العربيِّ المعاصر

شاكر لعيبي
(العراق/الإمارات)

مقدمة

شاكر لعيبييتضمّنُ هذا العمل بحثاً أساسياً يحمل عنوان (خرافة الخصوصيّة في التشكيل العربيِّ المعاصر) وثلاثةَ بحوثٍ أخرى تتعلّق بثلاثة فنّانين عرب معاصرين، مختلفي المشارب الفكرية والاتجاهات الأسلوبية واللونية، كما يتضمّن ثلاث مداخلات أخرى عن الفن الإسلامي تمسُّ، في ظننا، البحث التشكيليّ المعاصر، وتقدّم تصوّراً عن موروث لا تمتلك الحركة التشكيلية المعاصرة بَعْدُ عُدَّةً قادرةً على فحصه كما يليق به، ولم تستخرج منه دروساً تاريخية مفيدة لراهننا التشكيليّ.

يبرهن الاشتغال المضني، الجديّ والعميق لفنانينا المعاصرين الثلاثة، المأخوذين على سبيل المثال، على شيئين اثنين في تقديرنا: فاعليّة وحيويّة التشكيل العربيّ الحديث، من جهة، ومن جهة أخرى على انشداده، جوهرياً، إلى المراجع الفكرية الأوربية المسيطرة على حقول الإبداع الثقافي الحديث، وخاصة التشكيليّ منه. ليس على مجالات الخلق الأدبي أو الموسيقي، لكن على البلاستيكيّ بشكل أوضح.
وبمقارَنَة الشعر مع الرسم، يبدو واضحاً أن مراجع الشعر العربي المعاصر ليست مراجع التشكيل العربيِّ مُجايِلِهِ. نقول ذلك في محاولةٍ لإضاءة البرهة التشكيلية الحالية. إن انشغال الرسامين النظريّ بفكرة (الأصالة) يخفي، بل يُظهِرُ، درجةَ توطّنِ فكرة اللا أصالة في الرسم العربّي المعاصر التي لفرط وضوحها كانت تحتاج إلى تطميناتٍ نفسانيةٍ من كلِّ نوع، وأولها التطمين النظري. هيهات أن نستطيع التستُّر على مقدار (التقليد)، بمعنى استهداء رسمنا بالتجارب والمدارس والتيارات، وقبل ذلك بالأفكار الأوربية، كل ذلك تحت مفهوم هائم، بل من دون وزنٍ ثقيلٍ في التاريخ والضمير الفنيّ، هو الأصالة.

قد تكون الأصالة في جميع مجالات نشاط العقل العربي المعاصر أصيلة وذات تاريخ عريق إلا في المجال الفنيّ كما نقول به اليوم.

لكننا نعرف أن (التقليد) ليس بالضرورة عاهة، وأنه ليس بخللٍ إلا في أثناء عطبٍ شاملٍ كاملٍ، بل مَواتٍ، لحضارةٍ من الحضارات. ما عدا ذلك فإنه، أي التقليد، يصير اهتداءً بإرثٍ عام، ثقافي وفكري، للبشرية لا يجب الخجل من الانضمام إليه وإعادة صياغته.
ما يحصل في الفن التشكيلي العربيّ ليس إعادة صياغة لإرث الحداثة التي تصير أرضاً مشاعاً لجميع سُكّان المعمورة، ولكن اجترارٌ وتكرارٌ له.

الفرق بين إعادة الصياغة والاجترار واضحٌ ويمكن البرهنة عليه بدءًا من وقائع انبثاق ونشوء التشكيل العربيّ مروراً بلحظات صعوده المنتشية وانتهاءً باللحظة الراهنة التي تُشْهِر لنا، جهاراً نهاراً، مقدار الحذو والانبهار والانغمار الصريح بالمشروع الفنيّ الأوربي. الفنيّ وغير الفني. لسنا بالضرورة من أعداء هذا المشروع الفنيّ (إذا لم نكن من المتولِّهين به)، ولكننا من أنصار التفكير به، وتأمّل الإمكانيات التي يتيحها لنا موروثنا الثقافيّ والوطنيّ تشكيلياً وفكرياً من أجل منجزٍ فنيٍّ يوازي ويؤازر المشروع الأوربي من دون أن يكون تقليداً أعمى له. هذا الجدل بين الوَلَه والنقد، أو هذا (الوَلَه النقدي) سيبدو للبعض تناقضاً فاحشاً وسيقترحون علينا بدلاً عنه ثنائية الرفض أو القبول المصابة في صميمها بالخلل.
إن الذهاب إلى الإرث الوطني لا ينبغي أن يُفْهم كقرينة لأيديولوجيا قومجية طالما شوَّهَتْ البحث الثقافيّ وقبله الفكر الاجتماعيّ والسياسيّ العربيّ.

إن مشروعاً طموحاً كهذا ليس مشروعاً عربياً وحسب. إنه يمكن أن يكون مشروعاً هندياً أو صينياً أو لدى أية أمة ذات تاريخ معروف وقيم روحيةٍ لا يودّان، كلاهما، التفسُّخ المجانيّ في التاريخ والقيم المطروحة اليوم كحلٍّ وحيدٍ للنوع البشري تحت خيمة (العولمة) المفهومة في العالم العربيّ بسياق الثنائية إياها. ستبرهن العولمة على تناقض فادح: ستسمح لرؤوس الأموال بالتنقل الحرّ الذي يجتاز سماوات الدول القومية، بل ستسخر من فكرة الدولة القومية، لكنها ستبدو متحصّنة ومنيعة إذا ما تعلق الأمر بالثقافة، وستتكلم، في أمريكا كما في إيطاليا، عن إشكالياتٍ أزلية بين (الحضارات) وحواجز لا تُخترق. ثم إنها ستدافع بشراسة عن مصالح فناني دولها القومية ومشاريعهم التشكيلية المطروحة بدورها كحلول جمالية وحيدة للفن التشكيلي في المعمورة.

لكن مشروعاً مُتخَيَّلاً طَمُوْحاً بإيجاد حلول ثقافية لصيقة بالهموم المحلّية المخصوصة، غير المتوهَّمَة بتاتاً، ممكن التحقّق مع ذلك، وهو ما سَعتْ إليه عقولُ بداية القرن المتنورة لدينا (الأفغاني، محمد عبده، …) التي أتت أُكُلُها برهةً ثم أُجهضتْ من طرف كلٍّ من الغرب الأوربي ومقلّديه وأتباعه. هذه الأطراف كلها تُقلِقُ عبده والأفغاني في قبريهما. كلها لا تصلح، على ما يبدو الآن، لإصلاح خللنا في البحث التشكيلي كما في البحث الفلسفي الذي يستهدي الرسم به أيضاً في نهاية المطاف.

هذه الطروحات قد قيلت وأُشْبع بعضها قولاً، بابتسار غالباً في مجالات الصحافة والإعلام، ولدى أقلامٍ رصينة مراتٍ. لكنَّ هذه الطروحات لا تقبل القول التبسيطيّ طالما يتعلق الأمر بالفن التشكيلي. ذلك أنه في تجارب الفنّانين العرب ليس ثمة فحسب التقليد لوحده إنما أيضاً ثمة تأملات فريدة من كل نوع تستحق الكثير من العناية والتوقف الُمفَكِّر. إن رهافتهم العالية لا تسمح لهم بأن يكونوا مجرد محتذين على منوالٍ مُسْبق الصنع فقط إنما يسعون، إضافةً إلى تنويعهم على النمط المعروف والمدروس، إلى تطويعه أو اختراقه أو نفيه.

عملية فحص ذلك كله شاقة إذنْ ومعقّدة في الفن التشكيلي على أنها لا تُناقض الموضوعة الجوهرية لهذا الكتاب وهي نفي فكرة الخصوصية (اسمها أحياناً أصالة أو تراثٌ أو إرثٌ محليٌ أو وطنيٌ…أو ما شابه) عن الرسم العربي المعاصر.

الرسم العربي المعاصر، في مجمله، مأخوذٌ وطالعٌ من تراثٌ وإرثٌ ليس محلياً ولا وطنياً ولا علاقة له بتقاليد تلقّي الفنِّ في بلداننا. لا تسمح وضعيّة تقاليد التلقّي الراهنة لأحد بالدفاع عنها.

