أمل دنقل

المتخيل الشعري عند أمل دنقل

عبد السلام المُساوي
(المغرب)

للصورة الشعرية وظيفة تعبيرية بالأساس، لذلك فهي مشحونة بالمشاعر والأحاسيس والدلالات، وهي صياغة فنية تمنح المعنى المجرد شكلا حسيا يمكّن حواس الإنسان الظاهرة والخفية من التفاعل معها تفاعلا إيجابيا عن طريق تلقّ مفتوح يتجدد باستمرار، كما تنص على ذلك المناهج الحديثة كالأسلوبية والسيميولوجيا وجماليات التلقي. وإذا كان القدماء قد ركزوا مفهوم الصورة الشعرية في منظومتين بلاغيتين هما المشابهة والمجاورة، اعتمادا على استقصاء الأوجه البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل.. فإن المحدثين جعلوا المفهوم مواكبا للفتوحات الإبداعية المستجدة بما عرفته اللغة الشعرية من إبدالات وتحولات. ومعظم التعريفات الحديثة أجمعت على تفرد الصورة الشعرية بطابع الإبداعية والخلق القائم على التقريب بين المتنافرات في سياق توحد عناصرها المتباعدة في بوتقة شعورية واحدة. وحسب صبحي البستاني، فإن الصورة الشعرية ((تخترق الحدود المرئية لتبلغ عمق الأشياء، فتكشف عما تعجز عن كشفه الحواس)) (1) وإذن، فهي تقنية لغوية خاصة تضطلع بوظيفة إنشاء علاقات جديدة بين كائنات العالم وأشيائه، وذلك بنقل المعاني من الحياة إلى اللغة. وهو نقل يعتبره صلاح فضل محتاجا إلى جسارة شعرية (2) أي إلى قدرة إبداعية كبيرة تتمكن من بناء علاقات جديدة تدفع بالمتقابلات إلى الحد الأقصى من الائتلاف والتعايش الدلالي.
إن الصورة الشعرية ليست إطارا أو قالبا جاهزا تُصبّ فيه المعاني لتأخذ أبعادا جديدة، كما أن علم البيان بطبيعته التقليدية لم يعد قادرا على استيعاب توجهات الصورة الشعرية المعاصرة، فلا بد من تحيينه وتعضيده بإواليات مستحدثة لعله يكشف عن الجغرافيا الجمالية التي أضحت الصورة الشعرية تأوي إلى أفيائها. لذلك نرى أن قواعد البلاغة تظل مفتوحة دائما على التجدد والمسايرة اعتمادا على المتحقق النصي الإبداعي. وقد كانت القواعد تستخلص دائما من النصوص، وفي هذا الاتجاه ينبغي أن يسير أي توجّه منهجي يروم تحليل الصورة في الخطاب الشعري. ثم ((إن البلاغة المعاصرة ينبغي ألا تنبني من توجيهات تؤدي إلى صناعة وجه بياني، بل ينبغي أن تدرس هذا الوجه من زاوية نفسية، وتعمل على الكشف عما يعتمل داخل روح القارئ في اللحظة التي يدخل إليها هذا الوجه، ويتحلل داخلها منميا فيها طاقة الإحساس. وباختصار: بحث طريقة عمله ليحدث فينا الشعور بالانبهار الذي هو أثر ناتج عن العمل الفني.)) (3)
قد يكون حصر دراسة الصورة الشعرية في تجربة شاعر واحد أنجح بكثير من التوزع على تجارب مختلفة، لأن ذلك من شأنه أن يتيح للدارس مراقبة الصيغ اللغوية المتنوعة المعبر بها من قبل هذا الشاعر، ومن ثم يسمح ذلك باستخلاص أنظمة بناء الصورة الشعرية لديه، والوقوف على حدودها التعبيرية الممكنة مع قياس وظيفتها وتأثيرها، بالرغم من أن الصورة الشعرية ((تستعصي على كل تحليل لأنها في الحقيقة ليست بنتا شرعية للعقل فقط، بل هي نتاج يتداخل فيه الحدس والعقل والانفعال ومركبات غريزية منبثة في الضمير العام للعقل البشري..)) (4) وهو استعصاء ناشئ عن غموض فني ضروري ومقصود، لا يلغي إمكانية تحليل يروم بناء انسجام ما تفرق من أجزاء، وما تقابل من دلالات. وهذا التحليل ينبغي ألا يكتفي بالوقوف عند حدود الأوجه البلاغية (تشبيه، استعارة، مجاز مرسل... )، فهذه الحدود حسب رجاء عيد ((قد تهدمت، لأنها حدود اصطنعها منطق التطابق مع الواقع الخارجي للأشياء بدون مراعاة لمنطق الواقع الداخلي الممتد عبر حركة النفس وخيالها الخبيء والذي يقيم علائق بين الأشياء لها شكولها اللامتناهية.)) (5)
هكذا، إذن، تحتل الصورة مكانا أساسا في تكوين شعرية النص، إذ عن طريقها يتم التمييز بين الكلام العادي والكلام الفني بفعل خلخلتها للمألوف، وقدرتها على رفد اللغة بالدلالات العميقة التي لا سبيل إلى اختزالها في أية قراءة محتملة. لقد اعتبرها جان لوي جوبير J.L. JOUBERT نتاجا للنظرية السوريالية حول الإلهام. كما رأى فيها العلامة المميزة للشعر المعاصر (6) . أما أندريه برتون A. BRETON فقد عرفها اعتمادا على تحديد بيير ريفردي Pierre REVARDY الذي يقول: ((الصورة نتاج محض للفكر، إنها لا تـولد من التشـبيه ولـكن مـن التـقريب بين حقيقتين متباعدتين. وكلما