أمل دنقل

ثنائية المدينة والثأر في شعر أمل دنقل

أحمد فضل شبلول
(مصر)

أحمد فضل شبلولكلما تعقدت عملية السلام مع (العدو) نلوذ بقصائد المقاومة، وقصائد أمل دنقل على وجه التحديد التي تعبر خير تعبير عن تلك المرحلة الدقيقة التي يمر بها الوطن العربي. وقد كثرت في السنوات الأخيرة، الكتابات حول أعمال أمل دنقل الشعرية، فصدر كتاب "النزعة الإنسانية في شعر أمل دنقل" للشاعر الدكتور جابر قميحة، وكتاب "صورة الدم في شعر أمل دنقل" للباحث مصطفى بيومي، وكتاب "لغة الشعر الحديث ـ دراسة تطبيقية في ديوان زرقاء اليمامة لأمل دنقل" للدكتور مصطفى رجب، وغيرها من الكتب، بالإضافة إلى فصول عن أعمال أمل في العديد من الكتب، مثل كتاب "أصوات من الشعر المعاصر" لصاحب هذه السطور. هذا عدا ما يكتب من دراسات وأبحاث ومقالات في المجلات والجرائد اليومية والأسبوعية والشهرية، وقد قامت الكاتبة الصحفية عبلة الرويني، أرملة الشاعر الراحل، بتجميع معظم ما كتب عن أمل وأعماله الشعرية، في كتاب صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، بعنوان "سفر أمل دنقل"، وقع في أكثر من 750 صفحة من القطع الكبير.

أمل دنقلومن أحدث الكتابات التي صدرت عن الشاعر كتاب "ثنائية المدينة والثأر في شعر أمل دنقل ـ الاتصال والانفصال" للشاعر الدكتور عبد الناصر هلال، وصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إقليم القاهرة الكبرى، فرع ثقافة القاهرة. والكتاب على صغر حجمه (96 صفحة) إلا أنه تناول زوايا مهمة في شعر أمل دنقل، من أهمها تأثير المدينة السلبي على أمل الإنسان والشاعر، حيث تختلف المدينة اختلافا بينا عن بيئة الصعيد التي عاش فيها أمل صباه الأول، حيث "تبدأ الرحلة عندما تطأ قدم الشاعر القروي أرض المدينة، ويقف على أبوابها، يريد أن يلقي أحماله وأحلامه القروية البسيطة، وتشوقه للعالم الجديد الذي يتسم بالحركية، ويحقق فيه ذاته الطامحة للمجد والشهرة والأضواء".
ويتنقل أمل بين القاهرة والسويس والإسكندرية، لكنه يستقر أخيرا في القاهرة التي مارس فيه حياة الصعلكة، إلى أن أقعده المرض في الحجرة رقم (8) بمعهد الأورام.
يتناول المؤلف المدينة في شعر أمل دنقل بين الواقع والحلم والأسطورة، وجدلية القرية/المدينة، وجدلية المدينة/المدينة، وجدلية المكان/الزمان، وقسم المكان إلى المكان الفعلي، والمكان الضمني، حيث "كشفت نصوص أمل بوضوح عن أثر المكان وفاعليته في رؤيته للعالم، من خلال جدلية ذاته مع المدينة، وفي الوقت نفسه استطاعت هذه الجدلية أن تكشف لنا موقفه من المدينة، وموقفه من القرية التي لم تصبح بديلا للمدينة، لكنها أداة من أدوات مواجهة المدينة الجافية، الطاردة، التي جعلته يخلق من نفسه قانونا خاصا للتعامل مع معطياتها، فأصبح كائنا ليليا يمارس طقوسه في أحيائها وأزقتها حتى الفناء، فتجمع القرية على حال التذكر ليعيش مكانين في آن وزمانين في آن كذلك".
أما الجزء الخاص بالثأر في تجربة أمل دنقل، فقد ارتبط الثأر لديه بالواقع المعيش من خلال المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فتشكل في اتجاهين: الأول داخلي، والثاني خارجي. ففي الداخل تأرق أمل دنقل بالفروق الطبقية، وعانى من ويلاتها، فترددت في خطابه ثنائية الطبقية: سادة وعبيد، ووقف منها موقف الرفض والنفور والتمرد. أما على المستوى الخارجي، فقد ارتبط الثأر بمحاولة استرجاع حق مسلوب، وأرض مغتصبة من يد العدو الإسرائيلي، الذي شكل صراعا بينه وبين المجتمع العربي عامة، والمصري خاصة، ولهذا أصبح الثأر ـ في هذا الاتجاه ـ ميثاقا عربيا، حرص عليه أمل دنقل لأنه يشعر أنه لسان أمته، وأصبح مسئولا عن استرداد الحق في الداخل أو الخارج، أو من الأخر.
وعلى هذا يقدم المؤلف تحليلا ذكيا وجيدا للوصايا العشر (لا تصالح)، ومراثي اليمامة، حيث تأتي قصيدة "لا تصالح" أو "الوصايا العشر" متضمنة وصايا كليب المقتول، وتحريض أخيه المهلهل بن ربيعة/سالم الزير، حتى يرفض الصلح، ويستمر في الحرب، حتى يتحقق الثأر له، وبه يمحو عار العرب. وينتهي الجزء الأول من "أقوال جديدة عن حرب البسوس" بالرفض القاطع، خصوصا الوصايا الأولى التي اشتملت على مبررات الرفض وعدم التصالح، ولذا تضيق البنية النصية لتختزل رؤية الذات للعالم، فلا تتجاوز سوى الرفض بالفعل. أما الجزء الثاني "أقوال اليمامة ومراثيها" فيواجه أمل القضية مواجهة أكثر حسما وفاعلية، ويتحول من خطابه مع المهلهل بن ربيعة المعول عليه أخذ ثأر أخيه كليب إلى استخدام شخصية اليمامة ابنة كليب، ليكشف من خلالها رغبته الوحيدة في تحقيق مبدأ العدالة، ووضع الأمور في نصابها. وتقول الرواية إن اليمامة رفضت الدية في أبيها كليب، وكانت تقول: "أنا لا أصالح حتى يقوم والدي، ونراه راكبا يريد لقاكم". يقول أمل دنقل في "مراثي اليمامة":

صار ميراثنا في يد الغرباء
وصارت سيوف العدو: سقوف منازلنا
نحن عباد شمس يشير بأوراقه نحو أروقة الظل
إن التويج الذي يتطاول:
يخرق هامته السقف
يخرط قامته السيف
إن التويج الذي يتطاول
يسقط في دمه المنسكب
نستقي ـ بعد خيل الأجانب ـ من ماء آبارنا
صوف حملاننا ليس يلتف إلا على مغزل الجزية
النار لا تتوهج بين مضاربنا
بالعيون الخفيضة نستقبل الضيف
أبكارنا ثيبات
وأولادنا للفراش
ودراهمنا فوقها صورة الملك المغتصب

هكذا تظل أعمال أمل دنقل حية بيننا، تزداد أهميتها يوما بعد يوم، ولعل زيادة الدراسات حول هذه الأعمال يؤكد عظم الأثر الفني الذي تركه أمل للأجيال بعده.

أحمد فضل شبلول: شاعر وباحث من مصر، له ثمانية دواوين شعرية مطبوعة آخرها ديوان "الماء لنا والورود"، و"الحياة في الرواية". عضو في مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر ومجلس إدارة هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالإسكندرية ورابطة الأدب الإسلامي العالمية والجمعية المصرية لأصدقاء مكتبة الإسكندرية.