فاضل العزاوي

قي موت الآخر يكتشف الأحياء موتهم الخاص. غير أنني لم أكن بحاجة لانتظار مثل هذا الموت. فقد كنـت اعرف اكثر من أي وقت آخر أن السياب رجل عاش من أجل الموت لم يكن رعب الرحلة الأخيرة ليفارقه لحظة واحدة: عذاب حسي بحت وارتباط أناني بالأرض، و موقف أخلاقي داخل وهم الوجود من أجل مواجهة الموت بقوة، مقاومته، قهره إن أمكن، غير انه كان يائسا حتى ف! غرقه داخل هواء المنطق. قي ضجة) لمدينة،. في سماء الحضارة الجديدة كان معلقا من رأسه يعاني من الخوف. ترى هل يقدر أن يتخطى حدود قرويته ليكتشف بهجة الأشياء والشوارع، وشمس الأنهار، والهـجرة في الضفة، الأخرى من المسألة؟

لقد حاول حقا أن يفعل ذلك ولكنه لم يكن قادرا بسبب من ارتباطه العاطفي النهائي بالقرية. وجيكور ليست قرية طفولته الممتدة حتى حدود الخيال بقدر ما هي محاولة للتملص من عالمـه الجديد وارتجاف داخل دائرة العذاب الحقيقي الذي يوجد في الشعر كسلام مضطرب واخوة مفقودة. ة. ترى هل كان السياب يعاني من عقدة وردسورث إزاء المدينة؟ أكيد إن عقدة السياب تختلف

فالمسألة ليست مسالة اجتياح صناعي لعالم البراءة التي تنفسها القرية. إنها عند السياب ضياعه الشخصي داخل المدينة التي تعيش غير عابئة بوجوده. عير طموحه الشخصي لكي يكون شيئا اكتشف قسوة المدينة إزاء طفل جيكور. اكتشف نقصه الخاص، بؤسه غير المعلن، انهيار الحلم

في العودة إلى جيكور كان يقاوم نظرات نساء بغداد اللواتي لم يكن ليأبهن به انه أشبه ما يكون ببروفرك، أحد شخوص اليوت، وعلى الرغم من أنه لم يكن شيخا أصلع إلا أنه كان يشمع على الدوام النساء وهن يتغامزن، والرجال يتهامسون. كان يدرك تماما أن حوريات البحر في غنائهن العميق لا ينشدن له إطلاقا. وعبر هذا الضوء يمكن وعي حقيقة صوته المختنق المرتبك، النفعي في علاقته الشعرية مع العالم
حاول السياب طوال سنوات عديدة أن يضم صوته إلى القضايا العادلة و عن يدافع عن البؤساء والمضطهدين وفقراء الريف بلغة مباشرة ووعي سهل للعالم

و للعل هذا الموقف الأخلاقي هو ابرز سمة لشعره حتى فترة متأخرة من حياته، ومن السهل اكتشاف حقيقة أن موقف السياب من العالم، المجتمع، السياسة، كان ذا بعد واحد انه دائما رجل يحدد موقفه مسبقا ويخشى المغامرة في بحر العالم لاكتشاف العلاقات السرية بين أكثر الأشياء تناقضا وابتعادا
( ……………)

لقد أعلن السياب موته منذ البداية في شعره، حيث لم يكن عنده ما يكشف في قصائده سوى ما هو مكشوف فعلا. لقد حاول أن يقوم بمهمة ديكنز في العراق ونجح في ذلك فقد ارتبط بالناس وعبر عن بؤسهم في فترة تاريخية معينة، إلا أن ارتباطه البائس بنفسه من خلال وعي اجتماعي عاطفي معين، كان أهم و ابرز. كان وجه موته الحقيقي ومع ذلك، فان السياب حتى في موته الشعري يظل أحد أفضل شعراء الجيل السابق و أكثرهم رصانة ووعيا وقوة

 

رجوع