أمل دنقل

الحداثة العربية في شعر أمل دنقل


سيد البحراوي
مصر

1

قبل أن تحسم معركة "الحداثة"، سارع النقاد والمفكرون والمبدعون العرب -كعادتهم- للانتقال إلى،"ما بعد الحداثة". وظل المصطلح وتاريخه وتجلياته في الثقافة العربية معلقا - مثل غيره من المصطلحات والمذاهب الشبيهة - في الفراغ، ولا يستطيع القارئ العادي أن يرتكز على مدلولات دقيقة واضحة للحداثة ومنظومة مفاهيمها الفرعية والمفاهيم المتماسة معها مثل التحديث والمعاصرة والقدم وما إليها.
ولا تنتوى هذه الدراسة الخوض في هذه المفاهيم النظرية، بل تريد أن تخرج منها إلى النهج الدقيق الذي نراه صالحا في التعامل مع هذه المفاهيم (الأوروبية) تعاملا علميا جدليا، يدركها كنسق متكامل مرتبط في جذوره بتطور الفكر الحضارة الأوروبية بصفة عامة، ويستطيع - في حالة إدراكها العلمي - أن يقبلها أو يرفضها في ضوء المفيد الذي يمكن أن تقدمه لأسئلتنا واحتياجاتنا الراهنة. ومن منطلق هذا النهج يتحول المفهوم أو الفكرة أو حتى النظرية من مجرد "موضة" كما هو الحال في وضعنا الراهن، إلى عنصر متمثل يستطيع مع غيره من العناصر المماثلة، أن يساهم في تجديد فكرنا وتطويره وتمكينه من الأدوات التي تساعده على أن يبدع وأن يساهم بفعالية ونضوج في حركة الفكر العالمي.
ككلى هذا الأساس تعمل هذه الدراسة على الخروج من أزمة الكتابة العربية من الحداثة بسؤال أساسي، وتسعى للإجابة عليه:
لو أننا توافقنا على التمييز بين الحداثة Modernism والتحديث Modernity باعتبار أن الحداثة هي حركة أو مجموعة من الحركات الفنية الطليعية في الأدب والفن ظهرت في مواقع مختلفة من العالم الرأسمالي الغربي منذ أواخر القرن الماضي وحتى منتصف هذا القرن تقريبا، وحملت عددا من الحركات الفنية المتمردة على المستقر والسائد قبلها وأثناءها، ومجسدة لحالات من القلق الوجودي للإنسان الأوروبي في مرحلة محددة من مراحل تطوره الاجتماعي والحضاري، في حين أن التحديث هو فعل حضاري واكب نشأة هذا المجتمع الرأسمالي الأوروبي، أي الحديث، والتي قد تمتد إلى قرن أو قرنين قبل حركة الحداثة، إذا توافقنا على هذا التمييز، هل يمكن أن نقول أن العالم العربي قد شهدا،الحداثة" بذات الحدود المفهومية الدقيقة لها في أوروبا؟ قد تحتاج الإجابة على هذا السؤال عودة لإتمام التمييز بين الحداثة والتحديث من زاوية أخرى قد تكون مخالفة للزاوية السابقة. فرغم التمايز الواضح بين المصطلحين، فإن تداخلا ضروريا لابد أن يدرك بينهما، وهذا التداخل ناتج عن أن الحداثة هي بنت التحديث. أو بمعنى آخر أنه لو لم يكن التحديث في أوروبا لما كان يمكن للحداثة أن تقوم. ورغم أن الحداثة وفي بعض مفاهيمها - تبدو متمردة على بعض المقولات الأساسية للتحديث مثل العقلانية المطلقة والعلمية المطلقة.. الخ، إلا أنه لا يمكن تخيل قيام حركة الحداثة، دون وجود الأسس الأعمق للتحديث، ونقصد الفردانية والتنوير والعلمانية، التي هي أساس المجتمع الرأسمالي، التي تجسد حركة الحداثة لحظة من لحظات تطوره أو تأزمه، أو هما معا.
هنا نصبح مضطرين لطرح سؤال آخر، هل شهد العالم العربي تحديثا شبيها بالتحديث الأوروبي، يجعلنا قادرين على وصفه بالمجتمع الحديث بنفس حدود وملامح المجتمع الأوروبي الحديث؟ هذا سؤال متمم وضروري للسؤال السابق والإجابة عليهما معا يمكن أن تكون بالإيجاب ويمكن أيضا أن تكون بالنفي، بل ويمكن أن تكون بالإيجاب والنفي معا.
فنحن نعيش بلا شك - وان كان بتدرجات متفاوتة - في أنماط من المجتمعات الحديثة من حيث نظم الحياة وممارستها بل وبعض القيم الحديثة أيضا. وبدون الدخول في التفصيلات، تنتمي بعض النظم (الفرعية)، للحكم وكثير من العادات والتقاليد والسلوكيات، وضروريات الحياة كالمأكل والملبس والسكن ووسائل الانتقال والاتصال وبعض ملامح القيم الفردية والعقلانية والاستنارة، تنتمي إلى العصر الحديث. غير أنه بجوار هذه العناصر وربما في قلبها تكمن المفاهيم السابقة على العصر الحديث. ولو أننا أخذنا على سبيل المثال الشكل البرلماني الذي ينتشر في كافة البلدان العربية، وحللنا كيفية تكوينه وممارساته وحدوده في الحقوق والواجبات... الخ لوجدنا أنه مجرد ""شكل " حديث دون مضمون حديث حقيقة. وهذا التناقض هو ما يجعله شكلا يؤدي وظيفته من حيث هو مجرد شكل، دون فعالية حقيقية في المجتمع كتلك التي يمارسها البرلمان الحديث في المجتمعات الأوروبية.
ويجوز لنا أن نعتبر الحياة البرلمانية العربية -بتناقضها السابق- نموذجا لبقية النظم والسلوكيات والقيم والممارسات. لأن هذه الحياة تمثل لب الحياة الحديثة القائمة على الديموقراطية والفردانية والتبلور الطبقي والعقلانية.. الخ. هذا التناقض - إذن - يمتد إلى بقية مستويات الحياة، بما فيها الحياة الثقافية في الفكر والفنون والآداب..الخ. فلدينا أشكال وأنواع فنية وأدبية حديثة، لجن التأمل في معظمها يكشف أن أنساق قيمها، لا تنتمي - كأ نساق - إلى العصر الحديث، وإن انتمت عناصر قيمية جزئية آلية(1)
وتقديري أن الجذر الأساسي في هذا التناقض،هو أن الطبقات الوسطى العربية التي كان منوطا بها تحقيق انتقال المجتمعات العربية من التقليدية إلى التحديث قد فشلت في تحقيق هذه المهمة بسبب الاستعمار من ناحية، وبسبب هشاشة بنيتها التي جعلتها تقع فريسة للتبعية لهذا الاستعمار منذ نشأتها. ورغم محاولاتها المتعددة عبر تاريخها، الذي قد يمتد إلى قرنين من الزمان بالنسبة لبعضها (كما هو الحال في الشام ومصر)، لمقاومة الاستعمار والتبعية، وتحقيق الاستقلال لها ولسوقها الوطني، فإن القوة الاستعمارية وتغلغل التبعية من مجرد التبعية الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية إلى التبعية الذهنية، (2) قد حالا دون تحقيق الهدف والطموح. والنتيجة هي أننا صرنا الآن نعيش مجتمعات ذات شكل حديث في بعض جوانبها، لكن معظم الجوانب وخاصة القيم التي ننطلق منها، بوعي أو بدون وعي ليست حديثة،بالمعنى الرأسمالي الدقيق، وتشير التوقعات إلى أنه ما لم يتغير نمط علاقتنا بالنموذج الرأسمالي الغربي، فإن هذا التخلف سوف يزداد، في ظل السرعة الفائقة التي تتطور بها التكنولوجيا الحديثة بصفة خاصة، وفي ظل تطورات النظام العالمي (الجديد) بصفة عامة.
