أمل دنقل

حق الشعر

جابر عصفور

لم تنس الصلة بالجماهير قصيدة أمل دنقل ما عليها من حق للشعر في تقنيات شعريته. أن الصنعة تتجاور مع العفوية، والأصالة تقترن بالمعاصرة، والحرص على النغمة الإيقاعية يتناغم مع الحرص على التجديد، وعين الشاعر التي لا تمل من النظر إلى عالم المدينة تتضافر مع إذنه التي لا تمل من الاستماع إلى النغمات والأصوات في هذا العالم.
ولذلك فإننا نستطيع أن نلمح في شعر أمل دنقل تجاورا لافتا بين الحداثة والتقاليد، خصوصية الرؤية الشعرية الفردية وجماعية الوجدان الجماهيري، الاستغراق في التقنية والعفوية التي تخفي هذه التقنية.
ومن المؤكد أن شعر أمل دنقل لا يدخل في باب المناسبات بالمعنى الذي تنتهي به القصيدة بانتهاء المناسبة أن غوص هذا الشعر في تجاربه، وتجسيده اللحظات الجوهرية في الواقع، وصياغته الأقنعة النموذجية التي تتحول إلى موازيات رمزية، وخلقه شخصيات إبداعية لا يمكن نسيانها، على نحو ما نجد في (يوميات كهل صغير السن)و( سفر ألف دال) وقدرة هذا الشعر على صياغة جداريات بالغة الحيوية لمشاهد المدينة ومفردات عالمها، وأناسها الهامشيين، ولغة هذا الشعر المنسوجة باقتدار، والأحكام البنائي الذي يخلف لذة عقلية في ذهن المتلقي، كلها خصائص تتجاوز المناسبة أو المناسبات، وتضع أمل دنقل في مصاف الشعراء الكبار الذين يتجاوز شعرهم اللحظة التاريخية التي أوجدته لأنه عثر على العناصر الباقية في هذه اللحظة.
وأضيف إلى ذلك عذوبة التعبير عن المشاعر الفردية ورهافتها.وذلك بعد يستحق الإشارة إليه في شعر أمل دنقل على الأقل لأنه بعد يختفي هونا نتيجة غلبة الشعر السياسي والقضايا القومية على شعر أمل دنقل والواقع أن الوجه القومي العام مسئول عن تهميش الوجه الخاص من شعر أمل دنقل. ولذلك لمن أستغرب عندما سألني الشاعر عبد المنعم رمضان ذات مرة، بوصفي صديق أمل دنقل، قائلا : هل توجد في شعر أمل دنقل صور امرأة أحبها؟ وكان السؤال يعني : أين الجانب الخاص من شعر أمل دنقل الفرد؟ وتحدثت طويلا عن الجوانب الخاصة الفردية من شعر أمل دنقل، سواء في قصائد العامة التي يتسلل إليها الخاص وسط العام، أو قصائده التي هي أقرب إلى السيرة الذاتية، وعلى رأسها قصيدة (يوميات كهل صغير السن) التي هي نوع من الموازاة لقصيدة الشاعر تي. اس. اليوت (أغنية العاشق الفريد بروفروك). ولكن قصيدة أمل كانت أكثر تعبيرا عن همومه الفردية في مصريتها الخالصة من ناحية، وفي انتمائه إلى الشريحة الصغرى من البرجوازية الصغيرة من ناحية مقابلة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك عند دنقل، فقد كان صوته الخاص يتخذ نبرة تدل عليه من وراء أقنعة الشعراء الذين أختارهم لقربهم من نفسه، وأخص بذلك قناع المتنبي وقناع أبي نواس، وكان الصوت الخاص للشاعر المعاصر المتخفي وراء قناع للشاعر قديم يسعى إلى التعبير المباشر عن نفسه، وهو الأمر الذي حدث في سفر (ألف. دال) وهما الرمزان الدالان على أمل دنقل نفسه، في موازاة الانحدار العام لوطنه. والطريف أن قراء هذه القصيدة لفتهم الجانب العام، ولم ينتبهوا إلى أنها سيرة ذاتية تستبطن مشاعر فرد يرى من خلال مأساته الشخصية مأساة وطنه. والعكس صحيح بالقدر نفسه.
ولكن الجانب الخاص لا يختلط بالعام على هذا النحو، في كل الأحوال، فهناك أحوال التوحد الذاتي وأحوال الحب على السواء، في الأحوال الأولى، كان أمل يستدعى من الذاكرة مخزونها الوجداني الحميم، حيث تغدو الشهور زهورا تنمو على حافة القلب : زهرة في إناء تتوهج في أول الحب بين محبوبين، وزهرة من غناء تتورد فوق كمنجات صوت المحبوبة حين تفاجئها القبلة الدافئة، وزهرة من بكاء تتجمد فوق شجيرة العينين في لحظات الشجار الأخيرة وقد تنقلب الشهور الزهور إلى أصوات، منها صوت الكمان الذي أحبه أمل دنقل كثيرا ومنحه مكانة خاصة في وجدانه، مكانة دفعته إلى أن يقول :
لماذا يتبعني أينما سرت صوتُ الكمان ؟ أسافر في القاطرات العتيقة ـــ
أرفع صوتي ليطغى على ضجَة العجلات وأغفو على نبضات القطار الحديدية القلب
لكنها بغتة. تتباعد شيئا فشيئا ويصحو نداء الكمان .

