سعد القصاب

-1-

شهادة من جواد سليم لطالما تكررت الاشارة الي هذه الوثيقة بل وتم اعتمادها (نصاً) في عديد الكتب التي قرأت جدل الحداثة الفنية في العراق. منذ ان بدأت مع منجز الفنان جواد سليم 1920-1961 بكونه داعياً باتجاه هذا الجدل. خاصة بعد تأسيسه لـ(جماعة بغداد للفن الحديث ) 1951.
ولا اعرف ان ثمة شهادة اخري حظيت مثلها باهتمام باعث علي الجدارة في وقت لم يكن مبرر استعادتها بذريعة بلاغة قولها النقدي او في احتكارها لمعني لم تحرره او تطلقه من بعدها ثقافتنا الفنية.
وقد اعترف (جواد) ذاته عند ارتجالها (حضرات السيدات والسادة.. انا لست بالكاتب) و (انني اقف هنا مستعيراً اداة لا اجيد استعماله ) .
ما الذي جعلها اذاً وعبر نصف قرت من الزمن تحيا بدافع ثناء نقدي متواصل وتتحول الي (وثيقة) تكشف وتقول بطريقة غير قابلة للشك.
لا يمكننا وصفها بـ(المحاضرة) كما كان يرغب الفنان والناقد (شاكر حسن آل سعيد) وليست هي ايضاً بـ(الكلمة) كما ضمنها الكاتب الراحل جبرا ابراهيم جبرا في كتابه عن جواد سليم. ولكن بالامكان تعيينها بمثابة (شهادة) والتحديد هنا شكل من اشكال التعاطي معها اختتمت بخطاب معارض او حتي لاذع.
مغزي الخطاب الذي يوصي بامكانية توطيد (الجمالي) مع (الاجتماعي) لفرض، يكون فيه العمل الفني، محرضاً باتجاه تنظم واثراء الحس العام. ربما، من هنا، ما زالت هذه الشهادة توقظ فينا استجابات هاجعة.
تلك الاستجابة التي لم يوصلها الي غاياتها بعد رحيل (جواد) فنان او ناقد اخر وجعلها افكاراً دائمة تقاوم عزلة (الجمالي) عن (المجتمعي) وصياغة خبرة ثقافية يتجلي فيها (الابداعي) بكونه بعداً انسانياً لا يكتفي بحدوده التقنية والنظرية المجردة ولكنه ايضاً قائم ضمن ضرورة مجاله الاجتماعي والحياتي معاً.
هذه (الشهادة) كان قد ارتجلها جواد سليم ما قبل قراءة بيان (جماعة بغداد للفن الحديث) حين افتتاح معرضهم الاول عام 1951. وبين فيها دور الفنان ومدي التطلبات لصياغة ثقافة فنية اثناء علاقتها بذائقة الجمهور.
ونباهة جواد في شهادته هذه تكمن في استدراكه ان تحقق الثقافة الجمالية والبصرية في واقع ما يتم بالتقاء غايات تتساوي فيها اهداف الفنان مع ذائقة الجمهور وخبرة العمل الفني.
فالذائقة الهابطة او الهجينة للآخر (المتلقي) لابد ان تفترض موقفاً مؤذياً وتعل بالضد من دور الفنان وجمالية الحضور الثقافي للتجربة الفنية.
من هنا اهمية ان تعلن الافكار بصحبة المنجز الجمالي وعتبارهما معاُ عملية تثقيف متواصلة.

