محمد الجزائري
(العراق/ الإمارات)

جبر علوان وازدواجية كيمياء الجسد
- ألوان تثير ضجيج الرؤوس وتغلف صمت الرسائل

غالبا ما يبدو لي ان الليل أكثر حياة وغني بالألوان من النهار فنسنت فان كوخ من مجموعتها التي تفخر بها صالة (جرين آرت) بدبي، منحوتات ورسوم الفنانين حسين ماضي، عدلي رزق الله، فاروق قندقجي، حازم الزعبي، نذير نبعه، ضياء العزاوي، عبد القادر الريس، وأيضا: جبر علوان، الذي ضيفته القاعة أكثر من مرة، واحتفي بألوانه ونساء لوحاته، مع كتابين عنه وعن فنه.. الأول: جبر.. ألوان الليل بمداخلة كان كتبها (الراحل) سعد الله ونوس (عام 1995) بعنوان: رؤى جبر علوان ومداخلة ثانية كتبها الناقد ريجينالد كوني بعنوان: ازدواجيات. مع العرض الثاني أصدرت (جرين آرت) كتابا بعنوان جبر.. موسيقي الألوان بقلم الروائي العربي عبد الرحمن منيف.
يعتقد (ونوس) ــ شخصيا ــ ان ثمة قرابة حميمة بين لوحات جبر علوان وبين أفلام فلليني التي تحتشد فيها اللوحات المشهدية المثقلة بالألوان والخيال والغرابة، وبين الفضاءات المسرحية، وهي ــ دون ريب ــ صلات قربي أوثق مما تصله بسواه من الرسامين.
(سعد الله) الذي تعرف جبرا في دمشق وحاوره مرارا (يتخيله) يعمل في (اللحظة الرجراجة) التي تنوس بين الحلم واليقظة: انه يحلم ولا يحلم ويري من خلال غبش الصحو والنعاس شوارع وبيوتا وحانات وساحات كلها تتجرد من ثقل الواقع وتتحول الى أماكن و (فضاءات مسرحية) توحي وتثير الخيال: انه الفضاء السحري الذي يكشف فيه الرسام قواه الخفية والعجائبية.
َ(كوني) ــ في (ازدواجيات) يؤكد ان الألوان عند جبر علوان هي كما ينبغي لها ان تكون تثير ضجيجا لكنه يبعث علي الاطمئنان..
ان تدفقات الأصفر والأخضر، تبدو وكأنها تهرب من اللوحة، ولكن بوسعنا ان نحدس انها لن تفعل ذلك قط، لأنها تعشق هذا الوردي وتلك الزرقات. ثمة (ازدواجية) توحي بها الانبثاقات الفورية، مفرطة الإضاءة، وتامة التطور، تتجسد في (ميسالينا الكرنفال) ــ فهي ــ ليست هنا ــ لكي تستمتع وفي تلك (الممثلة) التي تنتظر رفع الستارة مشعثة الشعر، كما لو انها خرجت تواً من أداء المشهد. وفي هاتيك النسوة المنعمات بالحيوية، والواهنات ذوات القوام الممشوق الأنيقات، المرهفات، المستلقيات في ظلال تشوه خطوط العنق أو كثافة الشعر، علي نحو مهين.
هذه (الازوداجية) ماثلة بوضوح في الفنان نفسه، فهو يتحسس جمال الغرب الذي يغذيه، وهو مخلص لغني شرقه الذي يجعله يعيش.
وجبر علوان ــ بحسب عبد الرحمن منيف ــ لا ينوي مغادرة طفولته، امتحن أطوارا متعددة في هذه الحياة، في الوطن وفي (الوطن الآخر) ــ ايطاليا ــ حيث يقيم. اكتشف انه يشهد علي زمنه بصورة (أدق) لإغناء أشواقه، دون ان يضطر لتزييف المعاني. قال جبر: أريد ان أتكلم، ان أبدو عاديا، دون ان أكون رخيصا، لا بل أريد ان أقول أشياء جديدة تماما، ان اصل الى (الحرية التامة) في الفن، حرية تشتمل علي الحقيقة كما هي في الحياة وتواصل ملموس لصورة ملموسة!

