السياب .. لا يزال
(الذكرى الأربعين - ملف)

(كل من أحببتُ قبلك ما أحبوني)

***

السياب: قصائد قليلة أطلقت الشعر العربي في أفق فسيح

فاضل السلطاني
(العراق/ لندن)

بدر شاكر السياباليوم، الرابع والعشرون من ديسمبر /كانون الأول، رحل الشاعر العراقي بدر شاكر السياب قبل أربعين عاماً، وحيداً إلا من نفر من الأصدقاء، ودفن في مقبرة الحسن البصري شبه وحيد ومهجور ومعدم تماماً. لقد امتلأت حياة رائد الشعر العربي الحديث بالمفارقات العجيبة، لكن موته كان المفارقة الكبرى، وكأنه بعث من جديد، بينما خفتت أصوات كثيرة ارتفعت لحين حتى غطت على صوته. من أين تستمد قصيدة السياب أسباب قوتها، وعلى ماذا يستند حضور السياب القوي حتى بعد أربعين سنة من غيابه المفجع؟ ثم ماذا بقي من السياب، وسيبقى؟

هنا مساهمات تحاول الإجابة على هذه الأسئلة الأساسية.

قال أدونيس مرة: ان بيت شعر من السياب يعادل ديواناً كاملاً للبياتي. وإذا نزعنا صيغة المبالغة عن هذا القول، ووسعناه بقولنا ان قصائد للسياب تعادل دواوين كاملة لشعراء جايلوه، وآخرين أتوا بعده، لصح هذا القول، وربما على صاحبه أيضا.

على مدى أربعين سنة منذ رحيله المبكر عن ثمانية وثلاثين عاماً وهو عمر رحل فيه عمالقة آخرون مثل بوشكين ولوركا وديلان توماس وآخرين، وهو موضوع محير، بحاجة ربما الى دراسة خاصة. صدرت آلاف آلاف الدواوين الشعرية، ثم اختفت، ربما هي وأصحابها، من ذاكرتنا، لكن بقيت قصائد مثل "أنشودة المطر" و"النهر والموت"، و"غريب على الخليج" و"الأسلحة والأطفال"، وغيرها شواهد خاصة في الذاكرة، ولنسمها الذاكرة الشعرية وكأنها كتبت في الأمس فقط.

كان اوكتافيو باث، الغزير الإنتاج، يقول انه سيكون ممتناً لله لو بقيت منه خمس أو ست قصائد. ولا شك ان السياب يشكر الله مرتين. فترة أربعين سنة هي اختبار أكثر من كاف لقوة القصيدة، في فترة عربية تعددت فيها الاتجاهات والمدارس، وكثرت فيها الانقلابات الشعرية وغير الشعرية، وسادت الفوضى وكثر المدعون والمتطفلون. لكن القصيدة ـ القصيدة تبقى عادة دائماً كرغيف الخبز الذي خرج لتوه من التنور حتى لو كانت مكتوبة قبل آلاف السنين. القصيدة ـ القصيدة لا تختمر، وليست محكومة مثل أصحابها بقوانين الزمن. كأن مطر السياب لا يزال يهطل لحد الآن، وكأن عراقه لا يزال هو هو، ونهيره "بويب" ما زال حزيناً كالمطر، و"مومسه العمياء" لا تزال "المومس العمياء" و"المسيح" لا يزال يجر صليبه في المنفى.

لكن من أين تنبع قوة القصيدة؟ هل تستطيع قصيدة ان تحفر نخاعك العظمي، بينما لا تصل أخرى حتى إلى قشرة جلدك؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، فلا أحد يعرف، عن ارشيبالد مكليش، أميركيا، الذي كتب عن هذا الموضوع في كتابه الرائد "الشعر والتجربة" الى يوسف اليوسف، عربياً، الذي خصص كتاباً كاملاً عن الموضوع نفسه بعنوان "ما الشعر العظيم!"، ما الذي يجعل الشعر العظيم عظيماً، ولا أحد يمكن أن يكشف لنا سرّ بقاء، إن لم نقل خلود الأعمال الأدبية والفنية. من الممكن بالطبع مقاربة بعض جوانب الموضوع، غير انه من المستحيل القبض على السر ذاته.

أهو زواج التناقضات المستحيل كما يذهب مكليش، أم تلك القدرة، النادرة على ابتكار "الصورة المفكرة"، حيث تتزاوج الفكرة مع الصورة، والصورة مع الفكرة، ويصبح المجرد حساً، والحس تجريداً، كما يذهب هيغل، وهو شيء لم يحققه سوى شعراء معدودين عبر التاريخ، هم الشعراء ـ الشعراء! حقق السياب شيئاً من ذلك في قصائده الباقية وهي قليلة كما عند اغلب الشعراء العظام، ولم تسعفه حياته العاصفة لتطوير عناصره التي كانت جديدة فعلاً على الشعر العربي الذي ادخله في أفق فسيح، بعدما ضاق به حتى عنق الزجاجة.

ومن الملاحظ ان بزوغ عبقريات فنية وأدبية عديدة قد حصل في المنعطفات البشرية الحادة، أو الانتقالات الاجتماعية الكبرى، والأمثلة كثيرة في تاريخ الإبداع الإنساني.