كانت العلاقات بين الحقيقتين موضوع التقريب متباعدتين، كانت الصورة قوية ومحققة لشعرية عالية.)) (7) قد يكون اوكتافيو باث O. PAZ أكثر الشعراء تدقيقا في فهم طبيعة الصورة، وما تنطوي عليه من قدرات هائلة في جعل الكلام منفتحا لمعانقة التجربة الفنية للشعراء، حيث يقول: ((إن التجربة الشعرية يتعذر تبسيطها في الكلام، ومع ذلك فالكلام هو الذي يعبر عنها. إن الصورة توفق بين الأضداد، ولـكن هذا التـوفيق لا يـمكن شـرحه بكلـمات، إلا أن كلـمـات الصـورة كفّت عن أن تكون مجرد كلمات... الصورة، هـكذا هـي مـلاذ ميـئوس مـنه ضـد الـصمت الذي يخـيم علـينا كلـما حـاولنا التعبير عـن التـجربة الـمرعبة لـما يحـيط بنـا ولمـا نوجـد علـيـه.)) (8)
نستنتج من هذه التحديدات أن لغة الصورة الشعرية ليست لغة عادية، وأن الكلمات فيها ليست مجرد كلمات؛ أي أن تلك الكلمات لم تعد تستجيب للمعنى العرفي المتفق عليه في معاجم البشر، بل غدت في السياق الجديد أشكالا مفتوحة على الدلالات السيميولوجية التي قد يقصدها الشاعر أو يسمو بها القارئ إلى آفاق واسعة، وهو يعيد خلقها من جديد. وربما كان هذا هو المقصد الذي يريده محمد لطفي اليوسفي حين يقول: ((الكلمة ليست مجرد لفظ محدد للمعنى، بل هي عبارة عن مستقر تلتقي فيه كثيرة من الدلالات. إنها، بتعبير آخر، عبارة عن حيز يتواجد فيه أكثر من احتمال، غير أن الاستعمال المتعارف أي طريقة توظيف الكلمة في سياقات معتادة، هو الذي يجعل دلالة ما تطغى على كل الاحتمالات. وعندما يعيد الشاعر تركيب الكلام يكون قد أدخل الكلمة في شبكة من العلاقات تجبر ذلك الحشد الدلالي على البروز. هنا بالضبط يتنزّل الشعر. إنه يحرر الكلمة من المواضعة الاصطلاحية، ويصبح نوعا من الكلام يكسر القواعد ويتجاوز السنن، ليؤسس تبعا لذلك، آفاقا جديدة مليئة بالرؤى والاحتمالات.)) (9)
وإذن، فقد عوضت الصورة الشعرية كثيرا مما يسم لغة التداول من عجز التعبير عن مختلف الحالات والمشاعر، وتم لها ذلك التعويض بواسطة العلاقات الجديدة المُقامة بين الكلمات في سياق تراكيب مراهنة على تلـقّ مختـلف، وهـو تـلقّ يرى أن ((ومـضات اللـغة الشـعرية تـشع بأنـوار عـنيفة وهـي تكـشف عـن السـر المرتبـط بالشـرط الإنسـاني.)) (10)
إن اللغة الشعرية التي تجعل من الصورة أساسا لها، تصبح وسيلة تواصلية مسعفة في التعبير عن أية حالة أو رؤية تعبر وجدان الشاعر وذهنه؛ بل تمكنه من طريقة سحرية في الإيحاء بالشيء الذي يجعل المتلقي قادرا على التقاط الإشارات وتحويلها إلى دلالات قد تضيق أو تتسع حسب طبيعة مرجعية المتلقي، وقدراته على التأويل.
والشاعر أمل دنقل من الشعراء القلائل الذين أدركوا أن الخيال الشعري هو البؤرة المركزية لكل خطاب يسعى لأن ينتمي إلى حقل الشعر، شريطة ألا تستثمر مساحة الحرية المتاحة في عوالم الخيال الفسيحة في المزايدة على المعاني والدلالات؛ إذ أن الصدق الفني هو المعيار الذي ينبغي أن يعتد به في التمييز بين الخيال الإبداعي المؤسس على صدق التجربة في المعيش والمرجعي، وبين الخيال المجاني الذي قد يمنح أدواته لتجارب مزيفة ومفتعلة، وهو السائد في معظم ما ينتج اليوم من شعر. فشتان ما بين شعر يدعوك لتلمس جدوى الإبداع وضرورته للحياة، وما بين آخر يغريك بخطوط سراب خادع دون أن يكون متكئا على سند رؤيوي حقيقي. وقد نظر الشاعر أمل دنقل إلى الفن الشعري بوصفه ضرورة حيوية مساهمة في تغيير الواقع سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي؛ لأن هذا التغيير رهين بما يمكن أن يحدثه القول الشعري من تأثير هائل في النفس والشعور تمهيدا للتأثير الهائل الذي سيمتد إلى محيط المشاعر، وهو المجتمع والوطن والأمة. لذلك جاءت أشعاره محققة للرهان الحيوي فكان صوت الإنسان المقهور وردارا لكل ما يتهدد الأمة العربية في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد، كما جاءت محققة للرهان الجمالي من خلال تحويل الواقع الكائن والواقع المستشرف إلى متخيل شعري تذوب فيه حدة الواقع وتندمج بأطياف الحلم. وعموما فقد جعل أمل من الصورة الشعرية أداة لغوية وجمالية بالغة الإيحاء. وهي في الغالب تتأرجح عنده بين ثلاثة أنماط أساسية: الصورة الحسية والصورة الذهنية والصورة الرمزية.. وذلك تبعا للعلامات اللغوية والسياق الدلالي الذي تحضر فيه هذه العلامات.

