
يُسعِدني أن أُقدّم لجمهور A، معرِضًا خاصّاً بحوالى عشرين عامًا من الإبداع المرئي للشاعر أدونيس، الذي سيُظهِر للمرة الأولى أعماله الأكثر حداثة.
ما إن التقيت أدونيس حتى أحببتُ شخصه، وإنّ لَمِن دواعي بهجتي، بالتالي، أن أجعل هذا الجزء من إبداعه مرئيًا، أعني الجزء الذي يأخذ بالبروز كأنه شكل شعري آخر.
الكتابة، في عمل أدونيس، رسمٌ جميل، مُتقَن، يُشكّل جزءًا من الرقائم (الكولاج). الرقيمة جزء من هذه الكتابة. وكلاهما يُثري الآخر.
حين أرى هذه الأعمال، ينتابني إحساس عميق بأن أدونيس يستعيد ما يُشبه وحي الفنون الأولى: يبلغ في هذه الاستعادة ما يهزّ فينا شعورًا يبعثه من خلال قطعة خشب، وخرقة قماش يعيد استعمالها في رقيمة. مما يُذكِّرني بكثير من المنحوتات الجميلة جمالَ لوحات الرسّام الإيطالي "تيسيان" Titien.
تتكوّن هذه الرقائم من كل شيء، ومن لا شيء. ذلك أن أدونيس يُباغتنا حين يضع قِطَعًا من أشياء عديمة القيمة ويُكسِبها وجود الأشياء الهامة، ويجعلنا هكذا نراها بطريقة مختلفة. ما أشبه فنّه بتنقية أشياء تغدو جميلة في ذاتها !
يلعب أدونيس مع الكتابة، وما يفعله في الرقيمة شديد القرب منها: الكتابة بالحبر لا بالرسم. يكتُب حتى في الصورة.
يمتلك كتابتَه التي لا يحتاج معها إلى ألوان الرسم. كتابته أساسًا رسمٌ، حتى إنها تحمل رسمها في داخلها. ورسمُها في باطن الكتابة.
عز الدين علايا
بدأت مغامرة هذا المعرض، كما هو المعهود غالبًا في دار أزياء علايا، حول مائدة العشاء. فكّرت منذ عدّة أسابيع، وعادل عبد الصمد، أن عز الدين علايا ينبغي أن يلتقي أدونيس. Azzedine Alaïa, Adonis, Adel Abdessemed، خمسة أحرف A لم تُخلَق كي تُجمَع، بل كي تتعدَّد، كي تَرمِز إلى هذه الجماعة التي تكوِّن ذهنية علية ـ الناس إلى جانب العمل الفني. جماعة عزيزة أيضًا على قلب أدونيس، وعادل عبد الصمد، اللذين غالبًا ما تناقشا، وأبدعا مع آخرين، من أحياء وأموات ـ أي أحياء بصورة أخرى. ومن جهة ثانية، كان أدونيس وعادل عبد الصمد قد نشرا معًا، في بداية عام 2014، في دار "إيفون لامبير" Yvon Lambert، مؤلَّفًا أثمره لقاؤهما هو كتاب حرفَيْ AA.
كان لا بُدّ من لقاء أدونيس وعلايا: كلاهما عاشقان كبيران للنساء، كلّ منهما عظَّم شأنهُنّ، ومجَّدهُنّ، الأوّل بإعلاء قيمتهّن في حياتهنّ الجسدية، والثاني بنقش أسمائهنّ في سِفْر الشعر الخالِد. كذلك جمعهما الولع بالموسيقى، موسيقى أغاني أم كلثوم، التي عرفها عز الدين علايا، وهو لا يتكلّم العربية، من خلال النَّغَم، وجمعهما حبّ باريس، المدينة ـ المرأة حيث وصلَها كلاهما قبل خمسين عامًا، فاستحسنا تاريخها وخدَما في حاضر باريس ومعها، عالَمًا كاملاً من الأدب، والفنّ، والحضارة، والحلُم، ورُبّما من المخيِّلة الواقعية. وأخيرًا اجتمعا على الفنّ، وتذوُّق الفنون: أدونيس الشاعر، ذاك الذي ما يزال يحمل عبء الشعر على كاهله، وعبء الظفر والواجب، ذاك الذي يرقص على الرغم من ذلك، بوصفه الشاعر، الشاعر الخالص، الحقيقي والفتّان. علايا، الخيّاط، الرجل الذي يعرف حقيقة طِراز الزيّ (البترون)، وكمثل مهندسٍ معماري وعامل يتصوّر النساء في الجسد نفسه، ويُنجِز قِوامَهُنَّ كمثل نحّات دون أن يكون له، على هذا، من ادّعاء جوهري إلا تكريم المرأة، وتجميلها.
كان اللقاء مسائيًا إذًا. يصل عادل عبد الصّمد. تُدوِّي ضِحكتُه في المطبخ حيث يتمّ كل شيء. وبعد دقائق، يصل أدونيس، الراقص الكبير. يُقدِّم "لعاشق النساء الكبير" كتُبَه وعليها كلمة الإهداء. عندما يتأثّر عز الدين علايا يبتسم بدافع الخجل. قال لأدونيس : "يُشرّفني استقبالك".
بدأت السهرة. اتّخذ كلٌّ مكانه على طاولة العشاء. حروف A الخمسة جنبًا إلى جنب. في لحظة معينة، يحكي عز الدين علايا اكتشافه، في إحدى صالات العَرض، تمثال رأس امرأة قبطية كان من شأنه أن يلعب دورًا مهمًّا في حياته. رآه في الواجهة، وكان قد مرّ، وكرّر مروره أمام هذه الواجهة، ثم دخل. كان الرأس جزءًا من مجموعة الكونتيسة "غريفول" Greffulhe، خبيرة الأناقة في العصر الجميل. ثمن الرأس المطلوب يتخطّى كثيرًا إمكانات قدرتَه على الشراء حينذاك وهو في بداياته. إلا أنّه اشتراه على كل حال. ما كان ممكنًا أن يحرم نفسه منه. وهكذا، ومن خلال أقساط شهرية، قسطًا وراء قسط، أصبح التمثال مِلكَه.
كنت أعرف القصة، لكنْ لم يسبق أن رأيت تمثال الرأس. عندئذٍ قال عادل عبد الصمد: "يا عز الدين، نريد الآن أن نراه ! هو لنا هذا المساء ! كانت هذه هي المرّة الأولى التي يقبل فيها عز الدين أن يُرينا إياه. فطلب من "كريستوف فون ويه" Christoph von Weyhe، شريكه في الدار، أن يذهب لإحضار التمثال. صعد كريستوف، ثم نزل وبين يديه القاعدة والإطار الزجاجي الذي يحتوي الصورة الثمينة.
أدونيس أوَّل من استطاع رؤية المنحوتة التي وضعها كريستوف بين يدَيه، فغاص بعينيه في تلك العيون المصنوعة من معجون الزجاج التي رأت مصر القديمة. كان يبدو، وهو الشاعر، في هيئة المندهش، يشيع في نظرته تعاطُف عميق. لقد وحّد التمثالُ القلوب. نحن مدينون لحضور أدونيس في رؤية هذه المنحوتة الرائعة، المشهورة والمجهولة. كان متحف اللوفر يبغي اقتناءها. وكنا نُمسكها بأيدينا. بعد انتهاء العشاء، قادنا عز الدين إلى كوّة الزجاجيات، وقاعة المعارِض وعرْض المجموعات. يقول أدونيس: "هذا رائع" وتنتهي السهرة في بهجة اللقاءات.
بعد عدّة أسابيع، تناولنا معًا طعام العشاء من جديد، في المطبخ. جاء أدونيس يحمل رسماً مُزيَّنًا بفنون تخطيط نثَر عليها حبرًا، وقدّمه لعز الدين علايا. فاكتفى عز الدين، المتأثر بعمق، بالقول: "لوحة رائعة". وأضاف "إنها حقًا رائعة". هل عندك غيرها ؟" ردّ أدونيس بالإيجاب. فاقترح عز الدين قائلاً: "ما رأيك لو نعرضها؟" كان أدونيس سعيدًا بالاقتراح. أما عادل عبد الصمد فقدَّم مشاركته.
بدأت المغامرة. سأكون ساعي بريدها. بعد عدّة أسابيع قبل عطلة الصيف، التقيت أدونيس في مقهى، واتفقنا: سوف يُحضّر كل شيء، وسأزوره كي نختار الرُّقم معًا. تحمَّسنا جميعًا.
وهكذا زُرته في نهاية شهر آب/أغسطس. في مكتبه، وسط الكتب الكثيرة، أخرج كراتين وكراريس. وراحت الرسوم تتجمَّع، وتتجمّع. اعتقدت أنه انتهى، لكن كان لديه كلَّ مرة لوحات أخرى، كأنه قرن الخصب الوفير يسكب محتواه الثري دون انقطاع. فنون تخطيط، ورسوم، ورُقم، وأشياء: ينشرها كل مرة فتُشيع جوًّا من الإعجاب. سألني أدونيس، ممازحًا: "هل هذا كافٍ ؟". وما كان هذا ليكفي. كان فريدًا، ومختلفاً. رُبّما هو جديد مستقى في الوقت نفسه من وعي واسع بالتقاليد. لقد كان سحرًا.
سألته: "لكن من أين جاء هذا ؟" فأجابني: "ذات يوم، لم أستطع القراءة والكتابة. لكن كان ينبغي أن تخرج طاقتي الإبداعية. وبالتالي، بدأت بريشتي... لكن لم يُعجبني ما قمت به. فمزّقت كل شيء. ثم أعدتُ الكرَّة. وحينذاك ناسبني العمل. وهكذا أكملت". كنت أرى اللغة تمتدّ وتتغيَّر. أخذني الإعجاب بهذه المقدرة على الابتكار، المتعاظمة على الدوام، ورُبّما الأفضل باستمرار. أرانِيَ الرُّقم شديدة القُرب من السريالية، والمختلفة عنها في آنٍ معًا. أسرني سحرها. فشرعت في رؤية المعرض.
كنت أُمسك الصُّوَر بشغف. وما إن انتهى لقاؤنا حتى سارعت كي أُريها لعز الدين علايا. هو أيضًا أُعجِب بها، وقال: "أنا حقًا سعيد بإقامة هذا المعرض. يجب إبراز أهميّته.
سوف نطبع دليلاً (كاتالوج) بالرُّقم إكرامًا لأدونيس، وبهذه الأعمال التخطيطية بالغة القوة والإيحاء. سيحاول أن يشرحها، وستُشاركه أذهان حرّة في شرحها. ومن جديد، تكّلم معًا كلٌّ من أدونيس، وعادل عبد الصمد، وعز الدين علايا، الذين بدأتْ معهم المغامرة، والذين يرسمون جميعًا، ويُبدعون رُقمًا بمعنى من المعاني. سيكون أدونيس حاضِرًا في المعرض، بصفة مؤلِّفٍ وفنَّان، كما سيظهر، مع كلماته المكتوبة على الرسوم، من خلال الصُّوَر التي أُبدِعَت خِفْية. ولسوف تنطلق بداية جديدة لقصص جميلة. أجل ! كان كلّ شيء في باريس، في الشعر والفنّ، ما يزال ممكنًا في رحاب الجماعة.