لقد اغتنت الحياة العربية بمضامين وأشكال جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، ونكبة فلسطين. وتزعزعت القيم التقليدية السابقة في المجتمع العربي لتحل محلها قيم جديدة آخذة بالتشكل على المستوى الاجتماعي والسياسي، وعلى مستوى البناء الفوقي وتعبيراته، ومنها التعبير الثقافي.
وكان لا بد لهذه المتغيرات من حساسية فريدة لالتقاطها، وتمثلها، وبالتالي عكسها فنياً. وهذا ما فعله السياب، هذا الجسر الذهبي الذي ربط بين القديم والجديد، كما يقول الجواهري، بموهبته الشعرية الفذة.

كان السياب هو المفجر الحقيقي لهذه الثورة في الشعر العربي بشكله ومضمونه، وهذا لا يعني، بالطبع، نفي الرواد الآخرين: نازك الملائكة ـ التي تكون قد كتبت قصيدتها "الكوليرا" قبل قصيدة "هل كان حباً" للسياب ـ أو البياتي أو بلند. ان ما يميز السياب هي شاعريته الفذة التي ساهمت، كما قلنا، عوامل كثيرة في تكوينها، منها سيرة حياته نفسها، وهي سيرة تبدو، من نواح كثيرة، كسير كثير من العظماء في تاريخ الأدب الإنساني.
لم يكن السياب في مرحلته الأولى التي يسميها نقاده بالمرحلة الرومانسية متميزا عن مجايليه، بل أننا لو قارنا قصائده في هذه المرحلة بقصائد كتبت في الفترة نفسها ـ ونعني قصائد "أباريق مهشمة" للبياتي ـ لوجدنا الأخيرة متقدمة عليها من الناحية الفنية والفكرية، وتمثلها لمفاهيم الشعر العربي الجديدة، وقد نستثني من ذلك قصائد مثل "في السوق القديم" و"اتبعيني" و"أساطير". ولو قارنا، أيضا، قصيدته الأولى "هل كان حباً"، بقصيدة "الكوليرا" للملائكة، لوجدنا الأخيرة اقرب لروح الشعر الحديث.

ولكن السياب قفز قفزته الكبرى، وقفز بالشعر العربي، في مجموعته "أنشودة المطر".
مثلت هذه المجموعة نموذجا رائعا لما ندعوه بالالتزام ـ بالمعنى الواسع للكلمة ـ الالتزام النابع من الذات حين تتوافق مع الموضوع. اختلفت اللغة، هنا، عن لغة قصائده في مراحله الأخرى. الفن العظيم حقا هو تعبير عن الموضوع من خلال الذات، تعبير عن الحركة الخفية لمجتمع ما، تراها عين الفنان وحده، في لحظة صعوده أو انكفائه.

أعاد السياب الى القصيدة العربية ارتباطها بالناس من خلال تحشيده الهائل لتفاصيل حيواتهم. ودخلت الحياة بكل نبضها الحي في جسد قصيدته، وحتى البحور التي استخدمها السياب في تلك الفترة، خاصة "الكامل" جاءت متوافقة مع طبيعة تلك المرحلة، وتشابكها، وجلالها، وتحولاتها الضخمة: "غريب على الخليج" و"أنشودة المطر"، و"النهر والموت" و"حفار القبور" و"المخبر" و"المومس العمياء" و"الأسلحة والأطفال"... الخ.

كانت لغة السياب في هذه المرحلة لغة حديثة فعلا، ونعني باللغة الحديثة اقترابها من لغة الناس اليومية، وابتعادها عن المفردة القاموسية الميتة، وإدخال أحاديث الناس البسطاء الى الشعر، وتناول قضاياهم بألفاظهم هم، ولعل هذا هو أثمن ما جاء به الشعر العربي الحديث، إعادة الشعر الى الناس الذين يكتب من اجلهم هذا الشعر، فلم تكن ثورة الشعر الحديث ثورة جمالية فقط، ولذلك سرعان ما انتشر انتشارا كبيرا.

واكتنزت هذه اللغة، وتعددت دلائلها باستخدام السياب الواسع للأسطورة، وهي ظاهرة جديدة أيضا ادخلها السياب الى القصيدة الحديثة متأثرا بالشعر الغربي الحديث، خاصة اليوت. ولكن هذا الاستخدام لم يكن، في رأينا، موفقا. فقد ظلت الأسطورة في شعره "إطارا خارجيا" ولم تصبح جزءا من نسيج القصيدة العضوي، إضافة الى ان معظم الأساطير التي استخدمها لم تكن أساطير محلية لها دلالاتها الرمزية والنفسية في ذهن القارئ العربي، ونعتقد ان خليل حاوي قد نجح في تلافي ذلك وكذلك ادونيس في بعض محاولاته.