-2-

في خمسينات القرن الماضي وما قبلها كانت هناك صعوبة بالغة في تحديد ذائقة الجمهور او الذوق الفني في العراق. وهو بتعبير الفنان الراحل عطا صبري، خليط من بقايا العهد العثماني وما تم اكتسابه من اوربا بين الحربين واختلاف البيئة بين الاكثرية من القرويين والاقلية من سكان المدن الكبيرة وقلة من المتذوقين.
فيما كان الوسط الفني تنسجه بعض معارض فنية متفرقة لجمعية اصدقاء الفن - تأسست عام 1941- مع تخرج الدفعة الاولي لمعهد الفنون الجميلة عام 1945 ومقالات فنية تنشرها مجلة (الفكر الحديث) كان قد اسسها الفنان جميل حمودي.وبحضور ذلك الاتجاه نحو اقتناء الاعمال الفنية المطبوعة في وقت كان فيه التعاطي الاسلوبي للاعمال الفنية يبدأ من اعتماد الحرفة والمهارة لإتجاهات الواقعية والانطباعية والتعبيرية ومن قبل عدد من الفنانين الذين كانوا قد اكملوا دراستهم في الخارج.
اما الفنان الذي لم يخل من عزلة كان وجوده يتشكل بما يوازي امتيازاً اجتماعياً وظاهرة ثقافية تستأثر لنفسها ببعض دوافع ذاتية وهموم تقنية تنتمي الي حدود التساؤل والاستفسار عن اهمية تقبل المنجز الفني، ضمن تفاصيل ذلك الواقع وابعاده.
ومع هذا الفضاء الملتبس كانت شهادة جواد سليم بمثابة دعوة تتعدي اشكالية كهذه بانتهاجها اسلوب معاينة لجدوي العلاقة ما بين (الفني و (الاجتماعي) معاً. كما عبر السؤال عن مضمون هذه الظاهرة وبنظرة جادة تبين ان دور الفنان كخبرة ذاتية، منتجة، لحضور جمالي قائم بفعل اسهامه في تعديل الذائقة ورفد الحساسية الجمالية للإنسان. وفي واقع حياة اجتماعية يمكن لها ان تتخطي محيطها التقليدي وحالته القائمة.
لقد استفسر في بدء (شهادته) عن الفنان ودوره؟ وفي محاولته لتعريفه وتقديمه امام الاخرين، يقول انه العضو (في الهيئة الاجتماعية) والكائن الذي يعي ذاتيته عبر خبرته الفنية ودوافعها ورؤيته الداعية كذلك (للنبل والخير والجمال) ان مهمته هنا تكاد تكون نمط حياة (لا تتحقق الا في المبادلة والتجارب) باتجاه هدف يوضحه عند استعارته لمقولة بيكاسو (هو انقاذ البشرية من التردي في هاوية الشر) انه فاعل باتجاه افكار عن مجتمع مثالي يمكن الاقناع بها، لغرض تحديث ذائقة غير مبالية كما هي محملة برواسب التجهيل والماضي.
وجواد ضمن هذا التوصيف كان يبدو منشغلاً بقدر في املاء الفجوة القائمة بين عدم مطابقة الحس الاجتماعي والتطلبات الفنية التي علي الفنان ان يمارسها بجد.
خاصة مع جمهور هو بمثابة نخبة محلية لم تدرك تماماً ان اسلوب الحياة الاجتماعية وكيفيتها اليومية سواء في نوع القراءة ام المشاهدة، ام في اختيار الاستماع الي الموسيقي او حتي تزيين المكان هو ايضاً مظهر ثقافي كما يذكره جواد بسخرية من خلال الامثلة التي يوردها في شهادته.
فالعمل الفني يكاد يكون تجربة عاطلة في التأثير في واقع وجمهور يري ان الاهتمام بالفن والاطلاع عليه وتذوقه هو شأن الفنانين انفسهم لا غير. كيف عليه ان يدرك اذاً حداثة الخبرة المعاصرة مادام الامر لا يتعدي سوي انجاز لوحات غامضة او حتي منظر غروب علي نهر دجلة.
ان دور الفنان هنا، ليس عليه الانتهاء عند حدود الاكتفاء بالتعبير الفني وتفسيره بل ضرورة ان يكون ناقداً ايضاً للذائقة الاجتماعية اذ لا يمكن استقبال الخبرة الجمالية وتقويمها دون وجود للآخر المتلقي الذي عليه التعاقد مع ثقافة متطلعة.