Donatien Grauدوناسيان غْرو
ذات مساء من شهر أيلول/سبتمبر، في مطبخ عز الدين علايا من جديد. عشاء حول أدونيس، مع ابنتَيه أرواد ونينار إسبر، وعادل عبد الصمد، وعز الدين علايا بطبيعة الحال مع الُمقرَّبين منه، "كريستوفر فون ويه" و"كارولين فابر _ بازان" . Caroline Fabre-Bazin كانت تُسمَع بشكل متقطّع، تعبيرات الحياة، والاهتمام، وكلاب الدار. دار الحديث حول الشعر، والفنّ، والحياة، وحول الرقائم التي يبتكرها الشعراء.
دوناسيان غرو: كيف خطرت في ذهنك فكرة إبداع صُوَر: الرَّقيمة، والتخطيط ؟
أدونيس: كان هذا محض مصادفة. لدي كثير من الأصدقاء الرسّامين الذين أعمل معهم باستمرار. كان عندي بالتالي ما يُشبه الاستعداد المسبق.
عندي شقة صغيرة أعمل فيها وأكتب. من وقت إلى آخر، تُعييني الكتابة والقراءة. وذات مرّة، راودتني فكرة: "لماذا لا أمنح يديَّ حريّةً ؟" وحاولت أن أبتكِر رقائم .
دوناسيان غرو: لماذا الرقائم تحديدًا ؟
أدونيس: لأنّ الألوان تُثير لي مشكلة. فخلال مدّة تراوحت بين شهرين، وثلاثة أشهر، كوَّنتُ رُقماً وجدت أنها رديئة، فمزّقتها. وفي السنة التالية، استأنفتُ العملية، وأنجزتُ أشياء بسيطة. ومرة زارني في شقّتي الصغيرة صديق فرنسي، رحل عنّا للأسف، هو "ميشيل كامو" Michel Camus، ورأى تلك الرقائم. فسألني: "مَن الذي أبدع هذه الرقائم ؟". أجبتُه: "أبدعها أحد أصدقائي. _ أحد أصدقائك ؟ هل يمكن أن ألتقي به ؟ _ نعم، سوف أكلّمه في غضون أُسبوعَين... "بعد أسبوعَين، طلب مني أخبارًا عن صديقي ! كان يُريد أن يعرِض الرقائم. حينئذٍ قلت له: "إذًا تعال للقاء صديقي !". عندئذٍ جاءني، وسألني عن صديقي الذي لم يحضُر. فأجبته في الحال: "اسمع، أنا الذي ابتكرت هذه الرقائم". بهذه الطريقة، كانت البداية.
حاولت أن أمنح القصيدة شكلاً آخر، وبُعدًا آخر. وأعتقد أن الشعر في تقاليدنا الخاصة، نحن العرب، هو الكلمة. لكن ثمة، في العُمق، شعر في الأشياء، شعر خارق. نحن لا نهتمّ كثيرًا باليدَين. ولهذا السبب حاولت أن أبتكر شِعرًا آخر، وأن أكتب قصائد أخرى خارج الكلمات، وخارج اللغة. لذا لا أعدُّ الرقائم التي ابتكرتها إلا امتدادًا لكتابتي الشعرية.
أظنّ أن المبدعين يعيشون في ما وراء التاريخ، في ما وراء لغتهم، وفي ما وراء جنسياتهم. يعيشون جميعًا ضمن ما يُشبه الغابة. وبالتالي أُحِسُّ أن الشعر العربي جزء من حضوري، من حياتي، ورؤيتي، ومن علاقاتي بالعالَم.
ما لا يندثر أبدًا، ما يدوم على الأيام، إنما هو الإبداع، والشعر، والفن. الفن حاضر أمامنا دومًا. فهنا حيث تجد أن شكلاً فنيًّا يُكوِّن جزءًا من الماضي، تكتشف الدليل على أن هذا الشكل ليس من الفن في شيء. الفنُّ حاضر مستمر، ومستقبل دائم. ولا شيء ماضٍ في الفنّ.
حين تتأمّل منحوتة سومرية تعود إلى أربعة آلاف سنة، وتشعر أنّها تنتمي إلى عصرنا، يتجلّى سرّ الفنّ. إذ يتزامن فيه الماضي، والحاضر، والمستقبل. وحينما تُحاول اليوم، من خلال العمل الفني، أن تفهم العصر الإغريقي، والعصر السومري أو عصر الفراعنة، فلا تُولِ الجانب السياسي أية أهمية على الإطلاق. ذلك أن الجوهري الذي يدوم في نظرنا، إنما هو الإبداع. لأنّ في وسعكَ، بفضل الإبداع، أن تفهم شعبًا، وحضارة، وتاريخًا. وهكذا فالتاريخ جزء من الفن، لا العكس.
عز الدين علايا: أكثر ما يُعجبني، في عمل أدونيس، الكتابة: لأنّ الكتابة رسم. حيث يُشكِّل خطُّه جزءًا من الرقيمة التي يبتكرها، ويمنحها اندماجه في الرَّقائم أهمية خاصة.
عادل عبد الصمد: أودّ أن أمضي في اتجاه صديقي أدونيس حين يتحدث عن فن الرقيمة أو الكلمات... إذ كتب لي في الرسالة المنشورة في كتاب الـ AA (Livre des AA) : "صديقك فلاح يحرث الأرض". وأنا متّفق معك على أن الرقائم، وهذه الكلمات، والقصائد، إنما هي مواد إبداع بين يديك كي يمضي صوب الشعر. ثمة مُخرِج كان يقول: "عندما لا أتمكن من صُنع مشهد، أُنجِز بعض الرسوم". وثمة، عند أدونيس، هذا الشيء بالِغ القوة من معدّات الصُّنع، من المادة.
ربّما هناك، في تلك اللحظة، فضاء فارغ، من نار، ومن لهب، وأنت تُعيد تركيبه بيدَيك، وحركاتك. كان "هنري ميشو" Henri Michaux يستخدم قصائده، وكلماته، بغية الانطلاق نحو الصورة. يتناول المخدِّرات حتى يصل إلى هذه الصور من الوَجْد، إلى هذه الأشياء التي هي صُوَره الخاصة. عندما أقرأ قصائدك، ورسائلك، أو بياناتك، أرى أنك تتحدّث عن بعض الأشياء كأنك تتحدث عن الجنون، والموت، عن الوحدة، والمنفى، والهوية، وعن الهجرة. غير أني لا أجد هذا في رقائمك.
لهذا السبب أقول إنها مواد صُنعٍ لابتكار شيء لم يخرج بعد. هذا بالِغ الأهمية: كان ميشو ينطلق من الكلمة كي يُخفي الكلمة إخفاء تامًا، وأنت، بالانطلاق من هذه المادة، تُحاوِل أن تُدرِج هذه المادة في الكلمات.
عندما أرسم، أقوم بفعل. والرسوم، في نظري، لوحات، لكن بوسائل مُختزَلة.
الرسم سِمَة. وحين نأخذ، على سبيل المثال، مغارة "لاسكو"، نجد أن هؤلاء الفنّانين كانوا يرسمون ثورًا أمريكيًا (بيزون)، وإنسانًا يرتدي جِلْد دُبّ، للدلالة على أنهم يتركون أثرَهم في أرضهم.
دوناسيان غرو: يبدو أنَّ ثمة اختلافًا جوهريًا بين نشاطيكما: أنت ترسم، وأدونيس يبتكر رُقمًا. تتكوَّن الرقائم عند أدونيس انطلاقاً من عناصر مستقاة من الحياة اليومية.
عز الدين علايا: لليومي في أيامنا أهمية مختلفة تمامًا: ورُبّما هنا مصدر ما يقوم به أدونيس.
أرواد إسبر: حتى إن هذا ليس من الحياة اليومية، بل من المتروك. هو تقريبًا الشيء المُهمَل الذي نلمُّه عن الأرض.
أدونيس: الأشياء العظيمة معروفة ومشهورة، أمّا اللاشيء، أي عديم القيمة، كالورقة، والحصاة، مما هو غير نافع، مما لا يُساوي شيئًا، فأنت تمنحه مكانًا، حين تخلق علاقة بين العناصر.
حدثتْ، في تاريخنا العربي، ثورة شعرية كبيرة: والحقّ أن الشعراء أهملوا الحديث عن القضايا الكبرى، والمشكلات الجسيمة، وأهملوا الحديث عن المجد ... شرعوا يتحدّثون عن النبيذ، والشمعة، وعن زجاجة، عن الكرسي والحياة اليومية. رفض الذهن الكلاسيكي، القرآني، هذه النزعة وسمّى ذلك انحطاطًا. كان ما بدا لهم انحطاطًا، بدايةً حقيقية، وثورة استثنائية تستمرّ حتى الآن. إذًا، الكلام عمّا لا يُساوي شيئًا أو مَنْحُ ما لا يُساوي شيئًا قيمةً، يُمثّل ثورة في الكلِمة، ومتى ؟ في القرن الثامن. أي قبل ألف عام من بودلير.
إن إبداعي استمرار لهذا التاريخ العربي: لا أقوم به بالكلمات وحسب، بل أحاول أن أصنعه بالأشياء أيضًا.
دوناسيان غرو: ثمة رابط بين عديم النفع، وعديم القيمة، والشيء غير المرغوب فيه. كيف يحصل هذا ؟ لأنّ المقصود ليس فقط الأشياء عديمة القيمة، فما تُعيد استعمالَه إنما هي أشياء مُهملة، وغير مرغوبة، ومطروحة جانبًا.
أدونيس: الأساسي هو العلاقة، هو حقيقة أن تُبدِع علاقات بين أشياء عديمة النفع. هذه العلاقة هي التي تُغيِّر علاقتنا الخاصة.
عادل عبد الصمد: ثمة، في شِعْركَ، موضوعات نستعيدها: الجنون، وموت الله، والمسائل الوجودية، والوجد، الخ. بينما لا نرى ذلك في الرقائم.
عز الذين عليا: أظنّ أن هناك حضورًا. لكنه ليس مرئيًا مباشرة.
أدونيس: حاولت أن أُجسد هذه الموضوعات أو أن أُمثِّلها، غير أن من الصعب عدم الوقوع في التصويري، الشارح بإفراط. وحينئذٍ يصير هذا شيئًا عاديّاً.
نينار إسبر: ليست القوة غائبة عن الرسوم. أكيد أنها ليست ظاهرة. فحقيقة أن تُحاول العاطفة فعل شيء، وتُقرِّر أنه لم يُوفَّق، فتُمزِّقه، تُمثِّل في نظري العنف الذي يتحدّث عنه في القصائد، كما تمثّل الموت، والمنفى. إن هذا تمزق وتصدُّع، والاثنان معًا. أما العُنف فيكمُن في هذا الفعل الهادف إلى صنع شيء، واكتشاف أنه ليس جيدًا، وليس على المستوى المطلوب، ويكمن كذلك في فعل تحطيمه. إذ إنه قام هنا بحدث شديد القوّة، بحالة من الكفّ عن الحُبّ، ومن العنف. هذه البادرة هي موت الله، هي المنفى. ويكفي، لكي توجَد، أن تُحكى في مكان لا على التعيين، ويكفي لوجود هذه البادرة أن يكون قد عاشها.
دوناسيان غرو: مسألة الحب والكفّ عن الحُبّ مسألة مركزية: نجدها أيضًا في أعمالك الفنية المرئية. أقصد الشعور بمحبة الأشياء، والمواد.
أدونيس: عندي مشكلة مع الألوان، ومع فن الرسم. الأمر مختلف عن الحبر. الحبر يسيل، وهو سائل خالص: هو ماء، أقرب إلى الطبيعة. أما في فن الرسم فينبغي خوض حرب بغية النجاح في التعبير عن شيء. وأما الرسوم، وقلم الرصاص، والحبر الصيني فأقرب إلى الاندفاع الطبيعي: هي دعوة للتعبير عن الطبيعة، بشكل طبيعي، ولرؤية الطبيعة بحرية، في الطبيعة.
