أمل دنقل

دراما في العمق ولكن لانهاية لها

علاء خالد
(الإسكندرية/مصر)

عندما بدأت تتكون أحاسيس الرفض للواقع الذي أعيش فيه، وبدون أن أكون مؤدلجاً سياسيا، حدث هذا في أول سنوات الجامعة، وبالتحديد عقب زيارة السادات للقدس.. في ذلك الوقت كان الفكر المسيطر علي الجامعة هو الفكر الديني والذي أسس رفضه لنظام السادات من منطلق أحادي، داخل هذا الرفض الديني كان المجال خصبا فقط لا ثبات الخطأ علي النظام وليس إبداع مقاومة فكرية له. ربما أسالسنوات.خطباء المساجد بالإسكندرية، كانوا يؤسسون للعلاقة الطبيعية بين الدين وبين الرفض للنظام عبر خصائص ذاتية لهم، عبر موهبتهم الخاصة، أتذكر منهم الشيخ المحلاوي والشيخ محمود عيد.

في تلك السنوات .. بدأت بالتعرف علي أمل دنقل وقصيدته 'لا تصالح' كانت القصيدة مزيجا من مواجهة شعرية للحظة السياسية وفي نفس الوقت لها مرجع تاريخي عربي، هل هناك تراوح بين اللحظتين، ربما هو السبب الذي جعل القصيدة تلتف حول مأزق المباشرة السياسية، كنت أشعر في شعر أمل دنقل موهبة خاصة، قدرة علي الارتجال الشعري، علي تمثل ذات جماعية كانت هي هدف تلك المرحلة التاريخية.. وأندهش ان قصيدته 'الكعكة الحجرية'.. كانت هي أغنية مظاهرات الطلبة عام..72 بالتأكيد هي لحظة فريدة يجب ان يؤرخ لها، لحظة التحام الشعر بالناس، ان يجد الناس في الشعر ذواتهم الرافضة، الرفض الموقع بالموسيقي.
في نفس الوقت كان الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم يشكلان ظاهرة غنائية، كان شعر أمل دنقل جزءا من شفاهة تلك اللحظة التاريخية، سريع التحول والتبني والتمثل من سياقات ثقافية واجتماعية، ويحتوي داخله علي ما يوحده مع الذاكرة الجماعية، لحظة الشفاهة هي لحظة فرح عارم بالتعاضد، وشعر أمل دنقل كان يقف، مع غيره، وراء هذا الفرح.
داخل هذه الذات التي كان يتحرك فيها أمل دنقل، ستجد أشخاصا ومواقف ملتبسة وغموضا وكلاما مؤجلا وأماكن وتفصيلات وخيبات، ستجد ذاتا تتراوح بين الانكسار والسمو، هذه الذات لا تخدم فقط علي فكرة الرفض أو التمرد وإنما تفسح المجال أمام أدوات التمثيل الأخرى للوعي الإنساني، الحب، التعاطف، الحزن تلمح رقة ما وراء هذا الرفض، لقد جمع أمل بين المباشرة والعمق وأظن أنها موهبته الخاصة التي تسبق أي وعي سياسي، انخرط فيه، الموهبة تظل قلقة وتتنافر مع أي وعي مضاد لها، تتجاوزه.

لا يمكن ان أنسي في هذا السياق الشاعر السوري محمد الماغوط، واعتقد أنه أيضا كان مرجعا شعريا للرفض، لتمرد جذري سياسي وديني، ولكنه يحتفظ بشجن رومانسي لتلك الذات المقهورة، أو المطاردة التي يحملها. مسرحه ودواوينه يؤسسان اللحظة الشفاهة نفسها، القصيدة عنده كلام ممتد لا آخر له، وكل قصيدة ترتبط بغيرها لاشيء عنده اسمه وحدة القصيدة، وكذلك أفكار مسرحه تتناقل من مسرحية لأخرى، حول السلطة والحرية والدات الوحيدة التي تقف أمام شيء في غاية القسوة.. كأننا أمام سياق، دراما في العمق ولكن لانهاية أو أطراف لها. وربما هي جدارة محمد الماغوط وكذلك أمل دنقل، ان المأساة متشعبة وليست أحادية.

ثم يأتي الديوان الأخير لأمل دنقل 'أوراق الغرفة 8'، وهو الأثير بالنسبة لي، ليؤرخ لشيء مختلف لتصادم الذات مع الموت، بنفس تقنيته اللغوية التي يستخدمها من قبل، السطح الشفاف للغة والتراكيب القليلة، ولكنها ماسة في العمق، كأن هذه اللغة وليدة عمق إنساني كما يحتوي الرفض يحتوي أيضا الموت، بكلام آخر لم يعطل الرفض أدوات الوعي الأخرى.
أي لحظة إيديولوجية، بشكل ما، هي لحظة شفاهة، ان نراهن علي كل ما بداخلنا ونرتجله سريعا، بدون حساب للمستقبل، كل هذا يحدث أمام إغراء التغيير، التحول، أو اليأس الذات تريد ان تقول كل ما عندها قبل ان تختفي أو يتغير السياق من حولها، لذا تكون هذا الذات فاجعة وسقوطها مدويا
كل هذا حدث في مصر، بمعني ان الذات السياسية كانت هي المسيطرة، وان التمرد والتمثل له لم يكونا كاملين، ربما اقتطع أمل دنقل لذاته الخاصة مكانا داخل هذه الذات السياسية، صنع مكانا بقدر عمره وبقدر موهبته وبقدر السياق الثقافي الذي عاش فيه.. دائما كان هناك سقف للأحزان وللموهبة وللتمرد وللتفرد والاختراق والتحليق خارج هذا السقف.
ربما يكتب، أمل دنقل أهمية أخرى، ليست نابعة من شخصه ولكن من التاريخ الذي جاء بعده، هناك تحول جذري للذات الشعرية التالية علي أمل دنقل، أصبح هو وقلة من الشعراء آخر صوت خاص في تلك السلسلة من الشعراء الرافضين في الشعر العربي، الذين لهم تصور صادم مع السلطة السياسية، وصنعوا غنائيتهم عبر هذا. لذا سيتحول الي 'أثر' هام مع توالي السنوات وإيغال موته.. هناك إحساس عام الآن بصعوبة استعادة مثل هذا الصوت مرة أخرى

رجوع