إن المتلقّي يشكّل، رغماً عن نوايانا، طرفاً أساسياً في معادلة الإبداع الثقافيّ، شريطةَ أن يكون هو نفسه مبدعاً بصفته متلقياً. غياب التلقّي العارف هو، من جهة أخرى، سببٌ دفيٌن يجعل جواد سليم وشفيق عبود وضياء العزاوي مثلاً يشعرون بأهميتهم الاستثنائية وقِيَمِهم المارقة عن القيم. إن قياساتهم لقاماتهم على مقاس ثقافاتهم المحلية المتخلّفة ليست بالدقيقة، لكن أهميّة أعمالهم لا تُناقش في هذا الكتاب. إنهم يبدعون، بالفعل، لكن في سياقٍ تشكيليٍّ جنينيٍّ ولا تاريخ له، كما في سياقاتٍ ثقافيةٍ متخلّفة بشكلٍ عام.

مشكلة (السياق) الذي ينبثق فيه (الإبداع) هي مشكلةٌ تمسُّ الفنَّ البصريَّ من بين جميع الضروب الإبداعية الأخرى، ذلك أن هذا الفنَّ يتوجَّهُ إلى (البصر)، أي إلى ما يُحْسب (بديهياً) الذي هو لفرط بديهيته لم يكن بديهياً في يومٍ من الأيام، مثل أشكال المربّع والدائرة وضروب الرسم العاري والطبيعة الصامتة…إلخ. ويتوجّه إلى (المعلوم) المرئي الذي هو لفرط معلوميته يصير مجهولاً في العمل الفني مثل اللون الأزرق على قبة أو اللونين الأسود والأبيض المتجاورين بغرابةٍ في لوحة لفنان روسي مستقبلي من عشرينات القرن العشرين.

يقع الهدف من كتابة فصول هذا الكتاب في التنبيه إلى (الطفيف): إن ما يبدو في سياقِ ثقافتنا إنجازاً باهراً، ربما لا يكون إلا استعادة ذكيّة للآخر البعيد المجهول (أو المعلوم قليلاً) لدينا، الطالع من تربته والمجيب على حاجاتٍ ثقافيةٍ لوطنٍ ثقافيٍّ له هو. إن خصوصيته التي نقلّدها تتنافى مع فكرة خصوصيتنا التي تُقلِّد صراحةً خصوصيته. لا يتعلق الأمر باللعب على الكلام، وإنما بكشف قوانين اللعب.

جنيف 14-تموز 2000

********

خرافة الخصوصية في التشكيل العربي المعاصر

تبدو فكرة الخصوصية كما هي مطروحة في الإطارات النظرية للثقافة العربية وكأنها ردّةُ فعلٍ على التفوّق الأوربيّ. إنها وهي تستجمع قواها من بداهات التراث والأصالة والعراقة الحضارية تبدو وكأنها استيهاماتٌ ذكيّةٌ من الماضي: سيعاود المصري محمود مختار صياغةَ النحت الفرعونيّ وسيعود العراقي جواد سليم إلى بهجة الأقواس الإسلامية وستنهمك مجموعةٌ كبيرة من الفنانين باستلهام الحرف العربيّ اليومَ. تبدو فكرةُ الخصوصيةِ، ضمن هذا التصوّر، وكأنها تَشْخُص نقيضاً غير مُصَرَّحٍ به لعالمية اللغة البصرية. لنتوقف في البدء أمام الزعم القائل إن التشكيل يمكنه مخاطبة المتلقين من دون ترجمان وبتفاهم بَدْهِيٍّ. إن اللغة البصرية، خلاف ما يذهب إليه الكثيرون، ليست بالضرورة لغةً "مفتوحة الآفاق" وليست نظام اتصال عالميّاً إلا بمقاديرَ نسبية كما أنها ليست بمتناول غير المتحدِّرين من ثقافتها. إن كونها بصرية يوحي فحسب، خدّاعاً، بالإمكانية المتاحة لجميع الثقافات بقراءة جميع الأعمال التشكيلية القادمة من مختلف أصقاع المعمورة. هذا وهمٌ حقيقيٌّ خاصةً إذا لم يتعلق الأمر بلوحاتٍ تجريديةٍ. لقد غدت مقارَبَة اللغة البصرية باللغة المنطوقة مُقارَبَة عتيقة في الفكر الغربي لكنها ما زالتْ صالحة لإنارة الفكرة في الثقافة العربية. وإذن فإن اللغة البصرية هي لغة لها قواعد مثلما المكتوبة، وإنها لذلك تحيل إلى إرثٍ تاريخيّ، إلى حسّاسيات محلية، وإلى طريقةِ نظرٍ معينة إلى أشياءِ العالم. نتحدّث عن هذه اللغة باستخداماتها المتنوّعة بما فيها اللوحة والمنحوتة والتصميمات الوظيفية والصورة الفوتغرافية.


(ضياء العزاوي)

سيصعب للغاية على مشاهد عربي متوسط اقتناص المغازي المجازية للكثير من لوحات عصر النهضة الأوربي التي تستمد طاقتها التعبيرية مستندةً إلى الإرث الأسطوري الإغريقي بل إلى رمزيّة الحركات الجسديّة.
إننا نزعم أن الرسائل messages البصرية، غير المباشرة، للكثير من دعايات السيارات والعلكة والحافظات النسائية والجينز وغيرها مما نشاهده على الشاشات الأوربية (وبعضها يستند إلى لغة البصر وحدها) يمكن أن لا تصل البتة إلى ذاك المشاهد العربي نفسه. اللغة التشكيلية، مثل المكتوبة، تتكون من مفردات مُنْتَخَبة وتفضيلاتٍ بيانيةٍ وقياساتٍ بلاغيّةٍ، فحضور الأزرق الشذري في الفن الإسلاميّ، مثلاً، ثم الميل إليه في المزاج العام، إنما هو مفردة من المفردات.

لمفردات هذه اللغة اشتقاقات تاريخية (إيتيمولوجيا) مثلما لمفردات القاموس اشتقاقاتها، ذلك أن وحدة زخرفية تضرب في الوجدان الثقافي الإسلامي تصير مفردةً مَرْجِعيّة مقارَنةً بعمل الفنان آندي وارهول الشهير المُسْتَنِد إلى تصميم علبة الكوكاكولا في ذات الوجدان الذي لن يعير عملَ الفنّان الأمريكي بالاً. كونها بصرية لا يعني بأنك ستصير مفهوماً (أي مقروءاً بصرياً) حالما تقدّم لوحتك إلى مشاهد أوربي أو ياباني، أو حالما يقدمها لك. لهذه اللغة التشكيلية مثلما للموسيقى علاقة عضوية بمناطق انبثاقها وهمومها. لا أحد يستطيع الزعم أن الموسيقى الصينية (وهي بالطبع نوع تجريديّ تماماً) مفهومةٌ ومسموعةٌ ومحبوبةٌ على المستوى الكونيّ. إن مقاربة الرسم بالموسيقى مثال ممتاز آخر لتوضيح هذه الفكرة.

سوى أنه من الناحية الموضوعيّة لا أحد يستطيع الزعمَ، اللحظةَ، قدرةً على تجاوز التجربة التشكيلية الأوربية التي مرت منذ القرن الرابع عشر وحتى نهايات قرننا هذا بتحوّلات بنيوية وتساؤلات نظرية عميقة وإنجازات جوهرية، بعضها في غاية الإثارة.

