أمل دنقل

سيف في الصدر ، جدار في الظهر

تشبثوا بآمالكم، فان أمل دنقل قد مات ومن لديه أمل فليعض عليه بالنواجذ.
ها ه يآما لالشعر العربي تغادر، وتتسرب من بين ايدينا واحدا بعد الآخر. ÷ل أمل دنقل آخره/ أول الذين/ (لا وقت للبكاء. فالعلم الذي تنكسينه على سرادق العزاء، منكس فس الشاطئ الآخر، والابناء يستشهدون كي يقيمون .. على تبة العلم المنسوج من حلاوة النصر ومن ماررة النكبة، خيطاً من الحب .. وخيطين من الدماء).

قال ذلك عند وفاة عبدالناصر/ كأنه يقولها الآن لنا. فهو لم ينس الحياة حتى وهو بين فكي الموت. عندما مات، انهالت مئات المقالات بسرعة البرق للحديث عن شاعر مات حتى نكاد نشعر بأن بعض هذه المقالات كانت فرحة لأنه مات. لماذا الآن يصير الشارع جديرا ويسمعه الناس؟

ها نحن ةندخل في واحدة من محن الشاعر العربي الجديد. أمل دنقل لم يعرفه طوال تجربته ربع عدد الذين عرفوه الآن .. بعد.

نحن ا/ة تقدس الموتى. موتاها خاصة. بل أننا أمة تقتل مبدعيها لتقدسهم. ان المفارقة بين اهمال الشاعر و محاصرته الى درجة الحرب لأثناء حياته، وبين الاهتمام و الاحتفاء الى درجة التقديس بعد موته، مسالة مثيرة وجدية باكتشاف النفسية العربية تجاه المبدعين الأحياء/ الأموات.
أمل دنقل، جاء. صرخ في العالم المستكين. لم يعبأ بصوته أحد، ما همه أحد، كتب أجمل الاشعار ومات.

(أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور
ليطمئن قلبه، فما يزال طيره الماسور
لا يترك السجن ولا يطير
أبصر تكل الشفة المثقوبة
ووجهه المسود، والرجولة المسلوبة
ابكي على العروبة )

الصعيد المصري/ محافظة قنا/ قرية القلعة/ 1941.
ولد أمل دنقل.
كيف نتخيل طفلاً يرى النور للمرة الأولى في (قلعة)؟.
حمل الشاعر قلعته معه. في دمه / كلماته. واشتغل طوال الوقت على كسر هذه القلعة. بدون ضجيج جاء الى الشعر العربي من صعيد، وكتب قصيدته المختلفة. كسر جدران قلعته في القصيدة كما لم يعهد الشعر المصري القصائد على هذه الشاكلة، ولم يعهد مثل هذ الكسور ايضاً.
قصيدته تكتظ بالواقع، بالعذاب الذي رآه في المدينة أكثر تعقيدا من عذا القرية. هناك صورة العذاب واضحة، مباشرة حتى البساطكة. في المدينة بدا لصراع على درجة من التعقيد الى الحد الذي يتطلب قوة اسطورية لدى الشاعر لكي يعبر الجحيم. يحترق فيه دون أن يتلاشى. كان فلاحاً هادئا يمكن أت لمس هدوءه في موسيقى القصيدة. في قافيتها خاصة، و المدينة صاخبة:

( كنت لا أحمل الا قلماً بين ضلوعي
كنت لا احلم الا قلمي
\في يدي : خمس مرايا
تعكس الضوء (الذي يسري اليها من دمي)
"افتحوا الباب"
فما رد الحرس
- "افتحوا الباب . أنا أطلب ظلا .."
- قيل : "كلا"

1958 دخل كلية الآداب. جامعة القاهرة لمدة عام واحد فقط. كأنهليس مهيئاً لشي سوى الشعر. المهمات و الوزاجبات التي تتطلب جلوساً في المقعد لا تليق به. عاد الى محافظ قنا. عمل موظفاً في المحكمة. لكنه انشغل بالشعر و الحياة. ترك الوظيفة.
(ملك أم كتابة) صاح بي صاحبي وهو يلقي بدرهمه في الهواء
ثم يلقفه
...
(ملك أم كتابة)
صحت فيه بدوري
فرفر في مقليته الصي=با و النجابة
وأجاب : (ملك)
دون أن يتلعثم , يرتبك
وفتحت يدي كان نقش الكتابة
بارزأً في صلابة )

