خالد علي مصطفى

في البدء لمحته قادما يسير بمعية أحد الأشخاص. كنت واقفا بالقرب من مكتبة فيصل حمود الكائنة في محلة السيف في البصرة، عندما مر من أمامي كان يحمل كتابا إنكليزيا من سلسلة بنجوين، ويلبس معطفا اختفى فيه جسده الضئيل. لم يكن مهدما، بل قل : لم يكن يلفت انتباه الآخرين

لم أحس بشيء غريب آنذاك، إذا أن هذا الرجل لم يكن إلا كأي رجل يشاهده الإنسان في حله وترحاله بحكم العادة اليومية. فقط بعد عدد من السنوات تذكرت أن ذلك الرجل المتضائل في أطماره الحامل كتابا من سلسلة بنجوين هو الشاعر بدر شاكر السياب. فقد انطبعت صورته في ذهني دون أن أعرفه. وقد برزت هذه الصورة مباشرة في الوقت الذي تهيأ لي أن أجالسه وأصادقه

فغي البدء أيضا، وعندما لمحته قادما يسير مارا من أمام مكتبة (فيصل حمود) في البصرة: لم يكن يمثل عندي أي شيء. ولذلك ظلت صورته منزوية في قعر ذاكرتي

لقد كان زمن هذه المشاهد عام 55 أو 56 علما بأنني آنذاك كنت في الثالث متوسط، وقد قرأت له (أزهار ذابلة) والذي عثرت عليه في سوق الجمعة الذي مازال يقام في محلة الشرق في البصرة أيضا وكان مدرسنا في مادة اللغة العربية الأستاذ عبد الله النفيسي وهو شاعر أصدر ديوانا صغيرا آنذاك بعنوان الحان الفجر يردد أسمه كثيرا، أمامنا، كرائد من رواد الشعر الحر مع اسم عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وظلت صورته أيضا منزوية في قعر ذاكرتي. عندما اكتشفته شاعرا رائعا من خلال قصيدته المسيح بعد الصلب المنشورة في العدد الثالث من مجلة شعر ، و التي حفظتها، ولا أزال، عن ظهر قلب

آنذاك، وبعد اكتشاف هذه القصيدة الرائعة أخذت أفتش عن شعر السياب الحديث المنشور في المجلات اللبنانية خاصة وأدونها في دفتر خاص بها أسميتها قصائد لم يجمعها ديوان وظل هذا الدفتر يرافقني حتى بعد معرفتي به، وقد استعارته مني طالبة في كلية الآداب وبقي عندها، سهل الله أمرها و أمره

(…………..)
كنا مجموعة من الطلاب في كلية الآداب لا نكاد نفترق. نقرأ الشعر ونكتبه ونجتهد في أن نترسم خطى أحدث (المودات الشعرية) آنذاك،و أظن أن لا يوجد مكابر يستطيع أن ينكر أن السياب آنذاك كان القمة التي يمثلها الشعر الحديث

وقد عرفنا أن السياب يجلس أحيانا في مقهى الجرداغ في الأعظمية. أخذنا نتحين الفرص ونذهب لنجلس فيها في الأماسي لعل الله يجعلنا نحظى بمقابلة السياب ومجالسته وكان ذلك شتاء 1960، فهل يمنحنا الشاعر بضع لحظات تكون شرفا لنا؟

كنت جالسا في المقهى مع الصديق محفوظ البصري كالعادة ننتظر أن يهل علينا الشاعر كوحي الهي كان الجمر هو الذي يلعب دوره في هذه الجلسة : العيون الأربع تتلفت يمنة ويسرة كانت مراقبتي عبثا، لأنني لا اعرف شخصه. وكنت استفسرت من محفوظ
هل تعرفه؟
نعم
وفي هذه الأثناء رأيت حركة غير عادية من محفوظ، أيكون السياب قد قدم ؟ وعندما صوبت بصري إلى الباب الذي ركز محفوظ عيني عليه، قال بانفعال ظاهر
ها هو بدر قد جاء
أهذا الرجل القصير الضعيف؟
انه هو ، انتظر، سأدعوه ليجلس معنا

وفجأة برزت الصورة المنزوية في قعر ذاكرتي التي كنت قد لمحتها مارة من أمام مكتبة فيصل حمود في الصرة. عذن هذا هو الشاعر بدر شاكر السياب الذي أحلم بلقائه انه الآن أمامي لحما ودما

عندما دعاه محفوظ للجلوس معنا، لبى الدعوة وعندما عرف منه أنه شقيق الشاعر الناقد عبدالجبار داود البصري، استأنس بنا أكثر لأنهما كانا على صحبة وثيقة في البصرة عندما استفسرنا منه عن آخر القصائد التي كتبها، أخبرنا أنه كتب شعرا كثيرا ، وبعد اقل من خمس دقائق طلب منا السماح بالمغادرة، لأن لديه أعمالا خاصة، وعندما طلبنا منه موعدا آخر قال بلهجة عامية طفولية