عز الدين علايا: هذا أقرب إلى الكتابة بشكل خاص _ وبالتالي هذه كتابة الطبيعة...
عادل عبد الصمد: اللون تحرير. والرسم سبيل إلى السجن. إنما نحبِس أنفسنا مع الرسم: نرسم خطوطًا، ونخلق بنى، على حين أن اللون هو السماء حيث بإمكانك أن تطير.
أدونيس: أنا لا أقصد اللون بوصفه لونًا، بل أقصد أن أقول: مادة فنّ الرسم هي التي تُضايقني. فثمة جانب الصُّنْع، والعقَبة أمام الاندفاع.
عادل عبد الصمد: للَّمْسة اللَّونية معنى. وأنت إنما تُؤكّد في الرسم، الأفق الذي تتحدّث عنه في شعرك، بكلماتك، وتُحيط به. ولديك، في اللوحة، خلفية، ومخطّط، وإطار. لكن كيف نؤكِّد أُفقًا في لوحة ؟ لا خلاف على وجود المنظر، لكن ما العمل اللاحق ؟ الأفق هو الخلفية. ثُمّ يحدث كل شيء بالقياس إلى المادة التي تتحدّث عنها، وإلى اللون من حيث هو، في وقت واحد، مادة وحركة، وفعلٌ في ذاته. ثمة هذا التحويل الذي يحصل لجسدك، مع جلدك.
عز الدين علايا: أظنّ أنهما شيئان مختلفان: لا يحتاج أدونيس، في كتابته، إلى الألوان. فهي ليست مُلحّة إلحاحًا مباشرًا. بل تتضمَّنها كتابته.
أدونيس: عندما أرى عمَل عادل، أشعر أنه أقرب إلى الرسم منه إلى التصوير الزيتي، أي إلى عجينة اللون.
عادل عبد الصمد: في الحقيقة، كنت فنّانًا تشكيليًا، ثم تحفّظت. كنت أنام في الصالون عند بعض الأصدقاء. حين وصلت إليه، لم يكن معي شيء، لا ورق، ولا شيء. وصلت ضمن شروط لا تسمح لي بأن أرسم كما كنت أُريد. وشيئًا فشيئًا، ابتعدت عن التصوير الزيتي، عن المادة إن شئت. كان الرسم في البداية فنّاً تصويريًا بوسائل قليلة.
لديَّ في الوقت نفسه عينٌ ترسم. حتى حين أصنع أشياء، أرسم. أبحث مع الرسم عن فورية الصورة. فأنا فنّانُ أفعال. والرسم في نظري فعل قائم في ذاته.
أدونيس: أجل، هذا أقرب إلى طبيعتك، إلى نَفْحتِك.
عادل عبد الصَّمد: في الرسم، لا آخذ صِبْغًا أو علبة دهان أسكبها. إنما المسألة عندي هي مسألة الفعل.
دوناسيان غرو: بإمكاننا أن نرى في رسومك، يا أدونيس، أفعالاً: أفعال حُبّ، وحالات الكآبة.
أدونيس: لا أعرف. لديّ انطباع بأن ما أقوم به على أنه رُقم، وحبر صيني، إنما هو لا وعيي. إنه الذاكرة، والماضي، والتاريخ، والأسطورة. أما ما أصنعه في الشعر فهو الشمول، أي الوعي واللاوعي. إذ ليس أيُّ رسم، وأي لصق بعملٍ مُنتهٍ، بل هو دومًا مفتوح، وغير ناجز. هذا مجرَّد انطباع عندي. لاشيء يكتمل إنجازه. ومن الجميل أن يكون هكذا.
عادل عبد الصمد: أعتقد أن هذا صحيح تمامًا. القصائد، في نظري، هي غاية أدونيس، ففيها يتكلَّم. أما الرسوم فتُرافِق القصيدة. وأنا من جانبي إنما أغدو الوسيط الروحي لرسومي. هاهنا الاختلاف الأكبر: الرسم يقود إلى الرسم.
أدونيس شاعر الأعماق: لديه مفتاح الأشياء الخفيّة.
أدونيس: وعن طريق الممارسة، اكتشفت أهمية المصادفة واللَّعِب. فنحن لا نستطيع تحقيق ذلك بالكلمات.
عادل عبد الصمد: تمتلك الكلمة وجودًا خفيًّا في اللغة الغربية.
أدونيس: حتى في الغرب، النصيب العائد إلى المصادفة، بالمعنى الفني للكلمة، نادر جدًا. الدليل على ذلك: ليس هناك شعراء سرياليون كبار. وحتى مُنظِّرو السريالية لم يكونوا شعراءَ كبارًا. بينما نجد في مجال فنّ الرسم والنحت كثيًرا من الفنانين الكبار. وعليه فإن أهمية المصادفة واللعب تنتمي إلى إبداع الصُّوَر أكثر من انتمائها إلى القصيدة.
عادل عبد الصمد: عندما ذهب آندريه بروتون إلى مغارة "لاسكو"، قال، بعد عودته، إن رسومها مُزيَّفة. يبدو أن الهواء دخل عندما فُتِح الكهف، فأفسد الرسوم. مما جعل بروتون يستنتج من هذا أنها زائفة.
أدونيس: في فنّ الرسم، يكاد الشكل لا يكون موجودًا. يُعجبني بيكاسو من حيث هو مُبدِع أشكال، لا بوصفه رسّامًا. هو مُبِدِع أشكالٍ عظيم: هذه هي طبيعة فنّه. إنها في ما وراء فن الرسم، وفي مكان آخر غير فنّ الرسم.
عادل عبد الصمد: أجل، الشكل موجود. ولا يمكن أن نفصل الشكل عن الرسم. ولو أخذنا فنّانًا مثل "باولو اوتشيللو" Paolo Uccello : فهو، في معركة "صان رومانو"، يتلذّذ بتشويش نظرتنا. إذ يرسم حصانًا باللون الرمادي، والأزرق. والواقع أنه يُشوِّش نظرتنا باستخدام الألوان، والخطوط، والهندسة: الأجساد والأسلحة. فلا نعود نعلم شيئًا. هذا فنان التشويش الذي تتشابك أشكاله.
يصعب، في نظري، أن نقول إن الشكل غير موجود في فن الرسم. يتصل الأمر بالشكل، ويتصل بالبُنى. ويتصل بمعمارية معيّنة. إذا أخذتَ، على سبيل المثال، لوحات "غرونوولد" Grünewald، فسوف تجِد المسيح، وتجِدَ إصبعًا، وكأسًا مليئة بالنبيذ، و تجِد الدم، والحمَل، وحيوانات، وبراثن، وأنواعًا من الوحوش الخرافية، وجلودًا، وأمواتًا. إذًا، أظنّ أن الشكل موجود دومًا. ودائمًا ما ترتبط الصورة بشكل، ولا يمكن أن تكون معزولة عن الأشكال.
ينطبق هذا حتى على الشيء الصَّنمي كأشياء "دوشان" Duchamp. فممارسة الرسم واسعة عريضة، لأنّ الصيني، حين يُبدع تخطيطًا، يقول إنه يرسم. لدى الصينيين رِيَشٌ ضخمة يستخدمونها مع كامل جسدهم. وبغية الوصول إلى أماكن عصية على البلوغ، نصبوا صقالة شبيهة بصقالة كنيسة سيستينا. فالمواد، وتاريخ الأصباغ، واللصق... ومواد الصنع التي عُثِر عليها، واستُعيدَت، وأُعيد تدويرها... ذلك كلّه يؤدي إلى تكوُّن أشكال. فالإشارة مع كلامها هي التي تبقى. وهذا هو الهدف: لمس شيء يتعذَّر بلوغه. بهذا المعنى، لُغز ورقة بائسة مع لفتة بائسة، يكشف العالَم. وهنا مَكْمَنُ كلِّ شيء.
الحقيقة في قصائدك تُبلبلني، وتُقلقني: أودّ أن تُحدّثني عنها أكثر قليلاً من خلال رُقمك.
أدونيس: أعترف أنّ حالتي إشكالية. فأنا لست رسّامًا، ولا أعُدّ نفسي رسّامًا ولا تشكيليًا.
عادل عبد الصمد: أنت نحّات اللغة. ولغتك تتراءى كذلك في رقائمك.
دوناسيان غرو: ثمة، في العمل المرئي عند أدونيس، ردة فعل مباشرة على الواقع، وعلى عناصر العالَم. فما يوجد على رُقمك إنما هي مختلف عناصر عالَمك. كنتَ تتحدَّث عن النصوص، وعن القصائد التي تستأنفها: القصائد مُغطاة بالحبر، وبالأشياء، والرقائم، وكأنَّ كلَّ شيء في الخلفية على المستوى نفسه، وكأنَّ كلَّ شيء يتضافر معًا. حيث تتماشى معًا نصوص الأمام، والعناصر المتروكة هنا وهناك، والألوان، والحبر. القصائد تشبه الأشياء، والمواد التي تتساوى مع الباقي. هل توافق على ما أقول ؟
أدونيس: القصائد التي أُعيد استخدامها هي الهامّة اليوم. وتلك التي أُظهرها كافة لشعراء آخرين. ابتكرتُ رسومًا مع قصائدي، غير أنّني لا أُظهرها.
أرواد إسبر: أليس ثمة في الرقائم شيء يأتي من بيئتك، من تربيتك الأولى، أعني أنّ كلّ شيء، في العالم، وفي الطبيعة، إلهي، ويصدر عن الألوهية ؟ ولئن كانت الألوهية في كلّ مكان، نكِفّ عن أن نكون ضمن منظومة هرميّة.
أدونيس: لا بُدّ أن يكون في هذه الصور، بشكل غير واع، شيء من الطفولة. وفي اللعب خاصة، في فكرة تَرْك اليدين تعملان. حين كان عمري اثنتي عشرة سنة، لم أكن أعرف المدرسة. حرثتُ الأرض، وحصدتُ الزرع، وبذرتُ الحَبّ، وغرستُ أشجارًا. في ما بعد، ذهبتُ إلى المدرسة. كانت مدرسة البعثة الفرنسية العلمانية بطرطوس آخر مدرسة فرنسية في سورية. درستُ فيها سنة ونصف السنة. وكنت أُحِبّ كثيرًا أن أعمل بيديَّ. رُبّما، وهذا صحيح، أستعيد هذا الإحساس مع الرقائم. أعني الإحساس بِدَعْك التربة، بِدَعْك المادة.
دوناسيان غرو: هل الرسم شبيه بطريقة عملك بيديك ؟
أدونيس: هذه علاقة مباشرة مع الجسد، علاقة مباشرة مع الحياة اليومية، وبالتالي علاقة مباشرة مع اللاوعي. ولا علاقة لشعري بهذا. كل شيء يتكامل. شعري نيتشويّ، وفاوستي، يريد أن يقلب العالَم. وأنا كمثل إله في الشعر. إله لا يعلم شيئًا. وأنا كمثل فلاّحٍ في رُقمي. ومع ذلك، أستعيد إحساسات طفولتي.
