عمر عبدالعزيز

سامي محمد ، غنائية بصرية وتجريد فراغي استطاع الفنان الرائد سامي محمد بأعماله الفنية أن يخترق حواجز الزمان والمكان ليعبر عن الهاجس الإنساني الشامل وتوقه الدائم للحرية والانعتاق.. فبالرغم من انتماء الفنان لحاضرة عربية طالما كانت وديعة وعامرة برغد العيش إلا انه كان موصولا بالبشرية المعذبة خارج زمانه ومكانه بل خارج التاريخ الخاص للزمن الفيزيائي.. وربما لهذا السبب اعتمد البعد الثالث المجسّم في تعبيراته من خلال المنحوتات حتى يضفي على أعماله قدرا اكبر من الواقعية المجردة بالرغم من دراساته المسبقة والدقيقة للتصوير في أساس البعدين الأول والثاني أو الطول والعرض لمساحة الورقة البيضاء.
لعلنا هنا بحاجة إلى توضيح مدرسي يتعلق بهذه الأبعاد. فاللوحة تتشكل واقعيا من بعدي الطول والعرض فيما يكون البعد الثالث (المنظور) وهميا.. لذلك فإن تجريدية اللوحة تستمد أساسها المكين من هذه المقدمة.. أي وجود بعد ثالث افتراضي (غير واقعي) لأن الورقة ليست إلا سطحا له بعدان (طول وعرض).. أما المنحوتة فإنها تتشكّل عمليا من الأبعاد الثلاثة (الطول والعرض والعمق) لذلك فإنها عمل واقعي بامتياز. وإذا حضر التجريد في المنحوتة فإنه يحضر من خلال خيال المتلقي والفنان، حيث يلجأ النحات (الفنان) إلى إضفاء أبعاد فوق واقعية على العمل الذي ينجزه سواء من خلال التفكيك أو التعبيرية الرمزية وغيرها من أساليب.
وقد اعتمد الفنان سامي محمد التصوير النحتي في الفراغ مع مسبقات تحضيرية تنتمي إلى التصوير خارج النحت.. لكنه إلى ذلك أبلى بلاء حسنا في إعادة تدوير المعادلات الإبداعية العامية لفن (السدو) الذي يعتمد على الزخارف اللونية التلقائية واستحضار الذاكرة الفنية التاريخية بصورة متواترة مع درجة عالية من الغنائية البصرية والتجريد الفراغي الجميل.
تلك المكونات الثلاثة شكّلت الهرم الإبداعي التقني الذي رأيناه في مسيرة الفنان وتداعياته المضنية على مدى سنوات من التميز والفرادة، حيث كان ومازال يعبر عن أنين الإنسان وعذاباته الداخلية، مبحرا في جوانيات الإنسان المعذب ومستحضرا لعوالم الروح عبر أثير الجسد وتعبيراته الموحية.
إذا كان الجسد الآدمي سيد الموقف في أعمال الفنان فإن هذا الجسد لا يحضر بوصفه شكلا ايقونيا بديعا بل بوصفه نفحة إلهية وصنعة بارعة نخربشها بالمظالم والويلات. فالإنسان الذي منحه الله هذا القدر من التوازن والجمال الشامل هو الذي يعتدي على أخيه الإنسان ويتفنن في إدخاله متاهات الأنين والألم.
تتداعى شخوص سامي محمد مع الفراغ فيما تتكسّر عند تخوم النوائب والرزايا، يحاول الإنسان الخروج من مربعات الشر المستطير إلى فضاء الرحابة لكنه يجد نفسه دوما في حالة قيد معنوي ومادي أشبه بالقدر الصاعق.
في مثل هذه الحالة لا نستطيع قراءة المشهد عبر عدسة الشكلانية المباشرة بل عبر التعبيرية المفتوحة التي تضفي على المنحوتات قيما وأبعادا تتجاوز حدود المقال إلى الحال، فالإنسان المتطير ألما وتوقا، سباحة في فضاء المستحيل.. ومحاولة للتحليق خارج الجبر والحصار. هذا الإنسان هو الذي أبدعه سامي محمد استنادا إلى استشراف ما ورائي يتأبى على العقل المجرد والمنطق الشكلي.. لذلك فإنه أحد خيرة الفنانين العرب ممن اتسقوا مع ذواتهم وعبروا عن كوامنهم دونما حرق للمراحل أو قلق دنيوي صغير.
وعندما نقرأ بإمعان التعبيرية الجسدية لشخوصه الغائمة وراء غلالات المدى المفتوح سنجد أن التقنية العالية والرشاقة الأسلوبية والنزعة الأكاديمية الصارمة أبعد ما تكون عن أن استدعاء المثال الأيقوني الشكلاني، حتى إن علاقته بمن رسم الجسد تتشابه في المفردات الأولية لا المعاني الكلية.. فإذا كان ميكل انجلو رسم الجسد بثقافة تعيد إنتاج نظرات العهدين القديم والجديد وتتداعى مع مدن القرون الوسطى الهانئة بيقينها الإيماني وروائعها المشهدية فإن سامي محمد أعاد إنتاج هذا الجسد بتغييب إرادي لأبرز معالمه (الوجه) ومزاوجة قسرية مع كوابحه (الحبال والسلاسل والجدران والأخشاب) بحيث تصبح أحكام القيمة الافتراضية تشابها أو تناسخا بينه وبين فنان آخر ضربا من التلفيق الذي يقع فيه الكثيرون.
نعرف في تاريخ الشعر العربي المعاصر درجة التشابه الكبير بين الاسلوب الشعري لشاعرين ينتميان إلى ما سمي بالمدرسة الرومانسية أو الوجدانية وهما ابوالقاسم الشابي من تونس والتيجاني البشير من السودان.
كلاهما كتب بذات النفس والأسلوب الشعري.. وكلاهما عاش نفس الفترة. ثم أنهما ويا للمفارقة ماتا بنفس المرض وفي نفس السن !! وتشابهت سيرتهما الوجودية والإبداعية بدرجة تصل إلى التطابق. لكنهما لم يكونا يعرفان بعضهما بعضا ولم يتأثر أحدهما بالآخر.
ذلك يعني أن أحكام القيمة النابعة من المقارنة بين الفنانين لا ينبغي أن تستطرد على التشابهات الشكلية أو التوازي الدلالي والمعنوي، بل على استقراء الجواهر والخصوصيات عند كل فنان.
لقد قدم لنا الفنان الكويتي سامي محمد ملحمة إنسانية وفنية تنخطف صوب المدى المفتوح وتضع سؤال الوعي والوجود في أفق ينفسح على ما كان وما يجري من مظالم وويلات ضد الإنسان.

Omarabdulaziz105@hotmail.com

الخليج الثقافي- 2005-05-23