أما على مستوى البنية الإيقاعية، فقد ظل السياب ملتزما، عموما، بما تسميه نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" بـ "البحور الصافية" أي التي تتكون من تفعيلة واحدة. هذه التجارب الجريئة في شكل الشعر العربي الحديث، وهو ما زال في بدايته، تعكس موهبة السياب الكبيرة، وتمكنه من عمود الشعر، الأمر الذي أتاح له تطويره في ما بعد. والغريب ان هذه التجارب في إيقاع الشعر العربي ماتت بموت السياب، ما عدا المزاوجة بين بحرين كما عند ادونيس وسعدي يوسف الذي استخدم، أيضا، بحر الطويل في قصيدة واحدة هي "الألوية الأربعة عشر" حسب ما نتذكر، فقد اقتصرت القصيدة الحديثة عموما على وزنين أو ثلاثة هي المتقارب والمتدارك وحمار الشعراء الرجز على امتداد خمسة أجيال تقريبا. أما الكامل الذي ساد في فترة الخمسينات في معظم القصائد ـ بتأثير من السياب نفسه ـ فقلما نرى أنفسنا نخوض الآن في هذا البحر الجليل باستثناء محمود درويش، وهذا يصح أيضا على "الرمل".
حققت كل هذه الانجازات، وما قلنا في البداية انه سر الشعر، مكانة متميزة للسياب في خريطة شعرنا الحديث، ونعتقد ان قصائد كثيرة منه ستبقى لأمد طويل لأنها تلبي حاجة روحية عميقة في دواخل أي إنسان بغض النظر عن المكان والزمان: الحاجة الى الشعر.
الشرق الأوسط- 24 -12-2004

*******

أربعون عاما على رحيل السياب

(جريدة الحياة)

عبده وازن
مأساة شاعر مأساة وطن

رحل بدر شاكر السيّاب قبل أربعين عاماً عن ثمانية وثلاثين عاماً. مات في الكويت، في اليوم الذي ولد فيه المسيح، عيسى بن مريم: 25 كانون الأول (يناير) 1964. ويروي كاتبو سيرته ان ذاك اليوم كان ماطراً بغزارة وأن الكويت لم تشهد مثيلاً له منذ سنين بعيدة. وفي البصرة التي نقل جثمانه إليها في اليوم نفسه، كان المطر يهطل بشدة أيضا. لعلها صرخة بدر في "أنشودته" الشهيرة: "مطر... مطر... مطر" تنفجر في لحظة رحيله سهاماً من الماء تغسل تراب المنفى وأديم الأرض الأولى.
* (تابعوا شهادات عراقية في ذكرى السيّاب الأربعين في مقالات ذات صلة أدناه.)
الذكرى الأربعون لغياب بدر شاكر السياب تحل هذه السنة وكأنها ذكرى وطن لا ذكرى شاعر كان ولا يزال، عراقياً "حتى العظم" كما يقال. فالمأساة التي عاشها هذا الشاعر الكبير هي أشبه بالمأساة التي عاشها العراق من قبل، ويعيشها اليوم في أعمق تجلياتها. جسده الواهي والمتعب هو جسد العراق المثخن بالجروح، وروحه الكئيبة والأليمة تشبه روح العراق المطعونة والمدمّاة. وكان من البداهة ان يخاطب السياب العراق او يناجيه كما لو انه يخاطبه ويناجيه اليوم: "صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق"، يقول.
وقد لا تحصى الجمل الشعرية التي ورد فيها اسم العراق في قصائد بدر، منذ البدايات حتى النهاية. والعراق يعني في ما يعني جيكور وبغداد والبصرة وبويب ووفيقة وغيلان... وكذلك الثورة والسجن والخيبة والغربة والألم... ومثلما كانت حياة السياب الوجه الآخر لشعره هكذا مأساته أيضا، الشخصية والذاتية، هي الوجه الآخر لوطنه العراق. العراق في تناقضاته وثوراته وحروبه ومآسيه الصغيرة والكبيرة. وذكرى السيّاب التي تحل الآن هي ذكرى العراق الذي سباه حكامه الظالمون قبل ان يسبيه الغرباء الذين فتكوا به ويفتكون، وكذلك أولئك الظلاميون من أبنائه، الذين لا يميّزون بين الجزار والضحية، بين القاتل والمقتول.