الصورة الحسية:

ولهذا النمط علاقة وطيدة بمفهوم الصورة الشعرية ككل بالشكل الذي ترسخ في الدراسات البلاغية القديمة والحديثة، باعتبار أن الشاعر ميال إلى التعبير عن العوالم الشعورية المجردة بطريقة تجعله يستثمر مدركات العالم وأشياءه الحسية للقيام بمهمة الأداء، وذلك بإعادة تشكيلها وفق ما يتصوره من معان ودلالات تعجز اللغة المباشرة عن الإفصاح عنها. ففي هذا المستوى تقدم المدركات المجردة في صورة مظاهر محسوسة عن طريق الاستعارة التي تتخذ مجموعة متنوعة من المواقع النحوية؛ فهي قد تكون اسما أو فعلا. ومعلوم أنه إذا وردت في صيغة الفعل، فإنها تمنح الصورة كثافة ودينامية إضافية بما يلقيه الفعل في روع المتلقي من إيهام وحركية، مثلما يقع في هذه الصورة:

الصيف فيك يعانق الصحوا
عيناك ترتخيان في أرجوحة... (11)

ففي هذه الصورة يتخلى "الصيف" عن مفهومه الزمني والطبيعي ليتحول إلى كائن حي يمارس السلوك البشري، والمتمثل هنا في "يعانق". ذلك أن العناق سلوك محسوس نلحظه بحاسة البصر. وإذا ما نظرنا إلى الشيء المعانَق (المفعول به)، فإن درجة التوتر تتصاعد مما يشي بانزياح كبير بين الطرفين. ف "الصحو" كينونة طبيعية ضوئية لا جسد لها، ومن هنا فهو لا يحتمل العناق، ومع ذلك فقد أتاحت العناصر الاستعارية في سياق تركيبها، للعين أن ترى مشهدا لن يتحقق إلا بسحر من الخيال الشعري يذروه في بؤبؤها.
وقد تحضر الصورة الحسية بشكل يجعلها متوسعة، وذلك لاستثمارها لعدد من المكونات البلاغية التي تساهم في نموها نموا عموديا عن طريق التفاعل الحاصل بينها في نسق تعبيري ذي منحى سردي درامي، يستغل إمكانيات حدث أسطوري رمزي لإفادة موقف سياسي معاصر:

الأرض ما زالت، بأذنيها دم من قرطها المنزوع
قهقهة اللصوص تسوق هودجها.. وتتركها بلا زاد
تشد أصابع العطش المميت على الرمال
تضيع صرختها بحمحمة الخيول (12)

إن الأرض بوصفها عنصرا جغرافيا طبيعيا تصبح قادرة على التحول إلى مفهوم حسي آخر، بما تدره عليها الأوجه البيانية والمكونات الشعرية الأخرى من صفات وحالات. فالاستعارات (أذنيها قرطها هودجها تشد صرختها...) تضعنا أمام صورة جديدة تبدو فيها الأرض كامرأة قد نكلت بها أيدي اللصوص، وانتزعت ممتلكاتها، وتركتها ملقاة بلا زاد. وإذا كانت الاستعارة هنا تعمل على تشخيص الأرض، وتقدمها على هيئة امرأة، فإن ذلك التشخيص بشكل واع أو غير واع يذكر بأحد الأبعاد الدينية والأسطورية القديمة، التي كانت تعتقد بالمنزع الأمومي للأرض. وهذا وحده يخفف من حدة التباعد الاستعاري بين الطرفين (الأرض المرأة)، فينحصر الاجتهاد الشعري حينئذ في محاولة نفي الأمومة عن الأرض، وتقديمها في صورة عروس مخذولة.
وبالإضافة إلى هذه الصورة المركزية، هناك صور جزئية متفاعلة معها، تعمل من جهتها على تأثيث المجال، وإثراء المستوى الدرامي للموقف. فمن ذلك "قهقهة اللصوص تسوق هودجها"، وهذه الصورة قائمة على أساس المجاز المرسل، لأن الفعل "تسوق" مسنود للقهقهة وليس إلى اللصوص، مما ينبئ بحالة اللصوص وهم ينفذون جريمتهم. ومن ذلك أيضا "تشد أصابع العطش"، حيث يتحول العطش باعتباره حالة غريزية إلى كائن حي بواسطة التجسيم الذي يتحقق بإسناد "الأصابع" إليه.
وتتحقق الصورة الحسية بانتقال الكائن المحسوس إلى الشيء المحسوس كذلك، بواسطة وجه بياني هو التشبيه:

الخيول بساط على الريح..
سار على متنه الناس للناس عبر المكان
والخيول جدار به انقسم
               الناس صنفين:
               صاروا مشاة.. وركبان (13)

يعترضنا في الصورة تشبيهان، وقد ساهم غياب الأداة ووجه الشبه في جعل علاقة المشابهة بين الطرفين جد قريبة، لأن درجة الانزياح بينهما ضعيفة لوجود العناصر الدالة المشتركة بينهما، ثم لأن الصورة أساسا تحقق انتقالا من محسوس إلى محسوس (الخيول بساط على الريح) و(الخيول جدار). وما يلاحظ هنا أن الصورة الحسية التي يحققها المشبهان بهما (بساط على الريح) و(جدار) لا تتم إلا على أساس لفظي، لأن المفهوم موغل في التجريدية والرمزية. فبساط الريح يستند على مرجع أسطوري لا وجود له في الواقع. أما كلمة "جدار" فواضح أنها على المستوى الرمزي تشكل فاصلا بين شيئين مختلفين، ولا تدل على الجدار المادي. ومن هنا نجد أنفسنا أمام مفاهيم تجريدية تعرض بطريقة حسية.
وقد تجتمع في المقطع الواحد المتجانس دلاليا صور حسية يتم فيها تشخيص المكان عن طريق منحه سلوكات وخصوصيات بشرية، ويتحقق خلال ذلك تشييء الكائن الحي عن طريق تعويضه بالشبيه:
كان النشيد الوطني يملأ المذياع منهيا برامج المساء