أما في الأحوال الثانية فكان شعر أمل يقترن دائما بتوهج لحظات الحب القليلة التي مر بها، والتي جعلته يدرك أهمية المرأة في حياته، ويخلص لها ويغفر لها زلاتها، ما ظل مقتنعا بطيب عنصرها، ومؤمنا بالامكانات الخلاقة التي تنطوي عليها. ولذلك كانت المرأة التي أحبها - بعيدا عن تحولاتها الرامزة إلى مجالات غير ذاتية - هي الحضور الدائم الذي يمنح الحياة بهجتها، رغم كل عذاب
الحياة، وكل إخفاقات الحب في الوقت نفسه :
دائما أنت في المنتصف أنت بيني وبين كتابي
وبيني وبين فراشي وبيني وبين هدوئي
وبيني وبين الكلام ذكريات سجني، وصوتك يجلدني ودمي قطرة ـ بين عينيك ـ ليست تجف فامنحيني السلام فامنحيني السلام نضيف إلى الخصائص السابقة ما تميز به شعر أمل دنقل من تراكيب حدية، وعوالم تجمع بين المتقابلات في صياغات لافتة. وذلك هو السبب في أن المفارقة والتضاد خاصيتان أثيرتان في هذا الشعر. أقصد إلى التضاد الذي يضع الأشياء في علاقات متدابرة : تدابر الأنا.
والآخر تنافر الشرق والغرب، الحاضر والماضي تناقض السلطة والمحكومين، التمرد والخنوع، الشرف والخيانة وكلها متقابلات تؤسس لنزعة حدية لم تفارق شعر أمل دنقل، ونطقتها قصائد المؤسسة على التضاد الرأسي أو الأفقي من مثل قصيدة ( الخيول ) التي تجسد التقابل بين الماضي العربي المجيد والحاضر العربي المهين، كما نطقتها قصائده المبنية على التضاد المكاني، وذلك من مثل قصيدة ( إسكندرية ) التي تجسد التقابل بين الجنوب والشمال الأنا والآخر العرب وأوروبا.
أما المفارقة فإنها - مثل التضاد - تستقطر السخرية من التقابلات المفاجئة، خصوصا حين تتجاور الأشياء، بغتة ويبرز التقابل بين العناصر على نحو ساخر، موجع، نقرأ معه سخريته الشهرية من رمز السلطة، وذلك في قصيدته عن مذكرات المتنبي في مصر، حيث يتحول الحاكم إلى صورة أخرى من كافور الإخشيدي الذي سخر منه المتنبي قديما ويتحول الشاعر المعاصر إلى صورة أخرى من المتنبي القديم خصوصا في دائرة السخرية التي لا يكف فيها عن الاستهزاء بالحاكم الذي لا يعرف واجباته، ولا يؤدي دوره. وتصل الذروة إلى الحوار بين المتنبي وجاريته على النحو التالي :
تسألني جاريتي أن أكتري للبيت حراّسا فقد طغى اللصوصُ في مصر. بلا رادعْ
فقلتُ : هذا سيفيَ القاطع ، ضعيه خلف الباب متراسا ! ما حاجتي للسيف مشهورا
مادمت قد جاورت كافورا ؟ ودلالة الحوار الساخر أبرز من أن نلفت الانتباه إليها وهي تمثيل لأشكال أخرى من الحوار، أبرزها الحوار الذي يدور بين النيل العجوز والحاكم المستبد، وذلك في قصيدة يتكئ فيها أمل اتكاءة كبيرة على محمد الماغوط الشاعر السوري الكبير. وإذا تركنا سخرية الحوارات ومفارقاتها، فإننا نلحظ بقاء السخرية ممتدا في شعر أمل، وذلك على نحو لم يخل منه ديوانه كما نجد في ديوان "العهد الآتي " على سبيل المثال. وهو الديوان الذي نقرأ فيه ما يلي: لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا لا تسألي.. أبدا أني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا لقد كان شعر أمل، بهذه اللغة التي تؤكد السخرية من خلال المفارقة، والمفارقة التي تعمل في موازاة التقابل الحدًي، يجسًد بموازيات رمزية أنواع التضاد الذي تنبني عليه علاقات واقع مختل، لم يتردد الشاعر في الكشف عن اختلاله، ولا في تعرية علاقات فساده، مؤمنا كل الإيمان بأن دوره بوصفه شاعرا لا يمكن أن يدفعه إلى المهادنة، وأن أداء حق الشعر يبدأ من أداء واجب الالتزام السياسي والاجتماعي بوصفه التزاما بالفن الشعري في معناه القومي.

بيان الثقافة-الأحد 16 يونيو 2002

رجوع