علينا القول بصراحة إن هذه التحولات لم يجرِ البتة استيعابها ودَرْسها في العالم العربي المشغول بفن الكلام-اللغة بشكل أساسي. إن الثقافة التشكيلية لم تَصِرْ بعد مكوّناً من مكوّنات الوعيّ الثقافّي، ومن الثقافة العامة الضرورية للفرد المتوسط. وإذا ما زعم بعضهم بأنهم ينطقون ولا يعرفون سوى اللغة البصرية أداةً للتعبير، فإن قواعد عامة لهذه اللغة لم تصر بعد جزءاً من ثقافتنا. لن نتحدث عن النخب التي تظل بدورها هامشيةً في السياقات الاجتماعية العربية والتي من الصعب العثور في داخلها هي نفسها على تشكيليّ ذي ثقافة فنيّة رفيعة. نتكلم عما هو سائد الذي هو القاعدة العامة حتى أجل آخر. إن تاريخ الفن لا يشكّل في العالم العربيّ جزءاً من التاريخ المدروس في الثانويات والجامعات. وإن المواهب الواضحة لكثيرٍ من الفنّانين العرب، وبعضهم من جيل الرواد، ينقصها بشكل دراماتيكي الوعي النظري التشكيلي والمقاربة الدقيقة لتاريخ الفن الأوربي والإسلامي. إن نُدرة المؤرخين (أقلها مؤرخي فنون الحضارات القديمة والفن الإسلامي) هي علامةٌ دالةٌ على مُشْكل واقعيّ. ما يعقِّد الأمر برمته هو استحالة القفز على أفكار الحداثة وتجربتها التي تصير، شئنا أم أبينا، حدثاً مشاعاً للبشرية جمعاء. لقد انهمك جلّ الفنانين العرب بمشكلات وتعاليم المشاغل الأوربية وتحت وصاية أساتذتها. الخيار الوحيد الذي يبدو متاحا أمام الفنان العربي هو الانفتاح على التجربة الغربية والتهامها التهاماً، وبوعي شديد. وإذا ما كان التوجّه التشكيليّ العربيّ نحو التجربة الفنية الأوربية ورصد البصريات في مختبراتها الأصلية الدؤوبة يعني تعطّشاً إلى المعرفة فإنه يشير من وجهة أخرى إلى الفقر المدقع في التجربة التشكيلية المحلية وانصراف الثقافة العربية عن البحث الفني ولو زعمتْ، مُكَابِرَةً، عكس ذلك.

أظن بأن تجربة المشاركة مع الغرب الأوربي قد علّمتْ الفنان العربي أن يمنح (للبصريّ) دوراً لم يتعرّف عليه بعدُ في الثقافة العربية المشغولة بعلوم الكلام واللغة والقياسات المنطقية التي تشهد عليها، كل يوم، الصحافة العربية. إنه يسعى إلى أن ينحدر من بصيرة اللغة إلى معرفة البصر، من حاسة النطق إلى حاسّة البصر.

مازال الفنان العربي كذلك في طور العودة، ومعاودة العودة، إلى الأصول البصرية، بما فيها الفنّ الإسلامي، التي هي جزءٌ مهمّشٌ من ثقافته العربية، لكن على ضوء مصطلحات تحليلية مُسْتعارة بالضرورة من القاموس الغربيّ الثريّ.

تشكّل هذه العودة إلى الأصول وتمظهراتها الخفيّة في الاستخدام الثقافيّ نوعاً من فحصٍ للإنجازات التشكيلية التاريخية للثقافات المتعاقبة على المنطقة، وقياساً للذات بالذات، لأن أية مقارَبة بين راهنِ التشكيلِ العربيّ المُسْتلهَم من الغرب في غالبية تجاربه وكبراها وبين الفن الأوربي مصدر التجارب والمدارس والتقنيات والمعارف اليوم إنما هي ضربٌ من ضروب الوهم، على الرغم من الأهمية القصوى لبعض المنجزات التشكيلية العربية. مقاربة المُصدِّر بالمُصدَّر إليه ينقصها الكثير من التواضع.

لقد قاد التوق إلى المعرفة الفنان العربي إلى ممارستين بارزتين:
إما التقليد الكامل للأساليب والتقنيات وسبل التناول الأوربية، أي الاستناد بشكلٍ كامل إلى المهارات الحرفية، أو المراوغة والإيحاء بالأصالة الفنية وهو يلجأ إلى ما يحسبه إرثاً وطنياً مُفْترِضَاً قطيعةً مع الطريقة الأوربية مثل استخدام الحناء والجلد والأبواب والحروف العربية واستبهام الأبطال الشعبيين…إلخ، معتقداً أنه بذلك يشيّد في قلب القلعة الأوربية أساساتٍ جذريةٍ مغايرةٍ لفنّ غير أوربي. وفي الحقيقة فإننا أمام استخدام حوامل supports محلّية لا غير للتعبير عن تجربة غير محلية. إن استخدام تلك الحوامل والألوان الشعبية ليس سوى إعادة استلهام لتجربةٍ أوربيةٍ مماثِلَةٍِ أقدم وأكثر جرأة أحياناً.

هل سيكون من الإفراط القول بأن التجربة التشكيلية العربية الحديثة كلها مستمدَّة من الفنِّ الأوربيّ؟

مثل هذا التوصيف القاطع لا يريد أن يتَّهِمَ بأي شكل من الأشكال التجارب الشخصيّة للفنانين العرب لكنه يريد القول بأنها تحضر من دون استمرارية تاريخية: فنحن، في أساس المشكل، لم نطور ما توصل إليه أسلافنا الشرقيون في الحضارات الرافدينية والمصرية والبونيقية، ولا تجربة أجدادنا المسلمين في بغداد ودمشق وأصفهان وقرطبة والقرويين. وإذا ما كنّا نؤصّل اليومَ للعلوم الاجتماعية وعلم التاريخ (ابن خلدون) والنقد الأدبي (الجرجاني) ناهيك عن الشعر بإرث معرفي طويل وأسماء علم أنجزت أعمالاً كبيرة سلَّمتْها بدورها إلى أجيالٍ لاحقة، فإننا لا نستطيع تأصيلاً مماثلاً بالنسبة لفنيْ الرسم والنحت. إن العودة والاستشهاد دون كلل بتشخيصية (الواسطي) تتناسى في الحقيقة أن التجربة العالمية الراهنة تشكّلُ قطيعةً مع تجربة الواسطي المتأسِّسَة على رؤية للعالم صارت بعد اكتشاف المنظور الخطي (أو تطبيقه في الرسم ) في حكم الماضي. سيغيّر المنظور كلياً منحى الرسم وقبل ذلك معناه لأنه سيُحِلُّ الواقعية مَحَلَّ اللاواقعية الُمتلبِّسَة لبوساتٍ مشابِهَة. إن حضور الاتجاه الواقعيّ منذ القرن الرابع عشر يعني كذلك حلول تأويلٍ جدّ مختلف للعالم مقارَنة مع تأويلات العالم السابق. إن المسافة بين رؤية المنمنمات الإسلامية التشخيصية والرؤية الواقعية، الجديدة كلّ الجدَّة في تاريخ البشرية، لهي مسافة مُعْتَبَرَة. علينا التذكير هنا أن توصيفنا لا يريد التقليل كذلك من شأن التجربة التشكيلية الإسلامية ذات الفلسفة الُمخْتلفة لكنه يريد الإشارة إلى المأزق الموضوعي لمحاولات التأصيل في الوعيّ التشكيليّ العربيّ المعاصر.

ثمة قطيعة تاريخية تصيب على وجه الخصوص صميم ما يُعتبر ثقافة تشكيلية عارفة وراقية ومتعلمة، لأن الثقافات الشعبية (الخزف والسجاد وأشغال المعدن والخشب) استمرَّتْ على طريقتها الخاصة وبخفر باستبهام الماضي من دون قطيعة مماثلة. تتجلى هذه القطيعة عندما نعلم أن التجربة العثمانية/ التركية هي التي أمدّتْ العالم العربيَّ ببضعة مفهومات للحداثة السياسية (تركيا الفتاة المنقولة تحت اسم مصر الفتاة..) وللتجربة الاجتماعية التحررية (تحرّر المرأة التركية الُمقَلَّد في مصر على يد هدى شعراوي) ولفن الرسم الذي سيَهْجُرُ في تركيا الممارسة الزخرفية المنمنماتية السابقة تحت تأثير الضغوط الحضارية الأوربية، والتفجّر المتسارع للبحث التشكيليّ. سيتجه الرسم العثماني ومقلدوه في العالم العربي إلى حداثة شكلانية في جوهرها، أي من دون مفهومات نظرية متماسكة. كان بعض الرواد التشكيليين ضبّاطاً في الجيش العثمانيّ مثل العراقي (عبد القادر الرسام) الذي سيُدْخِل للمرة الأولى، على ما يبدو، الألوان الزيتية (صبغ بويه) إلى العراق ويُدْخِل معها تلك الحداثة الشكلية.

