أمل دنقل

كيف ينظر أربعة شعراء مصريين شباب إلى تجربة "الجنوبي"؟

علي عطا
القاهرة

كيف يرى الشعراء الشباب في مصـر إلى ظـاهـرة الشـاعر أمـل دنقـل؟ مـا هو رأيهم في تجربته عموماً وفي لغته الشعريـة ومواقفـه السياسيـة الاحتجاجيـة والتـي تجسّـدت أكـثر ما تجسدت في قصيدته "لا تصالح"؟ هذه الأسئلة حملناهـا إلـى أربعـة شعـراء مـصريـين شباب يمثلون تيارات مختلفة، بغية الوقوف على العلاقة التي تجمعهم بشاعر هو من روّاد القصيدة الحديثة!

****

لخروج من نفق الغنائية إلى أفق السردية

كريم عبدالسلام

عرفته بعد سنوات قليلة من موته، كنت صبياً يحلم بالشعر ووجدت أعماله الكاملة بالمصادفة، فتعلقت بها وبه. فتحت أعماله الكاملة في طبعتها الأولى طاقات التعبير أمامي وحددت لي طريقاً مشيت فيه سنوات. وما زلت اذكره بعد مرور 15 سنة بشيء من الفرح والأسى معاً. في تلك الفترة الأولى من تكويني كان الراحل أمل دنقل نجماً كبيراً يتبارى كتَّاب المقالات الثقافية في تعظيمه ميتاً، وفي توضيح مدى خسارتنا بفقدانه. ويحكي معظمهم عن الصداقة الحميمة التي ربطتهم به وربطته بهم. وكان عدد من الشعراء التالين له يهاجمونه بعنف ويختزلونه في "البوق السياسي" و"الشعر المباشر" و"الالتزام المرفوض الذي يقتل الشعر" و"التقليد الزاعق في مواجهة التجريب الغائب". وبين الفريقين اللذين لم يستطيعا تقديم خطاب نقدي يحيط بعمل الشاعر ظلت أعماله الكاملة لصيقة بي وبعدد كبير من الشعراء الطالعين في أواخر عقد الثمانينات. حتى بعد ان تخففنا من تأثيره ظلت أعماله هذه الاختزال الموضوعي لشعر التفعيلة في مصر. فهو بحق الشاعر الأغنى والأبرز من بين الشعراء التفعيليين، فهو تجاوز أولئك الرواد المشاهير ولم يستطع من جاء بعده من شعراء تفعيليين تقديم جديد يسبقه.

