عباس بيضون في حوار سجالي مع أدونيس النظم والشعر، التاريخ والرؤيا، العابر
وغير المرئي، أدونيس :
هذا الحديث لا يحـتاج إلى مقدمة مع أنه يخرق سائر الأحاديث، فهو لا يستفسر بقدر ما يجـادل. وحاجتنا اليوم أكبر إلى سجال مع أدونيس، الذي تكثر الخصومة حوله وعليه، بدون أن تتحول إلى حوار خصب. وهناك من يبرأ منه، أو يعـاديـه دون شـرط. وإذا كـان مـهمـا تحـويل الخصومة إلى حوار فإن مواجهة أدونيس بما يثيره شعره وفكره من التباسات واعتراضات من شتى المطارح خطوة أولى وضرورية، أولى وضرورية لا لفهم أدونيس فحسب، بل لتعميق سجـالنا الشعري والفكري. هذا الحـديث لا يحتاج إلى مقدمة. إنه سجال ينطلق مع مجلدي أدونيس الأخـيرين "الكتاب 1" و"الكتاب 2" ليحيط بجـملة من مسائل تتعلق بتنظيره وإبداعه. عباس : يطرح مرة أخـرى المشروع المؤلف من ثلاثة مجلدات. المجلد الثاني يزيد السؤال- إذا شئت- عمقا وإشكالا، إذا بدا المجلد الأول وكـأنه تناول شامل ثقافي فلسفي تاريخي بحـيث أن الشعر يبدو واجهة له وليس كل شيء فـيه، يطرح المجلد الثاني السؤال عن المشروع، هل المجلد الثاني امتداد لمشروع موجود وتوسيع وتصعيد تاريخي لمشروع موجود أصلا، أم أن له وضعا مستقلا؟ أدونيس : يضعني سؤالك الأول في موضع من يفرض عليه أن يشرح أو يفسر عمله الشعري، وهو ما كرهت طول حياتي الشعرية، أن أقوم به. عباس : تدفـعني إلى طرح السؤال الخـشية من أن يكون الكتـاب الثاني امتدادا لا يضـيف شيئا إلى الأول، أو ليس فيه محطة جديدة- إذا قارناه، مثلا بالكوميديا الإلهية لدانتي، فإننا نجد في هذه ثلاث محطات الجحيم، المطهر، الجنة. فأين هو الموقف المختلف في الكتاب الثاني- المختلف وليس بالضرورة المتـضـاد ؟ أين المسـرح الآخـر؟ أين الإشكالية الأخرى التي نراها فيه، ولا نراها في الأول؟
عباس : مع ذلك، أشـعر بأن المشـروع الأسـاسي لا يزال هو نفسه كتابة نص يقترح نفسه نقطة تقاطع بين الفلسفة والتاريخ والشعر. وقد يكون هو نـفسـه أيضا بالمقارنة بين التاريخ والشعر، خاصة أن التاريخ في "الكتاب1" هو الذاكرة الميتة إذا جاز التعبير، والشـعر هو الذاكـرة الحيـة. لذلك فديالكتيك النص وإشكاليته هي نفسها بحيث أن التنويع الذي تتكلم عنه يبدو انه تنويع بالمسرح أو بالفضاء. أدونيس : وما المانع؟ إذا كـان هناك في الكتـاب الثـاني تنويع في المسرح أو في الفضاء، فهذا يعني أنه ليس مجرد امتداد للأول. ولا أوافقك على وصفك له بأنه، (نص يقترح نفسه نقطة تقاطع... الخ)، وإنما هو نص يمسرح التاريخ العربي- وشخوص هذا المسرح هم العرب كلهم، في حيـاتهم اليوميـة والسياسية والثقافية. وهو لا يمسرحه بوصفه "نصا ميتا" كما تعتبر، بل بوصفه على العكس، الوجه الآخر النموذجي لهذا الذي نسميه المعاصرة أو الحداثة. وكما ينبغي علينا أن نرى في هذا المسرح العقل الذي يبدع، فإن علينا كـذلك أن نرى "اليد التي تقتل" كما يعبر نيتشه. التاريخ في "الكتاب" ليس "ماضيا". ذلك أن "حاضرنا" تكرار متقن لظاهره السياسي، ولباطنه الفكري. وفي مسرحته توثيق نتمرأى فيه من جهة، وانتهاك له وخـاصة في تمفصلاته السياسية- الدينية من جهة ثانية. أقول انتهاك- لأن أصوات الممثلين على المسرح (المتنبي، والخلاقون العرب في مختلف الميادين، سواء من قتل أومن نجا) لا تقول السماء وسياستها إلا بنبرة الإنسان والأرض: نبرة الحقيقة والحرية. إنها مسرحة أرضية- إنسانية، سماوية أو إلهية كما نرى في "الكوميديا" الإلهية". وفي هذا ما يفسر أن "الكتاب" ليس مجرد مشروع شعري- ذاتي، وانما هو مشروع لا تنفصل فيه الذات عن التاريخ. ليس، بتعبير آخر، مشروع أقرأ فيه ذاتي الشعرية، و إنما هو مشروع أقرأ فيه التاريخ. وفي هذا ما قد يفسر أيضا كون الفكر بعدا عضويا في شعرية الكتاب، وذلك لغاية أساسية: تعميق الانتهاك وتوسيع حدوده، عبر التأمل في أحداث التاريخ و سيرورته وبخـاصة نواته السياسية: السلطة. الإنسان كل لا يتجزأ، والشعر بوصفه التعبير الأعلى عن هوية الكائن الإنساني، لا يمكن أن ينفصل عن الفكر.