إلا ان "عراقية" السياب لم تجعله في أي لحظة شاعر العامة والوطن في ما تعني هاتان المفردتان من تهميش للتجربة الشعرية، فهو ظل شاعر "الذات" وشاعر المكابدة الذاتية حتى في أوج نضاله والتزامه وواقعيته. كتب السيّاب مرة على سرير احتضاره معاتباً نفسه قائلاً: "ماذا جنيت من الالتزام؟ هذا الفقر وهذا المرض؟". مثل هذا الكلام لا يلغي طبعاً ما كتب السياب بحبره ودمه من قصائد وآلام... وعذابه الذي كان شخصياً جداً وجد فيه الكثيرون عذابهم الخاص و"العام". لعل أكثر ما يصنع "أسطورة" السيّاب هو كونه كتلة من المتناقضات، مثلما هو كتلة من جروح وآمال وأحلام وخيبات. فهو الذي كان أكثر من شاعر لم يكن إلا شاعرا وشاعراً فقط. أما بدر الشيوعي والقومي والعروبي والتموزي الرومانسي والواقعي والرؤيوي والتقليدي والثائر... فلم يكن باختصار إلا ذاك الشاعر الذي جاء غريباً عن هذا العالم ورحل غريباً عنه. بل الشاعر الذي لم يستطع ان يتصالح مع الحياة إلا عبر الموت، ولم يتصالح مع الحب إلا عبر الموت وكذلك مع العالم والأفكار والتاريخ.
شاعر طالع من رماد المراثي، أشبه بأيوب في العهد القديم، وليّ في ثوب ثائر، ملاك وشيطان، ولكن في حال من البراءة التامة والطفولة الدائمة. ثوري ولكن مكتئب، مناضل وخائب، مضطرب روحاً وقلباً وجسداً. يهجس بالحياة مقدار ما يهجس بالموت وكأن الموت هو قرين الحياة في عينيه هو الذي رحل باكراً. وعندما كان يشعر بأن الموت يدنو أكثر فأكثر كان يزداد شغفاً بالكتابة. وكان يكتب ويكتب... لكنّ الموت كان هو القصيدة الأخيرة.
في الذكرى الأربعين لرحيله يبدو السيّاب كأنه رحل لتوه. هذا الانطباع لا يكوّنه فعل الريادة الذي أداه في الخمسينات وما قبل. ولا السبق الذي أنجزه في كتابة اول قصيدة تفعيلية هي "هل كان حباً؟" عام 1946 وهي التي أحدثت سجالاً شكلياً باهتاً لا علاقة له بشعرية السياب، الكبيرة والفريدة. يظلّ في شعر السياب ماء لا يجف، ماء عذب يجعل شعره في حال من النداوة الدائمة. كأن السنوات التي مرت على هذا الشعر لم توقعه في الجفاف... كأنه شعر مكتوب لحينه ولكي يقرأ لحينه. هذا سر من أسرار بدر شاكر السياب. أهي جذوة الألم التي لا تنطفئ في ثنايا شعره تمده بهذه النار؟ أم هي الحياة التي لم يعشها السياب تنتقم لنفسها داخل القصائد؟ أم تراها طفولة السياب الأبدية والمحفوفة بالنقاء والفطرة تدفع عن شعره شآبيب الزمن؟
نقرأ بدر شاكر السياب اليوم كما قرأناه بالأمس وكما سنقرأه غداً وبعد غد، شاعراً قادراً على التجدد باستمرار، شاعراً قادراً على ان يترك أثرا حياً باستمرار، وقادراً على تخطي عثراته الكثيرة وهناته الكثيرة... ولعل أجمل قراءة له هي تلك التي تتم خارج شعارات الحداثة والثورة الشعرية والتجديد... فهذا الشاعر لا يُقرأ من وجهة واحدة ولا عبر ذائقة واحدة او مزاج واحد. شاعر متعدد اللغة والأسلوب والشكل والإيقاع ولكن "أحدي" الروح والألم والإسرار والتعبير. في الذكرى الأربعين لرحيله نكتشف حقاً ان بدر شاكر السياب الذي قرأناه وأعدنا قراءته حتى السأم، ما زلنا نحتاج الى ان نقرأه ونقرأه دائماً، ليس لأن شعره عصيّ على الاستنفاد بل لأنه شاعر حي دائماً، بجروحه وخيباته، بآماله وهواجسه، وبنزعته الذاتية ونبرته الشخصية. بدر شاكر السياب شاعر في حياته كما في شعره، شاعر خارج شعره أيضا، شاعر في أسطورته، شاعر في موته الذي لا يشبه الموت. هنا شهادات عراقية في ذكرى السياب الأربعين.

