مجلة (الصوت)العدد الثالث 1988

حيدر محمد
غريب على الخليج

مسرحية ذات فصل واحد

الشخصيات

تمثال السياب : على قاعدته في البصرة
الجندي : في الثانية و العشرين من عمره، يبدو كأنه في الأربعين. قصر القامة، معه كلاشنكوف وبعض مخازن العتاد
الهارب : في نفس عمر الجندي تقريبا، طويل القامة ، بدون سلاح

( شباط 1986 في البصرة، الدخان يملأ المشهد فلا يتميز الليل من النهار، بريق انفجارات مستمر و أصوات انفجارات أخرى تسمع بين فترة و أخرى، الجندي يختفي في موضع إلى يسار تمثال السياب، الذي يظهر في وسط المسرح تقريبا، الجندي يحتسي الخمر من قنينة طويلة .. )

تمثال السياب : ( يكلم نفسه ) ما أطول هذه الليلة
الجندي : ( يخاف يوجه بندقيته نحو تمثال السياب)
ارفع يديك .. من أنت ؟
تمثال السياب : لا تخف .. أنا مجرد تمثال كما ترى
الجندي : ارفع يديك و إلا قتلتك .
تمثال السياب : ماذا تقتل مني ، لقد مت قبل أكثر من عشرين عاما !
الجندي : الق سلاحك بسرعة
تمثال السياب : عن أي سلاح تتكلم ؟ أنا مجرد تمثال،
أنظر إلي جيدا .. ها .. مجرد تمثال لا أكثر
الجندي : أنت إيراني إذن ..
السياب : ( بشيء من العصبية ) أنا السياب، ألا تعرفني .. بدر شاكر السياب؟ الجندي : أجل أعرفك جيدا . أنت هارب من الجبهة . قل لي من أية وحدة أنت و إلا قتلتك. السياب : ما أغباك . أقول لك أنني مجرد تمثال، و تقول أقتلك ؟ أنا تمثال بدر شاكر السياب . تمثال الشاعر الذي كتب أول قصيدة حرة في الأدب العربي.

الجندي : تخادعني ؟ ( يطلق اطلاقة من بندقيته نحو التمثال)
السياب : ( يضحك بصوت مرتفع) هل رأيت ؟ لم تفعل اطلاقتك شيئا. أنظر جيدا أين الدماء لو كنت مثلك من لحم و دم
الجندي : ( باستغراب) ألا تتألم ؟
السياب : (بجدية) كفى غباء . سأبصق في وجهك لو تكلمت معي مرة أخرى.
الجندي : (مازال خائفا) لا تغضب أرجوك . أفعل ما تريد ولكن
الجندي : ولكن ماذا ؟ ها .. أقول لك أنني مجرد تمثال. ألا تعرف ماذا يعنيه التمثال ؟
الجندي : أجل .. أجل أعرف التمثال ولكن كيف تتكلم؟
السياب: ما أدراني . هذه هي المرة الأول التي أستطيع الكلام فيها منذ أن وضعوني هنا . لم أستطع فعل هذا من قبل.

الجندي : ( بشك) هل تعني حقيقة. انك مجرد تمثال ؟
السياب : عجيب. تقدم. لا تخف. تلمسني بيديك لتعرف الحقيقة.
الجندي : (يقارب بخوف من التمثال ويتلمس قدمه بيد مرتجفة)
السياب : هل رأيت؟ أنا مجرد كتلة من البرونز. تأكد مرة أخرى.
الجندي : (بارتباك) تعني .. تعني أنك ميت ؟
السياب : ومنذ عام 1964
الجندي : (ساهما) و أنا ولدت في هذا العام.
السياب : كيف لا تعرفني ؟
لابد أن تكون قد سمعت باسمي. أنا بدر شاكر السياب ..
الجندي : ربما كنت أعرفك. لقد كنت أعرف الكثير. أما الآن فلا أعرف شيئا.
السياب : هل أنت مريض ؟
الجندي : (يجلس على الأرض) لست مريضا.
السياب : إذن لماذا تنسى ؟
الجندي :أنسى ماذا ؟
السياب : قلت أنك تعرف الكثير، أما الآن فلا تعرف شيئا.
الجندي : و ما الغرابة في ذلك؟
السياب : كل الغرابة فيه .. فأمثالك يعرفون ويضيفون باستمرار إلى معارفهم أشياء كثيرة.

