أمل دنقل

عبد الرحمن الأبنودي:
لم أكن أخشي أحدا سوي يحيي الطاهر عبد الله!

يحيي الطاهر عبد الله

ذات صباح شتائي منذ حوالي أربعين عاما أو أكثر دلف إلي مكتبي بمحكمة قنا الشرعية شاب نحيل الجسم جدا ضعيف البنية، قلق النظرات كأن به مسا وقال في 'عظمة': هل أنت عبد الرحمن الأبنودي أنا يحيي الطاهر عبد الله من كرنك الأقصر: جئت للتعرف عليكما أنت وأمل دنقل أغلقت الدوسيهات التي أمامي ودفعت بها إلي أحد الأدراج وقلت له إذن هيا بنا حتى هذا الوقت لم أكن قد عرفت شيئا عن يحيي الطاهر عبد الله ولكني كنت أعرف عن عمه الحساني عبدالله وهو شاعر كلاسيكي ومن تلامذة العقاد ومن أتباعه وأشياعه المتطرفين في الطريق الى البيت اكتشفت أن يحيي الطاهر 'عقادي' أكثر من عمه، حين تأتي سيرة العقاد تستطيل سبابته لكي تصبح في طول ذراع وتخترق عيوننا ويتشنج وجهه الذي لم يكن ينقصه جنون، ويخرسنا جميعا ويستمر في قوة يحاورنا من طرف واحد ونحن صامتون.. صامتون خوفا منه أو خوفا عليه أو إشفاقا علي جسده النحيل من تلك التشنجات القاسية.
في ذلك اليوم أخذنا المسير الى منزل الشيخ الأبنودي ولم أكن أعلم أن يحيي الطاهر عبد الله لن يغادر هذا البيت إلا بعد ثلاث سنوات. منذ أول يوم أصبح فردا من أفراد العائلة ينادي أمي (يا أمه) ويتعامل مع الشيخ الأبنودي كأنه والده واستولي مني علي أخوتي.
وكان أينما يذهب تمشي الشجارات والمشاكل بين أقدامه.
فوجئنا أمل دنقل وأنا أن يحيي شديد النهم للقراءة وأن اطلاعاته الأدبية تفوقنا بكثير، ربما لأنه أتيح له أن يقرأ في مكتبة عمه. ولأول مرة في حياتنا نكتشف إنسانا ينتمي حقيقة الى الثقافة يدافع عن آرائه حتى الموت، بحميمية وصدق مما يدل علي أنه اتخذ الثقافة أهلا ومنهج حياة ودارا وعائلة ويتحزب تحزبا مصيريا لما يعتقده. كان قد استقال لفوره من عمله في مديرية زراعة الأقصر، فقط ليأتي إلينا، كان يعاني من مشاكل رهيبة مع زوجة أبيه التي هرب بعض أبنائها من هيمنتها الرهيبة الى الوادي الجديد وغيره وترك بقية أخوته تحت سطوتها وجاء يحتمي بنا.
لم يكن أمل دنقل كما يعرف معظم من عرفه رقيقا مع يحيي وإنما كثيرا ما كان يترجم حبه له في شكل إثارة وشجارات ومعارك لاشك أفادتنا كثيرا إذ كانت تكشف عن مساحات رائعة في ثقافة يحيي وخيالاته الجنونية الجامحة التي لا حد لحريتها كذلك كان سلوكه 'كوارثيا' إذ كان يطبق نفس هذا الخيال الجامح علي الحياة الواقعية للبشر، وفيما بعد حين كتب القصة كان يستعمل بسطاء الناس والمغفلين والمندهشين موضوعات يكتبها بصوت عال ويمارس عليهم ألاعيبه الخارقة التي هي مزيج من العبقرية والعبث الواعي والجنون.
في عام 1962 غادرت إلي القاهرة بعد ان استقلت من عملي بمحكمة قنا وتلا ذلك استقالة أمل واتجاهه إلي القاهرة مثلي وهكذا فرغ الكون حول يحيي في قنا وان كان استمر مقيما في بيت الشيخ الأبنودي عاما آخر بدوني، وقد توثقت علاقته بأهل البيت واعتبر ابنا سابعا للشيخ الأبنودي وفاطمة قنديل التي كانت تحبه شديدا وتعطف عليه شديدا ويخيل لها يوميا أنه سيموت في اليوم المقبل، فقد كان يحيي يجبد التمارض واستحلاب عواطف الآخرين وكان بارعا في ذلك ومعظم ممارساته في ذلك الشأن كانت مقصودة.