فاضل العزاوي
قوة الأسطورة السيابية

مثل كل شيء آخر في الحياة يرتبط الشعر بالأسطورة التي تنسجها الحياة حول الشاعر. غالباً ما لا يكفي ان يكون الشاعر عظيماً ومعروفاً في زمنه حتى يواصل حضوره في ذاكرة المستقبل التي لا تعرف الرحمة في محوها للأسماء التي لم تمتلك ما يمكن أن يظل حياً ومؤثراً بعد أجيال أو قرون. وهنا يأتي دور الأسطورة التي تدخل في الضمير العام وتضفي على الشاعر ألقاً عاطفياً يجعله حاضراً بيننا حتى بعد غيابه عنها، فترة قد تقصر أو تطول. ولعل الأسطورة الأكثر شيوعاً في تاريخ الشعر هي الأسطورة التي تبنى حول الموت المبكر للشاعر. فمثل هذا الموت لا يشعرنا بالأسى وحده وإنما يجعلنا ننظر الى المنجز الشعري من خلال الفقدان. لا شك في عظمة شعراء مثل لوتريامون ورامبو وكيتس وشيلي وبايرون وامرئ القيس، ولكن موتهم المبكر أضفى على أعمالهم بعداً أسطوريا إضافيا لا يمكن أن تمتلكه أعمال الذين يظلون يعيشون حياتهم حتى نهايتها وفي هذا يشبهون البروق التي تضيء لحظة ثم تنطفئ، فلا نتذكر نحن الباقين في الظلام سوى ومضاتهم القصيرة.
وهنا لا يمكن أن نقرأ أعمال الشاعر بدر شاكر السياب الآن، وهو شاعر كبير وعظيم حقاً، بعيداً من الأسطورة التي ارتبطت بحياته، وهي أسطورة لا تستمد قوتها من موته المبكر في العام 1964، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، فحسب وإنما أيضاً من مرضه الذي جعل الكثير من شعره أشبه ما يكون برثاء للذات، يندر أن نجد ما يشبهه عند أي شاعر معاصر آخر.
حياته كلها كانت في الحقيقة أقرب الى المأساة منها الى أي شيء آخر. فقد حرم من الحب دائماً. أحب الكثيرات، لكنه لم يجد امرأة واحدة تبادله حبه. وعلى رغم انه أفلح في أن يشق طريقه في الكوخ الذي أمضى فيه أعوام طفولته وصباه في قرية جيكور القريبة من البصرة والتي زرتها للمرة الأولى عام 1969 وشهدت البؤس المحيط بها، الى الكلية في بغداد، وهو أمر كان يفترض أن يضمن له معيشته، فإنه أمضى معظم حياته في فقر مدقع. فقد فصل من عمله كمدرس في العهد الملكي لانتمائه الى الحزب الشيوعي، مثلما فصل مرة أخرى بعد ثورة 14 تموز (يوليو) عام،1958 بتهمة الرجعية، مما دفعه الى الانتقام من الشيوعيين بطريقة مسفة حينما نشر مذكراته لتي تفتقر الى المستوى الثقافي والأخلاقي في جريدة "الحرية" المقربة من البعثيين حينذاك. وحينما تبنته مجموعة مجلة "شعر" اللبنانية المعروفة بمواقفها الليبيرالية فقد ثقة القوميين به. يروي يوسف الخال عنه انه كان يمضي نهاره معهم ثم يشتمهم في المساء حين يلتقي سهيل إدريس في مجلة "الآداب" المعروفة باتجاهها القومي.
في الحقيقة، كل ذلك لم يكن يعني شيئاً بالنسبة إليه، فهو في كل تحولاته تلك لم يكن سوى ضحية بؤس الأوضاع السياسية التي وجد نفسه في خضمها، إذ كل ما كان يتوق اليه في حياته هو أن ينجو بجلده من المحرقة. حتى الشعر لم يكن في نظره سوى دفاع عن نفسه. ولم يكن يملك الدهاء الذي يجعله بمنجى من الأذى، فضلاً عن سذاجة تربيته الريفية وشعوره العميق بالانسحاق. فالشاعر الذي فتح أمام الشعر العربي طريقاً جديداً لم يكن يتوانى عن أن يمتدح الزعيم عبدالكريم قاسم بقصيدة عمودية، لتبرعه بدفع نفقات علاجه في بريطانيا، ثم يشتمه بقصيدة عمودية أيضاً بعد أيام من سقوطه، آملاً في أن ينال رضا الحاكمين الجدد. ولكن لا ينبغي لنا الآن ان نحاسبه على مثل هذه المواقف التي تشكل أيضاً جزءاً من أسطورته، بقدر ما ينبغي لنا أن ندرك مأساته كشاعر كبير في مجتمع تنعدم فيه كل الحقوق والقيم.
معظم ما كتبه السياب، وبخاصة في مرحلة مرضه الأخيرة يقوم على الشكوى من جور الزمان عليه وغدره به، مستدراً عاطفتنا نحوه. ولا شك في أن مثل هذه البكائية الذاتية في مجتمع مثل المجتمع العراقي الذي ارتبط تاريخياً جزء كبير من ثقافته الشعبية بالبكاء الكربلائي، فضلاً عن الشعور بخيانة القدر له دائماً، جعلت السياب يمس أكثر من أي شاعر آخر الوعي الشعبي العام للمجتمع العراقي، كناطق باسم قدر لا يرحم. وعلى رغم كل مسعى السياب ليبدو شاعراً عصرياً وحداثياً، فإن روح شعره تظل شعبية في الجوهر وعفوية، ذلك أنه في نهاية الأمر شاعر فطري أكثر من كونه شاعراً ثقافياً، على رغم إرهاق بعض قصائده بالرموز الأسطورية الإغريقية، تحت تأثير الموجة الإليوتية فهو حتى في أفضل قصائده مثل "أنشودة المطر" و"المسيح بعد الصلب" يصور المأساة التي تقوم فكرتها على الشكوى، لا على التحدي، على الندب، لا على نسف الماضي والحاضر الملغوم بالكوارث والإيحاء بيوتوبيا إنسانية جديدة، كما فعل شعراء من أمثال ناظم حكمت ونيرودا وألين غينسبرغ. وبالطبع، فإن قوته تنبع من لغته الشعرية، وهي لغة شاعر كلاسيكي في الأساس، فضلاً عن غنائيته العالية التي تتطلبها مثل هذه الرؤيا الى العالم. ومع ذلك، فإن الشعر العربي مع السياب وبعده صار غير ما كان عليه قبله. هو الأول الذي فتح الباب المغلق لجميع الشعراء الذين دخلوا البيت بعده واكتشفوا ما فيه.
لقد مضى الآن على رحيل السياب أربعون عاماً وما زال حياً بيننا، وهو ما لا يمكن أن نقوله عن أي شاعر آخر من معاصريه الذين مات بعضهم منذ زمن وهم لا يزالون بيننا يعرضون بضاعتهم علينا. وعلى رغم ان جان بول سارتر يشترط مرور قرن على الأقل على رحيل الشاعر أو الكاتب حتى نتأكد من قدرته على البقاء، فإن السياب بأسطورة حياته التي عكسها في شعره يظل الشاعر الأكثر قدرة على أن يكون شاعر القرن العشرين العربي في ذاكرة المستقبل. أكيد ان كثيراً من قصائده ستمحوها يد الزمن وتُنسى، مثلما سيغفر له أبناء المستقبل هفواته وهشاشته الفكرية، لكن بضع قصائد عظيمة من شعره، مثل أي شاعر عظيم آخر، ستكون كافية لأن تضمن له الخلود.