لم تؤثّر هذه الحداثة بطبعتها الأتاتوركية كما التقليد الصارخ لروح عصر النهضة الإيطالي على يد الرواد اللبنانيين إلا نتفاً يسيرة في (الحداثات) العربية اللاحقة. وعلى سبيل المثال فإن الرسم العراقيّ (الحديث) لم ينشأ على يد (عبد القادر الرسام) وإنما قام فعلياً بعد عودة جواد سليم ومحمد غني حكمت والرحّال ثم شاكر حسن السعيد من أوربا. قبل ذلك لم تكن توجد أية حداثة. كانت هناك ممارسات نقلية باهتة لا أهمية لها. حدث الأمر نفسه في مصر وسوريا ولبنان مع فروقات قادمة من طبيعة التطوّر الثقافيّ والخصوصيات الإقليمية لكلِّ بلد. أما في مغرب العالم العربي وفي خليجه فقد تأخر وصول قطار الحداثة هذه كثيراً. هكذا فإن ما ينقص التجربة التشكيلية في العالم العربي هي الاستمرارية والتواصل التاريخي كما الأساس النظري. لكن إذا ما كانت الحداثة في الفن مفهومة شمولية اليومَ ولا يتوجّب الخجل من استعارتها، فيتوجب قبل ذلك معرفة أصولها الثقافية والفلسفية المتبلورة عبر بضعة قرون من الجدل المرِّ والغنيِّ. والحاصل لدينا أننا استعرنا آخر تجلّيات هذه الحداثة من الفن الأوربي من دون تلك الأصول الفكرية. إن الكثيرَ من اللوحات الطليعية جداً في التشكيل العربيّ ينقصها المحرّك الجوهريّ، الداخليّ، النظريّ والتطبيقيّ.
نظريا: هي من دون جدل تلكم الأفكار الحداثية العويصة، وتطبيقياً هي استعارات حِرْفيّة (من الحرفة، الصنعة) للتقنيات الغربية المدروسة بمهارة والمُنفَّذَة بشطارة.

Calligraphie) بوصفه مقداراً ذا بعد واحدٍ. يتجنّبُ مُطْلِق التسمية الإشارة إلى مصادر هذه الاستعارة الصريحة، التي تطلع للوسط وكأنها اختراع من عنديات الثقافة العربية المعاصرة. في تجاهل المصدر العربّي القديم ثمة إيحاء بتجاوزه والاندماج بلغةِ وأساليب قول البحث التشكيلي الغربي المعاصر. من جهة أخرى فإن الالتباس الشديد الذي تحيل كلمة (الخط) إليه بحيث إننا لا ندري فيما إذا كان الأمر يتعلق بالهندسة أم بفن الخط (وهي صعوبة برزت فجأة عندما حاول كاتب هذه السطور مرةً ترجمة فقرة من إحدى بيانات شاكر حسن السعيد إلى الفرنسية) تشير إلى فقر مُدْقع في المصطلح التشكيليّ العربي. سنعود إلى المأزق الذي يقود إليه هذا الفقر في التفاهم بين التشكيليين أنفسهم من جهة وبينهم والوسط الثقافيّ من جهة أخرى.
في التنظير إلى البعد الواحد ثمة قفزٌ على أعمال الأسباني (تابييس) المشتغل لفترة طويلة على الأثر الموضوع اعتباطاً على سطحٍ من السطوح والمصنوع تلقائياً عبر آلاف الأيدي المارة على حوامل طارئة مثل الجدران والأبواب، وهو أمر يلحُّ عليه السعيد خاصة وأنه يلتقي على حيطاننا الشرقية بالكثير من الآثار العابرة والحروف المُختطّة كيفما اتفق. في حروفيّة السعيد التي تُعتبر غالباً تأملاً شخصياً محض تشكيلي ثمة (تعريبٌ) صريحٌ لتجربة الفنان الأسباني.


(جواد سليم)

إن ما يُعتبر إنجازاً لا يناقش وما يُحسب إضافات جذرية في الفن العربي مأخوذٌ، إجمالاً، بتقنياته وأفكاره من الفن الأوربيّ. التجربة الأكثر لُصوقاً بالماضي وبالتالي بما يُزْعَمُ أنه خصوصية محلية في الفن التشكيليّ العربيّ هي تجربة استخدام الحرف العربيّ التي هرع إليها كَثرة كاثرة من الفنانين بحساسيات متفاوتة. تصلح الحروفية بسبب رمزية معانيها، فحسب، لأن تكون مثالاً لخطل يصيب الوعي التشكيلي. جرى إدماج الحرف ضمن هواجس الحداثة المتعلَّمَة في المشغل الغربيّ، ضمن نزعة تجريدية هندسية (كمال بلاطة) أو في سياقٍ تصميمي (رافع الناصري) أو ضمن بعد تأويلي (السعيد) أو في ممارسات زخرفية وتزيينية باهتة كما لدى الكثيرين. تُخْفي العودةُ إلى الحرف، بل التنظير له بوصفه تعريباً للوحة، تعبيراً بالمقلوب عن المقدار الذي استعار ويستعير الفن العربي فيه من الفن الغربي. ما هي الفائدة الُمجْتَناة من تعريبٍ كهذا؟. من الناحية التقنية فقد برز اختراع اللوحة المصنوعة من القماش كتعبير عن حاجات عملية وتجارية قرينة بمستجدّات عصر النهضة الأوربي وخاصة بنهوض فئات اجتماعية جديدة راغبة باقتناء العمل الفنيّ. لقد كانت اللوحة الُمنْجَزَة على القماش الخفيف تُسهِّل المتاجرة ونقل الرسم المعمول قبل ذلك العصر على الخشب أو الموضوع على جدران الكنائس (فريسك). أما من الناحية الفنية فإن استخداماً محض جمالي، زخرفياً، استخداماً بلاستيكياً، ملوَّناً هو استخدام من دون أساس تاريخي في الثقافة العربية الإسلامية مرة أخرى.
المسافة التي يسعى الحروفيون إلى إقامتها بينهم وبين الخطاطين ذات دلالات اعتبارية ورمزية، ذلك أنهم يريدون إسباغ صفة الرسام، الجديدة والحديثة في الوعي العربي، على أنفسهم وليس صبغة الخطاط الحرفيّ المألوفة. ثمة عقدةٌ خفيّة من مهنة الخطاط سنفتّش دون جدوى عن معنى مباشر لها، ولو أنها تُخفي نزوعاً نحو (أوْرَبَة) الخط العربيّ. في الانهماك المعاصر بالحرف لا تُستخدم الحوامل القديمة أي الورق والرق وإنما القماشة وتُهْجر عُلبة الخطّاط أحادية اللون إلى التلوين المتنوِّع، الزاهي، ثم إن الحِكَم والمعاني التي كان الخطّاط يسعى إلى وضعها أمام الجمهور عبر الآيات القرآنية والأمثال الشائعة تنتفي لصالح بحث شكليّ منصبٍّ على بلاستيكية الحروف وجمالها الداخلي. هذا البحث يستحق المدح في بعض الحالات. لكنّ الهاجس الرئيسي الذي يحكم غالبية الأعمال الحروفية هو إنشاء "لوحة": لوحة القماش المُخْتَرَعة في القرن الرابع عشر ذاتها، بادعاء تحميلها بإرثنا العربّي الإسلامي. ما الفائدة من ذلك مع معرفة أن قطعة الخط القديمة كانت موضع ترحيب جمالي من طرف الثقافة الراقية وعامة الجمهور كما كانت مصدر رزق مبدعيها؟. أما التنظير لما سيسمى بالحروفية فإننا أمام اثنين:

فيما يتعلق بتسمية (البعد الواحد) فليس من إشارة واحدة إلى مصدر التسمية المُستعار من أدبيات علم الهندسة العربيّ، حيث يُعَرَّف الخط الهندسي المستقيم Ligne (وليس علم الخط أي الكاليغرافي

نبدو لذلك وكأننا بوضعٍ يائس، خاصة بعد التكرارات المملّة للحرف العربي الذي ودَّ بعض مستخدميه أن يُنْجز في آن لوحةً طليعيةً ومحليةً، ولم يُنْجز هذا البعض في النهاية سوى أعمال زخرفية، مبهجة، تدغدغ العين، دون أن تحتوي ما يكفي من العمق، أي من البحث. نبدو، من جهة أخرى، بوضع أكثر يأسا إزاء الوسط التشكيلي الأوربي الذي يعيش الكثير من الفنانين العرب بين ظهرانيه. إنه لا يريد من فنانينا أن (يبيعوا) له تلك التجارب التي (اقتبسوها) من فنّه هو نفسه. هذا الوضع يذكر بمثل شعبي عراقي بليغ (يشتري مني ويبيع عليَّ) الذي يُلخّص بعمق وجهة نظر الغاليريات الأوربية، المعروفة خاصة، التي ترفض أن تعرض لفنانينا الطليعيين في أوربا، أو تعرض القليل مما تعتبره يمثل خير تمثيل أعمق ما في الثقافات المحليّة المستوطنة في المنافي.