عباس : هناك بعض التساؤلات حول "الكتاب" خـصوصـا الجزء الثاني. فهو مثلا، ينظم أخـبارا مـوثقة، وأحداثا. وليس لهذا النظم مكان محدد، فنحن نجـده تارة في المتن وتارة في الهـامش. وكـان في الجـزء الأول في الهـامش غالبا. لماذا يفعل ذلك شـاعر مثلك وضع دائما فارقا حادا بين النظم والشعر، وهذا جزء من عمله النقدي. وهو الآن ينظم أشياء تبدو للوهلة الأولى أنها ليست في حاجة إلى نظم- مجرد أخبار. فما أسباب ذلك؟ أدونيس : كل حدث رواه الرواة، أو كل عمل واقعي أرخ
له - في ما يتصل بطقس القتل، خصوصا أردت قصديا أن أعيد صياغته وزنا. وقد
أشرت إلى هذه القصيدة في مستهل الهامش في الكتاب الأول. عباس : كان لدي إحساس بأن هناك أمورا أو أحداثا قصد أن تكون نظما. حتى في المتن، هناك أحيانا أخبار منظومة. مثلا كلامك على أبي نواس وما قيل فيه. أدونيس : قلت وأكرر أنني تعمدت أن أعيد صياغة بعض الأحداث والأقوال، بشكل موزون. أشعر في هذا الإطار، بأن تقديم أبي نواس بما قيل عنه في وقته، وفي شكل موزون، يعطي لموقعه في تاريخنا الشعري بعدا رمزيا، أكثر دلالة من تكرار ما قيل عنه بصيغته ا لنثرية. الاستشهاد أو التمثل بعبارة قديمة نوع من العودة إلى أصل اللغة- الكلام، عودة لا تتضمن الارتداد أو المحافظة، و انما هي اسـتـعـادة للغـة القديمة، مفرغة من نمطيتها. وهي في سياقها المختلف، توكيد آخر على أن الماضي لا يزال حيا- وهذه من الأفكار الأساسية التي توجه الكتاب كله- وبخاصة في كل ما يتصل بالعلاقة بين السلطة والفكر، والفنون بعامة، أو بين السياسي والشاعر. وفي الاستشهاد، على مستوى آخر، ما يشير إلى أن أبا نواس فهم ماضيا- في عصره، بشكل أعمق مما يفهمه عصرنا. وفيه أيضا توكيد على أننا لا نملك قانونا مطلقا للتقدم الثقافي نستطيع أن نقول على أساسه، بشكل قاطع ومطلق، إن عصرنا الراهن أكثر تقدما في العمق، من العصور السابقة. وبهذا المعنى مرة ثانية، لا تنفصل الرؤية الجمالية عن الرؤية الفكرية أو الفلسفية للتاريخ. اسمح لي بأن أعود هنا إلى المسألة السردية في الشعر، سواء كان السرد منثورا أو موزونا. تعرف أن هذه المسـألة هي التي تطغى الآن على الكتـابة الشعرية في العالم. وهي في تقديري عودة للحياة اليومية، أو لنثرها الغامر، عبر عودة أعمق إلى الشعر القديم بدءا من جلكامش، مرورا بهوميروس وفيرجيل ودانتي. وتعرف خيرا مني أن كافافيس وريتسوس يقودان هذا الاتجاه في عصرنا الراهن إضافة إلى فرنسيس بونج- مع فارق هو أن كتابة هذا الأخير تتمحور حول الأشياء في حين تتمحور كتابة الشاعرين الأولين حول الأشخاص. تعرف كذلك مدى التأثير الذي يمارسه هذان الشاعران على اللغة الشعرية العربية اليوم. في نصوص هؤلاء الشعراء أو جلها، إرادة لتغييب الذات، أو لأقل: ليست الذات حاضرة فيها إلا بوصفها راوية. عباس : : ولكنك فعلت شيئا أكثر إرادية، كفافيس مثلا ينظر في التـاريخ الإغريقي والهلليني- يعمل على قصة ويعيد بناءها. أنت في أمـاكن كـثيرة قمت بنظم الأثر أو الخبر لا أكثر. والسؤال لماذا لم تقل ذلك نثرا؟ لماذا- وهذا الغريب- يبدو الشعر أحيانا في نثرك أكثر مما يبدو في وزنك؟ أدونيس : لا أجـادلك في الفقرة الأخـيرة من سؤالك.
فالشعر ليس محصورا في شكل دون آخر، وقد يكون موجـودا في النثر أكثر منه في
الوزن. والعكس صحيح. غير أنني أخـالفك في الفقرة الأولى. فليس صحيحـا أن
كـفافيس يعيد دائما بناء القصة القديمة أو الحدث. خذ، لا على التعيين، ما
شئت من قصائده، أو خـذ تحديدا قصائده: على مشارف أنطاكية، وصفة لسحرة يونانيين
قدامى من سوريا، ألكسندروس وألكسندرا، في الطريـق إلى سينوبوس، أمير من ليبيا
الغربية، لم يحدث أن فهمت... وماذا أيضا، نستطيع أن نضيف قصائد أخرى كثيرة.
أقول هذه القصائد لا تقوم على إعادة بناء للأصل، وانما هي سـرد استـعـادي.
بل أن قصيدة مثل "ايمينوس" ليست إلا فقرات لإيمينوس نفسه، يبثها
كما هي، ثم يختمها معلقا: "هذه فقـرات من خطاب للشاب إيمينوس وهو سليل
أسرة رومـانيـة نبـيلة، اشتـهر بالانحلال في سيراقوسة في العهد المنحل لميخائيل
الثالث". عباس : مرة أخرى. ما الكتاب؟ هل هو- ببساطة- مجموعة شعرية أو كتاب شعري، وهو بالتأكيد ليس كذلك برأيي، هناك نص، جزء كبير منه إرادي ومصنوع ومقصود، كـما أنه على الصـعيد الشـعري البحت، يبدو كأنه خـلاصة شـعـرك، بمعنى أنه في كل فنك، من غـيـر أن يكون بالضرورة تجديدا لهذا الفن. فمقارنة "بأغاني مهيار" أو "مفرد بصـيغة الجمع "، يبـدو كأنه يتابع هذه الكتب ويعمل عليها. لكن القصد لا يبدو أنه الفن الشعري ذاته، فما هو "الكتاب"، بهذا المعنى؟ أدونيس : تصر على وضعي في موقع الشارح المفسر لعمله.