هذا ما يخص التحديث، فماذا عن الحداثة؟ الإجابة هي أن ملامح التناقض السابقة تجد أعلى تجلياتها في الحركات الفنية والأدبية، التي يجوز أن نطلق عليها مصطلح الحداثة بالمعنى الدقيق. والمعنى الدقيق هنا هو مدى قربها، سواء في الصلة التاريخية أو في الملامح الفنية من الحركات الحداثية الأوروبية وخاصة السوريالية والتكعيبية والدادية والرواية الجديدة.. الخ. ومن زاوية هذه الصلة التاريخية والفنية سنجد أفرادا أو جماعات في مواقع مختلفة من العالم العربي خلال نصف القرن الأخير مثل الرمزيين والسيرياليين اللبنانيين (بشر فارس مثلا) وجماعة الفن والحرية في مصر وجماعة مجلة شعر في لبنان وجماعات الشعر الحداثية في مصر في السبعينات "إضاءة 77" و"أصوات "، وهم جميعا أعلنوا سواء في بياناتهم النظرية أو في إنتاجهم الفني، إنهم يتبنون بدرجات مختلفة مقولات جماعات الحداثة الأوروبية. غير أنه حين التعمق في تحليل هذه المقولات، أو هذا الإنتاج، سيتكشف أن هذا التبني ليس الا شعاريا ومتقلبا ومليئا بالتناقضات التي تهدمه من داخله. ولعل أبرز مثال على ذلك هو موقف أدونيس من مقولات الحداثة، سواء في بياناته وكتاباته النظرية أو في إنتاجه الشعري. (3)
إن تبني مقولات بعض الحركات الفنية الطليعية في أوروبا لم ينتج - في العالم العربي، سواء على المستوى النظري أو الإنتاج الفني - أعمالا كبيرة يعتد بها في الأغلب الأعم. والسبب في ذلك راجع في تقديري إلى أن المعاناة التي ينطلق منها الفنان العربي، ليست معاناة، "الحداثي " الأوروبي، وإن بدا للبعض أنها شبيهتها،ولعل أكثر الملامح وضوحا في هذا السياق،هو طبيعة الإنسان وتجربته، وأقصد وعيه بذاته وبعلاقاته بعالمه. ففي حين عاش الإنسان الأوروبي حالة الإنسان الفرد الممزق، يعيش الإنسان العربي حالة التمزق دون الفردانية. لأن مفهوم الإنسان الفرد لم يتبلور ولم يتحقق في مجتمعنا بالمعنى العميق للفردانية التي فرضها المجتمع الرأسمالي وصاغتها على نحو واضح الفلسفات والتشريعات والقوانين الأوروبية. بمعنى آخر قد يبدو أن ثمة تشابها في التمزق الدافع إلى التمرد في كلتا الحالتين، غير أن مفهوم التمزق نفسه مختلف، لأنه تمزق
إنسان فرد في الحالة الأوروبية وتمزق إنسان ما قبل الفرد في الحالة العربية. من هنا فان ملامح التمرد، إذا كانت أصيلة ومخلصة لطبيعة المعاناة، ينبغي أن تكون مختلفة باختلاف هذا العمق. وهذا ما لا يبدو لدى "الحداثيين العرب " الذين لم يسعوا لتحقيق "حداثتهم " بقدر ما سعوا إلى التماهي مع الحداثة الأوروبية.
في مقابل هؤلاء يوجد أفراد وجماعات من العرب،لم يعلنوا أنهم حداثيون، ولم يعلنوا تبنيهم لشعارات الحداثة. ولكن إنتاجهم الفني -من وجهة نظري - تحقيق عميق للحداثة،لا بمعنى التماهي مع الحداثة الأوروبية ولا بمعنى فرعها العربي، وإنما بمعنى تمثل القيم الأساسية التي تجسدها، وبصفة خاصة رفض الجمود والتحجر والقهر المؤسس - والوعي بتناقضية العالم وغيرها من القيم والمبادئ.وفي أعمال هؤلاء تظهر بعمق خصوصية تمزق الإنسان العربي العاصر، الذي ما يزال يبحث عن فردانيته دون أن يجدها أو دون أن يسمح له بأن يجدها. وتقديري أنه من بين هؤلاء يمكن أن ندرج أسماء شعرائنا الكبار محمود درويش وسعدي يوسف وكتابنا الكبار أمثال عبدالرحمن منيف وحيدر حيدر،كما يمكننا أن ندرج كثيرا من كتاب ما سمي بجيل الستينات في مصر روائيين ومسرحيين وكتاب قصة قصيرة وشعراء، ومن بينهم أمل لم دنقل، وهؤلاء جميعا مثلوا حركات فنية متمردة وطليعية ولكن على نحو خاص واع بجوهر تناقضات المجتمع العربي،وأزمة الإنسان العربي الحديث، ومتمرد على كافة الأشكال الجاهزة والنمطية التي تعوق تجسيد الأزمة والتناقض على نحو دقيق وجميل. ولذلك فإننا نستطيع أن نعتبر أمثال هؤلاء المبدعين يمثلون - مع غيرهم الكثير من المبدعين في كافة مجالات الإبداع - نموذجا آخر للحداثة. يمكننا أن نسميه الحداثة الحقيقية بمعنى الحداثة العربية، كما حاولنا تحديد ملامحها في دراسات سابقة (4). كما سنحاول رصدها في شعر أمل دنقل.
لم يكن قد مضى كثير من الوقت على رحيل أمل دنقل، حتى أخذ شعراء "الحداثة" في مصر ممثلين في مجموعتي "إضاءة 77" و""أصوات " يكتبون عن أمل مستبعدين إياه من أفق الحداثة،وتبلور هذا الرأي في قول إدوار الخراط "إن الحداثة في الشعر، عندنا، تأخرت حتى السبعينات.. إن شعراء السبعينات الحداثيين هم - وحدهم - الذين اقتحموا لأنفسهم مساحات جديدة تماما.. على الشعر، في مصر، وهم أصحاب البدء فيه. ومازال في يقيني أن شعر التفعيلة - سواء أكان عموديا أم غير عمودي - هو الذي وصل إليه غسق الحساسية التقليدية كلها، التي سوف أعدها، على نحو عام، من الشعر الجاهلي، حتى شعر صلاح عبدالصبور، وحتى شعر أمل دنقل، وما يسمى "،بالشعر الحديث " في مصر، قبلهم، ليس الا من ملحقات مدرسة "أبولو" الباهتة الأثر، مع تغييرات في الظلال، وفي الاتجاهات الاجتماعية. ( 5)
وبغض النظر عن النظرة الثبوتية والأحكام المطلقة والمبالغ فيها،فإن جوهر القول يظل صحيحا، إذا نظرنا إلى الحداثة التي يقصدونها باعتبارها الحداثة التابعة التي أوضحنا مفهومها من قبل. وهنا نجد أن إطلاقية حكم الخراط قد تجاهلت عددا من الشعراء العرب والمصريين السابقين على شعراء السبعينات من أمثال الشعراء السيرياليين ومثل محمد عفيفي مطر وغيرهم. أما الحكم على المحدثين الذين يعتبرهم الخراط امتدادا للشعر الجاهلي فيؤكد قولنا أن الحداثيين يسعون للخروج على الشعر العربي، ولكن للأسف باستمداد مشابهة مشوهة للنموذج الحداثي الأوروبي، وعناصرها في شعرهم كثيرة لا ينجح الخراط في الإمساك بها في مقالته، لأن العناصر التي يعتبرها مميزة لحداثتهم، ليست كذلك، بل يمكن أن نجدها في كثير من الشعر الحديث، وليس "(الحداثي "، هذه العناصر هي :