وكانت الأضواء تنطفئ..
والطرقات تلبس الجوارب السوداء
وتغمر الظلال روح القاهرة
والدم كان ساخنا يلوث القضبان
هذا دم الشمس التي ستشرق، الشمس التي ستغرب (14)

يتأكد التشخيص هنا بواسطة الاستعارة المضاعفة "الطرقات تلبس الجوارب السوداء"، فالاستعارة الأولى مكنية "تلبس" والثانية تصريحية "الجوارب السوداء" إذ تعوض مشبها هو "الظلام". وهكذا تتحول الطرقات/المكان إلى امرأة. وفي الصورة الثانية "وتغمر الظلال روح القاهرة" نجد أنفسنا أمام تشخيص قائم على نقل المكان من حالة جمود إلى حالة حركة وحيوية، وذلك عن طريق زرع الروح فيه. وتتصاعد درجة الانزياح أكثر بجعل "الظلال" وهو معطى حسي يغمر "الروح" وهو معطى تجريدي. أما التشييء فيتمثل في تحويل الشخص الذي تدل عليه القرينة اللفظية "دم" إلى "الشمس"، بواسطة الاستعارة التصريحية. ورغم ما يلاحظ على هذه الاستعارة من ابتذال واستهلاك، ذلك أن الشمس ترسخت في التراث الشعري العربي كاستعارة نمطية دالة على المدح، فإن القرينة "دم" تقوم بدور تجديدها وإكسابها توهجا خاصا. حيث تبدو "الشمس" البعيدة قريبة تنزف دما، وتتحول إلى جثة "تأكلها الديدان". ولعل الحرص على تأكيد التشخيص والتشييء في هذه الصور الجزئية يأتي لخلق علاقات التفاعل بين الكائن والمكان، في سياق تبادل المظاهر والخصوصيات. فكلاهما يتلبس بالآخر، ويترتب عن ذلك تعميق النفس الدرامي، وانصهار الصور الجزئية كلها في بؤرة الصورة المركزية.
وقد يستبد التشبيه بكل أطراف الصورة، في نسق يوحي بالإيغال في التقليدية، ولا يخفى الدور البياني الذي يلعبه التشبيه في إبراز الجوانب الحسية من الصورة، خاصة إذا كانت العلاقة بين المشبه والمشبه به قريبة لتحقق العناصر المشتركة بينهما. إلا أن المسألة قد تأخذ مسارا آخر في حالة وجود انزياح بينهما، الشيء الذي يعطي للتشبيه فاعلية في خلق المفاجأة، ودينامكية في رفد الصورة بعناصر التخيل الابتكاري:
قلت لها في الليلة الماطرة:

البحر عنكبوت
وأنت في شراكه فراشة تموت
وانتفضت كالقطة النافرة (15)

حيث يصادفنا في هذا المقطع ثلاث تشبيهات تختلف نوعيا، فالأول بليغ، والثاني مرسل، والثالث مفصل. وتواردهما بهذا الترتيب له ما يبرره فنيا ودلاليا. فعلى مستوى التراكم اللغوي لكل جملة تشبيهية، نجد حركة تصاعدية من الأقل إلى الأكثر، بالنظر إلى عدد كلمات كل جملة، مما يمنح الصورة في كليتها مسحة إيقاعية ممتدة. وعلى مستوى الدلالة يتم الإفصاح عن الحقيقة بشكل تدرجي يراعي سياق البوح وكمية الجرعة في كل جزء من أجزاء هذه الحقيقة.
وهناك الصورة الحسية التي يتعدد فيها المشبه ويتفرد المشبه به، وينتج عن ذلك اختزال للعناصر في بؤرة واحدة، مما يتسبب في تضييق المجال المرئي للصورة:

أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة !
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح !
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى.. أضرحة (16)

تؤكد هذه الصورة مبدأ التكثيف والاختزال من أجل بلورة المعنى المراد توصيله، والمتجسد في فداحة القتل. ومن أجل بلوغ هذا الهدف، يتم اللجوء إلى خرق المألوف بواسطة تحجيم المعنوي "سقط الموت"، وتشييء الإحساس "انفرط القلب كالمسبحة"، ودمج الخلص في العام (المنازل أضرحة/ والزنازن أضرحة/ والمدى أضرحة)، وإذا كان خرق المألوف هو الغاية المستهدفة في الممارسات الشعرية الحديثة، فإن عدة عناصر بلاغية وغير بلاغية كانت مسئولة عنها في الصورة التي نحن بصدد تحليلها. فالبلاغية تتمثل في استعارتين فعليتين وأربع تشبيهات. أما غير البلاغية فتتجلى في المستوى المعجمي والأسلوبي؛ ذلك أن الأول يهم جانب انتقاء مفردات تحقق قدرا من الشعرية أثناء اجتماعها في بنية واحدة. أما الثاني، فيهم جانب ترتيب عناصر الصورة، وظاهرة التكرار في جزئها الأخير. إن حسية هذه الصورة راهنت على الانتقال من المتخيل إلى المرئي، وذلك بإعادة تشكيل المفاهيم المجردة (الموت الحزن) تشكيلا يمنحها مظهرا ماديا، ونسف تعددية المكان (المنازل الزنازين المدى) من أجل خلق مكان واحد متجانس وهو المكون من الأضرحة.
وقد تميل الصورة إلى تقرير حسية مفرطة، معتمدة على مجموعة من الاستعارات التصريحية المتجانسة التي تقوم ببناء مشهد تمثيلي مكتمل، تدل القرينة اللفظية على المشهد الحقيقي الذي يرمز إليه، يقول الشاعر أمل دنقل في سخرية مريرة:

كنت في المقهى، وكان الببغاء
يقرأ الأنباء في فئران القمح،
وهي تجتر النراجيل، وترنو إلى النساء (17)

إن قارئ هذا المقطع سيتصور أن الأمر يتعلق بقصة تعليمية تعتمد شخصيات متخيلة كما في كليلة ودمنة أو بمشهد من الرسوم الكرتونية التي تخاطب عقول الأطفال.. ولكن ما إن يصل إلى القرينتين اللفظيتين "يقرأ الأنباء" و"تجتر النراجيل" حتى يدرك البعد الرمزي الذي يفيده طرفا الصورة (الببغاء فئران القمح). ومن ثم يشرع في البحث عن المعادل الموضوعي لكل طرف. ف "الببغاء" لن يكون إلا إنسانا مقلدا أو مأمورا بقراءة ما يلقى إليه من "أنباء" دون أن يفكر في فهمها أو معارضتها. أما "فئران القمح" فهم رجال مستهلكون لما يجدون بين أيديهم دون أن يكلفوا أنفسهم بذل الجهد، لأنهم يكتفون ب "اجترار النراجيل" و"الرنو إلى النساء". من هنا ندرك أن المتخيل الشعري في هذه الصورة يعكس مشهدا يوميا مشوبا بكثير من العبثية والإحباط لانعدام التواصل بين "الببغاء" و"فئران القمح".
ولا شك أن قراء الشعر يعرفون جيدا قدرة الشاعر الكبير أمل دنقل على تحويل المشاهد اليومية المألوفة إلى لوحات شعرية باذخة يفيض بها خياله المبدع بما اشتهر به من نزعة السخرية السوداء التي بقدر ما تخلق من تسلية وفرجة مضحكة، فإنها بالقدر نفسه تتيح إمكانية الإجهاش بالبكاء إشفاقا على واقع الناس المؤلم وعذاباتهم التي بلا حد.

الصورة الذهنية:

إذا كنا في المستوى السابق قد حاولنا تلمس مفهوم الحسية في الصورة الشعرية من خلال تحليل عينة من الصور الممثلة لها في شعر أمل دنقل، ووفقنا في تلمسنا ذاك بين التحليل البلاغي والدلالي، فإننا سنعمل في هذا المستوى على مقاربة الصورة الذهنية؛ أي التجريدية، وذلك بتطبيق معطيات التحليل على مجموعة من الصور التي افترضنا تجريديتها مسبقا اعتمادا على مؤشرات محمولاتها المعنوية، موضوعية كانت أو شعورية، بالنظر إلى الانتقال إلى المستفاد من مفردات الصورة وتركيبها. ذلك أن الانتقال المقصود هو الذي يتم من المفهوم الحسي إلى المفهوم التجريدي أو من التجريدي إلى تجريدي آخر. وتلعب الاستعارة المكنية دورا لافتا في بلورة هذا النمط من الصور، وخاصة الاستعارة الإسمية التي ترد في تركيب نحوي مكون من مضاف ومضاف إليه. وتشتد حدة التجريد حينما يضاف المحسوس إلى المجرد أو يعاد تشكيل أشياء الطبيعة والواقع، وجعلها تتبادل الأدوار فيما بينها، وتعير خصائصها لتستقبل خصائص غيرها، يقول الشاعر أمل دنقل:

على محطات القرى..
ترسو قطارات السهاد
فتنطوي أجنحة الغبار في استرخاءة الدنو
والنسوة المتشحات بالسواد
تحت المصابيح، على أرصفة الرسو
ذابت عيونهن في التحديق والرنو
علّ وجوه الغائبين منذ أعوام الحداد
تشرق من دائرة الأحزان والسلو (18)

تجتمع كل الانزياحات الواردة في هذا المقطع على خرق نظام اللغة، مرة باستعارة محسوس لمجرد، ومرة أخرى باستعارة محسوس لمحسوس مع وجود شبه معنوي. وبالنظر إلى علاقة الانزياحات بالدلالة المستهدفة، نلاحظ أنها لا تكتفي بالعمل على تغيير المعنى والحد من مباشريته، وإنما تتعدى ذلك إلى تعميق الانفعال بهول مشهد انتظار الغائبين. وهنا تكمن أهمية الانزياح المؤسس على الاستعارة الناجحة؛ تلك الاستعارة التي يقول عنها جان كوهين Jean COHEN: ((إن الاستعارة الشعرية ليست مجرد تغير في المعنى، إنها تغير في طبيعة أو نمط المعنى، انتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي، ولهذا لم تكن كل استعارة كيفما كانت شعرية.)) (19)
وهناك الصورة الذهنية التي تنبني بواسطة رص المعطيات المرجعية المتناقضة في تركيبة واحدة، فتذوب خلالها حدة المفارقة، لأن هذه المعطيات المتناقضة عندما تدخل إلى حيز المتخيل، تجد المناخ الفني الذي يجعلها تأنس إلى بعضها البعض، وتعمل على تشكيل صورة مرئية على أنقاض المعاني الممعنة في التجريد:

يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الإسكندر الأكبر:
لا تخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إلي
لأنكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إلي
لربما: إذا التقت عيونكم بالموت في عيني:
يبتسم الفناء داخلي.. لأنكم رفعتم رأسكم.. مرة ! (20)