ليكن، لا شك في أن بين "الكتاب" وشعري السابق صلة عميقة. فهو بمعنى
ما، أفق آخر في سياق ما كتبته حتى الآن. غير أنه في الوقت نفسه، مخـتلف عنه-
بناء وطموحا- وأوسع منه آفاقا ودلالات. فهو ينهض، بنائيا، على تعددية تشكيلية
تتمازج فيها وتتواكب صور تعبيرية متنوعة: وزنية، نثرية، سردية، شذرات واستشهادات،
أشياء الذات وأشياء العالم، أشياء السياسة وأشياء التاريخ، وقائع كأنها خرافات،
وخرافات تعاش يوميا كأنها هي وحـدها الواقع- في صراعـات وتأرجحـات واحـتمالات
ومفاجآت تعكس الأزمة الكيـانية العربية، أزمة الهوية والصيرورة، بحـيث يبدو
"الكتاب" نفسه هو أيضا أزمة فنية- تعبيرية. واضح إذن أن "الكتـاب"،
هو كما تقول، ليس مجرد مجموعة شعرية، وائما هو مشروع. وهو بوصفه مشروعا متعدد
اللغات: تتمازج فيه لغة الرؤية الشـعرية، ولغـة الرؤية الفكرية، ولغـة الرؤية
التاريخية- في عقدة نواتها العميقة تلك العلاقة الغامضة المعقدة بين العربي
والعربي، وبين العربي والآخـر، وبين الإنسان والكون. وفي تراثنا الكتابي-
الفني نماذج أولى لهذا المشروع نجدها خـاصة عند المعري وعند ابن عربي. "الكتاب"،
في هذا الأفق هو "اللزوميات" و" رسالة الغفران" معا،
منصهرين في كتاب واحد. وهو "ترجمان الأشواق" و"الفتوحات"
ذائبين في تموج واحد. مدن مختلفة عباس : إذا، نحن لسنا أمـام كـتاب شـعر بالمعنى البسيط للكلمة؟ أدونيس : لا، طبعا. هو كمثل اسمه "كتاب"، كتاب جامع. عباس : أسـأل نفسي سؤالا لدى قـراءتي الكتاب (المجلد الأول والثاني) ولا سيـمـا الثـاني، هذا الكتـاب أولا بتـسلسله التاريخي، وثانيـا بتركـيزه على خيط مـضيء ومـتـسلسل ويعـبـر عنه بالشخـصيات، وهي شخصيات تكاد لا يجمعها شيء محدد، فهي بين ناسك وفاجر، زنديق ومؤمن الخ.. يجمعها إلى حـد كـبير- مشاركـتها بنهضة ما، بحضـارة، بموقف غير تقليدي. هل هذا في موازاة الشعري، هل الكتاب في موازاة الثـابت والمتحول، بحـيث يبـدو أن خطة الثابت والمتحول موجودة هنا فكريا إلى حد كبير؟ أدونيس : بشكل ما، إذا أردنا التبسيط. عباس : إذا رجعنا للكتاب نفسه، هذا الحجم (600 صفحـة تقريبا) الذي يشكل تبعا لخطة تتكرر تقريبا، هناك شعر للمتنبي، بيت للمتنبي، هناك- إلى حد كبير- وقائع وشخصيات، وهناك ما يمكن أن نسميه الرواية، وهناك المدن التي جـعلتها أبجـد، في هذا الكتاب، هل انبنى نص متصـاعد، كل خطوة فيه مفترقة عن الأخرى، أم أن طابع السيولة الشعرية جعل الأشياء إلى حد أكثر اختلاطا، أو تمايزا؟ أدونيس : بناء، "الكتاب" كما خططت له أساسا، ليس تصاعديا، بالمعنى الذي تشير إليه. بناؤه دائري، شبكي. التصاعد إن كان لا بد من الكلام عليه، هو في وتيرة الانفجار، في التوتر والتأزم، في حياة المتنبي وتقلبات العلاقات. فقارئ "الكتاب" لا يصعد سلما، بل يهبط في الأنفاق والمخابئ. لا يسير من " قدم" الحكاية إلى "رأسها" أو العكس، إنما يجيء ويذهب في جسد التاريخ العربي، في شرايينه وأغواره، وفي جميع ا لاتجاهات. عباس : أريد أن أسأل عن أبجد المدن. هل هذه المدن مدينة واحدة؟ أهي مـدن مـتمايزة؟ ألها ما يقابلها في المدن العربية؟ أدونيس : هي نماذج أو رموز للمدينة العربية، أو للمدن العربية. عباس : أهي مدن محددة؟ ما لم أفهمه هو الجانب المكاني في هذه المدن. تحس أنها مدن أفكار. مدن تعبر عن المفهومات أكثر مما تعبر عن الأمكنة. أدونيس : وهذا ما قصدته، الارتفاع بواقع المدن العربية إلى مستوى الرمز، لكي تجيء الإضاءة أكثر شمولا. والمدينة، إبداعيا أو حضاريا، زمن أكـثر مما هي مكان. ليس مكان المدينة هو ما يعطيها هويتها- وانما يعطيها هويتها زمن هذا المكان: كيف يتحرك، بماذا "يمتلئ" وكيف؟ فالكتاب لا يقدم توثيقا جغرافيا أو تاريخيا. لا يقدم دراسة طوبوغرافية لهذه المدن. ولهذا فهي، بالضرورة، رموز، ومفهومات وعلاقات، وصور، و مجازات. عباس : لكن هل تكرارية المجتمع العربي تقتضي أن تقابلها تكرارية شعرية؟ أدونيس : ماذا تعني بالتكرارية الشعرية؟ هل هي مثلا في أن يكتب الشاعـر عن الموت وحـده، ولا شيء غيره؟ أو عن الحب ولا شيء غيره؟ التكرار لا يكون في المادة أو الموضوع، وإلا لكانت المادة الشـعـرية مكررة منذ بدايات القول الشعري، ولكانت نفدت وانتهت، ولكان الشعر انتهى. التكرار يكون في طريقة القول وزاوية الرؤية، وطرق القول لا تنتهي. أهناك تكرار في "الكتـاب" على مستوى طريقة القول، لا أظن. لكن هناك إلحاح (ولا أقول تكرار) على التعبير عن مادة العنف والقتل؟ وهو تعبير- تنويع متعدد للإحاطة بجميع الدقائق والتفاصيل الخاصة بهذه المادة. تكرار أم تحول