يجبر قلب أمه
ولد الفنان في (المحاويل) ــ من ضواحي مدينة الحلة / بابل. لكي (يجبر قلب أمه) بعد طفلين ماتا، وهو من مواليد العام 1948. ولأنه يعرف مبكرا ان عديدا من الأحداث الدامية في الريف العراقي وقعت بسبب المرأة أو من اجلها، اخذ يتكون (الموقف) لديه إزاء المرأة خلال (عزلة) الأم وشعورها بالوحدة.. وسيجد هذا المناخ تعبيراته ــ تاليا ــ في أعماله: المرأة وحيدة وفي عزلة وبرغم مظاهر الزينة فهي حزينة!
ألوانه بحرارتها استمدت (طقوسها) من صيف بلاده وشمسها الحارقة، العري الكلي، الحرارة..
وذلك الانتقال للألوان بالألوان ذاتها، وكأنها ترسم حالات المرأة إزاء محيطها وذاتها.
لذا.. فان صراحة ألوانه تتبدي في حالتها القصوى أحيانا، متفردة، كاملة، مستقلة وجارحة أحيانا أخري.
كما يضيف لذلك، في بعض تجاربه، ذلك التنافذ الموشوري لألوانه حين يمررها ضمن موشور لكي تمكن رؤيتها بوضوح وعلي حقيقتها.. كأنها مجاورة تقنية وفلسفية لوضوح الحقيقة التامة التي ينشد ويتطلع .
وكانت (اثأر بابل) ــ المدينة التاريخية ــ بعامة، قد تركت في خياله وعينينه غير قليل من المشاهد والصور، المعنوية والحسية، فهي مدينة العجائب، الحدائق المعلقة، وترويض المياه، فلابد ان تحفر معادلها الفني والذهني والخيالي في لوحات جبر تاليا. ولأنه تخصص في النحت وانتقل منه الى الرسم، وكان المحيط القريب قد أسهم في تكوين ذاكرته البصرية، جعل لوحاته منحوتة الشخوص، أو علي الأقل، خلق شكل الكتلة وروحها، حيث التاريخ ترسب لديه كاشفا وكثيفا وقريبا بوضعه (العادي) وشكله (المنحوت).
بين الحلة (بابل) و(بغداد) و (كركوك) تكون النحات في الرسام وبفعل الصراعات السياسية ــ حقبة الستينيات المحتدمة ــ انحاز جبر علوان الى شعبه.
وحين غادر الى ايطاليا، كافح بالرسم.
يرسم اللوحة في الشوارع مقابل ألف ليرة للبورتريه، أو يكتفي بثلث هذا المبلغ حتى تحول (رسام الساحة) المكافح، بعد ان أغراه علي هذه المغامرة أستاذه محمد علي شاكر، الذي أرشده الى الباص رقم 67 ليغادر كركوك قبل ان تنتهي سنة 1972، تاركا التدريس، وليدخل مغامرة الاحتراف والدراسة، فانتسب الى كلية الفنون في روما ليواصل دراسة النحت أولا بإشراف (جريكو) حتى العام 1975 ثم ليدرس الرسم بإشراف (جنتلليني) حتى العام 1978.
وليعاين ببصر ثراء المتاحف وما في الساحات من منحوتات. أقام أول معرض له عام 1975 ثم أخذت تترى معارضه سنوياً حتى العام 1979.
يتوقف..
كأنه يتأمل الأوضاع العامة لشعبه مساهما في العمل العام، ثم ليعيد صياغة نفسه! وبعون الإيطاليين الذين حرضوا داخله لينطلق، ثم ليتوهج فنانا حاضنته الهوى بغداد ثم روما، فصار مميزا بين فناني الساحة الإيطالية، وصار له محترفه الخاص بروما، فتبادل الخبرة مع فناني بلاده في المهجر الأوروبي، وتحديدا في فرنسا وهولندا وألمانيا.. وتكون لديه ولديهم ما يمكن تسميته (الفن المهاجر) أو بكلمة أدق: (الفن في المهجر(.
حين كان الطين المادة الوحيدة المتاحة له في طفولته، ثم ذاكرة ما تراكم من آثار وأوابد ومدن ميتة (بابل مثالا).. ثم ما فتح عينيه في (نصب الحرية) لأستاذ الفن جواد سليم، حتى استبداله الأزميل بالفرشاة، استعاض جبر علوان، عن الحجر والبرونز بالقماش، والألوان، لكن روح الكتلة ظلت في رسومه وأكثر من ذلك، رائحة التراب ــ ربما (الطين) القديم ذاته تعبق من عديد لوحاته، (غوديا) ــ مثلا ــ الجالس بقوة وقلق في آن، يمكن رؤيته في لوحة (الوجه الآخر للسلطة) ــ عام 1980 كذلك في لوحة (الدراجة) المرسومة عام 1984.