يخال المرء أنني أبتكر الرقائم كي أُعوِّض طفولتي. لقد فقدتُ طفولتي، ولم أعرف الطفولة أبدًا: وُلِدتُ رجُلاً. وثمة، في حقيقة أنني وُلِدت رجُلاً، ما يُشبه إنجازًا مباشرًا. ومع هذه الرسوم، أسترجع عدم الاكتمال، وإمكانية عدم الاكتمال. ورُبَّما كَمَنَ هنا سِرُّ الطفولة. الشعور بعدم الاكتمال، وبأنَّ هذا كافٍ.
دوناسيان غرو: ثمة، في طريقة كونكَ شاعرًا، فيض مستمرّ، ومقدرة على إنتاج الفيض، فيض القصائد الملحميّة. أنت البارع المُطلَق في الشعر. كما لو أنّ هذا المجال المرئي كان أيضًا آخرَ مجهولاً.
نينار إسبر: ومن ثَمَّ يكتسب هذا أهميته الفائقة، ومن ثَمّ سبب تَعرُّضه للخطر.
عادل عبد الصمد: الشعر في خطر.
نينار إسبر: خطر آخر. تمكُّن أدونيس من اللغة.
أدونيس: أُحِبّ كثيرًا ما يفعله عادل لأنّه يمتلك نوعًا من الانتهاك الاستثنائي الذي لا أستطيع ممارسته في عملي. ونحن في حاجة إلى هذا. وعادل لا يأتي من الماضي. أما أنا فآتٍ من الماضي، ولكنّ عادل لا علاقة له بالماضي. إنَّما وطنُه اللحظةُ الحاضرة.
ثمة موادّ يقوم جوهرها على تشويش تقاطيع أيّ شيء. فهي، فوق كونها جزءًا من مادة معزولة داخل أبعادها، قوّة بالفعل تجذب الأشياء كلها إلى النطاق نفسه، وتُجبِر العناصر والأشكال المحيطة على أن تترابط وفقًا لِعلاقات جديدة. لا تستسلم لاختزالها إلى شبح: مثلما أن قوة المغنطيس تمتد حتى حدود حقل جاذبيتها، وتلتصق بالتالي بكل ما يمكن من المعادن، كذلك لا تُعرَّف هذه المواد المتناقضة من خلال شكل متميّز، بل بالأحرى من خلال التحوُّل الذي تفرضه على الأشياء الدائرة في فلك تأثيرها.
أشكال الحبر في الرّقائم عند أدونيس مواد من هذه الطبيعة. فهي ليست محاولات شاعر جليل يتمرّن على فنّ غريب عن فنّه. لأن في هذه الرّقائم كثيرًا من المُقطِّرات التي يخضع فيها الشعر نفسه لعملية تحوُّل جذرية. حيث إنّ الشعر المُمارَس، ضمن النطاق المستطيل لهذه الأوراق، في ما وراء وسائله، "خارج الكلمات، وخارج اللغة" ، يفقد وجهه المعتاد، ويغدو وهجًا من توتُّرٍ لا يمكن أن نراه بالعين المجرَّدة. كلّ رقيمة من هذه الرّقائم، وكل حبرٍ فيها مغنطيس روحي يُجبِر المادةَ والدلالة، الكلمةَ والصورة، الرمزَ اللغويّ والزخرفةَ المرئية على تعريف حقلٍ مغنطيسي من التأثير المتبادَل. إذ تكفُّ الخطوط، والبُقَع، والكلمات عن أن تكون هي ذاتها، وتُلقي طبائعها كما تُلقى أقنعة بالية، وتتحوّل إلى تدفُّقٍ، وخطوطِ توتُّر، وتكثُّفِ مجرى يُحيي جُملةَ ما في العالَم من أشياء.
بهذا المعنى، لا تُظهِر هذه الرّقائم تمرُّنَ الفنّان على نظام جمالي آخر: بل تدفع الفنَّ الشعري إلى ما وراء أية هوية يمكن اكتشافها. وكأنما الشعر يحتاج، كي يفهم ذاتَه، إلى أن يُهاجِر في دُكنةِ ما يجعله ممكنًا، في سواد الحبر، وضوء الورقة الخافت. ليست هذه الرّقائم روائعَ فنٍّ لا يملِك بعدُ اسمًا. بل هي أيضًا، وبوجه خاص، وثائق، وبرقيات عن هذا السفر في عمق القصيدة، هي خرائط ثمينة للنزول نحو أعماق كلّ صفحة مكتوبة باليد.
2.
من المُمكِن القول إن فنَّ أدونيس يتّخذ في هذه الرّقائم مظهرًا جيولوجيًا: لم يعد الأمر متصلاً بتركيب كلمات في لحن القصيدة، بل بالتساؤل عن وجودها الفيزيائي، وعن الامتداد على المادة التي تُكوِّنها، أي الحبر والورق. لكن هذا النزول إلى جحيم القصيدة يُغيِّر هيئة هذه الجواهر الفردة الأساسية وغايتها. إذ تكفّ الورقة عن أن تكون دعامة مادية وعارضة تمثيل أو تدوين: بل هي الفضاء الذي تنطمس فيه الحدود كافة، حيث يُصبح بياض الصفحة قوةً فعّالة من محوِ حدود الأشياء وتضاعيفها.
إنها أولاً، وخصوصًا، محو الحدّ الذي يفصل فنًّا عن فنٍّ آخر. قد يبدو للوهلة الأولى أن المقصود إجراءٌ مُعتاد. فانطلاقًا من القصائد التشكيلية عند "سيمياس رودس" Simias de Rhodes حتى قصائد "فونانس فورتينا" Venance Fortunat أو "رابان مور" Raban Maur (الشكل 1)، ومن فن الخط الإسلامي حتى شعر الطليعيين التخطيطي، ومن القصائد التشكيلية عند أبولينير أو من طريقة الطباعة عند مالارميه حتى الشعر المرئي عند المستقبليين الإيطاليين ، تكاثرت محاولات صهر الفضائي الصوتي في فضاء مرئي خالص. إذ تُصبح الكتابة في هذه المحاولات فنًّا من الفنون المرئية، وعلى العكس، ما يوضَع على المِحَكّ إنّما هي قراءة المرئي المُتماثل مباشرة مع الرموز، كما توجد في لغة من اللغات. قد يتولّد هذا التعادل بتطبيق طرائق شديدة الاختلاف. يُمكن أن نتصرّف بالكتابة ونُشدّد على المظهر التخطيطي للحروف، حتى نجعل تمييزه مستحيلاً: حينئذٍ تنصهر الصورة والحرف، لأن الحرف تنازل للرسم وللصورة بشكل كامل عن "حقوقه في الصورة". الألفاظ تتكلّم، لكن من خلال شكلها المرئي، ومن خلال ألوانها، من خلال حيوية تركيبها، التخطيطية الخالصة، أكثر مما تتكلّم بدلالتها. فالحروف توجد قبل كل شيء بوصفها صُوَرًا: ويصبح المدلول الكيْفي المرتبط، في كل حرف، بالرمز، منيعًا، ويبدو الرسم التخطيطي مُنزلِقًا صوب شكلٍ زخرفي بحت. هذه هي حال فنِّ الخط، وخصوصًا في التقليد العربي: فلنُفكِّر باسم علي المُتضمَّن في لوحة إيرانية مشهورة من القرن الخامس عشر، محفوظة في متحف "توبكابّي" في اسطنبول (الشكل 2)، حيث تُفكَّك عِصِيُّ الحروف التي تُكوِّن الكلمات، وركائزها، وقواعدها، ونقاطها، ويُعاد تركيبها وفق ذوق هندسي . غير أننا سنُخطئ إذا اختزلنا هذه النزعة إلى تقليد فن خطّ خاص أو إلى ثقافة محدودة تاريخيًا وجغرافيًا. ويكفي لملاحظة ذلك أن نذكر كامل الجهد الذي بذله فنّ التصميم المعاصر في إبداع هذه المجموعة الرمزية الامبريالية المعاصرة التي هي الشعارات. تستأنف هذه الأيقنة المحلية طريقة نموذجية للطليعيين: ليست كلمة أو سلسلة حروف مُتقنة، ومُحوَّلة إلى زخرفة، بل تؤخَذ وتُعالَج بوصفها صورة، دون الاكتراث بمظهرها المرئي. الشِّعارُ الأبجدي مثال الكتابة التي تغدو صورة خالصة، وتكفّ عن أن تدلَّ على شيء: تتحوّل الحروف والكلمات، في كلِّ شِعار، إلى مقطعٍ وصفي، وإلى نوع من الوسيط بين الرمز الكتابي والصورة الإيمائية الصِّرف. وبهذا المعنى، ليس جهد تحويل كلمة إلى صورة همّاً مرتبطًا بحضور فن الخط. فهذا عنصر كلّي الحضور في ثقافتنا، في هذه الحالات كلها. فإذا أمكن، كما أوحى "أوليغ غرابار" Oleg Grabar، تقريب القصيدة التشكيلية لـ "توبكابي" Topkap من لوحة مشهورة لـ "بييت موندريان" Piet Mondrian (الشكل 3) أو من لوحات "فرانك ستيلّلا" Frank Stella، فسيكون هذا، من بين لوحات أخرى، مجموعة "دو ستيجل" De Stijl الذي حوّل الرّقائم النصية إلى لوحات تكعيبية (الشكل 4)، وعنوان مجلة مؤلّفة من فن تجريدي تتفكّك فيه الكلمات، وتتسلسل الحروف على السطح متبعة قواعد هندسية بحتة (الشكل 5).
يبدو تقليد الطليعية والرسومات المعاصرة، بمعنى معيّن، أنه انضمّ إلى الأسطورة التي تبغي أن يكون شكلُ الكتابةِ الرمزية شكلَ الكتابةِ الأصلي. هذا الوهم الذي راود الثقافة الأوروبية من هيروغليفيات "هورابولون" Horapollon حتى السيرة الذاتية المرئية لـ "اوتّو نوراث" Otto Neurath، يدفع إلى التفكير في أن الوحدة بين الكلمة والصورة متعالية، وقديمة، وأصلية. وكي نقول مع أحد آباء حركة الفنون والحِرَف الإنكليزية، "والتر كران" Walter Crane، "ليست الكتابة سوى شكل مُبسَّط من الرسم". فحين نخُطّ حروفًا على سطح يعني دومًا أننا نرسم، ونمارس فنًّا، لأنّ توافق الصورة والكلمة قد يبدو، في هذا التقليد، تناغُمًا مُعَدًّا قبْلاً.
لكنّ ثمة أيضًا سبُلاً أخرى لتصوُّر الانصهار بين اللغة والصورة، وممارسة هذا الانصهار. لَكأنَّ الحرف الكتابي المرئي مكبوت في التقليد الطباعي الأكثر كلاسيكية. "يُقرأ الحرف الكتابي، كما يكتب "جان تشيكولد" Jan Tschichold، بالاطِّراد مع قلة ابتعاد الأشكال الأساسية عن الأشكال التي سبق استخدامها منذ عدّة أجيال" . وهذا كما لو أن كلّ حرف يجب أن يكبت حقيقة كونه شكلاً أكثر منه دلالة. إذ سيكون هدف أي حرف طباعي، بدايةً، أن يكون، على نحوٍ مّا، غير مرئي. وكأن الحرف ليس إلا صورة لا تعرف أن تكون ذاتَها. وكأنّ على أي حرف، كي يبقى حرفًا دالاًّ على طريقة اللغة، أن يتحرَّر من صفاته المرئية، ويُصبح عصيًّا على الإدراك، وينسى أصوله المحسوسة والإيقونية.
