلقاً للسؤال عن ماهيته ومصيره، بل مصير الإنسان من خلفه.

في أي حال، فإن تابييس، الذي ابتهجت الأوساط الفنية لنتاجه، كان يترك في أعماله مسحة سخرية ســوداء أو يستخدم السواد بكثافة عرف بها، أو يستــعمل ألواناً باهتة. وهو فنان متقــشف أقلّوي صــادم وغرائبــي، يهمه أن يهدم الجدران بين الفنون، ويأتــي بالواقع إلى لوحته، لا ليــبرزه إنمــا ليهدمه ويطرح التباســاته، راميــاً خلف ظــهره مقولات البراعة والمهنية العالــية والجماليات الشكلانية.
بتقــلبات وجوهــه كلها ترك تابييــس بصمــته الواضــحة في عاــلم الفن التشــكيلي، حتى غدا عدد كبــير من الفنــانين من أجــيال لاحقة تابييــسيين، ولا نعفــي بعض الفنانين اللبنانــيين أيضــاً من التــأثر باتجــاهه والتأثر بنــتاجه. وقد يكون رحيله خاتمة لكبار التشكيليين الذين تركوا أثراً مهماً في أجيال شابة.

السفير- 9فبراير 2012