هكذا نصل إلى مشكلة المرجعيات التي هي مفصل تتمحور فيه خرافة الخصوصية وتتجلى. ففي غالبية الأدبيات والمقابلات الُمجْراة مع كبار فنانينا ثمة إغفالٌ للتجربة الأولى، عدم إشارة إلى المرجعيات وخاصة إلى الأساتذة الذين تَعلَّم على أيديهم كبار فنانينا المحدثين. لو أنهم تحدّثوا عنها فبصعوبة شديدة كأن الإشارة إليها ستصيب الفنان بعيب التقليد وكأنه سيُوْصَم بعدم الابتكار. إننا أمام خاصية عربية عن جدارة. ذلك أن البراهين المقالة تودُّ أن تلمِّحَ إلى ذاتٍ متمايزةٍ، الأمر الذي يُفَسَّر بعدم اعتبار المعرفة تجربة من التراكمات، من الخبرات ومن التفاصيل المُتَلَقاة من أساتذة جرى تطويرها على أيدي تلاميذهم، إنما هي نبوغ مفاجئ. إن التشكيل العربيّ المعاصر، والحال الافتراضية هذه، هو فنٌّ من دون مَرَاجِع. لا تتعارض الخصوصية المحلية، على ما نعتقد، مع التجربة الشمولية، كما أننا نظنُّ بأن تثبيت مرجعيات وآباء مُقلَّدين، إنما هو دليل على احترام المعارف السابقة التي يغترف منها القادمون الجدد بالضرورة. يدلّ كذلك على أن الإضافات المستجدّة، مهما كانت طفيفة، إنما هي الأساس الجوهري للعمارات الكبرى. إن جزءاً من التجربة التشكيلية العربية المعاصرة هو إنجاز بطولي، مُتَوهَّم طالما أنه لا يضعُ نصبَ عينيه الحقائق الأساسية للثقافة التي يطلع منها والمستوى العام الذي تتسيّدُ فيه، على الرغم من الفسحة النقدية التي يمتلكها الكثير من الفنانين العرب إزاء ثقافاتهم المحلية.

لنعاود إذن قول البديهي عبر مقاربة بين ماض فني بائد وحاضر تشكيلي متكبر: إن ما مَنحَ الشرقَ القديمَ قوّته الحضارية، إضافة إلى المنجز الثقافي الجبار الذي قام به وعلى رأسه اكتشاف الكتابة، إنما هي التمايزات الفعلية لمنجزاته التشكيلية. فالرسم المصري يقدم رؤية خاصة بأدوات خاصة من الصعب العثور على شبيه لها في العالم القديم، في الوقت الذي لا يستهدي فيه النحتُ الرافدينيُّ بقانون Canon من قبيل قانون الجمال اليوناني اللاحق، إنما يحطم (عامداً ؟) المعايير المألوفة في تكوين الجسد البشري لأنه مهموم بالتعبير عن المقدّس. إن الواقع المُتَسَامَى به إلى مصافِ المثال الأثير على قلب النحات الإغريقي يتحطّم لصالح ما يحسبه النحاتُ الرافدينيّ جوهرياً. حتى واقعية العصر البطليموسي في مصر المتأثرة بالفن الإغريقيّ هي ذات خصوصية محلية تاريخية (انظر مثلاً تمثال بطليموس الحادي عشر في متحف الفاتيكان) لا تقارب بواقعية الإغريق المثالية، الُمسْتمَدَّة من التفكير الأفلاطوني. إنها واقعيةٌ سحريةٌ تقريباً إذا ما استعرنا المصطلح المُطَبَّق على الرواية اللاتينية. أما النحات الفينيقيّ الذي- وهو يعاود تمثيل غطاء الرأس المحلي الحاضر وياللغرابة مند الآف السنين في جبل لبنان- فإنما يقوم بمنح المتخيَّل دوراً مميّزاً بأجسادٍ طِوالِ القامة، نحيفة وحيوية. كما أن الفنّ الإسلامي يُشْهِرُ خصوصيةً عاليةً، على مستوى التجريد كما على مستوى التشخيص المنمنماتي الذي هو أسْلَبَةٌ للواقع: أي نوعاً من التجريد. لكن ما الذي كان يمنح هذه الفنون جميعاً تلك الخصوصية ؟. ها هنا فحوى مقاربتنا: إنها فنونٌ تخرج، من بين أشياء أخرى، من رؤيةٍ فلسفيةٍ شاملة ومتماسكةٍ للآدميّ وللكونيّ. إنها تستهدي بفكرٍ أصليٍّ ما، بعقيدةٍ فلسفيةٍ (مهما تلبَّسَتْ لبوساتٍ دينيةٍ) وقبل كل شيء بعقلٍ نقديٍّ بمعنى أن العمل الفنيّ مُنْدَغِمٌ منذ البداية بتصوّرٍ متماسك للأشياء. لم يُقَدَّر لكل هذا أن يتوفّر موضوعياً للتشكيل العربي المعاصر الذي يستعير الأفكار والفلسفات والمَقُوْلات النقدية. إن العلاقةَ بين الإنجاز الجماليّ والفكر تتمظْهَر بتبادل الخبرات والدروس بين المدارس التشكيلية المتنوعة (الواقعية، الانطباعية، التكعيبية والسوريالية..) وحركة النقد العقلاني في أوربا.

هذه المدارس هي تعبيرات عن مستوى الحوار الثقافي العام ولكن بأسئلة لصيقة بالفن.

جميع الحركات الفنية لم تطلع إلا من حركةٍ دؤوبة للعقل، من أسئلةٍ فلسفية مترابطة، من مساءلاتٍ جذرية للمعقول في البداية، ثم المعقول المرئي في الإنجاز الفنيّ. ما حدث لدينا هو أننا جئنا إلى انطباعيةٍ جاهزة، مقطوعة الجذور عن أصولها وعن التساؤلات التي سبقتها والتي نجمتْ عنها، واعتبرنا أنفسنا في صلب العملية التاريخية ذاتها-وهي معقّدة وذات فصول مثيرة- التي بلورت الفكرَ الغربيَّ بكل تجلّياته وخاصة تَجَلِّيْهِ الفنيّ. يُخيَّلُ إلينا أنه مهما توغَّل الدارسُ التشكيليّ العربيّ في الوثائق والتفصيلات التي رافقتْ مخاض مدرسة مثل الانطباعية فإنه لا يستطيع المثول تماماً في داخل التجربة الانطباعية الأوربية طالما أن السياقات الثقافية والمستويات الاجتماعية ليست مُتَناظِرَة هنا وهناك. إننا نظلُّ في مقام التقليد. إننا نتبقّى من دون الشروط التاريخية، وحتى النفسيّة، التي ولَّدَتْ الانطباعية. عندما عاد الفنان العراقي فائق حسن من باريس إلى بغداد، كان يخرج مع جماعته الفنية إلى بساتين الضواحي ليراقب غروب الشمس، ليرسم التحولات البصرية الطارئة على مرأى الأشياء. لقد كان في الحقيقة يستعيد حرفياً ما كان الانطباعيون الفرنسيون يسعون إليه قبل عشرات السنين. ألسنا في معرض تقليدٍ كامل ؟، وإذا ما توفّر له، هو شخصياً، الفهم للتجربة الفيزيقية الانطباعية على أساس أنه دَرَسَها نظرياً وربّما بجديّة في فرنسا، فمن أين يتهيأ لأصحابه الآخرين هذا الفهم طالما أنهم يندرجون في سياق ثقافي لم يزلْ مُلْتَبِسَاً في نظرته لأساسات العمل التشكيليّ وبداهاته ؟.