قد تكون أهميةُ مرورِ العلاقة عبر النسيان أو عبر الذكرى أهميةً ثانوية: يبدو أن ما يربط دومًا بين الصورة والكتابة علاقةٌ قديمة، أي شكلُ هويةٍ أو رابطةِ دم يمكن نسيانها أو ينبغي تذكُّرها. إذًا سنكون مخطئين لو رأينا في عمل أدونيس مجرَّد استئناف بارع لممارسات فن الخط الإسلامية القديمة: رهانات عمله أعمق من هاجس إنقاذ تقليد قديم.
لئن مالت الأحبار والرّقائم إلى محو الحدود بين الفنون (وبالضبط الحدود بين الشعر، والتخطيط، أو بين الكتابة، وفن الرسم)، فهذا أيضًا بالمعنى الذي تأتي فيه هذه الصفحات كي تشغل وتُشوِّش الفضاء الذي تشغله عادة فنون أخرى: ليس فقط التصوير الزيتي، والرسم أو فن الخط، بل كامل تقليد قراءة النصوص القديمة وتطوّراته الأكثر تقدّمًا أيضًا، كطريقة الطباعة، والرسومات الحاسوبية. ذلك أن مساءلة العلاقات بين الصورة والكلمة، بين الكتابة والشكل، أو إعادة تكوينها، لا تعني التساؤل عن شروط إمكانية الفن وحسب، بل كذلك عن طبيعةِ فضاءِ التواصل والتقارب بين البشر الذي تتشكل في داخله، بالإضافة إلى موضوعات الفن، لغةٌ كاملة، وتعبير حسّي كامل. وإذ يُشكّل أدونيس القصائد بالأحبار والرّقائم، يبدو أنه يفرض على الشعر أن يتحرّى، داخل جسده ذاته، كطبيعة عُمر هذا الاتفاق الذي يُفترَض أنه كان موجودًا دومًا.
3.
يُمجِّد تقليد القصائد التشكيلية، في العالم الإسلامي كما في الثقافة الغربية، الاتحاد الصوفي بين الكلمة والصورة (الشكل 6). لا يعود ذلك فقط إلى أن الحروف ليست سوى صوَر، لكن إلى أنّ تركيب الحروف والكلمات لا يمكن إلا أن يُنتج، على الصعيد الفيزيائي، صُوَرًا، ويُضاعِف، بشكل مرئي ومحسوس، الصورةَ التي على الحرف، بوصفه علامة غير إيمائية، أن يقتصر على استحضارها. إذ ليست قصيدة تشكيلية إلا دليلاً على طابع الكتابة الأبجدية الإيقوني غير الإرادي، والعفوي، وغير الواعي حتماً.
سيصعُب تخيُّل أنموذج أكثر بُعدًا عن أحبار أدونيس ورُقمه (الشكل 7). لا شيء يحمل على التفكير في التناغُم والتواؤم. بل على العكس، ينفتح هنا، على ما يبدو، اختلاف لا حلّ له. حيث يبدو الشعر والفن المرئي، في هذه المستطيلات من السيلولوز، مُنطلقَين في تحَدٍّ من التقويض المُتبادَل. القصائد مُجمَّلة وكأنها مصوّرة وهي تدخل وتخرج من بُعد آخر. لم يُلتفَت إلى أي انصهار متناغم: يتقابل الحرف والصورة كأنما في جو من الحذَر، وسوء التفاهُم المُتبادَل. الأحبار المشار إليها هي فلَك هذا الغموض، وتجسيد توازنٍ غير ثابت بين رسم أثر الكلام النقي والواضح، وامتداد الشكل، القاتم. لم يعُد الأمر أمر المواجهة السلميّة التي تعوّد الحرف والصورة على القيام بعبئها في جهاز تناغُمهما التقليدي الذي هو الكتاب: لم يعُد النص شرحًا أو تفسيرًا للصورة، وليس الشكل الذي يبرز على الصفحة تمثيلاً نموذجيًا للرمز الأبجدي (الشكل 8). كما أن صدور الكتاب ليس مجازياً وحسب: هذه الأحبار، والرّقائم ليست فقط قصائد خارج إطار الكلمات، بل هي بوجه خاص قصائد خارج الكتاب. لم تَعُد القصيدة تقطن بامتياز الفضاء الذي كان يُؤويها خلال قرون، بل تشغل الآن ميدان معركة ضيّق، يبدو أنّه، كما يُمكِن أن يكون اللاوعي، خارج الزمن.
تَنجم كل صورة هنا، خلافًا لما كان يحدث في الكتاب، عن جُهد في إعادة امتلاك الفضاء الذي تستعمره الكلمات، كما لو أن اليدَين كانتا قد ابْتغتا قِتالَ الشعر من خلال فن الرسم (الشكل 9). أما الكلمات، من جانبها، فتهجم غالبًا على أطراف الصورة، كأنما كي تدخل في جسدها، أو كي تُحاول الخروج منه، كما لو أن الكلام فيروس التشكيل التصويري. هكذا كان تقليد فن الخط الصيني يقوم على صياغة مشهورة عن التعادل بين الكتابة وجسد الإنسان كما يكتب "سو شي" Su Shi: "على الكتابة أن تكتسب سحنة، وطاقة، وهيكلاً عظميًا، ولحمًا، ودَمًا يجري في شرايينها". الكتابة، عند أدونيس، لا تُعيد إنتاج الشكل والبنية التشريحية لجسد الإنسان: بل تُمثِّل المرض. إذ تغدو الكلمات مرض الصورة، وبالمستوى نفسه، ستبدو الصورة، في بعض القِطَع، ورمَ الكلمات، والعدوى السرطانية لجسدها التخطيطي.
تأخذ الرقيمة بالمنطق ذاته (الشكل 10). لم تَعُد هذه هي التقنية التي استخدمها بيكاسو وطليعيُّو القرن العشرين كي يُبدعوا ما كانت "روزاليند كروس" Rosalind Krauss تدعوه "ما وراء اللغة المرئية" . ولم يعُد الأمر مُتصلاً أيضًا بـ"إثارة" الوهم المرئي بالحضور المكاني" ، ولم يعُد مرتبطًا، كما في التقليد السريالي، باستحضار اليومي والمُبتذَل لتوليد المُشوَّه أو تحريض غير المُتوقَّع. إذ ينبغي أن تُولِّد فنون الرقيمة شكلاً على حساب الكتابة، غالبًا بإخفائها، أو توليدها في إهمال رسالتها، الأكثر جلالاً. فأي رقيمة، على الجملة، إنما هي استمرار للحرب بين البقعة والكتابة، بين الصورة والحروف، لكنها أيضًا المحاولة غير المُجْدِيَة للصورة كي تُبدي غيريةَ نسَبها: كما لو أن الإيقونة تحلم، من خلال الرقيمة، بأن تعرِف بشكل نهائي، وأصلي، أنها غير الكتابة. وكأنها لا تُثبت فقط من خلال هذه المواربة، أن الكتابة ليست، ولن تكون أبدًا قادرة على توليد شكل (على الرغم من جهود فن الخط قاطبة)، بل كأنها تُثبت أيضًا، وعلى نحو خاص، أنها، كي تُولِّد صورة، تلزمها وسائل أخرى غير مواد الكتابة، غير الورقة والحبر.
4.
الأحبار والرّقائم عند أدونيس "مُضادة لفن الخط" بعمق، و"مضادة للكتابة الرمزية"، و"مضادة لطرائق الطباعة". إنها ما يُمكِن أن ندعوه، ونحن نعكِس اللفظ المُستحدَث لأبولينير، "القصيدة التشكيلية المُضادّة". إذًا لماذا قرّر الشاعر أن يخلق مسافة بينه وبين هذه التقاليد النبيلة والقديمة للغاية ؟ ولماذا وصل أعظم شاعر عربي على قيد الحياة إلى مناقضة نتائج تقليده الخاصة ؟ ومن أين تأتي، على نحو خاص، حرب العمالقة هذه ؟ ما جذورها ؟ سيكون من السذاجة تصوُّر أن المقصود خيار جمالي شخصي خالص خاصّ بالمؤلِّف: رهانات هذا الصراع أهم بكثير من أن تُشكّل مجرّد نزوة فنّان. لكن الخصومة، بشكل خاص، أقدم بكثير مما يمكن أن نُخمِّن. هي قديمة، ولكنها موجودة خصوصًا في كل مكان. لأن الكلمة والصورة تتحاربان منذ القِدَم، على الرغم من جهود كل تقليد في فن الخط، والطباعة، والأيقنة. هجوم الكلمات على الصورة، ووضوح الرؤية الذي تُعيد هذه الأحبار توليده في برنامج عمل أيِّ فعلِ كلام. الكلام يعني نفي اكتفاء الرؤية بذاتها، وتأكيد عدم كفاية الصورة. والقصيدة هي قبل كلِّ شيء محاولة توليد رؤية من خلال الكلمات. لكنّ الصراع ينشِب أيضًا على مستوى أكثر بساطة. وما ندعوه بالاستعارة، مثلاً، ليس إلاّ أحد أمكنة المجابهة الجسدية التي فنُّها الشِّعر. فالاستعارة هي توليد صورة حصرًا من خلال فَرْك اسم بأسماء أخرى ـ والعينان مُغمَضَتان.
العكس صحيح أيضًا: أية صورة هي، بادئ ذي بدئ، حربٌ مُعلَنة ضد الأسماء، وادعائها بأنها تُري الأشياء وتُعرِّف بها. فالواقعية الإيمائية للاتصال الأيقوني هي الإلغاء الضمني لعدم كفاية الأسماء، والكلمات: لا بُدَّ للتواصل من صورة. وعلى الرغم من الندوب والجروح، يطرأ انتقام الصُّوَر من الكلمات بطريقة عادية، ويومية، وهو، لهذا السبب، أكثر شدّة وقسوة. لأن صفحة الكتاب (مخطوطة أو مطبوعة، لا يهمّ) كانت دومًا المكان الذي يجب أن يخضع فيه كل حرف وكل كلمة لمكان التنظيم المرئي للعلامات. ليس على كل كلمة فقط أن تقترب من الكلمات الأخرى وفق القواعد الشكلية لإخراج الصفحة، أي للقيادة الحكيمة التي خصّصت اللغة في نظام السطور. بل على كل حرف، حتى داخل كل كلمة، أن يمتلك شكلاً، ليس وظيفيًا ولا يمكن أبدًا أن يكون مجرَّد شكلٍ وظيفي. فأية أبدية، وأية علامة، وأي حرف سلَفًا انتقام أيقوني بسيط من اللغوي، واستحالة أن يكون الكلام لغة فقط، واستحالة ألاّ يُلامِس المرئي، والصورة، ووضوح الرؤية. ومن جانب آخر، تحتاج أية أبجدية، كي تشتغل بشكلٍ جيّد، إلى علامات ترقيم، إلى هذا الجيش من الرموز المرئية الخالصة، وغير الصوتية التي تسرّبت إلى الأبجدية وأصبحت ضرورية لكل فعل كتابة.