  1. أنهم "كسروا الفصل بين حدي الواقع وتصوره، حدي: الرث والسامي. وهم يسعون إلى "تكوي" واقع شعري، لا إلى عكس، أو تصوير، واقع ما، ولا إلى "التعبير" عنده (أي عنه) بل إلى إيجاده، وخلقه".
  2. ""كمصر حاجز التفعيلة، وخلع مسوح القدسية عنها، سواء بالبحث عن نسق موسيقى متحرك، وغير منمط، أو باستخدام قصيدة النثر.. وتثوير اللغة، بالنحت، أو بالمنح من ينابيع العامية الحية،أو باستيلاد سياقات لغوية مستحدثة 100.
  3. "سوف نجد تطويرا أعمق، وأفعل، لتوظيف الأسطورة (توظيفها، لا مجرد ترصيع " الشعر" بها، ولا مجرد الإحالة إليها)، بحيث تكون الأسطورة مضمرة في جسد القصيدة منها، وليست مجاورة لها.". (6)
    هذه الملامح جميعا، بغض النظر عن عدم دقة الملمح الأول واتهامه الناتج عن خطل وهم تحقيق الواقع في الشعر، هي ملامح متحققة بالفعل لدى شعراء معاصرين كثيرين منهم درويش وسعدي يوسف وأمل دنقل، ولنبدأ بمسألة الإيقاع التي كانت أبرز الاتهامات الموجهة لأمل دنقل.

لقد اعتمد أمل دنقل بالفعل على مجموعة من العناصر الإيقاعية التي جعلت شعره أعلى صوتا من جيل الرواد وجيل المعاصرين له. من هذه العناصر:

  1. اختيار مجموعة من الأوزان الصافية والبسيطة التي تخلق إيقاعا واضحا غير ملتبس، حيث يسيطر الرجز (بنسبة (25 %) من شعره تقريبا) والمتدارك (32 %) والرمل 141 %) والمتقارب والكامل (بنسبة 6 بر لكل) والوافر (3 ش).ولم يخرج عن هذه الأوزان الصافية، حيث دخلت أكثر من تفعيلة في القصيدة سوى أربع عشرة قصيدة من جملة 84.
  2. الاعتماد على القافية أكثر من غيره من الشعراء،حيث لا تخلو قصيدة من مجموعة من عناقيد القوافي المتداخلة، والتي يغلب عليها دائما عنقود كبير يكاد يكون قافية القصيدة الأساسية. (7)
  3. والأهم من ذلك أن موضع القافية، أو نهاية السطر الشعري عند أمل، قد حظي باهتمام خاص حيث شغل هذا الموقع في كثير من الأحيان بأصوات مجهورة قوية الإسماع، كذلك شغله بساكنين متتابعين يكونان ما يسمى بالمقطع زائد الطول ( ) الذي يقع عليه النبر بالضرورة. (8)
  4. إن نسبة الأصوات المجهورة عالية الإسماع في قصائده بصفة عامة، وخاصة قبل مرحلة الديوان الأخير (أوراق الغرفة رقم "8") كانت أعلى من نسبة هذه الأصوات في اللغة العادية. وهذه الأصوات معروفة بقوة إسماعها.
    ولا شك أن هذه العناصر المستفيدة بوضوح من التراث الشعري العربي حققت هذا الصوت العالي الذي كان يقصد إليه أمل تحقيقا لوظيفة جذب انتباه المتلقي وأسره، وخاصة إذا كانت القصيدة إنشادية متعلقة بموقف إلقاء، أو بقضية سياسية، والمثال الواضح على ذلك قصائد: "الكعكة الحجرية"، " لا تصالح " 000الخ.
    غير أن التمعن وراء هذه العناصر يلمح أن هناك صراعا بينها وبين عناصر أخرى، تحقق قيما فنية تنفي أحادية التوجه الإيقاعي وتجعله صراعيا متعدد الأصوات. وأهم هذه العناصر هو عنصر التدوير، الذي يجعل القصيدة تمزج بين وزنين أو تفعيلتين بسلاسة وسهولة دون خلل في الوزن. كذلك تكمن أهمية التدوير في كونه يخفف من حدة الوقفة الضرورية عند المقطع زائد الطول وتخلق تواصلا تنغيميا. فبدلا من التنغيم الصاعد أو الهابط الذي توجبه نهاية السطر غير المدور، نجد التدوير يفتح النغمة لتمتد في السطر التالي، فيتحول إلى تنغيم مستو غير عالي الإيقاع (9) وأخيرا فإن التدوير يساهم في تحقيق التواصل بين الأنواع الأدبية في داخل القصيدة الشعرية، حيث أنه يسهل القيام بوظيفة السرد أو الدراما، كما سنلاحظ فيما بعد.
    هذه الملامح - التي تبلورت بوضوح مع تطور أمل الشعري - معتمدة على
    الملامح السابقة ومتصارعة معها، أنتجت إيقاع العربية الحديثة أو حداثة الإيقاع العربي المعاصر، والذي وان قمعت فيه الشفاهية بقرارات سياسية تقمع الديموقراطية، فإنها ما تزال احتياجا جماليا لم يزل. فنجح أمل في المزاوجة بين الاثنين. القوة الإنشادية والطاقة التأملية والاحتياج إلى المناجاة والتواصل السردي والغنائي. ولعل المقارنة بين هذين الجزءين من قصيدة في مرحلة الغليان ""سفر الخروج، أغنية الكعكة الحجرية" وأخرى من مرحلة الهدوء "ضد من" أن تكشف تلك الملامح المختلفة.

