أمل دنقل

في السويس.. بكيت حاجتي إلي صديق

محمد الراوي

المشهد الأول: الزيارة الأولي

في مهرجان حافظ
وشوقي.. قبل الرحيل

أيقظتني أمي من قيلولة الظهر قائلة لي: فيه واحد عايزك واقف عند الباب قلت لها وأنا أفتح عيني بصعوبة: ألم يقل لك من هو.. لا أحد يزورني في هذا الوقت. قالت تأمرني: قم..
هو واحد طويل ونحيف وبيقول إن اسمه أمل.
قمت منتفضا من فوق سريري صائحا: أنه أمل دنقل.. أول مرة يزورني في البيت. خرجت إليه فوجدته واقفا علي آخر سلمة بجوار باب الشقة. سلمت عليه وجذبته من يده ذات الأصابع الطويلة لأدخله حجرة الصالون.
كان طويلا نحيلا ذا شارب خفيف، وشعر رأسه ناعم يميل الى اللون الكستنائي الغامق، مفروقا من جانب. أحسست به تعبا مكدودا وهو يلقي بجسده علي المقعد الفوتيل، استرخي وانقسم هيكله الى نصفين، نصف يستند علي ظهر المقعد، والنصف الآخر تدلي الي أسفل وقد مدد ساقيه الطويلتين فشغلت مساحة كبيرة أمامه.
قال باقتضاب: هل أيقظتك من النوم؟
قلت: لم أكن نائما.. كنت أستريح.. عدت من عملي منذ قليل.
تطلع حوله ناظرا الي كل شيء في حجرة الصالون.
قلت له: هل أحضر لك غداء؟
قال باقتضاب: لا.. لقد أكلت.. أريد كوب شاي ثقيل.
خرج من الحجرة وطلبت من أمي أن تجهز كوبين من الشاي الثقيل.
قالت هامسة: هل هو صاحبك؟
قلت: نعم.. وهو معنا في الندوة، إنك لم تره من قبل فهو ليس من السويس، أراه في الندوة أو أجلس معه علي المقاهي أو أذهب إليه في حجرته التي يستأجرها.
قالت: زائر يعني..
قلت: انتقل من جمرك الإسكندرية للعمل في جمرك السويس.. كفاية أسئلة يا أمي.
قالت: يبدو انه صعيدي
قلت: هل يبدو عليه ذلك؟
قالت: لهجته صعيدي
قلت: هو صعيدي فعلا.. من القلعة
قالت: جاركم يعني.. أبوك يعرفهم كلهم.
قلت: أنا من الإشراف لكني لم أولد ولم اعش فيها، أمل ولد هناك وعاش في الصعيد فترة شبابه.. مثل أبي قبل أن يأتي ليعيش في السويس.
قالت: طيب روح أنت له وسآتي بالشاي حالا.
عندما دخلت عليه حجرة الصالون وجدته دائما، لم ساقيه الطويلتين فارتفعت ركبتاه الي مستوي صدره، فيما كان رأسه مستندا علي حافة المقعد مغمض العينين.
سحبت نفسي الي الخارج مغلقا باب حجرة الصالون بحرص وهدوء وبقيت مع أمي في المطبخ حتى جهزت الشاي ووضعت الكوبين فوق الصينية.
قالت قبل ان اخرج من المطبخ: هل هو يكتب مثلك؟
قلت: انه شاعر يا أمي.. أنا اكتب القصص..
قالت: يا ابني مش كله كتابة..
قلت: لا يا ماما.. هذا الكتابة تفرق، وبعدين أمل نشر شعره في مجلات كثيرة ومعروف أكثر مني، وأنا يا دوب قصتين منشورتين.
التقط أمل كوب الشاي بأصابعه الطويلة وقام واقفا
قال: فين المكتبة بتاعتك يا محمد؟
قلت: إنها في الداخل.. من هنا.
كانت مكتبتي في حجرة داخلية، حجرة حبيس في نهاية حجرة الصالون لها نافذة تطل علي الحارة ومعزولة عن ضجة البيت. رفوف علي الحائط ملآنة بالكتب ومكتب ومقعد وسرير فرادي صغير.
أخذ يقرأ واقفا أسماء الكتب من كعوبها ويسحب بعضها ليطالع الغلاف أو يفر أوراقها فرا سريعا. سألني : أين المجلات.. مجلة المجلة، الشعر؟
أشرت له ناحية الأرض. كانت المجلات باختلاف أنواعها مرصوصة بجوار الحائط فلم يكن لها مكان فوق الرفوف. قرفص أمل علي أرض الحجرة ووضع كوب الشاي بجواره واخذ يتصفح المجلات باحثا عن قصائده بين صفحاتها.
ذلك ما أتذكره في زيارة أمل دنقل الأولي لي.. وكنا في أواخر عام.1965

المشهد الثاني: قصيدته (السويس)