إذًا سوف نُخطئ إن اختزلنا هذا الصراع إلى مجرّد موضوع تمثيل، إلى فكرة تصويرية. لأن أعمال أدونيس التخطيطية لا تقتصر على دأب توضيح هذه الحرب. أكيد أن الكلمة والصورة تتنازعان هذا الفضاء ـ فضاء الصفحة ـ التي من شأن كل منهما أن تنتزعها من الأخرى، لكنهما تتقاسمان، في مستوى أعمق، الجسد نفسه، والمادة نفسها، ولْنقُل بعبارة أفضل، الدمَ نفسه: فليست إحداهما والأخرى، ضمن نطاق الصفحة، إلا بقعة حبر. إنَّما الكلمات والصور أفعالٌ وأشكال نابعة من المادة نفسها، وحركات تُحوّل الصَّهْرَ الخليط الذي نجهل اسمه. فما الشيء الذي يحمل الحبرُ اسمَه في الواقع ؟
كل قصيدة (كأية لوحة) نتيجة هذه الحرب: هذه الصفحات هي الرؤية تحت الحمراء لما يحدث على السطح الأبيض عندما يستعدّ أحدٌ ليطبع عليها نقشًا لا على التعيين. إذ تصل قصائد أدونيس خارج الكلمات إلى أن تُلامِس وتكشف بنية قشرة اللغة الأكثر أصالة، القشرة التي يبدو بالضبط أن اللغة والصورة، والرمز والزخرفة تستقي من المصدر نفسه. وإذ تفعل ذلك، تنقل شيئًا تضمينيًا: الكلام والرؤية ليسا توأمين يتنافسان في البحث عن المجال الحيوي نفسه. إنهما كائنا الطموح نفسه الذي على كلِّ شعر محاولة التمكّن منه. في البدء كانت الحرب الداخلية بين الكلمة والرؤية، ولَسوف تبقى على الدوام.
ايمانويل كيكوتشيا Emanuele Coccia
من الصعب استخدام كلمة "طليعة" لأنَّ تعريفها غير ثابت، ومعناها حسّاس ومضطرب في آن معًا. بالإضافة إلى أنّ هذا مصطلح لم يُستخدَم دومًا كي يصف مجموعات ـ إذ كان يدلّ في معناه الأصلي على اتخاذ موقع: لم يكن هناك "طليعة"، بل كان بعضهم، في نظر من أوجَد المفهوم في أربعينات القرن التاسع عشر، 1840، النقابي "غابرييل _ ديزيريه لافيردان" Gabriel-Désiré Laverdant، "في الطليعة"، وهم فنّانون، وكتّاب، ومُبدِعون. كان الأمر متصلاً بديناميكية معينة وليس بجماعة محدّدة بعض الشيء. تُظهِر الكلمة تطلُّعًا، وإرادة إيجاد الجديد، وفتح سبُلٍ أخرى ضمن قطيعة ظاهرية مع التقليد. وهكذا نجمت عنها تهيئة معينة، كانت نظرية في البداية، ثم تحوّلت إلى بيان مع تعبيرات كتعبير "هو في الطليعة".
دخل المصطلح لاحقًا في طَورٍ ثانٍ من وجوده: استُعمِل حينئذٍ بمعنى تعاقُبي _ نتحدّث عن "طليعيين تاريخيين"، كي نستحضر، بشيء من الفوضى، في أوج هذا العصر الذهبي في عشرينات القرن العشرين، حركة دادا، والسريالية، وحركة كوبرا، أحيانًا أيضًا، ونستحضر الرومانسية، والرمزية، وفي نهايته، حتى عقد التسعينات. زد على ذلك أنَّ المرحلة العظمى في باريس خلال السنوات الأولى من القرن العشرين، التي تجمعت حول أبوللينير، تُعَدّ بالضبط كأنها بوتقة الطليعة ـ مع التكعيبية التي انتشرت حتى في الشعر.
إذًا لدينا، من جانب، تعريفٌ عَجول يسمح بإعطاء شكل دائم للمفهوم، ومن ثَمّ تنبع فكرة أن لكلِّ حضارة "طليعتها". ولدينا من جانب آخر، تأريخ المفهوم، الذي هو تحديده أيضًا.
قادت مشقة تعريف المصطلح بعضَهم إلى أن يعدُّوه "أسطورة". إذ لم يسبق حقًا أن وُجِدت طليعة. ولا بُدّ أن يكون المصطلح بناءً فكريًا، أي بناءَ حركة نظرية هي مذهب الحداثة.
الوصول إلى إثبات كهذا حرِج بالتأكيد. لأنه مغامرة العدَميّة في الإبداع. ومن الضروري، كي لا نستسلم لها، في أزمنة قد تتحوّل فيها هذه العقيدة إلى سذاجة، الوصول إلى عمل معاصر يوضّح، في الحاضر، إمكانية تصوُّر شامل وفعّال عن الطليعة ـ ليس في فضاء النظريات الفلسفية، بل في واقع الممارسة الفنية.
عمل أدونيس تجلٍّ _ وبيان _ للتلازُم بين الفكرة والواقع الذي يجسِّده التعبير. إذ يشهد العمل الشعري على طموح التعبير عن العالَم في خلوده: هو معلِّم كلام صوفي يتخطّى كثيرًا حدود الراهن، ويمنح ذاته شرعية طموحه. ليس أدونيس بشاعر الخشية، والخوف، أو الحياء: إنه، أمام الخطر المفروض على الكلمة، نصيرُ تقوية الإيمان باللغة، وتعديل الثقة بقدرتها على مُجاوزة نفسها كي تُصبح قصيدة. والهدف النهائي إنما هو ترسيخ العقيدة، لكن كي تبقى هذه العقيدة، إذ ينبغي رُبّما، كي تكون صالحة في قلب الشاعر، أن تنفصل عن الأحادية وتندمج في التعددية. فشعر أدونيس كلام متعدّد، وهو، لهذا السبب ذاته، مُشرِك أو حلولي في بعض الأحيان.
يُمكِن أن يوضَع مشروع الكتاب في موازاة مشروع التوراة ـ التي تُضاعِف عنوانه (الكتاب المقدّس). ومع ذلك، ليس ما يقترحه فيه درسًا وحيدًا: يأخذ من النص التوراتي الوفرة لا الجمود. شعره أكثر انسيابًا بكثير، وأكثر تحوّلاً، وحركة، وإنسانية من الدروس اللاهوتية. وبهذا المعنى، يقع، كما يقع "هيرقليطس"، في عالم دائب الحركة ـ عالم هو في وقت واحد حضور دائم، وخلود محسوس.
وفي اللحظة نفسها التي يندرج خلالها في أفق خلود متأصِّل، يدمج أشكال القطيعة والتقاليد: أدونيس شاعر حديث. لذا يبدو أن طريقته تجعل هذا المصطلح، البالي هو أيضًا، كمصطلح الطليعة، مصطلحًا جديدًا: ذلك أن ولعه بالمدن الكبرى في العالم الحديث، ونيويورك بالتحديد، التي تغنّى بها، بالعربية، في قصيدة قبر من أجل نيويورك التي خصَّصها لها، وممارسته الكلام، الذي يُقطّعه، وينثره كي يُعيده إلى الشعر، يُشعِران بإرادته في عدم إهمال العالم القائم ، والعالَم القادم. كذلك يأتي افتتانه بالمدن الصينية الجديدة دليلاً على ذلك.
أدونيس، في الشعر، كلاسيكي وحديث في وقت واحد: وهو كلاهما معًا. يُعلن حُبَّه لهذه الآفاق الجديدة، لهذه المدن الجديدة التي يُكوِّن طِقسُها ذاتُه موضوعَ الحداثة _ كذلك كان موضوعها خصوصًا في نظر السرياليين. كما يندرج، في الوقت ذاته، ضمن سطوح وأشكال تتخطّى كثيرًا حدود الزمن الحاضر، وتندمج في تاريخ يعود إلى ألف عام _ الكلام الإنساني الذي يُتيح للبشر أن يشعروا أن التعالي، تعالي الطبيعة، وتعالي الآلهة، وتعالي الإله، هو تعاليهم أيضًا. وفي النهاية يتمثّل ملمح خاص بكلامه الشعري في عيشه قوة الحديث العظيمة، وتأريخ هذا الحديث معًا _ وهذه ظاهرة سمحت حتى بظهور تعبير "الطليعيون التاريخيون".
في لبنان، اكتشف الأدب الفرنسي طيلة الخمسينيات: في تلك الفترة، كان آندريه بروتون، ولوي آراغون، و"فيليب سوبّو" Philippe Soupault، وسان جون برس، وهنري ميشو، ما يزالون على قيد الحياة، وكذلك بيكيت، وبول سيلان. تقريبًا كان شعراء الحداثة الحية، والحداثة المتأخرة، حاضرين. في نظر شاعر شابّ، كان التفكير في المدينة التي يعيش فيها أساتذة الفن، وإمكانية أن يلتقي بهم يومًا، تحقيقًا لحلم. إنه القدوم إلى العالم في عصر ما يزال موجودًا، ويمكن، بالتالي، أن يجد فيه مرجعيات، ويبدأ هو ذاته بالوجود، انطلاقًا مما يكتشفه.
بالإضافة إلى أنه، وهو المحوِّل المتين، الفخم والمليء دومًا بالرجاء، ترجم كثيرًا من مؤلِّفي الشعر الفرنسي الحديث إلى اللغة العربية، ومنَحهُم بترجمته حياة جديدة: كأنه كان صوتهم الحديث، فبثّ في عروقهم دمًا جديدًا، مثلما فعل "سيلان" في ترجمته بودلير _ فما يُتمِّمه أدونيس، إنما هو مشروع حياة، لم يُنجِزه بعد. كذلك أكثرَ من الابتكارات الشكلية في اللغة العربية، مشغوفًا بإدامة قوة الحديث. إنه أوسع كثيرًا من حلقة: ما يزال يعيش في الحاضر الأزمنة الحديثة التي شرعنا من الآن وصاعدًا في وصفها بأنها تاريخية. ويعلم كذلك أنها، مثل كل يوم عاشه في معاصرة بروتون، تنتمي إلى عصر مضى. إنه كمثل جسر يصل الأرض بالسماء ـ فأين الأرض، يا تُرى، وأين السماء ؟
ليس هذا بقية من شعور وحسب: إنه كذلك طموح يتجلى في تقاسُم. والحق أن الرابط بين التعريف الأول ـ التطلّع ـ والثاني ـ الجماعة ـ يكمن في مقدرة نصير المجالات المتميزة على الدخول في حوار، وفي مقدرته على النقاش. يُتيح هذا النقاش تعاونًا، وأدونيس، صديق كثير من الرسّامين، أبدع معهم أشياء كثيرة. كذلك يُعبِّر الطموح عن نفسه في دافع المُبدعين إلى تجريب لغة الآخرين: تجريب الكلمة بالنسبة للفنانين، وإنتاج الصورة بالنسبة للشعراء. الأمثلة كثيرة: تُقسِّم تاريخ الطليعيين، من كتابات "بيكابيا" Picabia وبيكاسو إلى رسوم أبوللينير أو آندريه بروتون.
المقصود تماماً، كلّ مرة، النظر في ما يُمكِن أن يُعطيه تجريب الشكل الشقيق والمُعاكِس. وإنها لحقيقةُ حاسةٍ رفيعة أن نرى الكتابة، من "بييرو ديللا فرانشيسكا Piero della Francesca إلى "فازاري" Vasari، مرورًا بـ "سيلليني"، مترافقةً مع تخلُّق صورة الفنان، ونرى، بعد قرنين من الزمن، الرسم مرتبطًا، مع ميريميه وهيغو، بتكريس الشاعر نفسَه شاعرًا، والكاتب واعظًا. وما كان الأمر إطلاقًا، في الحديث مع الشكل الآخر، أمر تحويلٍ بقدر ما كان أمر إثبات: كأنّما الشعر لا يبلغ هذه القوة أبدًا إلا عندما يحاول أن يرسم، وكما لو أن الفن لا يكون قَطُّ جريئاً في ذاته إلا عندما يبغي أن يُنتِج نصًاً.
