أمل دنقل

دنقل كموضوع للشعر

حلمي سالم

لماذا لم أكتب شعرا عن أمل دنقل؟ راودني هذا السؤال بغتة أثناء تحضيري كتاب 'عم صباحا أيها الصقر المجنح' الذي يصدر عن المجلس الأعلى للثقافة محتويا علي القصائد التي كتبها الشعراء (المصريون والعرب) في رثاء أمل دنقل بعد رحيله الأليم في مايو عام.1983
والحق أنني اكتشفت أثناء إعدادي هذا الكتاب أن هذا الشاعر (دنقل) الذي تصور الكثيرون انه كان أثناء حياته ¬نفورا من الآخرين وعدوانيا إنما كان يحظى بطاقة محبة هائلة للآخرين، ومن الآخرين.
وحيث 'ان المعاصرة حجاب' كما يقولون فقد حرر رحيله طاقة حب الآخرين له من قيودها، لتنكشف عن مودة واحترام غامرين للرجل ولتجربته الشعرية علي السواء.
وقد تنوعت قصائد الشعراء في رثاء أمل دنقل بين قصائد تقوم علي عرض مرتكزات شعر دنقل من الحرية والعدل وكرامة الإنسان وتحرير الفرد والوطن، ونصوص تقوم علي عرض صاحبها بمناسبة أمل دنقل، ونصوص تقوم علي المقارعة الجمالية بين نظريتين فنيتين:
نظرية الراثي ونظرية المرثي (الكاتب والمكتوب عنه(.
يجمع بين هذه القصائد جميعا: مرارة فقد الراحل وصدق الشعور بأن الشعر (والوطن) قد خسرا ركنا ركينا ورثاء النفس في قناع من رثاء الآخر.
إذن، لماذا لم أكتب شعرا في رثاء أمل دنقل، لأكون ضمن هذه النخبة المميزة¬ من الأجيال والتيارات المختلفة¬ التي بكت الرجل الذي قال: 'أيها الشعر، يا أيها الفرح المختلس'؟
صحيح ان أمل دنقل ورد عندي في إشارتين عبر نصين صغيرين، داخل سياق أعم. كانت الأولي في قصيدة طويلة بعنوان 'أجمل مريضة سرطان' ضمن ديوان 'يوجد هنا عميان' إذ تقول قطعة من قطع هذه القصيدة الطويلة:

هكذا نري فوارق بينها وبين أمل دنقل:
فهو مخلوق من القافية،
بينما هي موقنة ان سورة يوسف كلام عادي.
صحيح ان الفروق مؤثرة في علاقة المخ بالمخ
غير ان الورقة التي ارتطمت بإسفلت إسكندرية
جعلتهما يتوجسان من خدعة الذين قالوا: نعم
فلا لزوم لأن تلح المرأة في السؤال.
عن الحي الذي يقع فيه معهد الأورام.
حيث الثقافة المغطاة بالدم،
وحيث بات ممكنا امتلاك العالم
بحاسة السمع.

وكانت الثانية ضمن قصائد ديوان 'الثناء علي الضعف 'تحت الطبع في 'ميريت') في قصيدة قصيرة بعنوان 'السرطان' تقول:

بالأمس حلمت به
وبدأت أستعد لأوضاعي في حضوره:
قررت ان استمتع بالشفقة في عيون الأصدقاء
وانتويت ألا أسجل نموذجا لإرادة الحياة
فقط: دموع سيدة بعينها
هي مالم أستقر علي طريقة لمواجهتها
خاصة إذا تحدثت عن ضياع الليلة الأولي
لامرأة لم يقبلها في فمها احد.
لم أتبين أين سيكون موقعه مني:
هل الحنجرة مثل محمد عناني؟
هل المثانة مثل أمل دنقل؟
هل الرئة مثل أم فاطمة قنديل؟
عموما: المعلومات في الأحلام
عادة ما تكون مضببة
فلا داعي للميلودراما
ثم ان السيدة التي رفعت ثوبها
لكي أشاهد شامة البطن
ليست بحاجة الى مزيد من الحسرة.
هون عليك يا سيد
هوني عليك يا سيدة'.

هاتان كانتا الإشارتين اللتين انصرفتا الى أمل دنقل في شعري، لكنني لم أكتب قصيدة كاملة تتعلق من بابها برثاء أمل دنقل فلماذا لم أفعل؟

أ¬ يبدو ان خوفي من 'السرطان' الذي انتشر في الهواء، والذي أخذ مني مجموعة من أعز الناس جعلني أجفل من رثاء دنقل، حتى لا أكون في مواجهة مباشرة مع السرطان.

ب¬ يبدو أنني شعرت بأنني لن أستطيع التعبير شعرا عن تحول موقفي من شعر أمل دنقل من حال الى حال، ذلك التحول الذي عبرت عنه مرات طوال السنوات الماضية، نثرا.