سعدي يوسف
الشاعر الذي حوّل المَجرى

حين يكون التاريخ الشعريّ لأمّـةٍ أربعةَ عشــرَ قرناً (تاريخ الشعر العربي)، فإنّ إعادة النظر الراديكالية الشــاملة تغدو مستبعَـدةً بصورةٍ ما.
وفي أمّــةٍ تُـقارِبُـنا، في هذا السياق، مثل اليابان، ظلّت الأشكال الموروثة كالهايكو فعّـالةً حتى اليوم، ولم تستطع محاولات التحديث المستمرة أن تكون ذاتَ يدٍ عُـليا. من هنا، نقدِّرُ ضخامةَ فِعلِ التحويل الذي أنجزه بدرٌ.
هل كان لتلاوين الـمقـتَـرَح الشعري العربي المعاصر أن تتّـخذَ هذا الغنى الذي نشهده اليومَ لولا فِعلُ الساحرِ الذي حوّلَ الـمـجرى إلى الأبد؟
ليس في الإمكان مقارنة حركة التحديث في الشعر العربي، بالتحديث في الشعر الأميركي أو حتى الفرنسي، فهذان لا يتوافرُ لديهما الزمنُ الشعري الممتــدُّ لدينا، أســاسـاً، كما أن ديناميكية الحياة الثقافية في أميركا وفرنسا، على سبيل المثال، تجعلُ التجريبَ والتغييرَ ممكنينِ، ولازمينِ أحياناً؛ بينما سكونيةُ المجتمع العربي تقف عائقاً فعلياً أمام أي تغييرٍ، في الثقافة والسياسة.
إذاً، كان يتعيّــنُ على بدر شاكر السياب، أن يكون راديكالياً على جبهتينِ: السياسة والثقافة، كي يتحققَ على يديـه، تحويلُ الـمَــجرى.
مستحيلٌ أن تكون محافظاً في الفن، وراديكالياً في السياسة، في آنٍ. ومستحيلٌ أن تكون محافظاً في السياسة، وراديكالياً في الفن، في آنٍ. لقد تعرَّضَ بدرٌ للسجن والنفي... لكنه أطلقَ الشرارةَ التي اندفعتْ مَـشاعلَ!

كاظم جهاد
رفيق البدايات... شقيق النهايات

شاعر حاز قوّة البداهة من دون اعتراض. حيثما يخْلد البعض، وَهُمْ أحياء، إلى النسيان العادل أو يبدأون بإثارة امتعاض أقرب محاوريهم، نالَ هو قوّة الأسطورة، في حياته المعذّبة كما في شعره، وسكنَ ثنايا الوعي الشعريّ للعرب ولعدد متزايد من محبّي الشعر في العالم كلّه. قائم هو في مسارب الذائقة، مقيم في معاهد الحسّ، منتشر كالوعد في طيّات الخطاب الشعريّ الجديد. شاعر احتضنَ مأساته ومضى بها ومعَها إلى الهاوية. لم يلتفتْ إلاّ لجوهر ذاته الحارّ والأكثر شخصانيّة، فتبعتْه القصيدة. سجالاته خاضَها في بضع مقالات صحافيّة عاصفة ينقصها الصّحو ولكنْ أملاها تهميش مرير. ولأنّها لم تفلح في تعكير الأساسيّ عنده، فسرعان ما نسيَها التاريخ.
عالياً كان حتّى في قصائد مرضه. وقصائده الذروات التي تزيد على العشرين كافية لإنقاذ أيّ شاعر من خطر النّسيان. بعشرين صفحة فرض نرفال اسمه على تاريخ الشعر الفرنسيّ. بأكثر منه تغلغل السيّاب في آتي العربيّة، حتّى ليُخيف شبحه اليومَ أحياءَ كثيرين. لسواه أن يستعين بالبيانات ويتوسّل بالمفاهيم لتأثيث القصيدة. لسواه أن يحتفي بالنّادرة العاديّة. هو صنعَ من مشهده الولاديّ في جنوب العراق، ومن مناظر السفن الذائبة في أشعّة الغروب والنوارس الملتهبة بَياضاً والأطفال الغرقى والآباء الشيوخ يستهدون بالمصابيح الرّاعشة بحثاً بين الشطآن عن جثث الأبناء، من هذا كلّه ومن سواه صنع أسطورة الحياة في تجاذبها السرمديّ بين ألم لا حدود له وجَمال لا ريب فيه.
الكلّ، حتّى بين الأجانب، يشهدون أنّه هو الأنقى والأجمَل على النّفس وقعاً. شعراء الغرب يردّدون ذلك، وطلبة السّوربون، الذين أتلوه عليهم منذ خمس سنوات وأقرأه معهم قراءة نقديّة، يؤكّدون أنّ جاذبيّته لا تضاهى. لا يهمّ أن يكون التالون اقتَرحوا صيَغاً تبدو أكثر عصريّة أو حداثة: هو حقّق الزواج المتعذّر بين مطلق البساطة وكثافة العُمق. صانع اللغة الذي عرف أنْ لا لغة بلا غور مأسويّ، وكبير المغنّين الذي أدرك أنّ الأغنية تُبنى بناءً، وأنّ أوهَن الكلام الشعريّ هو ذلك المطروح على عواهنه.
رفيق البدايات الطّيب والآمِر: يهب الشعراءَ الشبّان مداخل إلى الشعر لا يدرك العقم مَن يتبعها. وصديق أواسط العُمر الذي يهمس لكَ بأنّ الحياة، أي القصيدة، إمّا أنْ تكون صراعاً أو أنّها لا تكون (مزيج حاذق من استعجال الصّرخة وأناة السمفونيّة: ذلك هو الشرط). وشقيق النّهايات الذي يحيل الانحدار في الهاوية مسألة تمرين روحانيّ، ترتيب آخر للترنيمة.