شهدتْ ولادة المدارس الفنية الأوربية نوعاً من الاتساق الداخليّ، المنطقيّ القادم من أن عملَ الفكرِ النقديّ كان مُؤَثِراً كل مرّة على نشوء حركةٍ جديدة، بل سبباً لها. وبمعاودة فحص وتقليب ونقد أساسات وطروحات هذه الحركة كانت تظهر بوادر حركة جديدة ستصير بدورها مدرسة فنية، وهكذا دواليك. ليس ثمة من مصادفات مثيرة ولم تكن الأمزجة الفردانية تؤثر لوحدها في خلق مثل هذه الحركات. في حين أنه لم تتهيأ للوعيّ العربيّ الشقيِّ قاعدةٌ للاتساق. لقد وُلدتْ كل المدارس دفعةً واحدةً تقريباً في العالم العربي حسب أمزجة الروّاد وحسّاسيات دارسي الفن الآخرين اللاحقين. لقد فرضوا قواعدهم على عالمٍ ثقافيٍّ تشكيليٍّ جنينيٍّ من دون قواعد. إننا نتساءل عن العِلّة التي جعلتْ كَثرةً من فناني منطقة الخليج يلجأون إلى الغرائبية السوريالية في نتاجاتهم. ثمة وهمٌ في أن الثقافة العامة التي هم جزءٌ منها يتصوَّر أن العميق إنسانياً وفكرياً، أن الجدير بالاعتبار بالدرجة الأولى يقع بالضبط في المخيال السوريالي. طالما تغيب المراجعات النقدية التشكيلية ولا تصير عنصراً من عناصر الثقافة العامة فلن تكفّ النزعات السوريالية (المولودة منذ بداية القرن في أوربا) عن الحضور في منطقة الخليج. لنلاحظ من الناحية السوسيولوجية أن ثمة مفارقة بين (السوريالية) بصفتها محاولة لتغليب الحلمي أو الكابوسي أو الغرائبي أو حُلم اليقظة (ودوماً في إطار رسمٍ تشخيصيٍّ) وبين الواقع الاقتصادي والبُنى العائلية والأخلاقية ومستوى تطوّر المدينة في بلدان الخليج العربي. تلك السوريالية العربية لا تستشهد بمفردات الواقع لتشييد عمارتها ولكنها تشيح بوجهها عنه وهي تستلهم مكاناً وزماناً سورياليين مختلفين. إننا في معرض التقليد ذي الدلالة هنا.


(ضياء العزاوي)

إذا ما كانت البرجوازية العربية، خاصة الأرستقراطية التجارية قد امتلكت الذكاء الكافي وقبل ذلك المال الكافي، وهو ما يَصْدق على مِصر في بداية القرن، لتقبِّل أفكار ما سيسمى لاحقاً بالحداثة، فإنها لم تكن إلا أقليّة لا تعبر عن موقف الأكثرية الساحقة، بما فيها المتعلّمَة التي لم يتقبّل وعيُها إلا النقل الفوتغرافي للواقع المرئي بصفته، لوحده، الإبداع التشكيليّ العالي وظلتْ، حتى الآن، تسخر من أيّما نزعةٍ تشخيصية حرّة ناهيك عن التجريد. يستحق هذا الموقف دراسة شاملة ومسحاً لطرفاته المقالة كتابةً وشفاهاً وتصوراته المكتوبة. إن دراسةً منهجيةً عن الكتابات المتعلقة بالفن التشكيلي منذ بداية القرن وحتى اليوم سترينا حقيقة اغتراب الفنّ البصريِّ عن الوعي السائد. هذا الموقف هو الموقف الحقيقي، الموضوعي للثقافة العربية أمام العمل الفني. إنها تعاود طرحَ البسيطِ التشكيليِّ ويفصلها بونٌ شاسعٌ عن اللغة البصريّة المعقّدة.

يبدو من الواضح الآن أن العمل التشكيلي هو عملٌ ثقافي يفكّر بطريقته الخاصة ولكن بعمقٍ شديد وبحسّاسية عالية. ويبدو أن مثل هذه الوظيفة للعمل التشكيلي تبدو غائبة أو غائمة في العالم العربيّ. إننا نعلم أن الكثيرين يَشْكُوْنَ جَهاراً من عدم امتلاك الكثير من الفنانين العرب، خاصة الأوائل منهم، هذا الزاد الثقافي وأنهم إذا امتلكوا فضيلة الريادة فإنهم هم أنفسهم، موضوعياً، نتاج لتقاليد التخلّف العربي، وأن بعضاً منهم لا يستطيع تكوين جملة عميقة عن العمل الفني لكي لا نقول إنه ليس بقادرٍ على طرح مشروعٍ نظريٍّ كامل.
يهجر بعضهم قناع المثقف والمفكّر إلى حقلٍ محض حِرفيّ. ففي جواب للفنان الكبير شفيق عبود عما إذا كان يرى المعرفة النظرية ضرورية أم لا، يجيب بأنه: "لا يراها ضرورية" وأنه "لا يفهم الفن نظرياً. أحاول ذلك وأقرأ كثيراً من أجل فهم ذلك، لكنني قبل الوصول إلى نتيجة أستمر بالرسم"... (من مقابلة أجراها معه أحمد بزون في جريدة السفير البيروتية بتاريخ 19-5-1999). الاستمرارية بالرسم لوحده من دون غطاءٍ نظريٍّ هي ما يحكم المزيد من الفنانين العرب شيوخاً وشباناً (ربما سنستثني جيلاً جديداً في المغرب). بل هناك من يذهب إلى أخطر من ذلك والقول إن الرسم هو مجرد عملية (تنفيس للمكبوت) كما تقول رسامة عراقية.

هكذا يمكننا الاستنتاج بأن ثمة التباساً في الحركة التشكيلية في المفهومات ذاتها وعلى رأسها الفرق بين المثقف والحرفي. وفي الحقيقة فإن المهمّة البديهية للفنان مزدوَجَة: بالقدر الذي يتوجب عليه أن يمتلك ثقافةً معقولةً لأن العمل التشكيلي هو مناسبة لاستحضار الكليِّ، الذهنيّ والعقليّ والحسيّ بأدواته الخاصة، فعليه أن يعرف كذلك كيف يستحضر كل ذلك مادياً أي في العمل المتأسس على تقنيات متقنة، اللوحة أو المنحوتة أو قطعة الخزف وما إلى ذلك.
النتيجة الواضحة لفصل الحرفي عن المثقف في العمل التشكيلي هي أن الكثيرَ من الفنانين العرب، إذا ما تحدثوا عن تجاربهم الفنية فإنهم سيتوجهون إلى (ما هو ذاتي للغاية) في أعمالهم، عن ما هو (فرداني) أولا وقبل كل شيء، مانحين تجاربهم بُعداً من الخصوصية المُفْرطة، وغير مموضعين إياها في سياق موضوعي وتاريخي. إننا سنُشْهِر الهاجس (الفريد) السريّ و(الخصوصيّ) للغاية، وربما السوداويّ، غير المفهوم، والدفين في تجاربنا. إننا سنعقِّدُ الحوار باتجاه فرضيّة تعالي العمل الفني عن أسبابه وعن وسطه.

وإذا لم يكن بعضهم يمتلكون الإمكانات للتحدّث عن هاجسٍ محض فردانيّ من ذاك النوع فإنهم سيتحدثون بنبرةٍ فولكلورية. أبرز من يمثل هذا النوع من العمل هو الفنان العراقي المقيم في هولندا سعد علي. حامل support الفنان الرئيسي هو الباب، وعبره سيخترع خرافة (باب الفَرَجِ) مُسْقِطاً المفهومة الشعبية التي تستعير البابَ كمَخْرَجٍ من الأزمات ويجعلها معادلاً تشكيلياً لأفكاره، ما هي أفكاره؟ لا نعرف. ثمة قطيعةٌ واضحةٌ بين الفكرة، فكرة الفَرَج الشعبية المقالة في التنظير والجاري إقناعنا بأنها حالما ستُعْلَنُ لغوياً فإنها ستتجسّد فنياً وبين ما يتحقق فعلاً من رسم على القماشة. إن الحصيلة الفنية هي عمل أقرب إلى العمل الشعبيّ مما هو إلى العمل التشكيليّ المدروس. باب الفَرَج إذن تريد أن تمزج غياب الفكر بالتفكير الشعبي بالضعف الفني في خلطةٍ ذكيّةٍ تتحايل على المشاهد وعلى ذاتها.

تشكّل العودة إلى الشعبيّ والفلكلوريّ نوعاً من الحيلة من أجل إسباغ الصفة المحلية على الأعمال التشكيلية العربية. في المغرب العربّي لا نعدم، خاصة لدى روّاد الفنّ الحديث هناك، استخدام الإطارات الزخرفية (التي تستخدم عادة حول الآيات القرآنية) وهي تحيط الأعمال التشخيصية. كما هو الحال في أعمال الفنان المغربيّ الرباطي محمد علي (1861-1939) وهو واحدٌ من رياديي الفنّ التشكيلي الذي كان يشتغل بادئ ذي بدء طبّاخاً عند الرسام البريطاني (جون لفري) ليأخذ عنه حرفة الفن وطرق الرسم الحديث.

