عصام محفوظ

السياب : الطرف الآخر للعالم

لقد استحق السياب - مع قلة غيره- لقب الرائد في الحقل الشعري الجديد في السنوات العشر الماضية بقصائد (المسيح بعد الصلب) و(جيكور) و (المدينة) وغيرها حيث كان يسعف - على غير ما اعتاده شعراء النهضة- تجسده الرمز الأسطوري الذي كان يتخذه منطلقا للنظر إلى عالمه، وكان يكتسب صورة مزدوجة ذات مفتاح واحد للوصل في قلب هذا العالم وكان نجاحه الفني يتوقف على مقدرته في دمج الرمز بالواقع الحي المتفتح، مما كان يفتح الطريق أماه رحبة للدخول في ملكوت الشعر، حيث الشاعر محور العالم

لكن السياب ظل طرفا آخر مع العالم وبقي في شعره هذا الفاصل الذي يحاول الشاعر الحديث أن يتخلص منه ليوحد العالم فيه، الخارج بالداخل، اللانهائي بالنهائي


عالم الشاعر الحديث شامل وكلي وداخل في عناصر كل شيء، منها عناصر القصيدة، وعالم السياب جزئي ومقسم إلى موضوعات ذات نظام معين وبالرغم من اختلاف هذه الأجزاء وهذه الموضوعات مع إرادة السياب الشعرية إلا أن هذا الاختلاف يظل اختلافا على الأجزاء، ويظل شعر السياب وعالمه متقابلين ومتضادين معا

قصيدة السياب تراكم صور وانفعالات والقصيد الحديثة تكامل صور وانفعالات، ولكن السياب يدخل قلب الشعر عندما يتوحد مع رمزه أو عندما يصل بغنائيته إلى حد من الصفاء يخلق بعدين لوجه مزدوج يضع على مستوى واحد خلال حاجز واحد شفاف : العالم الواقعي وعالم ما بعد الموت، كما فعل في قصائد : (وفيقة) وهكذا تغتني العملية الشعرية البسيطة بالسير وبالحركة و النغم المتناوبين


فبي قصائد (المعبد الغريق) صفى السياب كثيرا من الشوائب الشكلية الأخرى التي تطغى على معظم شعره الأخير ، كما كانت تطغى سابقا على معظم شعره القديم لأن العملية الشعرية عند السياب ظلت - إلا قليلا- بسيطة، لا واعية، تتبع قواعد شكلية مهدت لها الحركة الشعرية العربية الرومانسية التي سبقت جيل السياب : أبو ريشة وعلى محمود طه وأبو القاسم الشابي، الذي يكاد يقترب منه السياب، في هذه المرحلة، اقترابا كبيرا وقد يعود ذلك إلى عامل واحد حساسية المرض تجاه صحة العالم الباقي إن هذا التساؤل الكياني ذا النبرة الجديدة في شعره الأخير تذكر كثيرا بالشابي

جيكور .. ماذا ؟ أنمشي نحن في الزمن)
أن أنه الماشي ونحن فيه وقوف أين له و أين آخره
هل مر أطوله أم مر أقصره الممتد في الشجن ؟ …)


الغنائية الحقيقية ليست غنائية إلى من حيث التصاقها الشديد بالذات، مما جعل شاعرا سورياليا كأندريه بريتون يبد في أحسن قصائده غنائيا إنها غنائية حديثة ما دامت تستطيع أن تحل بشكل ما محل ( البديل الموضوعي) الذي استخدمه شاعر كأليوت في شعره شبه الجاف


ولكن غنائية السياب في افضل صورها و أشكالها تظل تعتمد على الرمز الواحد الذي تتجه كل عناصر القصيدة إليه ، بينما القصيدة الحديثة مجموعة من الرموز الصغيرة تنتهي بالقصيدة إلى فضاء الشعر الرحب ويلجأ السياب للتعويض عن ذلك إلى الإيقاع غالبا، والى بعض الصور الشفافة التي تخض وتيرة السرد، مثال : (نهيم في حدائق الوجوه) ان بعض الصور التي يطفر منها حس الدعابة مثل : ( كأنني كيشوت في الأصيل يركض خلف ظله الطويل)، أو في بعض نهايات القصائد التي لا تقف جامدة عادة كالنقطة ، بل تترك بعدا سعيدا وراءها، مثل نهاية قصيدة إلى بودلير


فمد لي يديك
وزحزح الصخور و التراب


ثم الاستعارات المادية الحادة و الحامضة، و المقاطع التي ترتفع إلى مستوى غنائي صاف ذي وجهين …


وهذه العناصر لم تكن تفتقدها قصائد المرحلة الناضجة من شعر السياب السابق كما إن شعره الأخير لم يفتقد ما كان يعج به شعره القديم من مواد وعناصر عازلة للشعر عن تياره المتوجه إلى القارئ الحديث لقد ظل السياب يستخدم اللفظة الميتة المحنطة مثل : الأبيد، الربد، فرق، دجى، الدمن، غيلة، اللحود، تشظى، الرغام، الجوزاء .., الخ) ولا يكتفي السياب بالكلمات أيضا، بل يتعدى ذلك إلي المجازات القديمة: (ليل السهاد، ليبل قلبي، ظلمات الموت، منى روحي ..الخ) ثم إلى التركيب البلاغي في بعض الأحيان كذلك الاستعارات و الصور غير الموفقة التي ظلت تملأ شعره (يا صخرة معراج القلب) ( عمري الذي عراه في زهراته الداء) وذلك لبصور التي يتم شرحها في أكثر من جملة أو بيت من الشعر كما كان حال الصور عند آبي ريشة، ثم الكلام العادي الكثير الذي لا يضيف شيئا إلى الشعر ،مثل ( ... أشم ردائك حنى كأني سجين يعود إلى داره ينشق جدرانها) ( بعدما الطبيب يراه من يعلم ماذا خبأ القدر) ثم هذه التقريرية


و المنطق اللغوي حيث تكثر أدوات الربط مثل اذن أو فاء السببية أو الجمل التي تقوم في محل جواب الشرط أو الجمل الحالية و التعجبية والاستفهامية والتمني و الترجي و المناداة


ثم الخطابية المباشرة ومطالع القصائد التي قد ترجعها إلى أبعد من جيل أبي القاسم الشابي، ربما إلى عنزة مخاطبا عبله


يقول السياب: ذكرتك يا لميعة .. و الدجى


ويظهر أن السياب قد اقتنع بما وصل إليه شكل القصيدة عنده فكأنه يقول هذه لغتي التي تخصني و التي كانت مشتركة في أغلبها مع لغة زملائي، ز التي حطمنا بها ، برغم تواضعها، كثيرا من المفاهيم، وحملناها كثيرا من المواد الجديدة، وما يهمني اليوم هو رفع الكلفة بيني وبين القارئ، لأفتح له قلبي على وسعه


وبالفعل، فتح السياب قلبه خاصة في دواوينه الأخيرة، وراح يتحدث بلغة سهلة، ولكن ليست ممتنعة، عن كل ما يجول بخاطره من شئون وشجون

المصدر: (دفتر الثقافة العربية الحديثة) عصام محفوظ الطبعة الأولى 1973


رجوع