لميعة عباس عمارة
لو عاش لأصبح منفياً

لأول مرة التقيت به عند التحاقي بكلية دار المعلمين العالية السنة الدراسية (1947 - 1948) وامتدت علاقتي معه حتى صيف 1950 بعدها انقطعت حتى الرسائل بيننا.
ولم تنقطع متابعتي لما يكتب من جديد، وبخاصة مقالاته في الجريدة على الأقل لأرى موقعي من شتائمه.
وللحق، لم تكن كل مقالاته شتائم، كانت أحياناً ترجمات عن الأدب الانكليزي، عرفت أخيراً ان المترجم هو أخو صديقة لي هي الست بدور مدرِّسة لغة عربية قديرة، وأخوها يشتغل مترجماً في السفارة الأميركية اسمه عبد المسيح، سمعت هذا على لسانه بحضور شقيقته، ذكر ان مكافأة المقالة الواحدة كانت مئة دينار عراقي نظراً لأهمية توقيع بدر.
ولأن حضوري في أي مكان كان يثير لدى البعض شيئاً من الفضول أو التباهي بما يعرفون عن الشاعر، كانت أخباره تأتيني من دون أن أسأل عنها.
ولا أقول أنني أتابع كل ما يكتب عنه، لأنه كثير، أحياناً ألمس بعض الأخطاء ولا أعلق عليها لأن بدر مادة غنية وربما صار أسطورة تحتمل الإضافات، ويضحكني أحياناً أن بعض من كانوا يحقدون عليه حسداً وغيرة يدعون أنهم كانوا أصدقاءه.
بدر شاكر السياب شعلة انطفأت قبل أن ينفد الزيت وثمرة قطعت قبل أن يتم نضجها.
ربما بتأثير المرحلة الرومانسية وما كنا نقرأ من مآسي الغرام وموت أبطالها المبكر تترسب في اللاوعي رغبة في الموت المأسوي المبكر، الموت المحمل بالآلام المسبقة وصور العظماء الخالدين أمثال: شلي، كيتس، شوبان، وغيرهم ممن ماتوا عشاقاً أو مناضلين سياسيين أو فنانين فقراء. كان الواحد منا يتصور أن بموته المبكر سيختل نظام الكون، يوم كان الموت نادراً تلك الأيام، ولم يكن الموت رخيصاً كما هو الآن في العراق، ولو امتد العمر ببدر لكان الآن لاجئاً في دولة ما مثل أكثرنا، يعيش الكفاف مستسلماً للكآبة، هذا في أحسن الاحتمالات.
بدر كان مسكوناً بهاجس الخلود في شعره وحياته، لم يكن مؤمناً بالمفهوم الديني للخلود، ولكنه كان ثابت الإيمان بأنه سيكون خالداً أدبياً، فكان يكتب حتى آخر لحظات مرضه إدراكاً منه لأهمية ما يكتب، ولئلا يهمل جزءاً ولو بسيطاً من كنزه النفيس (الألم). فالألم عنده مقدس لا يجوز الاستخفاف به، لأن الاستهانة بالألم قتل للإبداع، كما كان يقول لي وهو يراني أروي كل مشكلاتي بطريقة كوميدية.
تمنيت لو أكمل بدر دراسته العليا مبعوثاً لإحدى الجامعات المشهورة في العالم كما أتيح لغيره، لو درس كما درس غيره من غير ذوي المواهب، لم يشأ له ذلك المدرسون الذين كانوا يقررون مصائرنا من دون أن نعلم، ويقدرون درجاتنا مهما كانت إجاباتنا بحيث لا نصل الى مستوى يؤهل للبعثة. بدر لم يكن من المرضي عنهم سياسياً، وظل عطاؤه لذلك معتمداً على موهبته وحدها، ومع أن هذه الموهبة كانت كبيرة، إلا أن صاحبها كان يسبح ضد التيار محملاً الجسد النحيل والأعصاب المرهفة فوق ما تحتمل، ومع ذلك أعطى الكثير. وسيظل مادة غنية لكل دارس.

جريدة- الحياة- بيروت.