لا شك أن المتخيل في هذه الصورة يوجد في موضعين: "إذا التقت عيونكم بالموت في عيني" و"يبتسم الفناء داخلي" ويكون الأساس البلاغي المؤدي إلى الوظيفة الشعرية مجازا مرسلا في الموضع الأول، واستعارة مكنية في الموضع الثاني. ذلك أن الشاعر يستدعي الموت بوصفه سببا لإفادة الأثر المسبب، وهذا هو المجاز المرسل، لكن فاعليته الفنية لا تبرز إلا عند دخوله في سياق تركيبي، يجعل شحنته المجازية تسري عبر الكلمات المجاورة، وربما امتدت إلى أقصى نهاية المقطع. أما الاستعارة المكنية في "يبتسم الفناء داخلي" فتلغي الحدود بين الحسي والمجرد، وتخلق حالة من التفاعل المتبادل بينهما، ليتولد عن ذلك مشهد غرائبي يُري ما لا يُرى ويؤسس لموقف نادر يتبدى الإنسان فيه منسجما مع فنائه.
وعلاوة على ذلك، فإن معنى المقطع لا يمكن أن يصار إلى تأويله إلا بالمرور على الدلالة المركبة في "يبتسم الفناء داخلي". فإذا كان مضمون الخطاب الموجه إلى "الأنتم" من قبل مرسِل يفترض أنه ميت بدلالة عبارة "الموت في عيني" عليه يتمثل في طلب رفع العيون، فلأن الغاية المستهدفة هي "ابتسام الفناء" وهي نتيجة، إذا اقتصر على الأخذ بملفوظيتها قد توقع الفهم المنطقي في تناقض مؤكد. ولكن بسبر الأبعاد المجازية المرمي إليها في "ابتسام الفناء" يتضح أن المقصود بالابتسام ليس الفناء، وإنما الطرف المجاور له، وهو روح المرسِل.
لقد عرف الشاعر أمل دنقل بميله الكبير إلى أسلوب المفارقة في تصوير مختلف الحالات الخاصة والعامة ربما لأن علاقته بنواميس الوجود ومعطياته تتجسد في ذلك الموقف المتشكك في التوازن والعدالة، يقول من ديوان "أقوال جديدة عن حرب البسوس":

خصومة قلبي مع الله
قلبي صغير كفستقة الحزن.. لكنه في الموازين
               أثقل من كفة الموت
               هل عرف الموت فقد أبيه
هل اغترف الماء من جدول الدمع
هل لبس الموت ثوب الحداد الذي حاكه.. ورماه ؟ (21)

يتحدد الموقف هنا في تحجيم الموت ثم تشخيصه من أجل مواجهته، لأنه يستحيل مواجهة الشيء المجرد. فالتحجيم يتمثل في تحويل الموت إلى مادة قابلة للوزن "كفة الموت". والتشخيص ينتج عن إعارته مجموعة من الأفعال والسلوكات البشرية "عرف" و"اغترف" و"لبس" و"حاك". أما المواجهة فتبرز في القيام بالحد الأدنى الذي يستطيعه الإنسان العاجز أمام جبروت الموت، وهو الاستنكار الذي يستفاد من حرف الاستفهام "هل".
إن ذهنية هذه الصورة تتجاوز معاداة الموت إلى مخاصمة المتسبب فيها، وهو "الله" في لغة أقرب إلى العتاب الكسير منه إلى التنديد القوي.. مما يجعل لغة هذا العتاب تشي بمسحة صوفية تساهم في تخصيب البعد التخييلي للصورة.
وقد تتجسد ذهنية الصورة في الانتقال من اليأس كمرجع إلى المستحيل كمتخيل، يقول الشاعر:

سيقولون:
ها نحن أبناء عمّ
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيف في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم (22)

تشتمل هذه الصورة المحورية، المتضمنة في المقطع، على صورتين جزئيتين، تدل على الأولى عبارة "واغرس السيف في جبهة الصحراء" والثانية تدل عليها عبارة "يجيب العدم". وكلتاهما تستندان إلى مرجع معنوي تعمل الأوجه البلاغية على تسييجه بالغموض الفني المطلوب. وتتمثل هذه الأوجه في الاستعارة المكنية الدالة على التجسيد والتشخيص. فالتجسيد تحققه استعارة الجبهة للصحراء. أما التشخيص فتحققه استعارة "يجيب" للعدم. وبالرغم من الحسية التي تستشف من الصورة الأولى، فإن سمة التجريد تبدو غالبة عليها إذا ما أوردناها في السياق التركيبي: "واغرس السيف في جبهة الصحراء" فتخرج الدلالة من مفهوم خاص معلوم إلى مفهوم عام مجهول. وينشأ عن ذلك بعد رمزي توحي به كلمة "الصحراء" كدال. أما الصورة الثانية فتبقى مفتوحة على المزيد من التجريد في انتظار "أن يجيب العدم"!. ذلك أن شرط المشاهدة ينتفي هنا، مما يتطلب المرور بعدة مراحل إدراكية قبل أن يتمثل "العدم" في صورة شخص يهم بالإجابة:

العدم
(تجريد)

إذ لابد من قطع مرحلتين على الأقل للوصول إلى الصورة البصرية، تتجلى الأولى في ما توحي به كلمة "يجيب" من تشخيص، ونستعين هنا بحاسة السمع. وتتجلى الثانية في ما نتوصل إليه من تأويل وتخييل، لنعطي للصورة السمعية هيئة مشاهدة.