ذلك أنني في سنوات السبعينات كنت¬ مع كثير من أبناء جيلي¬ أري أن شعر دنقل شعر مباشر زاعق لا يعيش، ومع اتساع رؤيتنا الشعرية في سنوات الثمانينات تعدل هذا الرأي المجحف، إذ تكشف لنا ان الشعر الواضح ذا الموقف السياسي الجلي ليس شرا في كل حال، وان شعر دنقل لم يكن كله مباشرا، وأنه يقيم تضافرا مركبا بين الموقف الفكري والتشكيل الجمالي، وان قصائده في سنواته الأخيرة (ديوان: أوراق الغرفة رقم8) بلغت من الصفاء الفني والإنساني مبلغا رفيعا، وأن الشعر عديد وكثير وليس له نبع واحد وحيد أوحد.
هل كان يمكنني أن أعبر عن ذلك التحول بالشعر، مثلما فعلت بالنثر؟ لعل ذلك كان صعبا، ولعله كان ممكنا لكنني جفلت، فلم أقدر علي ما قدر عليه رفيقي حسن طلب، حينما أقام قصيدته 'زبرجدة الى أمل دنقل' 'التي كتبها أثناء مرض أمل لا بعد رحيله' علي تساجل وجهتين في الشعر: وجهة تري ان القريض 'فيوض الجلال ومطلق آياته وغموض الجمال إذا شف عن ذاته، انه كالزبرجد في الرونق المحض، أو كالبنفسج في الروض، وهو الرياضة والمستراض' ووجهة تري ان 'القريض اعتراض وكلام من القلب يجنح للشعب' وصاحبها هو القناص وآلته الاشصاص، وشاعرها يمتاز على أقرانه 'بحاجة مباحة وديباحة مبيحة' فهو 'واحد الندي' إذ يرق 'لواحد القريحة'.
أقول: ربما أشفقت ان أدخل هذه المغامرة الشائكة التي لم يشفق منها حسن طلب، فخاض المغامرة بنجاح ليخرج لنا واحدة من أجمل ما قيل في دنقل وزاد من اشفاقي شعوري بوجوب الاعتراف شعرا بتحول موقفي من دنقل، فعللت نفسي بأن المقالات النثرية قد قامت بهذا الاعتراف وأعفتني من حرج الاعتراف شعرا، لاسيما إنني كنت حريصا في الشعر علي ان أوضح إننا مختلفون عن السابقين، حيث قلت مرة 'هل عاد لائقا لمثلي ان يقول: صافية أراك يا حبيبتي كأنما كبرت خارج الزمن'، وقلت مرة: 'أريد أن أكتب شعرا لعينيك، شريطة إلا أقول فيه: عيناك، يالكلمتين لم تقالا أبدا'، قاصدا إعلان اختلاف جيلي عن عبدالصبور وحجازي.

ح¬ يبدو أنني من صنف الشعراء الذين لا يجيدون إفراد قصائد كاملة في رثاء راحل أو راحلين، حيث أجد ميلي الرئيسي يتوجه إلي إحضار الراحل في النص كإشارة أو إحالة أو تيمة أو عنصر، ضمن المتن الأساسي للقصيدة كلها فعلت ذلك في حالة أمي وأبي وعبدالرحمن بن عمي (الذي رحل بسرطان المخ) وعلي قنديل وسعيد فراج وعدلي فخري ومحمد عيسي القيري وكثيرين من أعزاء حياتي. وهذا مع فعلته مع أمل دنقل.
والشاهد أنني أخاف رثاء النفس، وعندي ان رثائي أي شاعر هو رثاء للنفس وإذا كان شعر أمل دنقل قد ضمن له حياة طويلة في قلب الجماهير والقراء ومحبيه من الشعراء السابقين عليه والمجايلين له واللاحقين عليه، فإنني لا أضمن ذلك لنفسي، ولذا ابتعدت عن رثاء دنقل حتى لا أرثي نفسي فأموت مرتين: مرة قبل موتي ومرة بعد موتي.
ولأنني لم أرث أمل دنقل بقصيدة كاملة، ولأن عبدالمنعم رمضان صديقي، فإن عبدالمنعم سيسمح لي ان أستعير بعض سطور قصيدته 'المتاهة' لأقدمها لدنقل قائلا:

تشرق الآن على حشاي
أنت خائف
وأنت منتش
وأنت غفل
تفتح الباب الذي تطل منه ركبتاك
ثم لا تقول
علقي دمي يا أم في خطاي
أوصديني تجاه الريح
وابحثي عن قامتي في قبري المنسوب لي
تدف كالغبار فوق هذه الجهات
تحسب الحصى خطيئة
وتنتوي الرحيل
إليك شرفة الموتى
وغرفة المعزين
وخاتم العويل
تقدموا إليه إنه الجسد'

ولأن شعر أمل صار ملكا للجميع، فإنني سأسمح لنفسي بأن أستعير كلماته في رثاء الصقر (أليس دنقل هو الصقر؟) وأقدمها إليه، كأنني أرثيه وأرثي الصقر وأرثي نفسي، قائلا:

'عم صباحا أيها الصقر المجنح
عم صباحا
سنة تمضي
وأخري سوف تأتي
قبل ان أصبح، مثل الصقر،
صقرا مستباحا.

رجوع