سفر الخروج

الإصحاح الأول

أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة !
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح !
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة
والمدى... أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي:عظمتان وجمجمة،
وشعاري الصباح! (10)
ضد من
في غرف العطيات،
كان نقاب الأطباء أبيض،
لون المعاطف أبيض،
تاج الحكيمات أبيض، أردية الردهات،
الملاءات،
لو ن الأسرة، أربطة الشاش والقطن،
قرص المنوم، أنبوبة المصل،
كوب اللبن.
كل هذا يشيع بقلبي الوهن.
كل هذا البياض يذكرني بالكفن !
فلماذا إذا مت..
يأتي المعزون متشحين..
بشارات لون الحداد ؟
هل لأن السواد..
هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد.. الزمن، (11)

2

ينفي أي إدراك أمين وغير تعميمي القول أن تعامل أمل دنقل مع الأسطورة - والتراث بصفة عامة - كان تعاملا تزيينيا أو تجاوريا. بل إن إحدى أهم المزايا الكبيرة التي حققها شعر أمل - إزاء جيل الرواد - كان هو هذا الوعي المغاير بالتراث والتوظيف المختلف له.
لقد كان أبرز استخدام للتراث في شعر أمل هو استدعاء الشخصيات القديمة وتلبسها والحوار معها، بحيث يصح تماما أن نستخدم مصطلح القناع وصفا لآلية التوظيف هذه. إن الشخصية التراثية، سواء كانت من التراث اليوناني(سبارتاكوس ) أو من التراث العربي (زرقاء اليمامة) أبو موسى الأشعري، أبو نواس، ابن نوح... الخ ) (12)، تأتي إلينا من تاريخها دون أن تتركه، تحمله معها بكثير من تفاصيله، وتتحول إلى شخص يعيش في زماننا ويعاني ذات معاناتنا، هو أمل دنقل بذاته. ورغم أن أمل يقيم في بعض قصائده حوارا أو مقابلة مع هذه الشخصية أو تلك، إلا أن هذا الحوار لا ينبع من موقع المواجهة معها، وإنما من موقع الصديق أو الرفيق كما يوضح هذا الحوار مع زرقاء اليمامة، وغيره كثير:

أيتها العرافة المقدسة.
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى،وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء..
عن فمك الياقوت عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاة على الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاص رأسه.. في لحظة الملامسة! (13)

ففي هذا الحوار يخاطب الشاعر (الجندي المهزوم) زرقاء اليمامة بهمومه وهمومها هي أيضا، لأنها هي التي حملت همومه منذ قديم الزمن. فهو لا ينفي همومها التاريخية (فمها الياقوت، نبوءتها). بل يجعلها بهذه الهموم تساهم في هموم عصرنا محققا بذلك ما عرف بقصيدة القناع في مثل هذه القصيدة يستحيل أن تكون الشخصية الأسطورية أو التاريخية زينة أو حتى رمزا جزئيا، (وإن وجد هذا النمط الأخير في بعض قصائد أمل حيث تستخدم الشخصية أو الرمز أو الموتيف في موقع بعينه من القصيدة لخدمة الحركة الدرامية والدلالة في هذا الموقع، دون أن تمتد إلى بقية القصيدة، هنا تنبني القصيدة كاملة، بمجمل حركتها الدرامية كما سنوضح فيما بعد، على الشخصية التراثية أو على الحوار معها أو الحوار بينها وبين واقعنا (كما هو الحال في قصائد "(بكائية لصقر قريش " أو "مقابلة خاصة مع ابن نوح " أو "لا تصالح ".. الخ ).
غير أن اللافت للانتباه في الشخصيات التراثية التي يستدعيها أمل هو أنها تتمتع بخصائص محددة لا تخرج في الغالب عن نطاقها، مجمل هذه الخصائص يشير إلى أنها انقلابية ومتمردة على زمانها وواقعها والظلم السائد في هذا الواقع. هي
شخصيات غير ثبوتية لا تستسلم وإنما تتمرد حتى ولو كان تمردها محكوما عليه بالهزيمة منذ البداية لأنه تمرد فردي وليس ثورة جماعية. ومن هنا، فإن اللحظة التي يختارها أمل من حياة هذه الشخصيات هي لحظات الهزيمة،وهذا ينطبق أيضا على الشخصية الثورية الوحيدة أي شخصية سبارتاكوس. نجد أن الشاعر يلتقي به في لحظة الموت.

معلق أنا على مشانق الصباح
وجبهتي - بالموت - محنية
لأنني لم أحنها.. حية (14)