أدونيس : الأمثلة لا تبين رسوخ هذا الطقس، ولا التفنن في القتل. افترض أن القارئ عندما يقرأ هذه الأشياء يعرف الأمثلة، ضع بغداد خلال عشرين سنة في التاريخ، لماذا ينسى العربي الذي يتكلم في الحرية والشعر والإبداع، ماذا فعلت بغداد أو ماذا حدث فيها، خلال تلك السنوات العشرين؟ ولماذا نتحدث عما فعله العقل والقلم، ولا نتحدث عما فعلته اليد والقنبلة؟ كم عدد القتلى وكم عدد الموتى والمساجين.. أليس لهذا معنى، لماذا ننسى ما يحدث في الجزائر مثلا؟ صرت ميالا إلى القول أن في بنيتنا العميقة ميلا للدفاع عن عبوديتنا، لأن تلك الرؤية التي تقول إن تاريخنا عظيم ومضيء، هذه الرؤية هي في الواقع دفاع عن السلطة، و تماه مع السلطة، وكما نرى الكتاب اليوم يتماهون مع السلطة لسبب أو لآخـر و بشكل أو بآخر، فهم لا يستطيعون رؤية تاريخهم الذي هو تاريخ السلطة. يخافون من أن يواجهوا أنفسهم. يهربون دائما في نوع بائس من امتداح الذات، والقاء الأخطاء على "الآخـر". إن تاريخ السلطة العربية تاريخ أسود وأعمى ويجب فضحه وكشفه، كله قمع وعنف، أما التـاريخ العربي الآخر، تاريخ الكتـاب والمفكرين والشعراء، فله المكان الأكبر في الكتاب. والسؤال هو: لماذا لا يرى القارئ، قارئ "الكتـاب"، إلا ذلك المكان "الأصغر"- مكان العنف والقتل؟ والجواب هو أن السبب عائد إلى أن في ثقافة العربي ارتبـاطا بنيويا بالسلطة، واستعدادا ليكون خـاضعـا وتابعا، إلى درجة التماهي. وهو عائد كذلك إلى أن العربي يخاف من مواجـهة الذات، من مواجهة أخطائه، من مواجهة نفسه. عباس : هذا الكتاب، الذي هو على مـفرق التاريخ والفكر والشعر، هل تراه فكرا أم تاريخا، أم تراه في الدرجة الأولى شعرا؟ أدونيس : أراه كلا لا يتجزأ، الكتـاب فكر وتاريخ وشـعر معا.
أدونيس : هو شعر، لكنه شعر يصدرعن مفهوم يرى القصيدة عالما يتداخل فيه التـاريخ، والفكر، والفلسفة، والسياسة، أي هو مزيج من كل شيء، ولذلك يطرح الشعر في الكتاب سؤالا حول مفهوم الشـعر عند العـرب أمس واليوم. تقـرأ متـلا هوميروس وفيرجيل، فترى أن شعرهما سرد كـامل- تقرأ أراغـون، فتـرى فيه سردا ومقاطع تاريخية وقصصا. تقرأ عزرا باوند، الشيء نفسه، مقاطع كاملة من التاريخ... الشعر تعبير كلي وشامل. عباس : ولكن عندما يكون في النص تاريخ حرفي من الأول للأخر بهذا الشكل، يطرح السؤال عن الفرق بين الشعر والتـاريخ. أين حد الشـعر وأين حـد التاريخ كما يقول العرب، أدونيس : ليس هناك تاريخ حرفي، وانما هناك وقائع تاريخية بحرفيتها- أحيانا، القصد منها تجاوز التجريد. القصد منها الالحاح على لازمة سياسية، لازمة العنف والقمع والقـتل في تاريخ السلطة العربية. هذه الوقائع تصير شعريا داخل النسيج العام. أختلف معك في هذه النظرة، مجرد ذكرها والإلحاح عليها وتكرارها، شيء مهم وجديد في الكتابة الشعرية العربية.
عباس : هذا الكتاب الكلي، يبدو طموحـا لأن يكون جـامـعا للثقافة العربية وتقديمها بشكل أو بآخر، أعود لأشير إلى علاقة الشـعـر بالنثر فـيه، بمعنى القصيـدة النثرية والقصيدة الموزونة، لاحظت أولا أن في الكتاب شعرا نثريا أكـثر من الوزن، إلى أي مـدى هذا مقصود، وثانيـا أن القصيدة النثرية تبدو وكأنها تقول شيئا، مختلفا- في أحـيان- عمـا يقوله الوزن، ففي الوزن هناك شيء من الكلام ذي الصوت العالي الذي فيه اكتمال ذاتي، وفيه ثقة ويقين (شـمسـه مثلا، أمواجه) نوع من تكامل الأنا والفرد، فيما تبدو القصيدة النثرية قصيدة شكوك، فلو أخذت( ربما بفعل هذه الغيمة لم يزل عمود سمعان/ لم يكن في