الجندي : لا يمكنك الحكم، فأنت رجل ميت. الكل مثلي، وربما كنت أفضلهم.
السياب : مستحيل أن يكون اثنان على هذا الوضع.
الجندي : لا يمكنك الحكم ، كلنا هكذا ..
( تنفجر قنبلة مدفع بالقرب منهما فيستلقي الجندي على الأرض)
السياب : ما هذا ؟
الجندي : (يرفع رأسه ) قنبلة مدفع .
السياب : لماذا ؟
الجندي : (ينهض ويمسح كفيه ببنطلونه) لماذا ؟ حرب ويطلقون فيها مدافعهم .

السياب : (باستغراب) حرب ؟ أي حرب ؟!
ألم تسمع بها لحد الآن؟ لقد ابتدأت منذ .. منذ لا أدري متى ..

السياب : مع الإنكليز ؟
الجندي : لا .. الفرس يريدون دخول هذه المدينة.
السياب : أية مدينة تقصد ؟
الجندي : (مفكرا) هذه المدينة .. ما اسمها ؟
السياب : البصرة ؟ مستحيل ..
الجندي : يريدون دخولها وهذا كل ما في الأمر
السياب : مستحيل. ماذا فعلت لهم البصرة؟! ها .. قل لي .. ماذا فعلت لهم البصرة؟ الجندي : لا ادري.
السياب : هل دخلوها ؟!
الجندي : انك كثير الثرثرة .. يكفي ..
السياب : (بإلحاح) قل لي أرجوك، هل دخلوها. هل دخلوا البصرة ؟
الجندي : (يتوجه إلى الموضع ويشرب من قنينة الخمر) وماذا يهمك ؟