وقد يبدو المبرر الواضح لاختيار هذه اللحظات،هو أن الشاعر كان يعيش حالة الهزيمة التي لم تقع في الخامس من حزيران 1967 وإنهما وقعت قبل ذلك بكثير كما هو واضح في كثير من قصائد أمل نفسه، غير أن المبرر الأقوى لاختيار هذه الشخصيات هو - فيما أرى - أن ملامحها تتشابه تماما مع ملامح شخصية الشاعر نفسه، كما يكشفها شعره ونمط حياته بصفة عامة بالإضافة إلى قيمه الأساسية في الحياة كما عبر عنها في حواراته الكثيرة ولعل هذه الصياغة الفنية التي كتبتها عبلة الرديني أن تكون تجسيدا حيا لهذه الملامح. تقول:
"نصطدم فيه بعالم متناقض تماما، يعكس ثنائية حادة كل من طرفيها يدمر الآخر، ويشتت الكثير من أشكالها.. إنه الشيء ونقيضه في لحظة نفسية واحدة يصعب الإمساك بها والعثور عليه فيها: فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبية شديدة، صريح وخفي في آن واحد، انفعالي ومتطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تدرك ما في داخله أبدا.
يملأ الأماكن ضجيجا وصخبا وسخرية وضحكا ومزاحا.. صامت إلى حد الشرود، يفكر مرتين وثلاثا في ردود أفعاله وأفعال الآخرين، حزين حزنا لا ينتهي. استعراضي يتيه بنفسه في كبرياء لافت للأنظار.. بسيط بساطة طبيعية يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره، وربما يحتد على مديحك خوفا من اكتشاف منطقة الخجل فيه.
صخري، شديد الصلابة لا يخشى شيئا ولا يعرف الخوف أبدا.. لكن، من السهل إيلام قلبه.
يكره لون الخمر في القنينة، لكنه يدمنها استشفاء. قلق، لا يحمل يقينا.؟ تاريخ معتقداته حافل بالعصيان، لكنه غير ملحد (نطق الشهادة أثناء إجراء العملية الجراحية).
صعيدي محافظ، عنيد لا يتزحزح عما في رأسه، وقضيته دائما هي الحرية، ومشواره الدائم يبدأ بالخروج. عاشق للحياة، مقاوم عنيد، يحلم بالمستقبل والغد الأجمل مع قدر كبير من العدمية يزدرى فيها (به ؟) كل شيء، ويدمر كل شيء، ويؤمن بحتمية موته. " (15)
إن هذه الملامح الدقيقة والتي عرفها كل من عرف أمل أو قرأ أعماله، تستند إلى كثير من الجذور الاجتماعية والثقافية، وتفسر كثيرا من الملامح الفنية في شعر أمل دنقل.
لقد ولد أمل دنقل "محمد أمل فهيم محارب دنقل " في 23 يونيو 1940 بقرية القلعة محافظة قنا، في بيئة وصفها دائما بأنها بيئة، قاسية ساهمت ظروف أسرته الخاصة في زيادة قسوتها فيما بعد. فبالإضافة إلى قسوة الطبيعة الجبلية وضيق المساحة الخضراء على ضفاف النيل، توجد التقاليد القاسية التي تفرض على الأطفال رجولة مبكرة، خاصة إذا توفى الأب (سنة 1950) تاركا عبء مسؤولية الأسرة على كاهل أمل دنقل (16)، دون دخل معقول، بعد أن استحوذ الأعمام على مجمل التركة التي يبدو أنها كانت كبيرة بفعل انتماء الأسرة إلى الأشراف كما كان أمل يقول دائما، مبررا كبرياءه أو فعالاته في الكبرياء أحيانا.
وحين يولد أمل ويترعرع ويتكون وعيه في ظل هذه البيئة، وفي ظل صراعات الحرب العالمية الثانية ثم صراع الحركة الوطنية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي وبعد ذلك فسد الوجود الصهيوني، وصراعات السياسة المصرية بعد 1952، والتناقض بين الشعارات الوطنية المرفوعة والممارسات القمعية ضد أي معارض، أو حتى مؤيد بخطاب متمايز. يصبح الإحساس بتناقضية الحياة ومفارقتها هو الشعور الأساسي الذي يستولى على الشخصية ويقودها إلى تنمية وعيه بها على المستوى الذهني والفكري، ومن هنا تأتي قراءات أمل سواء في التراث العربي المتمرد أو الفلسفة الأوروبية الحديثة الماركسية والوجودية واللاأدرية (17).
هذه الملامح سواء على المستوى الوجودي أو على المستوى المعرفي تفسر الملمح الفني الأساسي في شعر أمل دنقل، والذي يحكم الملامح الأخرى، سواء التي سبق أن رصدناها أو التي سنتناولها فيما بعد، وهو أيضا الملمح الذي نعتبره ملمحا أساسيا من ملامح حداثة شعر أمل دنقل العربية، ونقصد ملمح المفارقة، أو المفارقة التهكمية ترجمة للمصطلح الأوروبي (lrong).
إن المفارقة التي نقصدها هنا، هي بقدر من التبسيط الجمع بين نقيضين في وقت واحد، بحيث تثير السخرية المرة أو الفكاهة المأساوية (18) وهي بهذا المعفى تنتشر كصورة جزئية في كثير من قصائد أمل دنقل منذ بداياته الناضجة وحتى موته. ومن أمثلتها قوله:

فكل شيء يرتخي في لحظة التمهب المرتقبة.
حبيبتي في لحظة الظلام، لحظة التوهج العذبة
تصبح بين ساعدي جثة رطبة
(موت مغنية مغمورة/ البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)
وقوله:
أسأل يا زرقاء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاص رأسه.. في لحظة الملامسة
(البكاء بين يدي زرقاء اليمامة).
وقوله وجبهتي - بالموت - محنية
لأنني لم أحنها حية .

(كلمات سبارتاكوس الأخيرة)