غير أن المستَتِر في قضيّة (الخصوصية) هذه يكشف عن دلالة أيديولوجية. ففي مفهومتي (الأصالة) و(الحداثة) مزدوجتي العلاقة يتجلى تأثير الفكر القومجي العربي الذي لم ينفكّ يلوي عنق التاريخ، طواعيةً وكرهاً، من أجل تثبيت مفهوماته الأيديولوجية. لم يُثْبِت التاريخ الواقعي فكرة الأصالة نفسها على الطريقة المتداوَلَة طالما أنه تاريخ اختلاط خلاق للثقافات والأعراق والحضارات والأديان. إننا مقذوفون، مع هذه الفكرة، في فضاءٍ أيديولوجي من دون تماسك منطقيّ. تحيلنا الفكرة القومية الضيقة (على المستوى السايكولوجي) إلى بحثٍ يائسٍ عن ذواتنا المفقودة حضارياً، وإلى حالة استلاب يَعِي فحسب مقدار هيمنة الآخر عليه. من هذه الزاوية قد تمتلك الأصالة مشروعية ما ولكن بشرط امتلاكها لبرنامجٍ حقيقيٍّ. سنقول البداهة لو قلنا إن وعيَ الذات الشخصية والوطنية يمرُّ في البدء بنقدها. الغائب الكبير في الوعيّ العربيّ المعاصر هو النقد.

سوى أن الُمحَاججين سيقولون لنا إن الخصوصية تنقص الثقافة العربية برمَّتها بأنواعها كلها وليس في الرسم وحده. هذا الكلام بحاجةٍ إلى التمحيص. لنعد القولَ بأن ثقافتنا ما زالت تتقرّبُ بالكلمات، بالأدب، بالخطاب البلاغي المكتوب من أجل فهم العالم، وهي تغضّ الطرف عن الإمكانات الأصلية التي تمنحها الأنواع غير الأدبية في تفهُّمٍ أفضل ومن زوايا أخرى لهذا العالم الذي اُبْتِلينا به. لنقل كذلك إن الاندغام الداخليّ بين النوع الكلاميّ وصنوه البصريّ لا يحتاج إلى براهينَ كبيرة (في الثقافات الأوربية ثمة تحليلات نقدية أساسية عن العلاقة بين الرواية أو الشعر وفن الرسم..). لكننا نحتاج إلى إعادتها كل مرّةٍ يتعلّق الأمر بثقل الأدبيّ في ضميرنا الفكري وضعف البصريات والفنون الجميلة بالمقابل.

لنتبقَ في مقام الشعر الذي تَعْرِفه ثقافتنا جيداً لكي نُضيء فكرتنا عن غياب الخصوصية في الرسم العربيّ. ولنرَ أن الافتراق بين النوع الشعريّ والبصريّ في مكان ما لا يعدم التقاءهما في مكان آخر. لقد صار آخرون يتحدثون عن (الشعرية) كمصطلح وكعنصر جوهري يوحّدُ بين الأنواع كلها من جهة ويمنح الأعمال قيمتَها في النهاية من جهة أخرى. دراسة هذا الأمر تحتاج إلى متخصّصٍ. بين الأنواع الأدبية والتشكيلية ثمة سلسلة مترابطة، كلّ حلقة فيها تقود إلى أخرى. إن السلسلة لا تقود بالضرورة إلى انقطاعاتٍ أو انحساراتٍ طالما يوجد شيءٌ ما ليُقال وثمة رغبة عميقة بالمعرفة، ذلك أن المعرفة، الأكاديمية أو التشكيلية، تُغْني الأعمال عمْقياً، في نهاية المطاف. أظن أن انصراف الثقافة العربية عن تعريف الشعر بوصفه الممارسة الأبرز في الضمير التاريخي يقع في حاجة الثقافة الآن إلى أنواعٍ تحليليةٍ مثل الرواية وأخرى سِجَاليّة مثل الفكر والفلسفة وأخرى بصريّة. في هذا الانصراف ثمة يأسٌ من الغنائية، يأسٌ من الكلمات التي تُبْتَذل على أيدٍ كثيرة. ولا علاقة للشعر نفسه بذلك كله. إن تشابه الأصوات الشعرية واتجاه الكثيرين نحو النسج على هدي عمودٍ شعريٍّ جديدٍ قد أصاب القراء القليلين بالملل إذا لم أقل بأنهم قد أسقطوا الشعر من حسابهم الثقافي.

لكنَّ الجوهريّ في يقيننا هو التالي: إننا نتحدّث عن الشعر بوصفه لغةً مُنْحَرِفة عن معاني القاموس، لكن مُرتبطة، على الدوام بدرجة المعاني التي يقولها القاموس، الدرجة الأولى والثانية…والعاشرة. وهو ليس حال اللغة البلاستيكية على سبيل المقارنة التي ستضيء الفكرة. لا نحصر البصريَّ، بالطبع، بلغةٍ واقعيةٍ مُفْرِطة، فهذه ليست سوى النثر في اللغة الأدبية، ونتكلّم عن بصريٍّ يمتلك قدراً من الحريّة التعبيرية والتكوينية مثل الشعر الحديث. إن طبيعة التشكيليّ من الناحية الدلالية وزاوية المعاني تظلّ أقل تحديداً وصرامةً. إنها تمتلك قاموساً لم تُحْصَ (ولن يُستطاع إحصاء) معانيه، كأن دلالاته قلادة مُنْفَرِطة وهواءٌ مبثوثٌ على امتداد البصيرة، وكأنه يسمح بأنواع من التأويل لا تسمح بها اللغة الأدبية بما فيها الشعر وإنْ كان غموضه خلاقاً.
ثمة، على الإجمال، معنى غامضٌ في الشجرة المرسومة وثمة صراحةٌ نسبيةٌ في الشجرة المكتوبة. إن لغةَ البصريّ تَقْدر بطبيعتها على الإفلات من المعنى الصارم وهو الأمر الذي يحاوله الشعر من جهته بوسائله الخاصة، لكن اليائسة في وضع معين.
إن انفراط المعنى في الرسم الحديث قد قاد إلى استسهالات عربية من كل نوع، خاصة وأن الوعيَّ التشكيليّ العربيّ السائد لم يَفْهَم بعدُ أن هذا الانفراط جاء بعد سلسلة من التغيُّرات والمعارك الفنيّة ولم يحدث هكذا بمحض مصادفةٍ سريعة. إن إرثاً طويلاً من القصيدة العربيّة لا يسمح بانفراط سريع لبُنْية ومعاني الشعر بل إن الحوار النقديّ، التاريخيّ مهما كان ضعيفاً اليوم وهشاً، يمنحه وضعية محددة معينة لكي لا نقول خصوصية معينة. هذا الأمر غير متهيِّئ للتشكيل المعاصر بحالٍ من الأحوال. وضعيّة الرسم هي الأوضح من بين الأنواع كلها لأنه محض استعارات متواصلة من تجارب الغير.

