جبرا إبراهيم جبرا يموت الشاعر، فتبدأ الأسطورة

ولعل بدر شاكر السياب كان أول من يرضى بأن تبدأ أسطورته بموته. فالأسطورة فيما يخص كبار المبدعين نوع من استنباع المعاني الحية من الشتات الذي يملأ حياته، وطريقة تتم، على مر السنين دونما إرادة من أحد لجمع هذه المعاني في كل متصل، مبلور

يقول الشاعر الإنكليزي جون كيتس في إحدى رسائله : حياة شكسبير قصة رمزية و ما كتاباته إلا الشرح و التعليق عليها

وهذا القول ينطبق على السياب. فنحن قد نعرف الكثير عن حياته، ولكن لابد لنا، لإدراك أغوارها، من استخلاص وقائع تجربته الداخلية، تجربته الذهنية و النفسية، من قصائده، التي هي ولاريب تعليق وشرح مستمران عليها. وإذا فعلنا ذلك وجدنا أنه لا يبقى ثمة تناقض يذكر في حياته، ذلك التناقض الذي يخيل إلى البعض أنهم يرونه فيه

كان في حياة السياب من الدرامة شيء كثير دراسته، صباه في جيكور فقره غرامياته سياسياته اعتقالاته خيباته، فدائياته، عذابه الأيوبي الأخير، كلها درامه متصاعدة يحتل هو فيها بؤرة ملتهبة وقصائده

لذلك قد تؤخذ كلها معا كمأساة درامية متكاملة تسترسل، وتنمو، وتتصاعد، نحو ذروة من ذرى التجربة الإنسانية الرامزة إلى الحياة البشرية: في ظرف معين من التاريخ في ربع قرن من زمان مفعم بالأحداث و التفجرات، وفي ظرف مطلق، هو ظرف الحياة العربية الجديدة، أو ظرف الحياة الإنسانية في أي زمان

هنا يكمن السر في عبقرية بدر، ذلك السر الذي يغرينا، وسيغري الأجيال القادمة، بالبحث و التقول والتأويل في اتجاهات كثيرة. انه السر الذي يلازم الكتابات العظيمة، فيجعلها ف يتوهج دائم. وهو السر الذي يجمع بين أناس غدو بعد موتهم أشبه بالأساطير

ولعل من حسن الحظ أن بدرا استعمل الرمز و الأسطورة على نحو من (البدائية) التي كنت آخذها عليه في أثناء حياته، و التي جعلتني أرى الآن أنه كان لا محيد له عنها. فقد كانت المعاني التي تشغله، تثيره وتمتعه و تسهده، هي تلك التي تفيض فيضا جارفا في ظروف تحتم إيصالها إلى أكبر عدد من الناس في اقصر وقت ممكن، لأنها مباشرة، وأولية، و مهمة في آن واحد

لم يكن ثمة مجال للرموز المغلقة الباطنية التي قد يزجيها للقلة فقط مما نراه في شعر بعض زملائه فقد كان في كل ما يكتب فاتحا لأرض جديدة لا حاجة بها للإيماءات المبهمة و هناك يقيم بيارقه كبيرة صريحة ناصعة : لم يكن يريد من قرائه حيرة إزاء أعماقه

ومع ذلك، فانه استطاع أن يجعل من مجموع شعره كتبا مليئا بما يشبه السر الموحي في كل لحظة، بالشر الذي يجعلنا دائما نعود إليه ونشاطره نشوة الكشف عن معانيه من جديد، ولكنه، رغم ذلك، قد ترك لنا قصائد عدة لا نرى فيها دربنا بوضوح، تحتم علينا محاولة التغلغل فيها. من هذه القصائد قصائد وفيقة والمعبد الغريق

النار و الجوهر - دراسات في الشعر دار القدس - بيروت - الطبعة الأولى 1975