خالدة سعيد - الشق الإلهي

أهمية بدر شاكر السياب كواحد من ابرز رواد الحركة الشعرية المعاصرة بوجهها الثوري. فقد حمل شعره الملامح الأولى لما نلمسه في هذه الحركة (على تفاوت مستويات إنتاجها) من طموح لتغيير الحساسية العامة و الرؤية الشائعة، و (لخلخلة) القيم السائدة و المنطق القائم، ونقل (حالة الغضب) من الغموض و الصمت إلى الوضوح و التعبير

فخطا بذلك خطوة لإشاعة موقف الرفض و هي الخطوة التي واصلتها الحركة الحديثة،دافعة المتناقضات في وجه بعضها الآخر دفاعا عنيفا حادا

و هذا معنى قول أدونيس في قصيدته (مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف) : لكي ابعث الفروق

ومن هذا المنظور تبدو لي تبرز دلالات البحث الشكلي و مغامرة الشاعر مع اللغة، إذ أن هذه المغامرة طريق لتحرير التعبير الإنساني تحريرا يتجاوز صعيد اللغة و الأداء الفني إلى صعيد الممارسة و الفعل، ويدفع هذا التغيير نحو التطرف، بحيث تقصر المسافة بين الثورة على المستوى الفني و الثورة على المستوى الاجتماعي لكن، ما الخطوط العريضة لإسهام السياب في هذا

تألق بدر شاكر السياب وسط الركود الذي أعقب الحرب العالمية الثانية يوم كان الشعر لاحقا بالأحداث ينقلها ويصفها أو يطريها ويشرحها بلهجة الشكوى أو الحماسة الخطابية، دون أي اصطدام أو مساس جدي بالتصورات القديمة أو بأسس التفكير التقليدي

وقد جاء السياب شهادة على زمانه ، لا بمعنى تسجيل التحركات، بل بمعنى الوعي العميق للحظة التاريخية واستكناه جذورها واستشراف آمادها، بمعنى الاتصال بروح الشعب، بلا وعي الإنسان في محيطه، ومعاينة الأسطورة التي تمثل أشواق الإنسان في هذا المحيط

ويمكن القول أن رسالته الشعرية هي رسالة كشف أكثر مما هي رسالة بث. رسالة الكشف هذه برزت خاصة، في مرحلة من مراحل تاريخ السياب الشعري. إذ لابد من الإشارة إلى أن شاعريته لم ترسم خطا استمراريا تصاعدي الاتجاه، لأن هذا الخط أصيب في أواخر حياة الشاعر بالانعطاف نحو الشخصي البيولوجي، فانقطع اتصاله بالكوني، وغرق شعره في ما يسميه كارل جوستاف يونغ الاعراضي متراجعا عن الرمزي كما أن بدايته الذاتيةِ-الرومانطقية لا ترقى إلى ما حققه في المرحلة الرمزية -التموزية أو التراجيدية

ذلك أن جوهر الأثر الفني لا يكمن في الخصوصيات الشخصية ولا في ظواهر الأحداث، ما لم يتمكن الشاعر من وضعها في مدارها الكوني. ولقد اثقلت الأحداث الشخصية أو الاجتماعية شعر المرحلتين الأولى و الأخيرة

بين هاتين المرحلتين تنهض شاعرية السياب لتجعل منه شاعر الخمسينات الذي شف عره عن التطورات و التناقضات الكبرى في الحياة العربية

يضع السياب القيم والأصول موضع تساؤل مسهما في حركة (الخلخلة) و النقض التي برزت فيما بعد في الستينات

هكذا مثلت شاعريته ما اسماه أندريه مالرو ب الشق الإلهي في الإنسان الذي هو قابليته لوضع الكون موضع تساؤل

تجلت أصالة شاعرية السياب في ما يسمى (وحدة الخيال). فلقد كشف حدسه الشعري المحور الذي تلتقي حوله الرموز الشخصية الصميمة و الرموز الجماعية الوطنية و الرموز الكونية

حركية الإبداع- دراسة في الأدب العربي الحديث
دار العودة بيروت- الطبعة الأولى 1979

رجوع