ذلك أن أمل دنقل، في الحقيقة جمع بين وضوح الرؤية والسعي الدءوب إلى إيجاد حلول جمالية مبتكرة دائماً تتجسد فيها رؤيته الواضحة هذه، وقدم في ذلك نجاحات ملحوظة، من الاستخدام الموفق لأقنعة التراث ومروراً بتوظيف تقنيات المسرح كالحوار وتعدد الأصوات في القصيدة، وانتهاء بالقدرة الفائقة على اعتماد معجم لغوي معاصر وتحميله بشحنات دلالية وتعبيرية باهرة.
وفي الوقت الذي كان الحديث عن العودة إلى التراث وتوظيفه حديثاً دعائياً في معظمه وفقير النتاج، كان أمل يعمل بدأب على إيجاد صلة حقيقية بين متناقضين: زمن مضى وزمن معاش. وهذه المفارقة تتجلى كما افهم في توظيفه الكتاب المقدس توظيفاً إبداعيا في ديوانه "العهد الآتي" حيث يقول مثلاً في قصيدة "صلاة": "أبانا الذي في المباحث نحن رعاياك / باق لك الجبروت وباق لنا الملكوت / وباق لمن تحرس الرهبوت".
ان الصدمة وإثارة الدهشة كانتا من الأفعال التي صاغها الراحل في رؤيته لتراثه ولكيفية توظيفه في قصيدته، ولم تكونا كما أشيع من أشكال الاستسلام تحت عجلات التراث وإعادة سرده من جديد في جمل متتابعة يجمع بينها العروض التفعيلي. وتظل قدرته الآسرة على الإمساك بما هو شعري متعدية لنوعية القصيدة التي اختارها قصيدة تفعيلية وأحيانا عمودية، وهو في ظني ما يجب الوقوف عنده في شعر أمل دنقل. كان موهوباً وملهماً في إدراك المنطق الشعري للعلاقات بين الأشياء والأشخاص والأزمنة، وكذلك بين شعره والنتاجات الإبداعية الأخرى وفي مقدمها السينما، والشواهد على ذلك لا تحصى: "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" مثالاً وكذلك قصيدة "رباب" من ديوان "تعليق على ما حدث" ويقول فيها: "لا نهدها اليمامة التي تهم بانطلاقها / ولا انحسار الثوب فوق ساقها هو الذي حاصرني في الجسد الجزيرة / لكنه شيء كأنه اليتم / كأنه الفرار / يذوب بين ذراعيّ فتهدأ السريرة".
وفي قصيدة "حديث خاص مع أبي موسى الأشعري" في ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة": "إطار سيارته ملوث بالدم / سار ولم يهتم / كنت أنا الشاهد الوحيد / لكنني فرشت فوق الجسد الملقى جريدتي اليومية / وحين اقبل الرجال من بعيد/ مزقت هذا الرقم المكتوب في وريقة مطوية / وسرت عنهم ما فتحت الفم".
إن ما طوره أمل دنقل في شعره منذ البدايات الأولى وحتى "أوراق الغرفة 8" كان تجاوزه إلى الغنائية التي وسمت قصيدة التفعيلة عموماً إلى نوع من الحبكة الشعرية الدرامية المحملة بالإحالات، سواء كانت تراثية أم سياسية أم اجتماعية ساخرة، وتظل هذه الحبكة الدرامية العنصر الرابط بين نتاج أمل دنقل تحديداً وبين الشعراء التالين له. فقد مثل نتاجه الشعري بداية فعلية للخروج النهائي من نفق الغنائية إلى السردية الكاملة كما تمثلت في قصيدة النثر الراهنة.

****

إقامة دائمة تحت الراية البيضاء!

محمود قرني

يبدو أن تفاؤلاً كبيراً أحاط بأنصار شعرية الخطاب بمجرد انطلاق أولى قذائف "ضمير ما بعد التاريخ" على بغداد. ثمة استيعاضات يحاول المجتمع المقموع ان يجريها على جسده عند كل مأزق غليظ من هذا النوع البغدادي. وربما كان أمل دنقل واحداً من هؤلاء الشعراء الذين استعاضتهم أو استعادتهم شعرية هذه اللحظة إيمانا بأن شعر أمل أصدق من سيوف العرب أجمعين. ولا أظن ان احتفاءنا بالشاعر والشعر بهذه الحماسة غير المسبوقة سوى تسليم من المهزومين بإقامتهم الدائمة تحت الراية البيضاء. وعلى رغم أنني تعبتُ كثيراً وراء اصطياد شعرية أمل دنقل والاحتفاء الحقيقي بها على رجاء إشعال سراج كونفوشي ضعيف، إلا أنني بعد ردح من الزمن اكتشفت وقوفي على مشارف الصحراء العربية وأعود بما أنجزته الشعرية العربية، في حساسيتها المستقبلية وكشوفاتها العظمى لدى نماذج عدة لا يمكن ان نغفل منها السؤال الذي يخترق الماضي والحاضر ببسالة لدى أدونيس، وكذلك انعطاف التأمل الإنساني لدى صلاح عبدالصبور إلى جماليات تفارق الذائقة القارة والتليدة التي كانت تؤسس لبهائها شعرية أمل دنقل.
وأظن أيضا ان ما نفعله بإلقاء أجسادنا المنهكة على طاولة تجاوزتها الشعرية العربية هو نوع من النوستالجيا غير الأليفة. وسيظل الاحتفاء بشعريات من مثل أمل دنقل يجدد سؤال هذه النوستالجيا باعتقاد فشل أو إخفاق ما ظننا انه ماض لن يحيا إلا في أضابير يوم القيامة. وربما لهذا السبب لن أتمسك بتشاؤمي حيال المستقبل، لأن متلقينا الطيب لا يدرك أن التجاوزات الحاصلة على هذه الأرض أدركها الشعر مبكراً لدى كثيرين حلت خطواتهم محل خطوة أمل، وصاروا قابضين على ذواتهم إلى جواره. وسيظل أيضا فشلنا في استيعاب لحظتنا راجعاً إلى إعطاب أخرى أصابت العقل العربي، ليس الشعر بالتأكيد احدها، بل ربما كان احد ضحاياها. ان الاحتفاء بأمل دنقل أمر مهم لا شك، على أن يكون ذلك مدعاة للوقوف على المأزق التاريخي الذي غيب الذات لمصلحة المجموع الممزق المقموع والمطحون، المجموع الوهمي والافتراضي والمعنوي الذي خلف بيننا رموزاً وأنصاف رموز غادروا الشعر في معظم الأحوال إلى الحكمة والموعظة الحسنة.