بدأ أدونيس، وهو يُقارب الثمانين، وبعد كثير من النقاش الفني، بإنتاج صُوَر. اتّسع هذا الإنتاج حتى أصبح كلاًّ، وكوّن إرهاصات عمل مستقلّ. وانقسم، مع الورق كداعم أساسي، إلى مُتغيِّرات حول أربعة مُكوِّنات: الموضوع، وفن الخط، والرسم بالحبر، والرقيمة. وبالتالي نجد فيه موضوعات تخطيط، ورسومات بالحبر مع تخطيط، ورُقم مع تخطيط، وملصقات مع رسم بالحبر، ورُقم لا تلبث أن تغدو موضوعات. وثمة، من جانب الشاعر، ما يُشبه إرادة تجريبٍ بلا حدود: يبحث، وهو ينطلق ممّا يُشبِه مَلْوَناً مادياً، عن اكتشاف اقتراحات جديدة، وإمكانيات أخرى.
هو نفسه يقول هذا: ما يفعله "مختلِف". لا ينبغي أن يُقصَد من هذه الصفة شكلَ حُكم أمام ما يفعله الآخرون، أمام عالَم الفنّ الراهن. فهذه الصفة، على العكس، تنطبق على استقصاء داخل عمله في مجمله: إنها، مع الممارسة المرئية، اكتشاف الاختلاف، اختلاف الصورة الشامل أمام الكلمة، والاختلاف داخل الصورة، اختلاف تعدُّد الإمكانيات المتوفّرة لها. في هذا البحث عن الاختلاف، تعبّر حركة عن نفسها عابِرةً شِعرها كلّه أيضًا: التوتّر بين الولَع بالوحدة ـ الأفلاطونية ـ واكتشاف مُكوِّنات العالم ـ الأرسطي.
هذا "مُختلِف" أيضًا، بمعنى أنه لا يأخذ موضعه في التكيُّف مع أشكال الحاضر: ثمة، بالقياس إلى شاعر، شكلٌ من عدم التلاؤم مع الحاضر في حقيقة إنتاج الصُّوَر. يُشبِه انعدام التلاؤم، بطريقة ما، تجانُسًا مع الشكل الشعري نفسه الذي يطرح نفسه، وحيدًا، مقابلاً لانتشار الحقائق الافتراضية. إذ يُفضي كون المرء شاعرًا في ذاته إلى الوجود على الطرف النقيض، وأمّا أن يكون شاعرًا ويُبدِع أعمالاً مرئية، فيعني أنه شاعر مُضاعَف.
من الممكن إعادة تركيب هذين المستويين من ممارسته ـ الشعر كما هو، والإنتاج المرئي لشاعر ثانيًا ـ، في اللحظة المُسمّاة "لحظة الطليعيّين التاريخيّين" _ في الثلث الأول من القرن العشرين، في باريس بالتحديد. في تلك اللحظة، كان عدد الشعراء، حتى الهامشيين منهم، كثيرًا، وكانوا يُنتِجون فنًا. ومن المذهل أن نرى أشكال التوازي اللاشعوري التي تومِض من خلال الإبداع التخطيطي لأدونيس: يرسم الحبر أحيانًا أشكالاً طويلة الخطوط، مُبسّطة إلى حدٍّ أقصى، ومع ذلك واضحة. وبالتالي فهو قريب من براعة بيكاسو. أما الأشكال التي تظهر على الورقة، في حالات أخرى، فهي أكثر تجريدًا، وبالتالي، لا يمكن أن تتأخّر عن التذكير بنقوش "خوان ميرو" Joan Miró ورسومه المائية. أحيانًا، عندما ينتشر الحبر على السطح بلون موحّد واسع، تتراءى طريقة فيكتور هيغو، وانتقال إرثه إلى "هارتونغ" Hartung، و"ماتيو" Mathieu في فترة الخمسينيات.
تنبع تقنية سواد الحبر واستخدامه من تقليد كامل عند الطليعيين، التي تُلاحظ مراحلها المتميزة في أي مقطع من العمل المرئي. الأكثر إدهاشًا هو تأمّل تنوّع التقنيات المستعارة: للوهلة الأولى، قلما توجد نقاط مشتركة بين "هارتونغ"، وبيكاسو، و"ميرو"، وهيغو، في طريقة التعامل مع الحبر. ومع ذلك، هذه الأشكال كلّها مرئية، وكأن أدونيس ركّبها. هذه الطريقة في اشتغال السائل، التي تمتد على قرنين من الزمن، تترابط بشكل نهائي: وهكذا يمكن أن نُحِسّ، في الإبداع المرئي للشاعر، بالتقارب العميق الذي يوحّد ممارسي العمل على اللون الأسود في ما بينهم. لأن الأسود ليس منبعًا شكليًا وحسب، كما يمكن أن يكون اللون المائي، الأقرب إليه دون شك: بل هو أيضًا مادة رمزية لاستعمالها معنى يتخطى التقنية، حتى إنه يصير ميتافيزيقيًا.
هذه حيطة المفاجأة التي يُمكِن أن يأتي استخدامها الدائم بعكس المطلوب، واستعارة صيرورة غير متوقّعة خاصة بالشخص الذي يستعملها. الحبر دعامة الأحلام _ ولهذا السبب أيضًا عكف عليه هيغو، وبيكاسو، وميرو. كذلك ينتمي دور هذا الحلم الذي يأخذه في الأيقنة، وهذا الإنتاج للصور الحلُمية، إلى المجموع الفني الأكبر الذي يُستنتَج منه بحرية الإنتاج المرئي للشاعر: السريالية. وفي الواقع، من النادر أن نتمكّن من رؤية الرّقائم عند أدونيس دون أن نُفكِّر في مخلوقات "ويلفريدو لام" Wilfredo Lam، و"فيكتور برونير" Victor Brauner.
أما نزوع المادة الذي يستعين به الشاعر كي يُصبح شكلاً بشريًا، كي يُصبح روحًا، فنزوع واضح: يُلاحِظ أدونيس نفسه أنّه لا يبحث، في صُوَر الرقائم، ولا في الأحبار، عن إنتاج تمثيل صادق للواقع. لأن هدفه التجريد، ومع ذلك، ينضمّ التجريد من خلال الحلُم إلى تمثيل الشكل، كل مرة تقريبًا، بالأسود كما في اللون، في اشتغال الحبر السائل كما في إضافة مقاطع المادة بعضها إلى بعضها الآخر. أكيد أن هذا الشكل هجين: إنه، على صعُدٍ معيّنة، إنساني _ فهو رأس، وعينان، وجسد، وذراعان أحيانًا؛ لكنه، على صُعُدٍ أخرى، شكل غريب جدًا عن الإنسانية. متعدّد الألوان، وملامحه غير منتظمة، ورأسه أحيانًا مستطيل، أو مربّع: إنه إيحاء بواقعٍ ووجود أكثر مما هو محاكاة.
نجد هنا ثانيةً المبدأ المرئي الذي عرّفه "بول كلي" Paul Klee، هذا الرسّام المولع بالشعر: يتصل الأمر بجعل الشيء مرئيًا وليس مضاعفة دقّةِ صورةِ العالَم في حلم وبشكل غير صادق. هذه الأشكال، مثلها كمثل العلامات الواضحة التي تظهر في الرّقائم _ نعتقد أننا نكتشف فيها كثيرًا من الأثواب _ ليست واضحة أبدًا: دومًا يكتنفها الغموض، وضرورة أن نفهم ما هو حاضر، وأن نرى من جديد، وبحدّةٍ، تقاطيع ما نراه، وأن ننتبه ونؤوِّل.
تظهر في هذا الاتصال ضرورة قراءة الصُّوَر، وأن يقرأ كل امرئ ذاته بقراءة الصُّوَر: ليست الأشكال التي تُنتِجها الورقة، والحبر، والمواد المهملة، بمساعدة أدونيس أو وفق نظرة أدونيس، أو من خلال أدونيس الذي يستخدم هذه الدعائم، إلا دعوة لدخول روح المُبدِع. هذا أكيد، ولكنها أيضًا، وبوجه خاص، في نظر أي امرئ، دعوة لدخول الذات ورؤية الأشكال، بل رُبّما الدخول في الطرائق التي تترتّب بحسبها الأشكال بعضها مع بعضها الآخر، ويؤثر بعضُها في بعضها الآخر، وتدخل في رقصها الخاص، ووقائعها المتفرّدة، كلّما وجدت بين يدَيِّ المُبدِع الروحيّتَين الخبيرتَين مصدر إلهامها. وعليه، فإنّ الصور التي يقترحها أدونيس، في وقتٍ واحد، من خلال ذاتها، ومن خلال المُتأمِّل، والإنسانية الوسيطة التي تجمعها، تُمثِّل خلاصة: هذا نورٌ مُباغِت، وموضعي، ضمن أسرار الوجود الأفضل صونًا.
لا يصدر هذا الضوء عن روح الجِديّة، والصّرامة: بل يُعبِّر عن نفسه في اللعِب. فطابع اللعب في العمل المرئي لأدونيس يُمكِن كذلك أن يرتبط بالسريالية _ التي سبقتها، بالضبط، اللعبة الكبرى لـ"دومال" Daumal. لكن تظهر، في ما وراء النسَب أيضًا، إشارة في كامل الإنتاج المرئي: الأشكال التي تبزغ من الحبر، وتتجمَّع في الرّقائم، ليست مُنجزة أبدًا، ولا كاملة. ترتبط خاصةُ حركتِها الذاتية بنوعٍِ من عدم الكمال المُضحِك، يجعل من كل شخص سؤالاً، وسخرية، وشكّاً، وتأكيداً في آنٍ معاً. إذًا من الممكن أن نُعيد، في آن واحد، قراءة قصائد أدونيس، وقصصه الكبرى، وهذه الإحساسات، وأن نفهم أن ثمة في الفن، في الفنّ العظيم، ما يُشبِه المسرح وقرينه، والعظيم وقرينه، والجادّ وقرينه، والكلِمة وقرينتها.
ليس أدونيس شاعرًا مضاعَفًا من خلال الرسم وحسب: إنه شاعر ثلاثي بامتياز، هو الذي أَدرجَ في قسمٍ كبير من إنتاجه التخطيطي نصوصًا، ومخطوطات باللغة العربية ـ فنّ الخط إذًا. إذ تحتلّ الكلمات، والحروف، والقصائد باللغة العربية مكانًا مركزيًا في جملة عمله على الورق، يُدرِج فيها نصوصًا لِمؤلِّفين آخرين _ ولا يستعيد كتاباته الخاصة في الرسوم، في أيِّ وقتٍ من الأوقات. إذ يتعلق الأمر تمامًا، في نظره، بأن يُنتِج، ضمن العمل الفني المرئي، مُتحفه الشعري الخاص. وبالتالي يشتغل، في هذا الجانب من إبداعه، على مادة عمله: المادة الرمزية، وممحوّ الشعر الذي سبق وجوده الحضري، هذا الممحو هو مصدر إبداعه، هو الذي يندرِج، بشكل أكثر دائم التعاظُم، في التاريخ الشعري العظيم للُّغة العربية.