-3-

لا شك ان (شهادة) كهذه كانت تحاول باتجاه تعيين رؤية تؤشر رغبة مشتركة بدءاً عبر تمثيل القيم الوجدانية والتعبيرية في العمل الفني واستقبالهما من قبل الاخرين وتالياً تحقيق الصفة الاجتماعية فيها، عند تعرف الجمهور لهذه الخبرة. بذلك يمكن لهذه الاتصالية من ان تقيم قدراً من التوافقية والتعاطف وضمن ابعاد هذه التجربة الثنائية.
ان كل فن يتطلب بالضرورة جمهوره وليس هذا الجمهور الذي نسميه الان بالمتلقي فكرة تشوبها المثالية في ذهن الفنان قدر ما هي علاقة ممكنة ومفترضة علي الرغم من تعددية تفسيرها بذات التنوع الذي يكونه الجمهور ذاته.
هذا الجمهور الذي يصبح بمستوي الحاجة بالنسبة للفنان فهو من يكشف عن القيمة في التجربة الفنية كما يدعي درجة القبول الاجتماعي لها عند تعيين التجربة الفنية والتعامل بنظرة وطريقة جادة لها وهذا ما يؤسس فعل التقديم الاجتماعي للفنان.
ان تنظيم الاستجابة الجمالية واثراء الحس الاجتماعي من قبل العمل الفني لا يمكن لها التحقيق الا بفعل المشاركة والفهم وبعد ارجاعه الي السمات والوقائع الاجتماعية والثقافية التي ساعدت علي تكوينه.

-4-

ان جواد حينما يستدعي تحديد غايات الفن باعتبارها ايضاً غايات حياتية يعاين الفنان ايضاً في كونه معاصراً للحياة في فعلها وتحولاتها. ومن خلال هذا الموقف المبني علي اهمية علاقة ما بين العمل الفني والفعل الاجتماعي يكون الفن هو تلك الخبرة التي تستدرجنا، نحو رؤية جديدة وتعيننا كذلك باتجاه تحول جديد.

شهادة جواد سليم
( إن هدف الفنان هو انقاذ البشرية من التردي في هاوية الشر)