****

الشاعر الذي التفت إلى التفاصيل الصغيرة

عماد فؤاد

إذا كانت تجارب قصيدة النثر المصرية على تعددها وتباينها في ما بينها، استلهمت تجارب الكثير من الشعراء من مختلف الثقافات والأجيال والمراحل الأدبية المختلفة والمتنوعة، فإنها أبقت ضمن أعمدتها الرئيسة على الكثير من أصحاب التجارب الشعرية الفذة والذين صاروا يشكلون مرجعيات أساسية لشعراء هذا اللون الأدبي في مصر والعالم العربي، مع غض النظر عن الفترات التاريخية التي عاشها أصحاب هذه التجارب أو الهم الذي عاشوا به وكتبوا من خلاله منجزهم الأدبي. ولست في حاجة، بالطبع، إلى الإشارة إلى انه يكاد يكون لكل شاعر من شعراء قصيدة النثر المصريين الآن مرجعياته الشعرية المختلفة تماماً عن الشعراء المجايلين له، لكنني في الوقت نفسه، أستطيع استثناء شاعر مصري واحد ازعم أن معظم شعراء جيل التسعينات في مصر، الذي انتمي إليه بحكم التفسيرات النقدية المتعارف عليها، اعتبروه لفترة طويلة أبا روحياً لكتاباتهم وقصائدهم، ألا وهو الشاعر الراحل أمل دنقل الذي تمر الآن ذكرى رحيله العشرون. فلماذا أمل دنقل تحديداً؟ لأنه، أولا، الشاعر الوحيد الذي اشتغل على لغته وقصيدته وفي شكل مخالف لجميع أقرانه المجايلين له والسابقين عليه. ففي الوقت الذي كان صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي يشتغلان على الحس الرومانسي والتاريخي في قصائدهما، بدأ أمل دنقل ببناء شعرية درامية عبر استخدامه المرهف للمونولوغ والديالوغ والحكاية واستعارة الشخصيات التراثية من خلال ترسيخه تجربة القناع المبتكرة في قصائده وتوظيفه المتقن للتقنيات السينمائية مثل المزج والقطع والارتداد (الفلاش باك). وهي نفسها التقنيات التي لم يزل كثيرون من شعراء قصيدة النثر (مصريين وعرباً) يستخدمونها في قصائدهم حتى الآن.
وللدلالة على ذلك علينا العودة إلى أعمال أمل دنقل وقصائده الموزعة على دواوينه المختلفة ومن أبرزها: "ميتة عصرية"، "الجنوبي"، "مقابلة خاصة مع ابن نوح"، و"الحزن لا يعرف القراءة".
ولعل شعرية أمل دنقل، ثانياً، في جوهرها تقوم على المفارقة التي تتخذ صوراً وأشكالا متعددة ومتباينة من قصيدة إلى أخرى، والمفارقة لم تزل حتى الآن إحدى خصائص قصيدة النثر التي تكتب في مصر والبلدان العربية الأخرى، خصوصاً لدى الأجيال الجديدة من الشعراء.
والاهم ثالثاً، هو الاهتمام غير الطبيعي الذي أبداه أمل دنقل بالتفاصيل الشديدة الصغر في قصائده، حتى ليشعر القارئ بأن أمل دنقل لا يكتب بقدر ما يرصد مشهداً معيناً بكاميرا شديدة الحساسية. فهو لم يهتم لحظة بالتعمية والإبهام وكتابة الطلاسم التي احترفها من قبله ومن بعده عشرات الشعراء.
هذا عن الصورة العامة لحضور أمل دنقل وتأثيره في الشعراء الجدد. أما على المستوى الشخصي فيمثل أمل دنقل لي حالاً شعرية مغايرة تماماً عن القراءات الأكاديمية والنقدية التي ما برحت تطل علينا منذ رحيله عام 1983 لتؤكد لنا مرة بعد أخرى أنه الشاعر المصري الوحيد الذي تنبأ بالهزيمة العسكرية في 1967، وغيرها من التأكيدات المشابهة.
أمل دنقل الذي يخصني والذي اعتبره احد مرجعياتي الشعرية الأساسية، هو هذا الرجل الوحيد الذي كان يداري ضعفه وانكساره بصلفه وكبريائه المبالغ فيهما، هو الجنوبي الذي حين بدأ كتابة قصائد ديوانه الأول "مقتل القمر" قال ببراءة متغربة آنذاك: "أحس حيال عينيك بشيء داخلي يبكي/ أحس خطيئة الماضي تعرت بين كفيك"، وهي البراءة نفسها التي عاد إليها أمل دنقل في قصائد ديوانه الأخير "أوراق الغرفة 8" الذي نشر بعد رحيله.