وغير هذه صور كثيرة (19) غير أن ما نشير إليه هنا هو أبعد من مجرد تقنية مجازية استخدمها أمل وحققت بعض أسباب اهتمام المتلقين بشعره. نشير هنا إلى أن المفارقة كانت وعيا بالعالم، حكم وجود الشاعر وقيمه وإدراكه للواقع العربي الذي عاش فيه، والذي مثل التناقض العميق خاصيته الأساسية، عبرت عنها هزيمة 1967 كهزيمة للمشروع التقدمي العربي الذي لم يدرك عمق التناقض في المجتمع العربي الحديث، وعمق التخلف الناتج عن التبعية الذهنية، فكانت النتيجة هي تكريسها والعودة إلى بدء النضال من قبل العصر الحديث مرة أخرى، في دورات متكررة لا يبدو أن هناك إمكانية للخروج منها، لقد أدرك أمل هذه المعضلة، وكان جزا من نسيجها في قيمه وفي حياته، ولكنه نجح في أن يجسدها تجسيدا فنيا عاليا، ليس فقط في تقنياته على مستوى الإيقاع والصورة والتعامل مع - التراث، وإنما أساسا من خلال بنية القصيدة، التي تقوم على تحقق الدراما، ولكن ليس بالمعنى البسيط للدراما إنما بالمعنى الأعمق: الدراما التي تقوم على المفارقة.
لقد عرف الشعر العربي منذ بدايته الناضجة وحتى اللحظة الراهنة ثلاثة أنماط من بنية القصيدة، يمكن أن نعتبرها أنماطا أساسية وإن دارت حولها تنوعات أوسع قد تصل إلى خصوصية لبنية كل قصيدة. هذه الأنماط هي بنية التجاور وبنية التداخل، وبنية التجادل أو الصراع. ورغم أن هذه البنى جميعا يمكن أن توجد في المراحل المختلفة من تاريخ الشعر العربي، الا أننا نستطيع الزعم أن نمطا منها ساد مرحلة من المراحل. فبنية التجاور هي التي سادت القصيدة الكلاسيكية منذ الشعر الجاهلي حتى المدرسة الاحيائية وبعض أشعار الرومانسيين وهي الوحدة التي سماها البعض بوحدة البيت أو وحدة الموضوع، حيث لا يستقل كل بيت في القصيدة بنفسه وزنا ونحوا ومعنى وان كان هذا لا يمنع أن تتجاور الأبيات مضيفة معاني تتراكم الواحد تلو الآخر حتى تنتهي بقصيدة. أما بنية التداخل فهي بنية الوحدة العضوية التي لا يمكن فيها تقديم أو تأخير للأبيات أو حذف جز منها، لأنها تقوم على تداخل الدلالات وتشابكها بحيث لا يفهم ولا يدرك أولها قبل الانتهاء من قراءتها. وهذه البنية تحققت لدى بعض شعراء الرومانسية العربية (وليس كلهم ) ولدى بعض شعراء قصيدة التفعيلة الذين سماهم البعض خطأ بالواقعيين، في حين أنهم صلب الرومانسية. (20)
أما البنية الثالثة، بنية الجدل أو الصراع، والتي تحققت عند بعض الناضجين من جيل رواد الشعر الحر (وخاصة بدر شاكر السياب وصلاح جاهين) وعلى أيدي الجيل الثاني (درويش وسعدي يوسف وأمل دنقل)، فهي تقوم على حركة درامية في داخل القصيدة، بحيث تقدم أصواتا متعددة متصارعة حتى وان كان في داخل صوت الشاعر نفسه، يحدث بينها صراع ينمو ويتصاعد ثم ينتهي بأشكال مختلفة.
ينتمي أمل دنقل بوضوح ومنذ قصائده المبكرة إلى هذا النمط الصراعي أو الدرامي. غير أن انتماء أمل لم يكن تقليدا لسابقيه أو المعاصرين، وإنما تبلورت خصوصيته من وعي حاد بطبيعة الصراع الذي يعيشه المجتمع والذي يقوم - كما سبق أن أوضحت - على أساس المفارقة. وهذا الوعي الذي تجلى في شعر أمل لم يتحقق فقل في قصائده الأخيرة كما قلت، وإنما بدأ منذ بواكيره، وإن كانت مسيرته الشعرية وتطور وعيه قد أنضجا هذا الوعي وجعلاه أعلى فنيا. ولقد سبق لنا أن كشفنا بالتفصيل هذا التحقق الدرامي في قصيدة من أنضج قصائده وهي "مقابلة خاصة مع ابن نوح " (21) ويمكننا الآن أن نقدم نموذجا لهذه الدرامية في أعماله المبكرة. وقد اخترنا أقدم قصيدة نعرفها له، لإثبات مدى أصالة هذه الدرامية بهذا المفهوم، وهي قصيدة ا"قالت " المنشورة سنة 1960:

قالت
قالت: تعال إلي
واصعد ذلك الدرج الصغير
قلت: القيود تشدني
والخطو مضني لا يسير
مهما بلغت فلست أبلغ ما بلغت
وقد أخور
درج صغير
غير أن طريقه.. بلا مصير
فدعي مكاني للأسى
وأمضى إلى غدك الأمير
فالعمر أقصر من طموحي
والأسى قتل الغدا

***

قالت: سأنزل
قلت: يا معبودتي لا تنزلي لي
قالت: سأنزل
قلت: خطوك فتنة في المستحيل
ما نحن ملتقيان
رغم توحد الأمل النبيل

***

نزلت تدق على السكون
رنين ناقوس ثقيل
وعيوننا متشابكات في أسى الماضي الطويل
تخطو إلي
وخطوها ما ضل يوما عن سبيل
وبكى العناق
ولم أجد إلا الصدى
إلا الصدى
(من ديوان " مقتل القمر") (22)

والقصيدة كما هو واضح تنتمي إلى مرحلة البدايات، سواء من حيث العالم الذي يشغلها أو الصياغة الفنية. فالعلاقة بالمرأة هي القضية التي شغلت أمل أساسا في تلك المرحلة كما هو واضح من قصائد سنة 60، 61، 62 (في ديوان مقتل القمر)، بل إننا نستطيع أن نجد أن هذه العلاقة الصراعية مع المرأة أيضا في كثير من قصائد الديوان وخاصة "حكاية المدينة الفضية"، ولعلنا نكتشف - فيما بعد - أن الكيفية التي يدور بها الصراع هي نفسها في القصيدتين، وفي غيرهما من قصائد المراحل التالية:
من حيث الصياغة سنجد قلق البدايات واضحا في بعض التركيبات مثل "غدك الأمير" وهو قلق سببه حرص الشاعر على القافية التي تقترب هن التقليدية، حيث تسيطر قافية (ير)و(يل) على معظم سطور القصيدة، وتكاد تأتي في مواقع نهايات الأبيات، إذا أعدنا توزيع السطور في شكل أبيات من مجزوء الكامل مثلا:

قالت تعالى إلي واصعد
ذلك الدرج الصغير
قلت القيود تشدني
والخطو مضني لا يسير
مهما بلغت فلست أبلغ ما بلغت وقد أخور

ومن هنا فإنه لابد من الانتباه إلى أن وجود التدوير بكثرة كان ضرورة من ضرورات التحول إلى الشعر الحر. والذي نشعر أن الحوار كان أحد العوامل التي حتمت اللجوء إليه أيضا. والحوار - كما نعرف - هو التجلي الواضح للدراما.
مع هذه السذاجة الواضحة في الموضوع والصياغة نستطيع أن نلمح بوضوح أن بنية القصيدة تتبنى النمط الدرامي منذ البداية وحتى النهاية. ففي البداية هناك دعوة المحبوبة للشاعر كي يصعد ذلك الدرج الصغير، ولكنه لا يستطيع لأن هناك عوائق أربعة تمنعه من الصعود: القيود التي تشده، وخطوه مضنى. هذان قيدان يخصانه هو. أما هي فمستواها شديد العلو، ودرجها رغم أنه صغير، فهو بلا مصير. ولذلك فالطريق الصحيح هو أن تذهب هي إلى مستقبلها العامر، ويعود هو إلى غده القصير المأساوي.
غير أن الخطوة الدرامية التالية تمنع هذا الطريق الصحيح من التحقق. قالت سأنزل بدلا من أن تصعد أنت. ومع ذلك يدرك الشاعر أن هذا أيضا حل مستحيل: ما نحن ملتقيان رغم توحد الأمل النبيل. ولكنها، في خطوة أكثر حسما نزلت.
ويكشف تصوير الشاعر للنزول عن إحساس بالهم الثقيل، رغم الحب الممتد في الزمن الماضي. وفيه يتضح أن اللقاء هو اختيار المحبوبة، وليس اختيار الشاعر الموقن بلا جدوى اللقاء. وهذا ما يحدث فعلا في النهاية المفاجئة إلى حد ما. فرغم العناق (الباكي ) لا نجد إلا الصدى إلا الصدى.
تبدو الحركة الدرامية في القصيدة إذن مقسمة على ثلاثة محاور، وضع الشاعر بين كل منها والآخر فواصل طباعية، وإن لم تكن دقيقة تماما، حيث يبدو الفاصل بين المحور الأول والثاني أقوى منه بين الثاني والثالث، في حين أنه في المعنى العكس هو الصحيح. لأن التحول من الأول إلى الثاني هو تحول في الكلام، في حين أن التحول من الثاني إلى الثالث هو الأقوى لأنه تحول من القول إلى الفعل. غير أن هذه النظرة هي النظرة الأصح لمن يراقب الأمور من الخارج فحسب، بينما يمكن.أن يكون إحساس الشاعر وإدراكه للنهاية المحتومة، جعله لا يعتبر هذا التحول الأقوى (إلى الفعل ) فاقد القيمة ولا أهمية له. بل ربما كان يخشى هذا التحول الأخير، ويفضل استمرار الحوار، مجرد الحوار. كذلك يمكن القول أن قوة العلاقة بين المحورين الثاني والثالث تنبع من إدراك الشاعر أن فتاته تتميز بالإصرار:

وخطوها ما ضل يوما عن سبيل
بحيث أنها طالما قررت النزول فستنزل لا محالة.

هذا التفسير الذي تسنده عناصر أخرى في النص لا مجال للتفصيل فيها هنا، (منها أن القافية في الجزءين الثاني والثالث متفقة (يل ) ومغايرة لقافية الجزء الأول (ير) من حيث الرؤى (وإن اتفقت معها من حيث البنية التي تسمى عند العروضيين بالترادف ) كل هذا يكشف أن التحول الدرامي في القصيدة لا يتم طبقا لآليات الصراع الواقعي أو المادي،وإنما يتم أساسا من منطلق شعوري يكاد يكون عدميا مفارقا. ربما انطلقت الدراما من صراع مادي واضح في البداية حيث التمايز الطبقي هو الذي يفصل بين الحبيبين، وقد يكون هذا البعد الطبقي هو جذر المفارقة، غير أن الشاعر يحرص عبر القصيدة وخاصة في نهايتها على أن يكشف أن هذا التمايز يمكن مقاومته والنجاح في ذلك حتى تحقيق اللقاء المادي (العناق ). ولكن يبقى هناك التمايز الشعوري أو الروحي العميق الذي يكاد يصل إلى حد الميتافيزيقا، فاصلا عازلا لا يمكن تجاوزه. ومن ثم تتحول المفارقة إلى مفارقة شعورية يمكن أن نجد أبعادها الوجودية في الخصائص التي يعطيها الشاعر لنفسه وللآخر.
فهو يقول عن نفسه ؟ القيود تشدني، الخطو مضني لا يسير، دعي مكاني للأسى، العمر أقصر من طموحي، الأسى قتل الغدا، أما هي فلن يبلغ ما بلغته، غدك الأمير، طريقه.. بلا مصير، خطوك منته في المستحيل، تدق على السكون رنين ناقوس ثقيل، خطوها ما ضل يوما عن سبيل. إن الشاعر طموح ولكنه فقير وغده غير مضمون بل إنه يدرك (منذ تلك السن) أن عمره قصير. أما هي فغنية قوية ثقيلة عملية، في حين أنه حالم ومتأمل ويائس. وهذا يؤكد طبيعة الصراع - على مستوى الآخر - بين المادي والشعوري.
غير أن هذا التفسير لا يتنافى مع إمكانية رده إلى الصراع على مستوى الواقع الاجتماعي. فالصراع الطبقي واضح وهو الجذر، غير أن الصراع الشعوري أهم لأنه يكشف عن ضياع جيله من الشباب، على المستوى الاقتصادي والنفسي، الذي يؤهله للشعور باليأس إلى هذه الدرجة. ونلاحظ هنا أن لحظة القصيدة هي لحظة أزمة حادة من أزمات الديموقراطية في مصر بسبب سجون 1959 غير أننا نميل إلى جانب أهم من جوانب الصراع الشعوري، متعلق بما ذكرناه، هو عدم قدرة الإنسان في هذا الواقع على التحقق. وليس المقصود بالتحقق هنا تحقيق الاحتياجات المادية وإنما التحقق كإنسان فرد يدرك ذاته ويعيها ويملك حافره ومستقبله وهذا ما أقصده بمفهوم الفردانية كما سبق أن أوضحت.
ففي القصيدة لا يتحقق الإنسان سواء كان من الطبقات الفقيرة (الشاعر) أو حتى من الطبقات الغنية، التي وإن ملكت الإمكانيات المادية، أو حتى الشخصية القوية، فإنها لا تمتلك ذاتها، ولا تعيها، ولا تعي الظروف المحيطة بها، ولذلك فإنها تفشل هي الأخرى في تحقيق ما أرادت وما أصرت عليه. وهذه كما قلت هي الأزمة العميقة للإنسان العربي الحديث، والتي يمكن أن نجدها جذرا في شعر أمل بدءا من أقدم قصائده وحتى أخرها، والتي تتجلى في الحس الدرامي المفارق كما حاولنا أن ندركه في هذه القصيدة على بساطتها.
تشيع في هذه القصيدة وفي قصائد المرحلة الأولى بصفة عامة بعض القيم الرومانسية كما هو واضح. وهي تتصل بالقيم التالية والمطلقة في المراحل التالية، تلك التي سبق لنا أن وضعنا لها عنوانا،" البحث عن لؤلؤة المستحيل " وهو عنوان اقترحه أمل نفسه حينما اعتبر الشعر هو بحث عن لؤلؤة المستحيل الفريدة. (23) وفي المرحلة الأخيرة من حياة أمل، حين تعاظمت الهزائم على المستويين الشخصي والاجتماعي (الوطني والقومي )، ازداد تعلق أمل بهذه القيم المثالية التي تبدو نبيلة، ولكنها، في النهاية - قيم الماضي - والتي اعتبرها بعض الحداثيين مثلبة يحرم، على أساسها أمل من "الحداثة".
يتجلى هذا بوضوح في قصيدة (لا تصالح ) التي تعتمد على قيم مثل الطفولة المشتركة، الأخوة، النساء الثكلى، الأبوة، العرس، الغرام، والأهم: الثأر

لا تصالح،
ولو قيل إن التصالح حيلة.
إنه الثأر
نبهت شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد المعار مرسومة (بأصابعها الخمس )
فوق الجباه الذليلة.