تبرهن التجربة الغرافيكية (بالفرنسية gravure) هذه الاستعارة بأوضح الأشكال وأجلاها وأكثرها نزاهة. إن أصول الغرافيك العربيّ مُستعارة هي الأخرى من الآخر. مستعارة تقنياً ورؤيوياً. لنأخذ مصر على سبيل المثال. إن أول مُدِّرسٍ لمادة الغرافيك في المدرسة العليا للفنون الجميلة في القاهرة كان الإنكليزي برنارد رايس Bernard Ryes الذي أنشأ قسم الجرافيك حوالي سنة 1934، أي بعد قرون من تدريس المادة وتطوّرها الباهر في أوربا. الأنكى من ذلك أن رايس لم يكن متخصّصاً في فن الجرافيك ولكن والده كان من فناني الجرافيك الإنكليز المعروفين، حسبما يقول فتحي أحمد في كتابه "فن الجرافيك المصري"، وقد كان يقوم بتدريس مادة الزجاج المعشَّق بالرصاص. وعندما أنشئ قسم الغرافيك، حسب نفس المرجع، كان أول مُدرّس مصريّ للغرافيك هو الفنان الحسين فوزي وتولّى رئاسة القسم بعد برنارد رايس. علينا أن نلاحظ أن الدراسة بقسم الغرافيك "لم تكن تعتمد كلية على مادة الجرافيك ولكنها كانت تشمل دراسة فن الرسم ورسم المناظر الطبيعية وعمل التصميمات الفنية والتكوين ودراسة البورتريه والطبيعة الصامتة…ولم تكن مادة الحفر تُمارَس إلا كفرعٍ من برنامج الدراسة وكانت أول دفعة تلتحق بقسم الحفر على يد برنارد رايس عام 1937"، "ولم يكن الإنتاج الفنيّ في مجال الجرافيك ملحوظاً بجانب التصوير والنحت في تلك السنين… ولم يأخذ وضعه في المعارض إلا في الخمسينات" (1).
في الأعمال المطبوعة للحسين فوزي (ولد في القاهرة 4 سبتمبر 1905-… ) وهو أحد الروّاد المصريين الكبار لفن الغرافيك يمكننا أن نلاحظ الطابعَ الأكاديمي والتسجيلي الذي كان يتابع، في الغالب، تعليمات أستاذه الإنكليزي. بينما نلاحظ في أعمال الرائد الثاني للحفر في مصر الفنان نحميا سعد (أسيوط 1912- 1945) الطابع الأكاديمي والتأثري الذي كان سائدا في تلك الفترة. أما الرائد الثالث عبد الله جوهر (القاهرة 1916-…) فثمة في أعماله إخلاصٌ لدراسته الأكاديمية في إيطاليا. عملُه المنشورُ في كتاب فتحي أحمد المشار إليه آنفاً والذي يصوِّر مَشْهداً في روما يمكن أن يكون لأي فنان إيطالي مخلص لتوزيع الضوء والتكوين الُمحْكَم. هذه الملاحظات لا تنفي بحالٍ من الأحوال الأهمية الفائقة لهؤلاء الفنانين ودورهم الريادي في تأسيس الغرافيك في مصر. لكن هذه الأهمية هي من نمطٍ تاريخيّ وإنسانيّ ولا تُعْفي من القول بأن ثمة استعارات متواصلة فاضحة من الآخر الأوربي ولو أنها تغطّتْ بلبوسِ إعادةِ تمثيلِ البيئة المحلية والأجواء الشعبيّة لدى الفنانين الأولين المذكورين.
في المغرب العربي قلد أوائل الحفّارين (مثل الفنان السرغيني محمد، ولد سنة 1923 بالعرائش) أساتذتهم الأسبان ومثلهم في العراق جرى تقليدٌ صارخٌ لتقاليد وأساليب الحفر البولوني الذي أثَّر بعمق في أبرز الحفّارين العراقيين المتعلمين في بولونيا.

لنضف كلمة أخيرة حول الموضوع: إن غياب الخصوصيّة المزعومة، وغياب تاريخٍ فنيٍّ محليٍّ متواصل، متماسك قد قاد، ضمن ما قاد إليه، إلى غيابٍ فاجعٍ للنقد التشكيليّ. إذا حضر هذا الأخير فسيحضر بشكلين اثنين، إما كتابة إنشائية ليست إلا تعليقاً عاطفياً على العمل التشكيلي، أو كتابة لا تقول فكرةً واضحة، وتقول جُمَلاً لا تعني شيئاً محدداً، لأنها، على ما يبدو، تعاني من غياب مُطْبِق للموضوعات وللمشكلات اللصيقة بالعمل الفني، وهو الأمر الذي قاد الكتابة التنظيرية العربية إلى تخبّطاتٍ في القول لا تُحمد عليها. النقد إذن لا يعني في الغالب شيئاً مهماً، أو لا يعني البتة شيئاً وهو الأمر الذي تحققنا منه لدى محاولاتنا لترجمة بعض النصوص النقدية إلى اللغات الأوربية، الإنكليزية والفرنسية على وجه الخصوص. النتيجة التي يتحصلها المترجم هي نص أجنبي لا يُفهم إلا قليلاً وبعناء بالغ. كيف يمكن للمترجم أن يفهمَ ويُترجمَ تعبيراً مثل (العماء اللوني) - الموجود في نص مدرج في معرض مشترك لسبعة فنانين عرب في مدينة جنيف 2000 - حيث بين العمى الذي لا يُبْصِر واللون المرئي المُبْصَر مفارقةٌ جليّة للعيان؟ مثال آخر سُقْناه قبل قليل: كيف سيترجم المرء كلمة (الخطّ) الواردة في إحدى بيانات الفنان الكبير شاكر حسن السعيد، ونحن لا ندري ما إذا أراد الفنّانُ الخطَّ الهندسيَّ، الرياضيَّ ligne أم فنّ الخطِّ العربيّ calligraphie؟ وبالطبع فإن الفرق بين الاثنين صارخ ويُلزِم المترجِم معرفةَ المقصود من الكلمة.

قدر ما تصير الأمثلة النقدية طريفة، وأحياناً مُضْحِكة، فإنها تصير كذلك مدوِّخَة ومحزنة. تُصاب الكتابة النقدية العربية المعاصرة بهذا النوع من الغموض الذي لا يجيء من عمق الموضوع وتعقُّدِه وامتداده وتداخل عناصره ومراميه ولكن الغموض القادم من التباس المفهومات والمعاني لدى النقّاد الذي يقود إلى التباس الكلام نفسه ويصيبه بالارتباك الشديد. خُذْ هذه الأمثلة: يتحدث لنا أحد النقّاد عن الرسّام السوداني راشد دياب ويقول: "عربيته وأفريقيته مفضوحة في أعماله الفنية التي تبتغي الاقتراب من منطقة غليان الرسم". وفي الحقيقة فقد حاولنا، عبثاً، وعصرنا دماغنا كما نقول في عامياتنا العربية من أجل فهم ما تعنيه العبارة (غليان الرسم) واستخلصنا أن الناقد لا يأخذنا ربما بجدية لأنه يضحك على ذقوننا، لأنه، هو نفسه، سيستخدم بعد أسطر التعبير (العماء اللوني). وبالطبع فهناك ثمة أمثلة مروِّعة نقرأها يومياً في الصحافة العربية وعلى الإنترنيت. "إن فن عارف الريس ليس الحركة بل روح الحركة (2)" وآه لو كنا نعرف ما هي (روح الحركة) هذه.
ولأن مادتها ضئيلة عملياً فإن كتابات أخرى تتخفى بجمل طويلة، بعضها بلا معنى، توحي بمعرفة تتجاوز قدرات قرائها.
نقاد آخرون، متابعون، مثل المصري عبد الرزاق عكاشة يسقط مرات في إنشائية تفسيرية من دون (معنى) وهو يقول مثلاً: "وعلى الرغم من العلم بالمسطَّح التقنيّ والحسيّ المباشر لعملية آليّة تتفاعل فيها العين مع الحيز اللوني بدرجاته التي تعلو باتجاه الأحمر… ويبرز اللون الأسود. ويتلاصق اللون الأزرق. ثم يتدلل على اللوحة بحثاً عن مخرج (اللون الأصفر)… (3)" . بغض النظر عن الفعل (يتدلل) فهل تتمُّ العملية في اللوحة على هذه الشاكلة المنطقية جداً؟. لا نظنّ أبداً. ثمة كتابات أخرى تتعلق بإشهار غير الممكن في الثقافة والحياة بوصفه بداهةً ممكنةً في الفنّ التشكيليّ العربيّ، كالتحدّث عن أن الفنان، وهو هنا البحرينيّ عبد الرحيم شريف، "لا يطلب ذريعة أو تبريراً للتصوير، بل يطلبه لذاته، خالصاً إلى علاقة مخففة تماماً من أية عوالق أيديولوجية أو ثقافوية أو غيرها"- والتعبير لشربل داغر الذي نحترم كتاباته. غير أننا هنا أمام (غير ممكن) مُقال وكأنه ممكن: أن يتخلص الرسم من أية عوالق أيديولوجية أو ثقافوية سيجعل من الرسم ضرباً من الممارسة المتسامية على الأشياء والوقائع. الرسم ممارسة ثقافية مشحونة بكل ما في الثقافة من إشكالات أيديولوجية وغيرها.

وباختصار فإن الخُلاصة التي يطلع المرء بها ها هنا هي أن الكتابة النقدية التشكيلية، بدورها، نادراً ما تراعي الضوابط المعرفية وتحترم مستوياتها ومستويات القراءة الفنية في ثقافتنا العربية.

وإذا كان الحال هكذا في المجالات كلها في الفن التشكيلي العربي المعاصر، فمن أين تتأتى الخصوصية بعد ذلك يا تُرى؟.