حضرات السيدات والسادة
انا لست بالكاتب، الرجل الذي يكتب أداته القلم، أما أداتي فهي الألوان والخطوط والفورم. غير ان كلينا بشر ينظر: الكاتب ينظر ويتحسس، ان كان كاتباً حقاً، وتتهيج في عقله الباطني رموز عجيبة هي الكلمات ثم يخط هذه الرموز العجيبة علي ورقة ويقول: (إقرأ).
أما أنا، كنحات أو مصور، فلا فرق بيني وبين الكاتب، انني انظر انا الاخر، ولكن ما اراه لا يثير فيّ تلك الرموز العجيبة التي يجيدها الكاتب، بل هناك رموز اخري تنبعث في رأسي هي الخطوط والالوان والفورم: هي لغتي التي اجيدها واضعها في لوحة او تمثال ثم اقول (انظر) أو (اقرأ) رموزي فان كنت لا تريد ان تتريث قليلاً وتنظر او كنت واحداً من تلك النسبة المئوية فانت في عالم بعيد عن عالمي.
انا والكاتب نريد ان نشارك كل البشرية ما نريد ان نقوله. وكل انسان يود ان يتحسس مزايا عقلية الانسان وكفرد في المجتمع الانساني فان هذه المزية، مزية العقل والفكر، لا تتحقق الا في المبادلة والتجارب. انا اقول لرفيقي ما افكر فيه، وقد لا اكتفي بذلك فاخاطب البشرية كلها. الحيوان لا يريد ان يقول شيئاً، انه يريد ان يعيش، ولا يدري لم يعيش. وانا والكاتب نريد ان نعيش ولكننا ندري لم نعيش. نحن نحمل شيئاً يفكر في رأسنا.
لا اريد اليوم ان ادافع عن جماعتي، اننا سنستمر، وقد فتحنا ما في صدورنا باخلاص. الا اني اود ان اشير الي بعض النقاط البسيطة: الفنان كعضو في الهيئة الاجتماعية، والناس، وعلاقتهم بالفن، وعلي الاخص هنا في هذا الوطن.
الفنان الجيد يخدم الانسان، الفن الجميل يخدم الانسان: ذراع امرأة او رجل جميل. فكل عضلة فيه مفيدة، هذا ما يقرب من قول افلاطون، اما بيكاسو فيقول: (ان هدف الفنان هو انقاذ البشرية من التردي في هاوية الشر).
والآن أين نحن من هذا الشخص الفنان؟ هنا في بغداد مثلاً: اهو في شارع الرشيد؟ ام في الحدائق العامة؟ ام في البيوت كل البيوت: فأول ما يلفت نظرك اذ تدخلها، الاثاث الغالي المتراص. الذوق ليس مهماً، وصلة الطراز التكعيبي المشوه بالنسبة للسجادة الفارسية النفيسة، هذا ايضاً غير مهم.
هذا هو التذوق العام. وهنا في هذا المعرض اننا نحاول ان نناسب وما تنتجه البشرية ولو الي حد ضئيل باللغة العالمية (التصوير) كعراقيين، مستلهمين ما يثيرنا في طبيعتنا ومحيطنا المحض.
لقد نعتنا شاعر طيب القلب باننا اعداء الشعب، وبأننا يجب ان نحارب من كل عراقي مخلص لوطنه. نحن اعداء الشعب في حين ان غذاء الشعب مسامرات الجيب ومجلة الاثنين والافلام المصرية والملاهي النتنة، فهذا هو غذاء الشعب هذا الصديق شاعر طيب لايعرف هذه الاشياء
الفن لغة. وهذه اللغة يجب ان نتعرف عليها ولو قليلاً: ماذا يحاول المصور في كلماته هذه مثلاً، وكلماته هي الالوان والخطوط والحجوم؟.
وهذه اللغة، انها تستعمل ذات الكلام ولكن في قالب جديد يتبع مؤثرات العصر الحديث. ففي الشعر مثلاً، لم يعد امراً طبيعياً ان يقرض الشاعر اليوم شعراً كالشعر الجاهلي. والتصوير في مختلف عصوره يتقارب في نقاط اساسية هي جمال الالوان، جمال الخطوط، وجمال الاشكال مجتمعة كلها لتعبر تعبيراً صادقاً عن ناحية من نواحي تحسس الفنان لكل عصر. والفنان الحق يجب ان يعرف ماذا يرسم ولماذا هو يرسم. فماذا تعني صورة نخيل رسمت كما يراها الفوتوغراف؟ واين هو التعبير في صورة تفاحة نقلت نقلاً حرفيا؟
في التصوير ناحية الهارموني في الالوان معقدة ومهمة كما في الموسيقي فالالوان لا تأتي عرضاً في الصورة الجيدة، قديمها وحديثها. وفي كل صورة تجانس خاص يغير روحية الصورة مع الخطوط والبعد والظل والضوء.
والفن الحديث في الحقيقة هو فن العصر، والتعقيد فيه ناتج عن تعقيد العصر. انه يعبر عن اشياء كثيرة: القلق، الخوف، التباين الهائل في اكثر الاشياء، المجازر البشرية، وابتعاد الانسان عن الله، ثم النظرة الجديدة الي الاشياء بما احدثته النظريات الجديدة في علم النفس وفي باقي العلوم.
تري هل تساءل احدنا لماذا تزجج قبب المساجد بالازرق؟ ذلك لأن المسجد روح علوية، ولا شيء كالزرقة يعبر عن ذلك.
ان الفنان يتابع ما يجري حوله ويعبر عنه باخلاص، ولكن عليه ان يعفر كيف يحقق هذا التعبير.

الف ياء 2004 .