كذلك نستطيع العثور على كثير من هذه القيم في قصائد بكائية لصقر قريش، الطيور، الخيول.. الخ ).
ولا شك أن الحنين إلى هذه القيم، قيم الماضي الذهبي النبيل، تشكل تناقضا مع القيم "الثورية" التي رآها البعض في أشعار أمل في المراحل السابقة. غير أن هذا التناقض - من وجهة نظري - هو تناقض ايجابي لعدة أسباب، فهو على المستوى الفني أحد العناصر الأساسية التي تقوم عليها المفارقة كقيمة فنية عالية في شعر أمل كما سبق أن لاحظنا وهذه المفارقة هي نفسها الجذر الشعوري والفلسفي الذي ساد شعر أمل في كل المراحل، بحيث أنه كان دائما - من وجهة نظري - شاعرا متمردا أكثر من كونه شاعرا ثوريا. وقد يكون التمرد على مستوى الفن أكثر أهمية من الثورية، إذا كان مفهوم الثورية هو الشعارية والتحريض. فالشاعر المتمرد القادر على إبراز تناقضات الواقع بعمق وبفنية عالية،. يستطيع أن يحول المتلقي إلى رافض،حتى للشاعر نفسه،أي أنه يمكن أن يجعل من المتلقي ثائرا، وهذا ما حدث فعلا بشأن قصائد أمل التي %لقيت أمام جموع الطلاب الثائرين سنة (1971).
وعلى كل حال، سواء كان الشاعر متمردا أو ثائرا، فإن تمرده أو ثورته ينبغي أن تنطلق أساسا من الوعي بتناقضات الواقع، وألا يفرض عليه هذا التمرد أو الثورة من الخارج. والوعي بتناقضات الواقع سيعني بالضرورة الانطلاق من بعض قيم هذا الواقع الجميلة لرفض القيم الأخرى الفاسدة والرديئة. لذلك فإنني اعتبر أن القيم النبيلة التي حن إليها أمل، هي قيم وإن بدت ماضوية. تعيش بيننا، ويمكن أن يلجأ إليها الشاعر لتحقيق وظيفة الشعر لإيقاظ وعي متلقيه وإحساسه بالنبل والجمال. والانطلاق من هذه القيم لا ينفي كون الشاعر حداثيا لا شك أنه يتعارض مع مفهومه للحداثة، باعتبارها تقليدا لحداثة الفردانية الغربية المأزومة، أما الحداثة العربية التي تتجاور فيها أنساق القيم هن كل الأزمان، والتي لم تستطع الطبقة الوسطى أن تنقلها إلى مرحلة الفردانية الحقيقية، فهي الحداثة التي أراها - في إبداعنا - حداثة حقيقية، وهي - كما حاولنا أن نوضح - تتجلى ساطعة في شعر أمل دنقل، وتبرر استمراره بيننا شاعرا كبيرا، قادرا على الإمساك بلب أزمتنا الراهنة، وتجسيدها بلغة حديثة تتمثل أفضل ما في تراثنا وتتجاوزه.

الهوامش:

1 - حول هذه التناقضات في النقد العربي الحديث -في مصر - راجع كتابنا البحث عن المنهج من النقد العربي الحديث ا دار شرقيات القاهرة سنة 1993. وعنها في الأشكال الأدبية راجع دراستينا: - محتوى الشكل، نحو موضوع دقيق لدراسة الأدب، مجلة فصول القاهرة ربيع 1993
- في البحث عن هوية روائية: نشأة الرواية في النقد العربي الحديث. بحث قدم في الندوة ا لدولية الثانية للأدب ا لمقارن، قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة ديسمبر 1993 وينشر قريبا ضمن كتاب "محتوى الشكل في الرواية العربية ".

2 - عن مفهومنا للتبعية الذهنية راجع دراستنا: التبعية الذهنية في النقد العربي الحديث " مجلة أدب ونقد، القاهرة،عدد ابريل 1994. ص 12.
3 - راجع: سامي مهدي. أفق الحداثة وحداثة النمط. دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1988 ص 151 وما بعدها.
4 - راجع دراستينا:
- وليمة لأعشاب البحر، نموذج للحداثة الحقيقية. مجلة أدب ونقد، القاهرة يناير 1992.
- نحو حداثة حقيقية في الشعر المعاصر. مجلة الشعر. القاهرة عدد يوليو
5 - إدوار. الخراط: على سبيل التقديم. مجلة الكرمل عدد خاص عن "الأرب في مصر الآن العدد 14". قبرص. د.ت ص 12.
6 - نفس المرجع والصفحة
7 - راجع نموذجا لهذه العناقيد في كتابنا "البحث عن لؤلؤة المستحيل " دار الفكر الجديد. بيروت 988 1 " ص 88.
8 - عن هذه المفاهيم راجع تفصيلا كتابنا.العروض وإيقاع الشعر العربي، محاولة لإنتاج معرفة علمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب 10 لقاهرة 1993 ص 112 وما بعدها.
9- المرجع السابق. ص 126.
10- أمل دنقل الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة - بيروت ومكتبة مدبولي، القاهرة الطبعة الثانية1985، ص 274.
11- نفسه. ص 368.
12- وغير هذه الشخصيات كثير مثل عنترة بن شداد والمتنبي وصلاح الدين واليمامة، بالإضافة إلى الشخصيات المعاصرة مثل سرحان ومازن أبو غزالة وغيرهما.
13- الأعمال الشعرية الكاملة ص 121.
14- نفسه ص 110.
15- عبلة الرويني: الجنوبي. مكتبة مدبولي، القاهرة1985 ص 5 - 6.
16 - سيد البحراوي وعبلة الرويني: أمل دنقل،كلمة تقهر ا لموت، الهينة العامة لقصور الثقافة - كتاب الثقافة الجديدة العدد 19901، ص 5 -
17- راجع عن ثقافة أمل وقراءاته. - حسن الغرفي "أمل دنقل، عن التجربة والموقف". مطامح أفريقيا الشرق،
المغرب 1985.
- والحوإر الملحق بكتابنا: البحث عن لؤلؤة المستحيل. مرجع سابق ص
18 - راجع. د. س ميوميك. المفارقة. ترجمة د. عبدالواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي. منشورات وزارة الثقافة والإعلام، العراق 1982.
19-راجع نماذج أخرى في كتابنا البحث عن لؤلؤة المستحيل. ص 170
20 - راجع عن هذه القضية دراستنا "التبعية الذهنية في النقد العربي الحديث. مرجع سابق.
21 - في كتاب "في البحث عن لؤلؤة المستحيل، دراسة لقصيدة أمل دنقل "مقابلة خاصة مع ابن نوح " مرجع سابق.
22 - الأعمال الشعرية الكاملة.ص 5 7 - 76
23 - راجع الحوار المشار إليه سابقا في نهاية البحث عن لؤلؤة المستحيل ص 212 وما بعدها.

المصدر : مجلة (نزوى) -عمان