التحرك بحرية
في لوحاته دائما ثمة مركز، يشكل الثقل الأساس فيها، أما الأجزاء الأخرى فتماثل الفراغ في (النحت)، أي تتوزع وتتناغم لتخدم المركز. وحيث تكون هناك ضرورة الحذف فقد استعاض جبر عن ضخامة الكتلة باتساع اللوحة ففي (إفساحه الكبيرة) يتحرك الفنان المجتهد بكفاءة وحرية..

في لوحات جبر علوان: الشيخ الكسيح/ الموقد/ الجداريات.. دائما ثمة صيغة التلاقي والتفاعل بين أدوات التعبير وثقل المركز علاقة جدلية، والألوان تبني كذلك. الحذف والتعتيم، أو تلك اللمسات التي يمنحها بالحزن كله، لوجوه النساء خبرة مديدة.. وانفعال لا تنخفض وتيرته في مجمل اللوحات، مع التزام صارم بهارموني الألوان والأجزاء والأشكال.
الغالبية العظمي من لوحاته تحتضن شخصية واحدة تمتلئ بالشجن الحزن العميق، برغم محاولات الفرح التي تتظاهر في الألوان الساطعة والحارة.
تغيب الملامح والمرأة متعبة في وقفتها تنتظر بيأس، أكتاف متهدلة، رأس مائل، يباس في الروح يتجلى في حركة اليدين والقدمين.
وفي لحظات المتعة، حين لقاء رجل وامرأة، اللحظات تبدو كأنها ملتبسة ومسروقة، والحزن هو الباقي.
في الرقص: الرجل بعيد، اقرب الى الغياب والتجاهل، وجه المرأة يوحي كأنها تُغتصب بخاصة في لوحته (عطيل ودزدمونة).
وحني في لوحته (لجواهري) وما تتسم بها ملامحه من كبرياء فان العينين تمتلآن حزنا وهما.. ينظران الى بعيد مجهول وربما عصي، وما يؤكد ذلك أكثر، حركة أصابع اليدين التي تحمل ما يفيض عن التساؤل الى الحيرة!
وإذا تأملنا اللوحة التي رسمها جبر في العام 1995 بعنوان: تانغو وما تحمله السيقان من رشاقة، فنلاحظ ان هذه السيقان تغادر، تنسحب، كأن اللعبة في نهايتها.
وهكذا.. جبر علوان يريد ان يبقي جزءا من العواطف والرجفة الداخلية التي تعتمل في قلوب الشخصيات التي سجلها في الظل أو غير العارية تماما، فقد لجأ الى (المكر الفني) بان جلل تلك الشخصيات بالدانتيل، وأبقي مساحة من الملامح في الظل، فنحن لا نري الى العيون ولا الى انفراج الشفاه كما تلتمع رمانة الكتف في نصف العتمة التي يتقصدها الفنان بمهارة ومثابرة.
يقول داريو ميكاكي (احد ابرز النقاد الإيطاليين متابعا أعمال جبر منذ بداياته في ايطاليا): لدي الفنانين المعاصرين بحوث غنية عن موسيقي الألوان، جبر يمتلك هذه الموسيقي، ويعرف تنظيمها وتركيبها، بحسب أسلوبه، فالأخضر ــ مثلا ــ لا يتقرر ثانية علي الإطلاق، بمعني ان الإنسان لا يستحم في النهر مرتين ــ بحسب قول أفلاطون ــ لان اللون، كالماء، نفسه يتغير.. ألوان جبر خلاصة للذاكرة والرغبة ــ تعمق مشاعر الوحدة والحزن لديه، وهذا ما يحاول ان يقاومه باللون نفسه.
ــ نال جبر علوان جائزة محافظة روما عام 1985 التي سبق ان منحت لفلليني.
وكان جبر (الأجنبي) الأول الذي حصل عليها. منح إياها بصفته ملونا لديه حساسية للون تميزه أو ميزته ــ بالفعل ــ عن غيره من الفنانين، انه في لوحاته ينبض علي السطح، من الشكل ينبثق مثل انفجار بركاني ينبع من فوهة سرية.

***

ــ عرضت في جرين آرت ثلاثون لوحة بحجوم لافتة، تفاوتت أسعارها ما بين الخمسين ألف درهم والثمانية آلاف وخمسمائة درهم.

المصدر: جريدة الزمان