وفي الوقت نفسه، تغدو الكتابة نفسها مادة، كما سبق أن لاحظ رولان بارت بشأن "سي تومبلي" Cy Twombly، في بحثه " ليس كثيراً، لكنه كثير" ، كما أنّ الرسم التخطيطي يُمكِن أن يكون مثنيّاً باستمرار: قد تتغيَّر أشكاله، وقد تتقطّع، وتفسد، وتُبسَّط، وتُعقَّد، وتُختصَر، حتى إلى درجة ألا تُصبِح إلا عِصيًّا وخطوطًا يُوضَع بعضها إلى جانب بعضها الآخر. هذا الاشتغال على الحضور الفيزيائي للغة، هو في صميم عمل أدونيس، التخطيطي: في بعض التكوينات، تجد الكتابة فضاءها، فتحضر بجلال، وفي بعضها الآخر، تبدو كأنها متحرّرة، كما لو أن علامات الحروف ليست جامدة. وفي النهاية، في الرّقائم تحديداً، يحصل للمؤلِّف أن يضع جنبًا إلى جنب خطوطاً، تُشبه النسخة المختصَرة، الصُّغرى، من الحروف ـ لحظة ابتعاد الحرف عن الأبجدية، العربية أو اللاتينية. يصير الخط، السطر، كأنه مَخرجُ العمل المرئي، ومخرج الشعر بوصفه ممارسة كلمات.
أدونيس الذي يخطّط بالعربية، يوقِّع بحرف A من الأبجدية اللاتينية الذي يأخذ الرسم الخطي نفسه في تكوين الغرب. ويكوِّن العمل على الورقة، من خلال استخدام كلمات داخل الصورة، اتساع مشروعه الدائب في الربط بين لغات، في روحها، وماديتها المتصلتَين بغية اكتشاف إمكانيات الصيغة في المادة والطريقة. فهو في العمل المرئي أيضًا، وبوجه خاص، شاعر. يُشكّل هذا الحديث مع طريقة أخرى في الإبداع ما يُشبه نُذْرَ فنّه: هو شاعر حتى في الرسم، يعمل مع اللغة، دومًا بوصفها سنَدًا ودعامة.
يطرح السؤال نفسه في النهاية عن أهمية هذا العمل الفني المرئي الذي أبدعه أدونيس: هل يتصل الأمر بإنتاج هامشي، وبنوع من "التسلية"، أنجزَه مؤّلف شديد الانخراط في عالَم الكلمات، وينبغي عليه أحيانًا أن يخرج منه من خلال الصورة، لكنه قلّما يستطيع الخروج منه بشكل كامل ؟ أو أنه أكثر من ذلك ؟ وإذا كان عمله أكثر من ذلك، فما يكون يا تُرى ؟ وبالتالي، ما وضع هذا الإنتاج ؟
أكيد أن تكوين الصُّوَر يستمد استقلاله من تناغم الكلمات، ويطرح نفسه في ذاته – ثمة في النهاية رسوم كثيرة دون تخطيط، والتخطيط ليس تخطيط كلمات الشاعر. بالإضافة إلى أنّ ثمة دلالةً في كون قصائد أدونيس كلها معنونة، بينما "لا عنوان" للصُّوَر. فالمُدوَّنة التخطيطية تتبع تطوُّرًا خاصًّا بها، يتميّز عن تطوّر اللغة الشعرية _ وحيث إن ظهورها أحدث في حياة الإنسان، فهي تتابع طريقها الخاصة.
ومع ذلك، أيًا ما كان الانسجام الداخلي للعمل المرئي، ووحدته العميقة، فهو يتقاسم مع القصيدة طموحًا مشترَكًا: طموح إبقاء الحلم الحديث حيًّا، والتطلُّع في الطليعة، والصدور عن الطليعة. لا جدال في أن ثمة، في إنتاج أدونيس التخطيطي، حضورًا كاملاً لِلُّغاتٍ تُصبِح من الآن وصاعدًا تاريخية تعود إلى بداية القرن العشرين، وإلى السنوات التي تلتها. وبهذا المعنى، ما يزال ينتمي إلى عالَم الطليعة، عالَم الإبداع الأوتوماتيكي، عالم الأسلوب السريالي الحُرّ، والحبر المشغول، وتكوين الرقيمة بحرية. فهو يحتفظ به حاضرًا في العالَم الراهن من خلال أيمان محترمة لهذا العمل المرئي لذي تتفجّر ينابيعه السريّة أحيانًا، وتشهد على هذا الانخراط في كونٍ زائل منذ الآن، والذي كان رُبّما واهمًا سلَفاً بزمنه ذاته. إنه الرابط بين الحديث والمعاصر الذي، وهو يطرد اليأس الذي يُعزّينا في كلّ ما يتعلّق بما بعد الحداثة، يتظاهر بأنه لم يشعر بشيء.
أما حضور هذه اللغة، وكذلك حياتها في عالم يبدو فيه أنّ الجواب على سؤال "لماذا الشعراء؟"، يغدو كلَّ يومٍ أكثر إلحاحًا، وبعيد الاحتمال، وأمّا طموحها إلى الشعر، وإرادتها في أن تُبدِع من خلال القصيدة قصصاً بديلة، ودعوات إلى التجاوز، فيُجسِّد ما يُشبه متابعة أمل عظيم، بعيد المنال أحيانًا، بعيد كما كان باستمرار. وقريب، كما هو اليوم دون شك ؟
لأن الدرس الأكبر للعمل الفني المرئي عند أدونيس يمكن أن يكمن تمامًا في وعي القرب الذي تُقيمه الحرية، واللعب، وقوة الإنسان مع كل عصر، حتى لو عَدَّه كثيرون حزينًا. العمل المرئي شبيه بتركيز التجارب الأساسية للوجود، فهو مَسرحتُها، وإيحاؤها، وحدثها المباشر، ويحمل، في الوقت نفسه، كما تحمل القصيدة، معنى الزمن والتاريخ الذي يستمرّ، محفورًا في داخله. لقد أصبح الحديث تاريخيًا، إذ ينتمي الطليعيون إلى الماضي، مما لا يعني مع ذلك أن ممارساتهم، وأحلامهم، ومثُلهم العليا، وأعمالهم الفنية، وكلامهم، يستحيل أن تُحَسّ في كلَّ لحظة.
يكفي، كي نُدرِك ذلك، أن نستعِدّ له، الاستعداد للتسليم بقدرة لحظات الأمل، إذا انتمت إلى الماضي، على أن تُغْني الحاضر، وعلى ألاّ تنحصِر في فضاء تاريخي، فليست المآسي وحدها هي التي تُغذّي وعينا بالحاضر، بل تُغذيها أيضًا المثل العليا، والأحلام الجميلة، والمخاطر الكبرى. وتُغذي معها، حقيقة الحياة ذاتها. إذ يقترح أدونيس على كل فرد، من خلال الفن، درسًا في الوجود الحُرّ. ويُذكِّرنا بأن الإبداع ليس عقيدة تتوقَّف. لكنها في كل رسم، وفي كل رقيمة، وحتى في أيّ إبداع مُقبِل، تمضي باستمرارٍ صوب القصيدة.
دوناسيان غرو Donatien Grau
شِعْرُ أدونيس في ذاته رَسْمٌ غنيٌّ منسوجٌ ببراعة، نُسُجُه شيء فريد ونادر، وهذا يُمثِّل إمكانية تخطّي الاختلافات والانقسامات الثقافية.
يمضي فنُّ الرَّسم صوب الشِّعر، والشِّعر صوْب فن الرَّسم، وهذا تقاطع هامّ يمكن أن تتبرعم فيه أشكال جديدة، وصُوَر جديدة.
في وُسْعِنا القول إن هذا معبر طبيعي يمكن أن يوجد في أية لحظة، إذا انفتحت العادة الذهنية المتفرِّدة على الشعر، وعصريًا على فنّ الرَّسم، وإذا كسبنا فيها، اغتنى اللاوعي.
يستحق أدونيس على الساحة العالمية، من خلال عُمْقِ رسالته، مكانةً ممتازة: يفهم كلَّ شيء في باطِن ذاته، وهو قادر على إبداع صورة شخصية متعددة، وعلى احترام كل هوية. حتى هذه التجربة التصويرية، التي تنتمي بمعنى من المعاني، إلى الوجه المضيء لشعره، تُظهِر شجاعته وانفتاحه.
يمكن أن توحي الرقيمة بفكرة تحطيم، ولكن تطرح حول هذه العقدة مسائل المعاصرة الأساسية الكثيرة؛ إذ تكمن هنا، أكثر من قوة التحطيم، قوة الإمساك معًا بأشياء ليس بينها علاقة حقيقية، ويمكنها بالمقابل أن تتواصل وتُنتِج معنى. المسألة إذًا هي امتلاك المقدرة على إبداع حوارٍ بين أشياء مختلفة، وإجبارها على الكلام في نوعٍ من الفراغ المكاني.
أنا نفسي متيقّظ لهذه المسألة، وفي كتابي الأخير كوَّنت رقيمةً أيضًا، لكن رقيمتي رقيمةٌ بين اللغات أكثر مما هي بين الكلمات، أي بين النُّوى اللغوية "الصّلبة" التي لا تختلط في ما بينها، لكنها تبقى معًا فقط إن كانت ممسوكة، وإلا اتّخذت كلُّ واحدةٍ منها اتجاهها، من تلقاء ذاتها.
هذا تقريبًا ما يطرأ مع فنِّ التطعيم، المفهوم بوصفه تركيبَ مواد مختلفة، ومقاطع شعرية، ولكن فقط من مختلف الحلول اللونية التي تتلاقى، وتتباعد فيها عناصر "نشاز" مع مؤثرات إضاءة ومعنى، يبدو أنها تعطي، حتى لو كانت مُتّحِدة، تصوُّراً بالانفجار.
العملية إذاً هي أن "نؤالِفَ بين أشكال نعرف أنها مختلفة" وأدونيس معلّم حقيقي في هذا المجال.
هذا الكبير، هذا الشاعر الكبير يبحث عن الأشياء في العالَم ويؤلّفها: رِقاق قديمة، وخِرَق، وقطِع بطاقات، وأكسيدات، وموادّ حديدية، ثم يستخدم تِفْل البُنِّ واللون. فيلامس في صُنعِه دومًا الكتابة العربية التي تعبُر رسومَه من اليمين إلى اليسار حيث ينعدِم التدرُّج، ويبني بذلك منظرًا يمكن أن نفهم فيه عُمق الرسالة التي تُوحِّد المقاطع والمقاطع، وتُبيِّن فضاءً يغدو فيه كلُّ شيءٍ متناغماً بفعل سحري.
الحبّ، المُدرَك بوصفه شعورًا كونيًا، وظيفةٌ تُحرِّك صُنعَه. ويكاد يكون من المُقلِق أن نراه ينجح في توليد الإحساس بالحب بين ما هو بعيد، فالحب هو الذي يضمن تماسُك إمكانية الكلام في وقت واحد بعدَّةِ لغاتٍ مختلفة.
آندريا زانزوتّو Andrea Zanzotto، 2010 ترجمه عن الإيطالية: دوناسيان غرو. ******************** Sans titre, 2013, 33 x 47 cm ©Adonis/Dennis Bouchard Relations presse: Sylvie Grumbach, 2e Bureau Tel 01 42 33 93 alaia@2e-bureau.com Azzedine Alaïa est heureux de vous inviter au vernissage de l’exposition “A“ présentant l’oeuvre visuelle du poète Adonis. Lundi 23 mars 2015 de 18:00 h à 21:00 h Exposition du mardi 24 mars au vendredi 10 mai 2015 Tous les jours de 11:00 h à 19:00 h Galerie Azzedine Alaïa 18, rue de la Verrerie, 75004 Paris Tel 01 42 72 19 19