حـاجـة إلى أن يحول حـياته إلى عمود آخـر، بمعنى هل الكتـابة هي وحـدها الشتاء، هي ذي يراها كمثل ثمار تتساقط ولا يأبه لها حتى البستاني/ الذي أمضى حـيـاته ساهرا عليها...) في النثر، هناك تشكيك بقوة الشعر التي يبدو أن الوزن تأكيد لها. أدونيس : انطبـاعك هنا، كما يخيل إلي، سريع جدا. النصوص الوزنية في "الكتاب"، مليئة بالتساؤلات والشكوك، حـول كل شيء، بدءا من الذات. لا تكاد تخلو صفحة منها. بل أنها أكثر إيغالا فيها من النثر. كل شيء في هذه النصوص يبدو كأنه على الحـافة، فوق الهاوية، يكاد أن يسقط. كل شيء قلق وضياع. مرة ثانية، أعد القراءة. وآلا فأنت آخذ بدفعي إلى القول أن الوزن في القصيدة، مجرد الوزن، يحجب عنك شعريتها. وهذه ظاهرة قرائية نراها عند كثير من الكتاب الشبان، اليوم. وأنت بنعمة الشعر، لم تعد شابا فأنا لا أقصدك. كأن لسان حـال كل من هؤلاء هو: عندما أرى شعرا موزونا، لا أقدر إلا أن أصوب مسدسي! الوجه المقابل تماما لمن يقول: لا شعر خارج الوزن. ما أسباب ظاهرة كهذه؟ ليست، في كل حال، ثقافية أو فنية، و إنما هي، بالأحرى، ثبوتية في الموقف، ذلك أنني لا أتصـور شاعرا فرنسـيا أو إنكليزيا، يتهم شعر بودلير أو مالارميه أو شكسبير باللا شعرية، لمجرد أنه شعر موزون! كذلك لا أتصور شاعرا عربيا حقيقيا يتهم شعر امرئ القيس أو أبي نواس أو المعري باللا شعرية، لمجرد انه شعر موزون! و انما يمكن ألا نعجب بشعر هؤلاء، لكن لأسباب أخرى، لا تتصل بالوزن. ربما، حين أتكلم بلسان المتنبي، يحس القارئ أحيانا بما تشير إليه- بالتكامل، و بالتماهي مع الذات والطموحـات. لكن في معظم النصوص، لا نحس إلا بالقلق والتساؤل والشك والعـبث، والتبعثر والتفكك، اقرأ الهوامش الخاصة بالشعراء والمفكرين. اقرأ نصوص الحرب بين العرب والروم. اقرأ مذكرات سيف الدولة. اقرأ أوراق خولة. اقرأ دفاتر المتنبي نفسه. لن تجد غير التأرجح فوق الهاوية: هاوية القلق، والشك والتساؤل. أجدني هنا مضطرا إلى أن أشير إلى البنيـة التشكيلية الفنية في "الكتاب"، وهو ما لم تطرح حوله، حتى الآن، أي سؤال، وهو مما أستفسر به- خصوصا أنها بنية لا يعرفها الشعر العربي. ففي تكوين الكتاب تشكيليا تتلاقى الأزمنة والأمكنة في الصفحة الواحدة: لحظة الذات ولحظة الآخر، لحظة الشيء والوقائع، لحظة الماضي ولحظة الحاضر، ويزدحم فيها العبث والفوضى واللايقين. وهذا يعكس التنور والتناقض، في الشخص، وفي المكان والزمان، وفي التاريخ والمجتمع.
أدونيس : لكن في التحليل الأخير، يقوم شعري كله، سواء في وزنه ونثره، على الشك العميق، لا مع العالم وحده، بل في ما يفترض انه الملاذ والملجأ- أي الشعر. وهذا مما يأخذه علي، أساسيا، بعضهم - أولئك الموقنون المؤمنون. وذلك بدءا من "أغـاني مهيار"، حتى أن من الممكن قراءة كتاباتي كلها في ضوء هذا السؤال: ماذا يقدر الشعر أن يفعل في ظلام العالم؟
أدونيس : استعير هنا تعبيرك الجميل وأقول الأمل، يا عزيزي، مريض الشعر- سواء في وزنه وشره. وقد تكون "الحـماسة" غطاء أو تمويها لحـزن لا يدرك قراره. عباس : دائما هناك كلام عن الشعر، هناك سـعي لتعريف الشعر مـا الشـعر إن لم ير الجـذر/ إن لم يضئنا. والذي تكرره دائمـا في كلامك على الشعر هو الرؤيا، هذه الرؤيا التي أسلم بها، من حـيث المبدأ. لكن السؤال إذا كانت الرؤيا باستمرار أمرا غير ممكن التحديد، ألا تتحول إلى نوع من ميتافيزيقيا الشـعر، فنقول في الأخير أين هي الرؤيا؟ هل هناك حدود للرؤيا؟ هل نستطيع القول أن هذا الشعر فيـه رؤيا وذاك الشعر ليس فيه رؤيا؟ أي دليل نملكه؟ أي حدود نستطيع أن نرسمها؟ أدونيس : كل شعر هو بمعنى ما رؤيا، لكن هناك رؤيا
متكاملة حول العلاقة بالوجود، وحول المصير. وهناك رؤيا خاصة ومحدودة في ما
يتعلق بالحياة اليوميـة.. الخ. الفرق هنا فرق في الدرجة لا في النوع. الشعر
كله نوع من الرؤيا. الكتابة كلها نوع من الرؤيا. لذلك من الصعب الجواب عن
ذلك إلا حين يأخـذ المرء حـالة معينة ويدرسها ويرى إلى أي درجـة هي متكاملة،
إلى أي درجـة تقدم شيئـا مختلفا، الخ.