****

جعل الوطن مسألة شخصية

هدى حسين

تعرفتُ على شعر أمل دنقل في المرحلة الثانوية، وبعد ذلك في الجامعة. كنا مجموعة من الكتاب الناشئين، نخفي ما نكتبه خوفاً من سخرية الآخرين، وأحياناً خوفاً من سخرية بعضنا. لم أكن أحب - وما زلت - الكتابات الشعرية ذات الأغراض. تصنيف الشعر باعتباره عاطفياً، وطنياً، دينياً... لم يكن يروق لي. لكنني وجدت مثلي مثل أصدقائي الشباب في ذلك الوقت ميلاً إلى أمل دنقل ومحمود درويش وسميح القاسم ووديع سعادة وغيرهم ممن شعرت أن كتاباتهم أكثر شخصية وذاتية من الكتابة في هذا الغرض أو ذاك. ومع ذلك كنت مثلي مثلهم أنتشي لـ"سبارتاكوس" وأشعر وكأنني أتمثل شخص أمل دنقل عند سماع "لا تصالح" أثناء كتابته إياها. أتذكر أننا كنا نحمل جميعاً نسخة واحدة من الأعمال الكاملة لأمل دنقل ذات الغلاف الأحمر المتين وكنا نتناقلها في ما بيننا. وعندما كنا نقرأ منها في حلقات تجمعنا، كنا نتبادلها ونتناوب القراءة. يتخلف منا من لديه محاضرة، ويعود ليكمل، على رصيف كلية الآداب، تحت قسم اللغة العربية.
كانت كتابة أمل دنقل الوطنية، كتابة شعرية أكثر من أي شيء، ولهذا هضمتها وأحببتها. تحولت مسألة الوطن مع أمل دنقل بمشكلاته وأحزانه وآماله إلى مسألة شخصية، هم ذاتي، وليس طنطنة. ومن هذا الهم الذاتي، خرج شعره. وبسبب هذا الهم الذاتي أحببت شعره. لم تكن موسيقى شعره تلهيني بسماع إيقاعها عن سماع الشاعري في شعره. ولا أظن همه كان أن يصنع إيقاعاً موزوناً وإن لم يكن مقفى، بقدر ما كان أن يطلق صرخته، في الفضاء، صرخة أوقعتني بحبها أكثر في فخ الكتابة. ووجدت نفسي متتبعة صداها، أصرخ صرختي. الوطن يمكنه أن يكون هماً ذاتياً. الذات ليست مناقضة للموضوع. الهم الذاتي ليس أضيق من أن يحتمل وطناً. الكتابة الذاتية أوسع. ولها صلة بكل شيء، يقترب، لحظة الكتابة، من الذات.

الحياة 2003/05/17

رجوع