كان يحيي يكره الغباء كما لا يكره شيئا آخر وكانت معاركه وصراعاته مع الأغبياء سواء أكانوا أناسا عاديين أو مثقفين أو مبدعين خائبين منطفئين فيما بعد تقلقني سواء في فترة الصعيد أو في فترة القاهرة فيما بعد حين جاء ولكني كنت أدخل معاركه الى جواره دون أن اسأل من المخطئ، فقد كنت اعتقد أن من حق العبقري يحيي الطاهر أن يفعل ما يشاء بالبشر وعليهم الاحتمال.
بعد عام جاء يحيي إلي القاهرة مصطحبا أخي كمال الذي يصغرني مباشرة واضطررت أن أغير سكني بجوار سينما اوديون لأسكن معهما في شقة حقيرة مليئة بالأسرة في بولاق الدكرور وهي الشقة التي كانت أشبه بالملكية العامة والتي كان يتردد عليها أصدقاؤه من أمثال طارق عبد الحكيم، وأحمد فؤاد نجم في ذلك الوقت إلي كمال الطويل كانت هذه الشقة أشبه بالمقهى الشعبي وحولها يحيي الطاهر الى ما يشبه سوق الثلاثاء، فكانت الأسرة تزدحم بالمشردين والغرباء من المثقفين والمبدعين وكان علي أنا أن أطعم كل هذا الجيش من الجنيهات التي أتكسبها من الأغنيات التي كنت اكتبها في ذلك الوقت حيث كان من النادر ان تجد أحدا من أبناء جيلي قادرا علي الكسب.
كان يحيي الطاهر مدخنا بطريقة مفرطة وكنت رغم أني كنت أدخن أنا أيضا لا أطيق الدخول الى غرفته المعبأة بالدخان والتي كان ينام فيها كأنه لن يقوم أبدا.
وكنا ننطلق لشراء الكتب من سور الأزبكية وتعلم يحيي الانفلات من 'سطوتي' ليبيت بعض الليلات عند بعض الأصدقاء لكنه كان دائما حبيب الأمهات جميعا وفتاهن المفضل لمعسول لسانه ولصدقه الشديد في المودة التي تحول فيما بعد إلي 'اسكافي' لها وكتب رائعته (اسكافي المودة).
حتى رحيلنا من قنا أمل دنقل وأنا لم يكن يحيي الطاهر قد كتب قصة واحدة بعد، وعلي ما يبدو فإن وجودنا بثقلنا الإبداعي في قنا كان يعوقه عن التعبير عن نفسه خاصة بعد أن 'توبناه' من التحزب للعقاد وأسهمنا في 'فتح مخه' علي الثقافة الإنسانية الرحبة دون الوقوع في حبائل أحد بالذات.
وكأنه وجدها فرصة في ذلك العام الذي قضاه بمفرده في بيت الأبنودي.
ليكتب رائعته الأولي 'محبوب الشمس' قصته الأولي التي نشرها ثم توالت أقاصيصه العجيبة عن عالمه الأعجب وبدأ يحيي الطاهر شيئا فشيئا يكتشف لغته الساحرة التي مازالت محط أنظار كل القصاصين الكبار والصغار وحلمهم في أن يتملوكها وقد شابهوها وقلدوها ولكن سوف تظل هذه اللغة العظيمة مرتبطة بساحرها الأعظم يحيي.
ثم بدأ اتجاهه للكتابة عن صعيد مصر فسحر العالم وقدمه يوسف إدريس في مجلة الكاتب بمقدمة ساحرة وكنت دائما أقول ليحيي الطاهر إنني محظوظ أنه لم يكن شاعرا فهو الوحيد الذي كان يمكن له ان يشكل خطرا علي إبداعي لأنه كان يغترف من نفس البئر وعاشر نفس الواقع بمخلوقاته وعلاقاته ومشاكله ومفارقاته وأساطيره لم أكن اخشي أمل دنقل فأمل لم يتجه للكتابة عن الريف أو عن قرانا وحياتنا رغم انه عاش نفس الحياة ولكنه كان يؤمن بالفصل بين الذات والموضوع سواء علي مستوي التجربة الحياتية والسلوك الشخصي.
إما يحيي فكان ابنا مخلصا لتجربته مثلي تماما ووهبته قريته الكرنك القديمة حبها واحتضنته بحب وأطلعته علي اسرارها وفتحت لها صندوقها وأطلعته علي حليها الموروث وأشيائها الخاصة جدا وحين تقرأ 'جبل الشاي الأخضر'، 'العالية'، 'طاحونة الشيخ موسي' أو حتى روايته ' الطوق والأسورة' التي كتبت لها الحوار في الفيلم المعروف الذي يحمل اسمها سوف تكتشف انه ينزح من بئر لا ينضب وأن لديه من الكنوز ما لو كان القدر انتظر عليه بعض سنوات لأدهشنا أكثر مما أدهشنا.