أدونيس : هناك بعض القصائد لا أسميها عمودية بل أسميها تفصيلية، العمود مصطلح نقدي خاص، نستخدمه أحيانا بدون تدقيق، فأركان العمود متعددة، أما الأوزان أو التفاعيل فشيء مختلف. خذ البحـر الطويل مثلا عند امرئ القيس وخـذه عند المتنبي. فهو مع أنه بحر واحد تحس انه عند المتنبي شيء وعند امرئ القيس شيء آخر. فليس البحر هو ما يحدد هوية الشعر، بل حركة الشاعر داخل هذا البحر أو معه، لو كان البحر هو ما يحدد لكان جـميع الشـعراء الذين يكتبون على بحر واحـد متساوين. ولذلك ليس المهم الوزن في ذاته، إنما الأساس هو حركة الشاعر الروحية أو الإيقاعية داخل الوزن، والمهم نظام الرؤية ومنطق العلاقات. نجد ما يشبه هذه المشكلة لدى كتاب قصيدة النثر. فالحق أننا نجد عند بعضهم جملة واحدة وصيغة واحدة وتكوينا واحدا تتكرر جـميعها على مدى كتاباتهم كلها. إما جملة اسمية أو جملة فعلية نادرا، وعلاقة الفاعل بالمفعول والضمير بغيره والكلمة بغيرها، هي تماما بنية واحدة تتكرر على مدى القصيدة. وهذه تظهر في النثر أسوأ من الوزن، فالوزن تنقذه الموسيقى قليلا. الوزن يغطي ويحجب، ويموه.. أما في النثر فتبدو هذه الأمور بشكل جلي فاضح. وأكرر أن المسألة ليست مسألة الوزن بل هي مسألة الحركية فيه والأبعاد الموسيقية وتكوين العلاقات بين الكلمات والأشياء. عباس : هل ما بني نقديا في فترة بدايات القصيدة الجديدة، هل مـا بني على نقد العـمود الشـعري ومـا نسب لهذا العمود الشعري، هل هو خطأ برأيك؟ أدونيس : لا، إطلاقا، لكن يجب أن نميز بين المتنبي ومن قلد المتنبي، في كتابتي لم أكن مرة ضد الأوزان بحد ذاتها، الخليل عبقري، اكتشف ستة عشر إيقاعا ليس لها مثيل، هذه عبقرية كبرى مقارنة باللغات الأخرى وموسيقى اللغات الأخرى. لكن أين الخطأ، الخطأ أن تنسج على منوال الآخرين. نحن في نقد العمودية كنا ضد تقليد العمودية، ولم نكن ضد الأوزان أو البحور في حد ذاتها، إطلاقا. اسمح لي هنا بأن أستغرب تركيزك على بضعة مقاطع كتبت بالوزن، وتبعا لنظام الشطرين، وعدم الانتباه إلى أن أشكالا متعددة من الكتابة الشعرية وأنواعا كثيرة من الإيقاعات تتجاوز وتتلاقى في "الكتاب". النثر فيه حـاضر إلى جـانب القصيدة التفعيلية. فهل ترى في هذا الحضور رفضا لقصيدة النثر؟ أم المسألة على عكس ذلك؟ عباس : هناك، اليوم، من يكتب بالبحور نفسها… أدونيس: طبعا. لكن مع غلبة النمطية. وهذا ما نقدته في مقالتي عن الجواهري. فقد بقي إجمالا داخل النمطيـة الوزنية- شكلا و إيقاعا. عندما تقارنه مثلا، مع المتنبي أو مع أبي نواس، أو مع أبي تمام، فإنك تجد أن حركية هؤلاء الفنية- التقنية، داخل الوزن وقياسا إلى معظم الشعر الجاهلي، أغنى وأعمق وأكثر حيوية من حركية الجواهري- قياسا إليهم. عباس : هل لأن الجواهري تقليدي، أم لأن القصيدة العربية استنفدت؟ أدونيس : بل لأن الجواهرى متمسك بوزنية كلاسيكية صارمة، ومنمطة. الشعر لا يستنفد. وكذلك الوزن. التنميط هو الذي يستنفد. القصيدة العربية، نمطيا، فخ حقيقي. كمثل قصيدة النثر اليوم. فما إن يبدأ الشاعر العبارة الموزونة نمطيـا، حتى يسقط في البنى التقليدية كلها. لقد صارت نمطا من التفكير والتذوق يصعب الفكاك منه إلا بسيطرة كـاملة على الوزن واللغـة وإيقاعاتها جميعا، وإلا بالقدرة الثقافية- الإبداعية على الفصل بينه وبين البنى الفكرية التي اقترنت به. وآنذاك تمكن الكتابة بالوزن دون الوقوع في النمطية أو التقليد. غير أن التخلص من هذه القيود مع استغلال أو استثمار الغنى الإيقاعي في اللغة معادلة صعبة لا تنجح دائما، لكنها إذا نجحت فتحت أبوابا جديدة لموسيقية الكتابة الشعرية. وهذا نوع من التحدي والاختبار. وفي ما يتعلق بالنصوص القليلة جدا، والموزونة خليليا، في "الكتاب" أو في غيره من كتبي، فلا يمكن لمن يعرف الوزن معرفة حـقيقية أن يصفها بالنمطية، أو التقليدية أو العمودية. ولقد لجأت في "الكتاب" عامدا إلى كتابة الموزون، خليليا، لكي أقيم أحيانا، حوارا مع المتنبي في حركية الوزن عنده، أو لكي أقيم أحـيانا، تجاورا بين أشكال من الكتابة متباعدة ومتناقضة. وفي ما يتعلق بالجواهري، فإن ما كتبته عنه لم يكن نقدا له بقدر ما كان توكيدا على أن التذوق التقليدي والمعايير التقليدية لا تزال راسخة، وعلى أن جانبا كبيرا في مكانة الجواهري كانت نتيجة لسيادة الجمالية التقليدية أكثر مما هي نتيجـة لشعريته بحد ذاتها. عباس : أدونيس، تقول في أحد مقاطعك "خذ الشعر،
