رشدي العامل - من دفتر الذاكرة

رن جرس التلفون في المنزل أخذت السماعة كان صوت الشاعر سعدي يوسف على الطرف الآخر رشدي، تعال حالا الى الاتحاد بدر هنا وهو يريد لقاءك. في زاوية شاحبة الضوء من مقر اتحاد الأدباء العراقيين كان يجلس. اذكر أنني عانقته، مغرورق العينين

كان بيننا ستار من الصمت القلق سرعان ما استطعت تبديده عندما، طلبت قنانـي البيرة وعنـدما بـدأ السياب يرتشف بجدل.. وبـدأنا نضحك في درجة من الثمل أنستنا الجسور التي قطعت بيننا منذ زمن، وأعادت إلينا وهج الصداقة والألفة والصحبة الطويلـة

كان ا السياب قد قطع الضفة التي كنا نقف معا على ساحلها 6 واختار أن يرقص إلى ساحـل آخر، ولم يكن هذا يؤثر في الكثيرين من الذين يعرفـون قيمة السياب الحقيقية، قيمته الرائعة، الفريدة، المتميزة، في الشعر العربي المعاصر

كان قد كتب مقالا في جريدة (الأيام) لصاحبها لأستاذ عبد القادر البراك تناول فيه الشعر العراقي المعاصر وهاجم قضية الالتزام في الشعر كما هاجم أغلبية الشعراء واستثنى ستة وكنت واحدا منهم اعتبر أن أسمائهم تقف شامخة على سواها وقد رددت على السياب في عدد آخر من (الأيام) و أظن أن أثره في نفس السياب كان عنيفا عندما 1 ذكرت أنني أرفض الثناء عي جسرا يعبر عليه لتلك القضية التي أومن بها. وأنني أرفض هذا الثناء من السياب

غير أن تلك الأمسية الحلوة في بهو الاتحاد قد بددت الضباب الذي حجب رؤيتنا زمنا، وبدا بدر، كعادته عندما تأسره أمسية ورفقة وكاس وشعر و توثب، بدا طليقا، متفتحا، هشا، غير أنه غير قابل للكسر
لقد ناقشته طويلا و توالت عليه أسئلتي
بدر لماذا تكتب المقالات السياسية؟ بدر لماذا تخفي قيمتك، بدر لماذا لماذا؟
وكان حريصا على الإصغاء، حرصه على الانفلات السريع من المحاصرة التي وجد نفسه داخلها بين أصدقاءه القدامى
في تلك الليلة أذكر أنني همست لسعدي بأن خيال السياب يحوم على الضفاف الأولى، كما يحوم شعره الرائع حول قريته ( جيكور)، و أن جيكور تمثل كل الأشياء الجميلة الضائعة، الطفولة و السعادة و العفوية، كل هذه الأشياء التي يخفيها ضباب الزمن

لا أذكر بالتحديد أين ومتى التقيت بالسياب, ربما في المكتبة التي كانت في باب المعظم، وربما في مقهى الأندلس في نفس المكان. ولكن ما أذكره أن علاقتنا مضت وادعة حتى في أشد أيام الابتسار في الأحكام على الشعر و الشعراء، وحتى عندما كان البعض يزن الشعر بميزان من الخوص، ولقد استمرت هذه العلاقة. علاقتي أنا التلميذ الذي يحاول أن ينقل خطوات أولى بأستاذ كبير و صديق أألفه و يأتي إلي ويفهمني

كنا قد افترقنا زمنا، هو في الضفة الأخرى و أنا في الضفة التي اختار مغادرتها، كان عبء العمل السياسي و الصحفي يشد أوردتي بغلظة
آه من تلك الليلة جلسنا في محل ما، كان معنا الشاعر حساني علي الكردي شرب بدر حتى ثمل تماما كنت أذهب به فأغسل وجهه وكان يعود ليطلب شرابا من جديد، وعندما يشرب أغسل وجهه من جديد شعرت أنه يقف بين الصحو الأخرس الجامد بين الاستذكار الثمل، وكان يتحدث كما لو كان طالبا صغيرا
قلت له
- بدر، انك تستطيع أن تقف على الأرض التي تعجبك، على أن تتأكد من صلابة تلك الأرض، وسنظل أصدقاء يا (أبا غيلان) مهما كانت المياه التي تفصل أرضينا واسعة وهادرة
وليلتها بكى بدر .. بكى السياب بين وبين الصديق الشاعر حساني
ذكريات متناثرة من دفتر الذاكرة اللعين
أقساها و أمرها و أصعبها على التصديق أن بدر السياب قد مضى إلى الأبد، و أننا لن نسمعه بعد الآن، و أنني لن أراه أبدا. لن أرى ذلك الشبح الخاوي الذي كان يدب على الأرض بخطى المتسولين، و الذي وهب الشعر العربي أعمالا هي في القمة من هذا البناء الضخم، والذي مات وحيدا مهجورا وترك لبعض التجار فرصة المضاربة باسمه الكبير
.. وعفوا ي أبا غيلان

رجوع