***

مازلت أعود الى قصص يحيي الطاهر عبد الله كلما أردت الاتصال به ولقد كانت علاقتنا أكثر من حميمة وكان بالنسبة لي أكثر من شقيق وكانت القاهرة تتعامل معنا علي هذا الأساس بل لقد دعت غرابة محبتنا كلا للآخر الى أن تندهش القاهرة لمثل هذه العلاقة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بين أبناء الصعيد وبالذات في الغربة فيما بعد تركني يحيي ليتزوج وينجب وبدأنا نلتقي كلما وضعته الأيام في مأزق كنت دائما ألعب في حياته دور الوالد بشقيه الجانب الذي كرهه وهو جانب الناصح والمحجم والمنظم للسلوك، والجانب الحنون الذي كان يوقن أن كل ما ملكه هو ملكه في أية لحظة إذا ما احتاجه.
في ليلة عرسه وزواجه من السيدة مديحة أخت الدكتور عبد المنعم تليمه اختفي يحيي ولم يأت وكنا هناك الدكاترة جابر عصفور وعبد المحسن طه بدر وسيد البحراوي والأساتذة فاروق شوشة وسليمان فياض والكثيرون.
ولم يكن هناك إلا ان اجلس علي كرسي العريس بجوار العروس الى ان جاءنا في آخر الليل يصطحب طفلا فقيرا وجده ملقي مشردا تحت أحد الكباري التي ذهب عندها ليحتسي بعض زجاجات البيرة وبجهد جهيد وضعناه علي كرسي العريس وأتممنا الليلة بهرولة قبل أن يرجع في قوله.
يعتبر يحيي الطاهر عبد الله أصدق من عبر عن عالم الصعيد بلا منافس في أدب شديد الحيوية متوهج الأداء خاصة اللغة وقد تكون هناك محاولات لطه حسين أو يحيي حقي لكنها لا يمكن أن تصل الى حرارة صدق التوغل والمعايشة ووحشية الأداء ورقته التي تمتع بها أخونا القاص الفذ يحيي الطاهر عبد الله، ومازلت أري أن حصوله علي جائزة الدولة التشجيعية شي ء قليل جدا بالنسبة لما يستحقه ومازلت أري أن الكثير من أبناء جيله يمارس غيرته منه حتى في موته ويسهم في إسدال ستائر التجاهل والتورية والأبعاد عن يحيي حتى لا تكتشف قيمته الحقيقية بصفته معني القصة القصيرة.

***

كان يحيي في السنوات الأخيرة شديد الاهتمام بالملاحم المصرية وبدأ بالزير سالم فلما أفسدها عليه أمل دنقل في قصيدته العبقرية لم يدع مجالا لأن يستفيد منها شخص آخر في نفس الفترة، فاستعان يحيي بي في فهم السيرة الهلالية وانكب علي قراءة السيرة التونسية بلهجتها الصعبة التي جمعها عبد الرحمن قيقة من الجنوب التونسي، والتي قدم لها ونشرها الطاهر قيقة وكيل وزارة الثقافة التونسية السابق.
وكما كان يحضر بعض الجلسات التي اشرح فيها لأصدقائي مواقف من السيرة واسمعهم بعض التسجيلات.
إن علاقتي بأخي يحيي الطاهر أعمق بكثير من أن تحضر في كلمات يظل يحيي جرحا عاطفيا غائرا في عواطفي الصادقة وضميري وكلما تذكرته اعتصرني وجدانيا بطريقة خاصة جدا، واعتبر إنني قد فقدت جناحي طيراني حين فقدتهما أحدهما بعد الآخر: يحيي الطاهر عبد الله وأمل دنقل!

أخبار الأدب- 22 ابريل 2001

رجوع