انتو تعالوا هنا اقعدوا و آني مت أشوفكم أجيت عليكم أيمكن أن يقول السياب ، هذا الشاعر العظيم ، مثل هذا الكلام العادي؟
ما ابعد الخيال عن الواقع. إن الذي أحسست به بعد هذه المقابلة القصيرة أن الصورة التي رسمتها في ذهني له قد زال معظمها، لقد بدا السياب إنسانا عاديا لا يختلف عنا نحن البشر العاديين. أليست هذه خيبة أمل ؟
ومع ذلك، فحرارة الخيال مازالت تلعب دورها. وقد اعتبرنا مجيء السياب و الجلوس و الحديث معنا بهذه البساطة فضيلة نادرة

في مقهى (الجرداغ) توطدت أواصر الصداقة بيننا، وقرأ لنا آخر شعره الذي كتبه آنذاك كقصيدة (العودة إلى جيكور) و (مدينة السندباد) ة(مرحى غيلان) و ( سبربروس في بابل) و (وجيكور تموز). وهذه القصائد كانت تمثل تجربته مع حكم عبدالكريم قاسم وماجره عليه من طرد من الوظيفة. لقد كان يحمل رحمه الله ردودا عنيفة ضد الواقع

وامتدت معرفتي وصداقتي بعد ذلك حتى وفاته فقد عرفني على الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا وكثيرا كنت اذهب مع بدر إلى منزل الأستاذ جبرا الكائن آنذاك في راغبة خاتون، لنتحدث في الأدب و الشعر خاصة و كان المرحوم بدر يحترم الأستاذ جبرا ويعتبره أستاذا له فقد كان في أحيان كثيرة يستشيره في قصائده فكلن ويعمل بملاحظات الأستاذ جبرا و يأخذ بها

وإن نسيت، لن أنسى تلك الرغبة التي أبداها لي مرة بالذهاب إلى اتحاد الأدباء العراقيين

وأذكر أن نزار عباس وحساني علي الكردي قد رافقانا إلى الاتحاد، و الحق يقال أن الأعضاء هناك قد استقبلوه أحسن استقبال ورحبوا به افضل ترحيب وقد كانت جلسة رائعة تلك التي ضمت السياب و أصدقاءه القدامى، كانت تضم ، إن لم تخني الذاكرة، الدكتور علي جواد الطاهر والشعراء بلند الحيدري و محمود الريفي و رشدي العالم و مظفر النواب فضلا عنا نحن الذين رافقناه ، وقد قرأ السياب قصيدتين وقرأ مظفر النواب قصيدة واحدة من شعره الشعبي الرائع وبالقائه الجيد وبعد هذه الجولات الشعرية حدث نقاش بين رشدي العامل و السياب حول مقال كان قد كتبه المرحوم يطعن فيه بالجواهري وشعره
(………)

كان السياب في مرضه الأخير وقبل أن تستفحل العلة يتكئ على رجل ثالثة :/ العصا المعقوف رأسها يسير ساحبا رجليه على الإسفلت تقيه هذه العصا من الوقوع على الأرض، كان الإنسان ينظر إليه ويحس أن الألم قد أحاله هشا، مائلا للسقوط في أية لحظة. ومع هذا الألم الذي يفري العظام كان يكتب كثيرا من الشعر وبغزارة لم تتوفر له طيلة حياته السابقة

وقبل أن يسافر إلى بيروت للاستشفاء، أول مرة، التقيته في جمعية الكتاب و المؤلفين العراقيين الواقعة آنذاك في ( العيواضية) وقد ضمت الجلسة : السياب وشاذل طاقة وجبرا و كان معنا أحد اقربائي.وكانت أمسية شعرية قلما يحظى بها الإنسان، فقد قرأ السياب لنا آخر قصائده آنذاك : أم البروم و المعبد الغريق وغيرهما

ورغم مرضه فقد ظل صوته محافظا على طبقته الاعتيادية. لقد أحسست أن جو الغرفة التي جمعتنا أخذت تقطر شعرا، خاصة وان هذه القصائد كانت تعبيرا عن مأساته

وبعد عودته من بيروت دون تقدم ملحوظ في الشفاء، التقيته في بغداد وفهمت منه أن الألم الذي وجده في مستشفيات بيروت يفوق بكثير الألم الذي يفري جسده، وقد سافر مرة أخرى إلى لندن للاستشفاء ورجع دون فائدة، وقد تألم كثيرا عندما أعلمني أن مديرية الموانئ قد عزلته بعد ثورة رمضان لكنه سرعان ما عاد إلى وظيفته

إن آخر مرة رأيت فيها السياب كانت في بيته الواقع خلف مبنى مديرية الميناء في البصرة. لم يكن يستطيع المشي إلا متوكئا على الحائط وبصعوبة بالغة. ولم يكن يعمل شيئا إلا القراءة و الكتابة. كانت عشرات الكتب العربية و الإنجليزية منتشرة حوله إنها زاده الوحيد

 

رجوع