انفجر أمل في الشعر الحديث بهدوء. لكن بنوع مرير من السخرية لم تتوفر كثيرؤا في هذا الشعر. كان الفن عنده يسخر في الجرح ويسخر به معاً ، وصارت هذه الخصيصة من ارقى ملامح شعره. وربما وصلت في أحيان كثيرة الى ذروة الماساة الانسانية الت تنطوي على قدر كبير من درامية الحياة البشرية. ويستطيع أمل دنقل بجمالية شعره البالغ الشفافية أن يباغت القارئ بصورة يومية تصعد الى مستوى الصورة الشعرية الراقية. يحدث هذا من غير أن تفقد الصورة اليومية الشعبية بساطتها، و دون أن يقع في المبالغة الكلاسيكية المعتمة. و التي يحيط الضجيج البلاغي بها. فاللمحة الساخرة عنده تفجر في ذهن القارئ ما لايقاس من المعاني و الىفاق الشعرية.

(قيل لي أخرس)
فخرست، وعميت وائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد "عبس" أحرس القطعان
أجز صوفها
أرد نوقها
أنام في حضائر النسيان
طعامي: الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة و الرماة و الفرسان
دعيت للميدا
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شان
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان:
أدعى الى الموت .. ولم أدع الى المجالسه)

انها قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التي كبتها في الاسبوع الأول من هزيمة 1967، والتي انتشرت في مصر بالدرجة الألوى، تماما كما اشتهرت (هوامش) نهزار قباني في البلاد العربية. مع أن الشعر غند أمل دنقل وصل الى مراحل فنية تأخرت (الهوامش) عنها.
هنا السخرية تصير نوعاً من الطقس الحزين الذي يفضح صلاة كانت، من أجل صلاة جديدة. لقد اختصر الشاعر هنا تاريخا عميقاً من القمع و الجوع، فكل كلمة تشتمل على مدلولاتها الواقعية. فالانسان الذي لم يكن يتمتع بالحربة و الديمقراطية هو المطلوب للدفاع عن الوطن، والذي يعرف عمق الاشارة ال الواقع الاقتصادي، سيكتشف بشاعة الاشارة الى (لحم الضان). ان أمل هنا يوظف السخريبة الشعبية في تفجير الجذور.

الناظر الى قصيدة أمل دنقل للوهلة الأولى يعتقد ببساطتها البنائية، لكن المتأمل فيها سيكتشف درجة التعقيد الايحائي و العلاقات الجمالية التي لا تزركشها المبالغات اللغوية. لكن بساطتها نكمن في حساسية خاصة يمتلكها الشاعر تجاه اللغة، لغة بذاكرة غير مقموعة ولا موروثة.

( حين سرت في الشارع الضوضاء
واندفعت سيارة مجنونة الستائق
تطلق صوت بوقها الزاعق
في كبد الاشياء:
تفزعت حمامة بيضاء
(كانت على تمثال نهضة مصر
تحلم ف ياسترخاء)
طارت وحطت فوق قبة الجامعة النحاس
لاهثة، تلتقط لاأنفاس
وفجأة: دندنت الساعة
ودقت الاجراس
فحلقت في الأفق .. مرتاعة)

عند أمل دنقل تجد المفردات التي لا تتوقع أن تكون بهذا الجمال وهذه الطاقة الشعرية. انه يتشبث ببساطة المفردة ويشحنها باءماءة جديدة. كانت الروح الشعبية لديه تتعرض لعذاب الحجر الكريم في طريق الصقل و البريق. المفردة عنده تلمع وتطلع.
أمل لا يخلق لغة شعريى ساخرة. بل يحول المناخ المفاجئ الذي نعتاده ببساطة لكي يبرق أمامنا بشجن ومرارة ويبدو لا معقولاً، غرابته الساخرة تنبع من العذاب الكبير الذي تجسده المفارقة ف يالصورة، ومن طاقة المعنى التي تفيض من اطلاق اللغة من اسارها. انه يدخل اللغة في الحرية:

( أبانا الذي في المباحث ، نحن رعاياك
باق لك الجبروت، باق لنا الملكوت
وباق لمن ترحس الرهبوت.
تفردت وحدك باليسر
ان اليمين لفي الخسر
أما اليسار ففي العسر
الا الذين يماشون
الا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة العيون
فيعشون
الا الذين يشون
والا الذين يوشون ياقات قمصامنهم برباط السكوت
الصمت وشمك
والصمت وسمك
والصمت، انى التفت ، يرون ويسمك
والصمت
بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين
يلف الفراشة و العتكبوت)

القراءة. والقراءة. ثم القراءة. تجعل الشعر يصير أكثر جمالا وتجعله أفقا لكشف الشعر الذي لا يدعوك لذلك/ ليس كذلك.

رجوع