الصورة الرمزية:
يمكن تصنيف الصورة الرمزية في ثلاثة أنواع بالنظر إلى طبيعة الرمز، فهو إما أن يكون مفردا، أي عبارة عن كلمة دخلت العرف الاصطلاحي في ثقافة معينة، لتنوب عن شيء أو تمثل شيئا آخر كما يقول الناقدان أوستن وارين ورينيه ويليك (23) .. أو يكون مركبا أي يأتي مركبا في إطار حكاية دالة، أو يكون تمثيلا لموقف معين Allégorie، وفي هذا الصدد تكون الصورة ناهلة من منبع أسطوري أو ديني أو تاريخي. وهكذا تمر الصورة الرمزية بمرحلتين، تتأسس الأولى على الإدراك المباشر اعتمادا على الوجه البلاغي الموظف ولما كان هذا الوجه البلاغي واردا في إطار الرمز، فإنه يتم الانتقال من الإدراك المباشر Dénotationإلى الإدراك الإيحائي Connotation الذي يفجر الرمز، ((فالصورة يمكن استثارتها مرة على سبيل المجاز، لكنها إذا عاودت الظهور بإلحاح، كتقديم أو تمثيل على السواء، فإنها تغدو رمزا)) (24) .
ويشكل الرمز المفرد أعلى نسبة في الحضور داخل المتن الشعري لأمل دنقل، نظرا لوفرة الرموز المعجمية في الشعر. ولما كان الأمر كذلك، فإننا سنكتفي بالتدليل على نماذج قليلة مما يتحقق فيه التوهج ويسمو بالمتخيل إلى ذروة الإيحاء. فمن الرموز المستعملة لأداء موقف اجتماعي نتوقف عند هذه الصورة:
من يجرؤ الآن أن يخفض العلم القرمزي
الذي رفعته الجماجم
أو يبيع رغيف الدم الساخن المتخثر فوق الرمال (25)
إن هذه الصورة تعطي للحسي المشاهد مكانة كبيرة، وذلك لورود دالين رمزيين تغلب عليهما طبيعة لونهما. وهما "العلم القرمزي" و"رغيف الدم". وثمة رمز آخر تشتمل عليه الصورة وهو "الجماجم". وكل هذه الرموز الثلاثة تأتي في سياق دلالي متجانس يفيد مدلولا واحدا، هو الثورة والتضحية بالنفس:

الصورة الرمزية الرمز الدلالة الرمزية
العلم القرمزي
رغيف الدم
الجماجم
الأحمر الغامق
الدم
الموت
التضحية
التضحية
التضحية

ثم إن الصورة بكل عناصرها تأتي في إطار وحدة تركيبية متناسقة، يلم أطرافها الأسلوب الاستفهامي المفيد للإنكار؛ إنكار خفض "العلم القرمزي" الذي رفعته "الجماجم"، إذ ليس من السهولة تقويض أسس الثورة التي تحققت بثمن باهظ.. وإنكار بيع "رغيف الدم" رمز المكتسبات التي تحققت أيضا ببذل النفس.
إن الحسية المؤسسة من قبل بلاغة اللون أو رمزية الدم في هذه الصورة لا تفيد المدلول عن طريق المشابهة كما يحدث في الاستعارة، وإنما تفيده صورة اللون القرمزي كأيقونة دالة على الدم. وصورة الدم ذاتها كرمز دال، تتم بطريقة عقلية تبعا لكلمة الدم المعجمية المتفق على رمزها إلى الثورة أو التضحية في الثقافة الإنسانية. وهكذا يقوم الرمز بالتمرد على اللغة المعيارية، ويحقق انزياحا كبيرا وعوالم من الإيحاءات المفتوحة.
وقد تستدعي الصورة الرمزية الواحدة مجموعة من العناصر الرمزية الكافية لتأدية الموقف، دون أن يتعلق الأمر برمز مركب ما دامت تلك الرموز متسمة بالتباين والاختلاف، يقول الشاعر:

أحببت فيك المجد والشعراء
لكن الذي سرواله من عنكبوت الوهم
يمشي في مدائنك المليئة بالذباب
يسقي القلوب عصارة الخدر المنمق
والطواويس التي نزعت تقاويم الحوائط
أوقفت ساعاتها
وتجشأت بموائد السفراء (26)

يتعايش في هذا المقطع رمزان، هما "العنكبوت" و"الطواويس" مع عناصر بلاغية أخرى تتمثل في الكناية "مدائنك المليئة بالذباب" والمجاز المرسل "القلوب". وتتعاون كلها في بناء صورة متنامية أفقيا. ونلمس هذا التنامي في تداعي المعاني وتطور الموقف في إطار المعطى البلاغي لخدمة المعطى الرمزي.
إن الرمزين "العنكبوت" و"الطواويس" يمثلان ركني الصورة باعتبارهما منتجين للحدث. ومعلوم أن "العنكبوت" رمز لمن ينسج شراكا لتقع فيه فريسته. وإذا كان هذا "الشراك" منصوبا في "مدائن مليئة بالذباب" فعندئذ تتضح مرموزية العنكبوت والذباب، وتتجسد في علاقة التوازي بين عالم الحشرات وعالم الناس.. إذ استعير الأول للثاني لإفادة ثنائية المستغِل/ المستغَل (بكسر العين في الأول وفتحها في الثاني). وهذا العنكبوت نفسه يتحول إلى الطاووس، الذي يرمز إلى الإغراء والعجرفة المنطوية على فراغ وخواء، لإنتاج الجمود الذي تدل عليه عبارتا "نزع التقاويم" و"إيقاف الساعات".
وقد تأتي الصورة الرمزية المفردة لمعانقة الهم الكوني المتمثل في الموت بوصفه حقيقة أزلية يواجهها الإنسان في حياته. ولما كان الموت مفهوما تجريديا، فإن الصورة تعمل على تجسيده حسيا في هيئة رمزية ولكنها مرئية:

ها هو الرخ ذو المخلبين يحوم..
ليحمل جثة ديسمبر الساخنة
ها هو الرخ يهبط
والسحب تلقي على الشمس طرحتها الداكنة (27)