أنت أيها المأخوذ بالمرئي. ارفـعه بيتا، وأقم فيه. سيكون حتما عليك آنذاك
أن تسكن في الجانب الآخر غير المرئي". أدونيس : أولا أحترم نتاج كثير منهم احتراما كبيرا. وهذا الاحترام هو نفسه الذي يجعلني أحب أن يكون بيني وبين بعضهم سجال، من جهة ثانية لا أعتقد أن هناك قطيعة كما يحاول بعضهم أن يرى بين ما نراه وما لا نراه من الأشياء. وأعتقد أيضا أننا لكي نفهم الجـانب المرئي من الأشياء لابد من أن نفهم الجـانب غير المرئي، لأن الجـانب المرئي عابر ولا يفصح عن الشيء، والشعر ليس من جانب العابر، الشعر يلتقط العابر لكي يمسك بغير العابر. لذلك أعتقد أن هذا النوع من السجال بيني وبينهم هو سجال غني ويغني الحركة الشعرية. عباس : لكن هناك فلسفتين للشـعر، فهؤلاء الشـعراء قد يعتبرون أحـيانا- بشكل أو بآخـر- أن مـا تراه عابرا هو أساسي في عالم محكوم. أدونيس : أحترم وجـهة النظر هذه، ولكني لا أفسر الاتجاهات الشعرية العربية بقسمة الشعراء إلى بعض يهتم بالعابر وبعض أخر يهتم بغير العابر، لأنه حتى الذي يهتم بغير العابر ملزم بأن يهتم بالعابر لكن بدرجة أو بطريقة أخرى مخـتلفة. أقسم الشـعراء العرب، بالأحرى، إلى قسمين كبيرين: شعراء يكتبون داخل المعطى، أيا كان هذا المعطى، المعطى المباشر أو المعطى غير المباشر، المعطى التاريخي أو الاجتماعي... الخ ويحاولون أن ينقدوه أو يتأملوا فيه أو يتفجعوا بشكل أو بآخر، ويصلحـوه بشكل أو بآخـر، أو يعطوا عنه صـورا بشكل أو بآخر، لكن يكتبون داخل المعطى القائم. إذا هناك شعراء يقبلون المعطى، لكنهم يعملون على إصلاحه. وهناك شعراء آخـرون يعيدون النظر جـذريا في المعطى ولا يكتـبون داخله، وكـأنهم يحاولون أن يخلقوا عالما جديدا مختلفا كليا عما هو سائد، وأنا من جهتي في هذا الاتجـاه. أنا أرى إلى الشعر العربي من هذه الزاوية. عباس : وجود وجهة أو تيار معني أكثر بالعالم الذي سميته مرئيا (وقد نختلف على هذه التسمية) ألم يجعلك تنتبه أكـثر إلى هذا المكان، في الـعالم، في الحـيـاة، في شـعرك نفسه؟ أدونيس : شعريا، المهم أولا كيف ترى. وليس مجرد أن ترى. ولا أظن أنني تخليت كثيرا عن المرئي، لأني حين أقرأ شعري حتى من "أغاني مهيار الدمشقي" و"قصائد أولى" و"أوراق في الريح"، أجد أن كل هذا الشعر قائم على المرئيـات، لكن نظرتي إلى هذه المرئيات مختلفة، بمعنى أنها ليست وصفية. وأنا ميال إلى الشـعر الذي يخترق المرئي عموديا ويخلخله ويقدم شيئا مختلفا. عباس : هذا يجعلنا ننتقل إلى علاقتك بالأجيال التالية- ولن أسميها جديدة لأنها لم تعد كذلك- هل تلاحظ مثلي أن الشـعر الموزون متـدهور إلى حـد بعـيـد في الأجـيـال التالية؟ أدونيس :جدا . عباس : هل لهذا دلالة عندك؟ أدونيس : طبعا له دلالة. أولا، لا أحد يمتلك حقا، وبشكل كياني معرفة الوزن العربي وموسيقاه، فكيف يمكن أن لا يكون الشعر الموزون الراهن متدهورا؟ كيف يمكن أن نخلق إيقاعات جـديدة بلغـة لا نعرف موسيقيتها، وعناصرها، وتاريخها الفني الجمالي؟ كميا، على سبيل المثال، قلصت الإيقاعات الشعرية العربية في أربعة أو خمسة أوزان، وأهملت أكثر من عشرة. ألم يكن حريا بالحداثة الشعرية مثلا، أن تغني الموسيقى الشعرية العربيـة، بدلا من أن تفقرها؟ هذه مسألة للبحث. ولماذا ننسى أن هناك أشخاصا يجايلونني ويجايلونك ويجايلون الأصغر منا سنا يكتبون شعرا بالتفعيلة الخليلية لا يقلون أهـمية عن الشعراء الذيـن يكتبون قصيدة النثر؟
عباس : لا شك برعايتك للشعراء الشبان، لكن الآن يبدو لي كـأنك لا تشعر بأن هذا الشعر مهم، فـهل هذا صحيح؟ وهذا ليس اتهاما أبدا؟ أدونيس : على العكس. الشعر في كل العالم اليوم لا أشعر بأنه مـهم. وليس لأني أحس بأن الشـعـر العربي غير مهم. فإذا كنت لا أتكلم باستمرار عن الشعر العربي الذي أشرت إليه، فلأني أعتبر أني تكلمت عليـه وعملت من أجله بما فيـه الكفاية، وأوضحت أن هذا الشـعر هو شـعرنا وشـعر مستقبلنا. لكن إذا وضعناه في إطار الشعر الذي يكتب اليوم، فأنا أعتقد أن الشعر اليوم في نكسة في كل العالم. وأنا لست ضده إطلاقا، بل أحبه. يكفي أن أحبك أنت وبعضا آخرين. الحب ليس للكم بل للنوع، فهناك نوع من التعبير بالشعر وبالنثر، اليوم أعتقد انه هو شعرنا، وهو شعر مهم، وهذا ما قلته وأكرره مرات. لكن بشكل عام، الشعر اليـوم غائب في العالم كله وليس عند العـرب وحدهم. ليس هناك من شعر اليوم يمكن أن تقرأه ويعطيك شيئا لا تعرفه، أو يطرح عليك أسئلة ويفاجئك، أو يفتح لك أفقا جماليا ومعرفيا جديدا.