السياب : كيف لا يهمني .. فهي مدينتي ..وهناك أيضا زوجتي إقبال و ابنتي
الجندي : ( مقاطعا) كفى .. لست ضابط أمن لأعرف زوجنك وابنتك و أقاربك. كفى !
السياب : هل أنت من أهل البصرة ؟
الجندي : لا ..
السياب : من أي مدينة إذن ؟
الجندي : من .. من .. تف ، لقد نسيت .
السياب : بغداد ؟
الجندي : (بفرح ) أجل ، أجل ، بغداد . كيف نسيتها ؟! بغداد
السياب : إذا كنت من بغداد، فلا بد أن تعرف حسين مردان ..
الجندي : ( يضحك ضحكة طويلة) أعرفه .. كيف لا أعرف هذا الأبله؟
فهو ضابط في وحدتنا
السياب : (بانكسار) ضابط !
الجندي : أجل ، هذا الحقير، لقد أجبرني على الزحف في النتانة.
السياب : (محاولا مقاطعته ) حسين مردان ..
الجندي : (يستمر) تصور أنه يسرق كل ما تقع عليه عينه. أسأل لمن يسرق كل هذا ؟ لزوجته بالطبع، ومع ذلك فقد نامت مع مراسله .. تصور !
السياب : (بعصبية) ماذا تهذي ؟
الجندي : ألم تسأل عن حسين مردان ؟! ليس أحقر منه ..
السياب ك ( يسيطر على نفسه) الذي اقصده حسين مردان آخر
الجندي : ليس غير هذا .. ضابط وحدتنا .
السياب : حسين مردان شاعر كبير، وهو أكبر من أن أسال عنه أمثالك ..
الجندي : لا ، ليس غير هذا .
السياب : (بعصبية) أسكت وآلا بصقت في وجهك.
الجندي : ( يوجه بندقيته نحو التمثال) كرر هذه مرة أخرى فسأعرف كيف أتصرف معك.
السياب : (يهدأ ) لا عليك، ولكن قل لي، لماذا لم يزرني أحد منذ فترة طويلة
الجندي : ( ينزل البندقية) ما أدراني ، ربما قتلوا أو هربوا أو تطوعوا في الجيش الشعبي.
السياب : ولكن ليس كلهم ..
الجندي : بل كلهم ..
السياب : زوجتي إقبال مثلا و …
الجندي : (مقاطعا) كلهم ، قلت لك كلهم .
السياب : (باشمئزاز) أنك تثير أعصابي.
الجندي : (يسمع وقع أقدام فيتهيأ. ظل جندي آخر يظهر راكضا) قف ..
لا تتحرك.
الهارب : (يتوقف ) أنا .. لا تطلق أخي ، لا تطلق ..
الجندي : (يوجه بندقيته نحو الهارب) ارفع يديك .. لا تتحرك وآلا قتلتك .
الهارب : (يرفع يديه ) لا تطلق أرجوك .
الجندي : تقدم لأراك جيدا.
الهارب : ( يتقدم وهو يلهث) لا تقتلني أرجوك
الجندي : إلى أين تذهب
الهارب : (منفعلا) لقد أضعت الطريق .. انسحبت وحدتنا فأضعت الطريق
الجندي : أضعت الطريق كلكم تقولون هذا .. جبناء
الهارب : (يتوسل ) لا أكذب ، أضعت الطريق صدقني
الجندي : هارب .. جبان
الهارب : لست هاربا ولا جبانا
الجندي : بل هارب وجبان
الهارب : لست هاربا، وستقدم لي خدمة كبيرة لو أوصلتني إلى وحدتي .
الجندي : (بعصبية) هل تجدني غبيا، أوصلك إلى الوحدة فتقتلني في الطريق .. جبان .. سأقتلك ..
الهارب : (بخوف ) لا تقتلني أرجوك . سأعطيك كل ما تطلب .
الجندي : (يضحك باستهزاء) أقتلك و آخذ ما في جيبك، هل في هذا صعوبة (يطلق )
الهارب : (يصرخ صرخة طويلة ويسقط في الأرض و يموت)
السياب : (يصرخ) ماذا فعلت .
الجندي : (يضع بندقيته على كتفه بهدوء) لقد قتلته ، هل تعترض
السياب : جبان .. لماذا قتلت المسكين .. جبان
الجندي : لست جبانا ، لابد أن تعرف هنا .. نفذت واجبي فقط.
السياب : هل واجبك القتل .. جبان
الجندي : أجل قتل الهاربين من الجبن
السياب : كان بإمكانك إعادته .. جبان
الجندي : لو فعلت هذا لنقلوني إلى الخطوط الأمامية وهنا سأقتل بدلا عنه .
السياب : لم أر قذرا مثلك في حياتي.
الجندي : (بجدية) لا تغلط أكثر من هذا
السياب : بصوت مرتفع) قذر .. جبان
الجندي : لقد تعاملت معك باحترام حتى الآن. وإذا لم تسكت فسأحطمك
السياب : حطمني .. قذر .. جبان
الجندي : (يلتقط قنينة الخمر و يضرب التمثال بها فتتهشم) أغلق فمك
السياب : جبان .. جبان
الجندي : (يسحب بندقيته من كتفه ويطلق على وجه التمثال وصدره إلى أن ينهي اطلاقات البندقية)
السياب : (يستمر في صراخه) جبان .. قذر .. جبان .. قذر ..

( ثلاث قذائف تنفجر مرة واحدة في المكان، فيختفي كل ما على المسرح بدخان كثيف)

صوت السياب : ( صرخة طويلة ) جبناء ..

ستار
شباط     1986


مجلة (الصوت) فصلية - ثقافية - العدد الثالث 1988
صدرت في الدنمارك- تحرير : جمال جمعة - حميد العقابي - جمال مصطفى

رجوع