وهكذا نلاحظ أن الشاعر قد رمز إلى الموت ب "الرخ"، وإلى المفهوم الذي يقع عليه حدث الموت ب "ديسمبر". وكلا الرمزين وردا في شكل صورتين بلاغيتين، فيمكن اعتبار "الرخ" استعارة تصريحية للطرف الغائب الذي هو الموت، و"ديسمبر" مجازا مرسلا لكونه جزءا من الزمن؛ إلا أن الصورتين في حد ذاتهما تصبحان مركبتين بإسناد عبارة "ذو المخلبين" للأولى، وتعيين الجثة للثانية. لأن المخلبين يعنيان شراسة الدال الرمزي وفتكه، ومن هنا حصول المشابهة بين الرمز الاستعاري وبين المرموز إليه. وهي مشابهة تخيلية وهمية، نجد لها حضورا في التراث الشعري العربي، كما في قول الشاعر المخضرم أبي ذؤيب الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظفارها              ألفيت كل تميمة لا تنفع

إن التنصيص على وجود المخلبين بالنسبة للرخ قد قلل من الشحنة الإيحائية التي يحققها الرمز، وأوشك أن يخرجه من بعده الرمزي إلى مجال الاستعارة؛ وبالرغم من ذلك، فإن معطى آخر يجب أن نوليه اهتمامنا، وهو كون الرخ طائرا خرافيا لا وجود له في الواقع. وهذا ما يجعل إسناد المخلبين إليه من قبيل تحسيس المجرد وإمداد الصورة بما تتطلبه من عناصر المشاهدة. أما بالنسبة لرمزية "ديسمبر" فإن إضافته إلى "الجثة" قد خرجت به من دائرة الترميز الذهني للزمن لكي يصبح عنصرا حسيا مشاهدا بالإشارة إلى شكل الجثة وملموسها كونها ساخنة .
وإذا تجاوزنا هذا التصنيف البلاغي إلى مقاربة الصورة بالنظر إلى عناصرها الدلالية، فإننا نجد انسجاما كليا بين العناصر الرمزية المنفذة للحدث: "الرخ" باعتباره فاعلا، و"ديسمبر" باعتباره مفعولا به، وبين الفضاء الذي تحقق فيه الحدث، ويتمثل في السواد المترتب عن "إلقاء السحب لطرحتها الداكنة على الشمس".. وهو فضاء يوحي بالجو المناسب لحدوث الموت وشيوع الحداد. وعلى كل حال فإن هذه الصورة الرمزية تختزل حقيقة الكون وحتمية المصير، ويمكن أن نجسد ذلك في هذه الخطاطة

وقد يميل الشاعر إلى الإكثار من توظيف الصور الرمزية التمثيلية، فيستثمر أسماء تاريخية وأسطورية وأدبية على نحو لافت للنظر؛ وفي معظم الأحيان تتوازى مدلولات هذه الصور مع دوالها الرمزية، وحينئذ تكون كل عناصر الحكاية الموظفة عبارة عن استعارات رامزة، يقول أمل دنقل على سبيل المثال :

من يفترس الحمل الجائع
غير الذئب الشبعان (28)

ففي هذه الصورة نصادف عالمين متوازيين. أحدهما يدرك من المعنى الحرفي المباشر، وثانيهما يؤول من خلال الأبعاد الرمزية للدوال. فالعالم الأول هو عالم الحيوانات، وفيه تظهر شخصيتان: الحمل والذئب، ويدور بينهما حدث واحد، هو "افتراس الذئب للحمل". أما العالم الثاني، فهو عالم الناس بما يشتمل عليه من علاقات نفسية واجتماعية. وهناك صفتان مرتبطتان بشخصيتي العالم الأول، وهما: الشبع للذئب، والجوع للحمل، مما يساعد على تأويل الموضوع المرموز إليه بكيفية مقنعة ولا تحتمل الافتراض. ذلك أن الذئب الشبعان لا يمكن أن يرمز إلا إلى الإنسان الطامع والمتهافت، والحمل الجائع يكون على النقيض من ذلك رمزا للإنسان الضعيف المستَغل.

خاتمة:

لقد كان المتخيل الشعري عند أمل دنقل مكونا أساسا في تجربته المتميزة، فهو الذي أعطى للشعر المعاصر من خلاله مذاقا خاصا، وجعل القصيدة متمكنة من تحقيق أهدافها في الإمتاع والإقناع.. الإمتاع الذي هو تذوق لجماليات التحول الذي شهدته الكائنات والأشياء والمفاهيم في شعره، والإقناع الذي نعني به قدرة شعر أمل دنقل على النفاذ إلى إدراك المتلقي ووجدانه وترك بصماته فيهما. لقد كان متخيله في المرتبة الوسطى بين الإظهار والغموض، على عكس التجارب المباشرة عند بعض الرواد وعلى عكس الإبهام عند بعض دعاة الحداثة.. كما كان هذا المتخيل آخذا من البلاغة العربية لمسة الوجه البلاغي كمدلول أول وممعنا في العمق الرمزي والإيحائي كمدلول ثان، ومن ثم لم يخطئ شعر أمل دنقل قلوب قرائه.. فآمن هؤلاء القراء بضرورة الشعر وجدواه مثلما آمن شاعرنا الكبير قبلهم بذلك. ولأنه عاش الحياة في أدق نبضاتها فقد تغنى بتفاصيلها غناء جعل الأشياء الصغيرة واليومية تنتفض بضربات فرشته الشعرية الباذخة، فكان أمل دنقل رغم حرصه على الوزن أقرب شعراء التفعيلة إلى قصيدة النثر.


رجوع