بعد مرور عشرين عاما علي رحيل الشاعر الكبير الغائب الحاضر أمل دنقل (رحل عصر يوم السبت 21/5/83) أجدني كلما قرأت قصيدته (السويس) متوقفا أمام البيت الشعري الذي يقول فيه:
وفي سكون الليل في طريق، بورتوفيق.
بكيت حاجتي الي الصديق
قضي أمل دنقل قرابة العامين (6566) يعمل موظفا بمصلحة الجمارك بالسويس، وكانت السويس آخر محطة لتجواله بعدها استقر في القاهرة حتى رحيله. في تلك الفترة ظهر الشاعر أمل دنقل في ندواتنا الأدبية وجلساتنا الثقافية الخاصة سواء في بيوتنا أو علي مقاهي المدينة أو ونحن نتجول في شوارعها. وقد انعقدت علاقات الصداقة والزمالة بينه وبين مجموعتنا: الأداء والشعراء احمد حافظ، الكابتن غزالي، مصطفي نجا، محمد عطا، محمد محفوظ، كامل عيد رمضان، والراحلين محمد شطا، محمود الخضري، عبد الفتاح القليعي وغيرهم. إلا أني مازلت حتى هذه اللحظة اشعر بالألم الدفين المصحوب بالتساؤل.
عندما بعث إلينا أمل من القاهرة بعد حرب 1967 بقصيدته (السويس) وكنا من قبل قد قرأنا قصيدته النبوئية المتفجرة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التي انتهي من كتابتها بعد حرب يونيو 1967 بأيام قلائل. إن لم تكن ساعات، حيث انداحت القصيدة لتدخل الي قلوبنا الجريحة، هذه القصيدة لم تنطلق كالصرخة في تاريخ كتابتها (13/6/67) إنما كانت في وجدان الشاعر قبل ان ينفجر بها صوته وقلمه، وجو المأساة يخيم علي حياتنا:

أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات
والدماء
ازحف في معاطف القتلى وفوق
الجثث المكدسة..
منكسر السيف، مغبر الجبين
والأعضاء.
ولم تكن قصيدته (السويس) إلا صرخة آخرى تعبر عن ألم الشاعر وهو يري جزءا عزيزا عليه من العالم الذي عاش فيه ردحاً من الزمن، يتهاوى ويحترق:
والآن.. وهي في ثياب الموت
والفداء
تحصرها النيران.. وهي لا تلين
اذكر مجلسي اللاهي علي
مقاهي (الأربعين)
بين رجالها الذين
يقتسمون خبزها الدامي، وصمتها
الحزين
ويفتح الرصاص: في صدورهم:
طريقنا الي البقاء
ويسقط الأطفال في حاراتها
فتقبض الأيدي علي خيوط
طائراتها
وترتخي.. هامدة، في بركة الدماء

المشهد الثالث: ذكريات.. وقصيدة متي

أعود وأقول لقد استردت مصر كرامتها وكرامة العرب في حرب أكتوبر 1973، كما استردت مدينة السويس وكل مدن القناة بهاءها، استطعنا ان نحصر أثار الماضي في ركن دفين، نتعلم منها كيف نعمل من اجل المستقبل ونحن نتطلع إليه.
أقول رغم هذا، فما زالت ذاكرتي ترتد الي الوراء كلما قرأت في ديوان أمل دنقل (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) المقطع الأول من قصيدته 'السويس' خاصة الجزء الذي يقول فيه:

عرفت هذه المدينة
سكرت في حاناتها
جرحت في مشاحناتها
صاحبت موسيقارها العجوز
في (تواشيح) الغناء
رهنت فيها خاتمي.. لقاء وجبة
العشاء
وابتعت من (هيلانة) السجائر
المهربة
وفي الكبانون سبحت
واشتهيت أن أموت عند قوسي
البحر والسماء!
وسرت فوق الشعب الصخرية
المدببة

ما أشد وقع هذه الكلمات علي نفسي وربما علي آخرين عاشروه عندما كان بينهم في السويس. لم احزن لأني كنت أعتبر نفسي صديقا له، فما أكثر أصدقائه، بل لأنه لم يجد فيمن كانوا يحيطون به في السويس من يعتبره صديقا له بمفهومه الخاص!
لم يجد أمل دنقل في مجموعتنا من هو صفو له في جانب هام من شخصيه مما خلق حاجزا شفافا لا يري ولكن ممكن الإحساس به. كان فريدا وشاذا عن المجموعة، وكان أمل يبحث عمن يماثله، ولكن أي مماثلة؟ هذا ما كان متواريا في خفايا ذاته ولم نصل إليه.
ذكرني صديقي شاعر العامية كامل عيد رمضان الذي عاش معنا هذه الفترة بقصيدة كتبها أمل في مرحلته الأولي وكانت بعنوان (متي) نشرتها مجلة صباح الخير في أوائل عام 1966 وقامت المجلة بالتعليق علي القصيدة في نفس العدد الذي نشرت به. كان التعليق مدخلنا الي الحديث عن شخصية أمل إما التعليق فيمكن تخمينه بعد قراءة القصيدة.
هذه القصيدة لم تنشر في أي من دواوينه، لكني عثرت عليها ضمن مجلد أعماله الكاملة التي قدم لها الدكتور الشاعر عبدالعزيز مقالح تحت فصل (قصائد متفرقة)، وكان عنوان القصيدة باسم آخر هو 'نجمة السراب' وربما قام أمل يتغير اسم القصيدة لأسباب ما قد تكون فنية، أو لما يرمي إليه هذا التساؤل (متي؟) لأن تعليق مجلة صباح الخير علي القصيدة كان يركز علي المعني الذي يرمي إليه هذا التساؤل من خلال أبيات القصيدة.
والسؤال هنا.. لماذا احتفظ أمل دنقل بهذه القصيدة دون أن يضمها مثلا الي قصائد ديوانه الأول 'مقتل القمر' خاصة ان هذه القصيدة مثل مرحلته الأولي؟ لم يكن أمل قد تبوأ قمة الشهرة وقتذاك (1966) وكان يجتاز مرحلة البحث عن شخصيته الشعرية وأسلوبه الخاص، ولا تشكل هذه القصيدة أهمية خاصة بها، بقدر ما كانت محورا ومدخلا للأصدقاء الي سريرة إنسان يعتبرونه صديقا لهم ليس إلا، وكان ذلك قبل ان يقولها في قصيدته 'السويس'..1967

وفي سكون الليل
في طريق 'بورتوفيق'
بكيت حاجتي الي صديق.

رجوع