أدونيس : بعضهم في الأوساط الشـعرية والأدبيـة، لا يعدني لبنانيا. المهم هو ماذا أعد نفسي. ليس الخـارج هو ما يحدد انتماء ك. ولا يكون الانتماء بصكوك يوزعها أصحاب امتياز لمن يشاءون. هذه مسألة مدعاة للسخرية لأن لبنان هو أكثـر من جغرافية. لبنان، كما أفهمه وأحبه، مشروع إنساني وحضاري، وثقافة تفيض عن حدوده. أو لأقل: هويتـه الإبداعية تتجـاوز حـدوده السياسية- الجغرافية. ماذا يمكن أن نستنتج لو تساءلنا: لماذا لم يشكك هؤلاء أنفسهم بلبنانية يوسف الخال، مثلا، وهو في رأيي أكثر لبنانية من أي لبناني، بالمعنى الثقافي الذي أشرت إليه- مع أنه كما يعرف الجميع، من أصل سوري؟ ويمكن أن أسمي أسماء أخرى كثيرة، وفي مختلف الميادين- الآن، وأمس، وقديما. لكن مرة ثانية، هذه مسألة بائسة، وأعدها ضد لبنان في المقام الأول. عباس : رأيك في الشعـراء اللبنانيين ليس رأيا آخر. وبهذا المعنى أشعر بأنك لا تملك تقديرا عميقا للشعر اللبناني. أدونيس : ليست المسألة على هذا النحو. وربما لا تقصد بسؤالك إلا الشعر اللبناني الراهن. ثم أنني لا أعتقد بوجود كتلة موحدة واحدة اسمها الشعر اللبناني أو المصري أو العراقي، أو ما أشبه. هناك شعر عربي بلغة عربية واحدة، وشعراء ينتمون إلى هذا البلد العربي أو ذاك. في كل حال، أقول إن معظم الشعراء اللبنانيين، وأنت في مقدمتهم، تربطني بهم علاقات شعرية وصداقية إنسانية، وأكن لعدد منهم تقديرا كبيرا. غير انني على صعيد التقويم، أتحفظ كثيرا. ذلك أن العالم الذي يسير فيه الشعر في لبنان، وفي البلدان العربية بعامة، ليس عالمي. وطبيعي أن لكل حـريتـه في اخـتيـار الطريق التي يشـاء، وشواغلي الفنية والفكرية آخذة بالاختلاف، جذريا وكليا، عن شواغل معظم الشعراء في لبنان. ومن هنا يجيء تحـفظي. فأنا أخشى في الكلام عليهم بسبب اختلافاتنا هذه على جميع المستويات، ألا أكون عادلا أو ألا أكون موضوعيا. عباس : بالعودة إلى الكتاب، هل ترى أن الكتـاب من زاوية شعرية هو أيضا نوع من خلاصة شـعرية لك. فـأنا أحس بأن كل شـعـرك مـوجود بدرجـة أو بأخـرى في مـراحل مختلفة في هذا الكتاب، حتى أني أرى أن كثيرا من شعرك الوزني وشعرك النثري موجود في هذا الكتاب، هل هناك شيء من هذا؟ أدونيس : لا أعتقد أن كتابا شعريا يلخص كتبا سابقة. وعلى الرغم من حضور شواغل مستمرة في أعمالي، كما هو الشأن بالنسبة إلى أي شاعر فإن كل كتاب يبقى لحظة متميزة. وفي ظني أن "الكتاب" هو بين كتبي، الأكثر شمولا، والأكثر نضجا. عباس : في هذا الكتاب الضخم الذي أصبح حتى الآن مكتوبا فيه حوالي ألف ومئتي صـفحة، تطرح مشكلة البناء، كيف يمكن أن ترى بناء هذا النص. الشكل، كـيف يمكن لهذا الكتاب أن يملك شكلا؟ كيف تتصور معمار هذا النص؟ أدونيس : هو كما يبدو لي، أمواج متلاحقة في محيط واحد. ربما تبدو في القراءة السريعة رتيبة. لكن بقدر ما تبدو ظاهريا كذلك، تخبئ تنوعا كبيرا بحيث انه ليس من الممكن أن نجد موجة تشبه الأخرى- فيما إذا قرئ بدقة وعمق، خصوصا أن هناك تعددية شكلية: نص موزون، نص منثور، شـذرة مـوزونة أو منثورة، نص سـردي.. الخ بتكوينات متداخلة أو متوازية، في مزيج ضخم من أشياء العالم وأشياء الذات، أشياء التاريخ وأشياء السياسة... الخ. ولا أتحدث عن التقنية الشعرية مع هذا كله. عباس : ما هو المجلد الثالث؟ أدونيس : الجزء الثالث هو الذي سيكشف هوية الكتاب الحقيقيـة، لا هويته على صعيد الرؤيا والفكر والعلاقة بالتاريخ، إنما هويتـه على الصعيد التشكيلي وعلى الصعيد الفني. وقد يكون هذا الجزء أهم جزء. عباس : هل اشتغلت على شيء منه؟ أدونيس : نعم، أشتغل فيه وأرجو أن أنتهي منه بسرعة ليكتمل الكتاب. عباس : هل هذا- كما أعرف- آخر ما تكتب شعرا؟ أدونيس : ربما. إذا كـان النثر لا يعد شعرا، أظن أن الشعر لا يهجر، لا يمكن التخلي عنه، لكن لدي مشروعات تترية عديدة، بدأت بعضها ولم أستطع أن أكمله. لذلك سأخصص معظم وقتي لإنهاء هذه المشروعات. أما الشعر فيقتحم بابك، ولو أغلقته وتحصنت وراءه- كلما شاء وحينما يشاء. عباس : كيف تكتب كتابا ضخما من هذا النوع، بأي تواتر؟ كم ساعة في اليوم…؟ أدونيس : : أشتغل، وأكتب كما أقرأ وكما أحلم، وكما أفكر وأتنفس. عباس : هل خططت قبلا، أي أتيت بالاستشهادات والوقائع والأشياء التي أردت التكلم عنها، هل تم تخطيطها من قبل؟ أم تفعل ذلك أثناء الكتابة؟ أدونيس : قسم منه تم تخطيطه مسبقا وخصوصا الوقائع، لكن ليس في الأمور الأخـرى التي تكون بدون تخطيط. عباس : هل تنكسر خطة ما عادة؟ أدونيس : نعم، تنكسر و تتغير و تقلب… عباس : هل تكتب لسـاعات متواصلة أم في أوقـات محـددة عن أجل إنهاء الكتاب؟ أدونيس : ليس هناك من ساعات محددة، لكن أحيانا تمر أيام عديدة لا يتسنى لي فيها كتابة حرف، وأحيانا أكتب عشر ساعات في اليوم الواحد. عباس : وتستطيع ذلك؟ ألا يرهقك ذلك؟ أدونيس : أبدا. وليس عندي نظام في الكتابة، وأكثر ما أكتبه هو في المقاهي وليس وراء طاولة، أو أكتب وأنا مستلق (مثلك الآن). ولم أكتب قصيدة في عمري وأنا وراء الطاولة. ينبغي أن أكون خارج النظام لأكتب شعرا.
|
||
رجوع | ||