****

السياب وسيتويل وشـبح نص قايـين

طراد الكبيسي
(العراق)

(1)

السياب وسيتويل وشـبح نص قايـينبعضهم يسميه (السرق) حسب مصطلح النقد العربي القديم - وبعضهم يصفه بـ(التأثر والتأثير) وثالث يدعوه (التثاقف والمثاقفة) وانتهى أخيرا الى (التناص)في النقد البنيوي والتناص تقنية تختلف باختلاف مستويات الخطاب الشعري او السردي وبحسب براعة الكاتب وثقافته.
وفيما يتعلق بصلة (تأثر) السياب بالشاعرة الانكليزية ايدث سيتويل وخاصة قصيدتها (شبح قايين) فقد كتب بشأنها الكثير، وكان السياب نفسه اول من أشار الى هذه العلاقة عندما قال في استجواب أجراه معه خضر الولي ونشر عام 1956 في كتيب صغير بعنوان :(آراء في الشعر والقصة) قال السياب مستعرضاً تأثره في بدء حياته الشعرية بعدد كبير من الشعراء وقال (وحين استعرض هذا التاريخ الطويل من التأثر أجد ان أبا تمام وايديث سيتويل هما الغالبان) وقال (فالطريقة التي اكتب بها اغلب قصائدي الآن هي مزيج من طريقة أبي تمام وطريقة ايديث سيتويل : إدخال عنصر الثقافة والاستعانة بالأساطير والتاريخ والتضمين في كتابة الشعر)(ص14).

(2)

ثم قارب هذا التأثر والتلاقح الشعري بين السياب وسيتويل الراحل الدكتور إحسان عباس في كتابه (السياب دراسة في حياته وشعره) 1969 بشيء من التفصيل المركز والمقارنة الموضوعية لكن الدكتور علي البطل في كتابه (شبح قايين بين ايديث سيتويل وبدر شاكر السياب قراءة تحليلية مقارنة - 1984) المخصص لهذه القضية: (العلاقة التأثرية من الشاعر بالشاعرة) ذهب بعيداً إذ يخرج القارئ للكتاب هذا بنتيجة مفادها ان السياب في لغته ورموزه وبناء قصيدته وموضوعه لم يكن سوى (مقلد) او (عيال) ولا نقول : سارقاً - على الشاعرة سيتويل في أفضل شعره حتى ليمكن القول :كأن السياب في قمة ما حقق من إبداع هو مجرد احتذاء لسيتويل مضموناً وشكلاً ! او كأن لسان حال الدكتور (البطل)يقول:ان (جيد)شعر السياب هو من (جيد) سيتويل أما رديء السياب فهو رديئة هو : بحسب تعبير البحتري في المقارنة بين شعره وشعر أبي تمام.

(3)

والحال :
(1) كان السياب من أوائل من أشار الى استفادته من الأدب الرافديني القديم : أساطيره ورموزه- في أكثر من مناسبة وهذا يعني ان ماذهب اليه جبرا ابراهيم جبرا من ان اول معرفة للسياب واستثماره أساطير ورموز الأدب العراقي القديم جاء عن طريق كتاب(الغصن الذهبي) لجيمس فريزر الذي ترجمه جبرا ليس دقيقا.

(2) لايمكن لأحد ان ينكر تأثر السياب بأيدت سيتويل واليوت وسواهما ولكن عندما يؤمن المرء مسبقاً بـ(فكرة) تأثر السياب بهذا الشاعر او تلك الشاعرة ثم يروح يفتش وينقب في (ضمير) الكلمات والصور في شعره عن هذا التأثر فتلك هي واحدة من المستحيلات او من قبيل التفوهات المسبقة عن (وجود) العنقاء بل رؤيتها ووصفها بالتفاصيل الدقيقة كما سخر الجاحظ اعني ان الدكتور البطل اخذ بالفكرة الشائعة وربما أشاعها السياب تعمداً- عن تأثر السياب بسيتويل وهذا مالا يقدر ان ينفيه احد - كما قلنا- راح ينقب في (ضمير) كلمات السياب في قصائده بحثاً عن هذا التأثر اوالاحتذاء حتى باتت كل كلمة عند السياب مثل (ذرات) )غبار) (شبح او أشباح) الخ هي من قبيل تأثر السياب بسيويل في قصيدتها (شبح قايين) والغبار الذري! ولننظر على سبيل المثال هذه المقارنة الصورية بين سيتويل والسياب من قصيدته (غريب على الخليج):
تقول سيتويل في (شبح قايين( :
(ولم نأبه لسحابة في السماء على صورة يد إنسان وجاءت صيحة كما لو ان الشمس والأرض ارتطمتا- نزلت الشمس والأرض صعدت
لتأخذ مكانها في الأعالي - فوق الهيولى انفجر الرحم الذي منه بدأت كل حياة.
عندئذ وفي اتجاه الشمس المقتولة قام العمود الطوطمي الترابي في ذاكرة الانسان (ص28(.
وقال السياب في (غريب على الخليج(:
وجلس الغريب يسرح البصر المحير في الخليج
ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج:
(أعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج صوت تفجر من قرارة نفسي الثكلى: عراق كالمد يصعد كالسحابة كالدموع الى العيون).الخ.
ويقول الكاتب معلقاً على نص السياب :(مستحضراً صورة سيتويل عن العمود الطوطمي والسحابة الذرية..) !؟(ص81)
ولست ادري أية صلة بين العمود الطوطمي والسحابة الذرية في نص سيتويل ونص السياب؟ ولماذا لاتكون (السحابة) في نص السياب سحابة عادية ؟. او تلك السحابة المخادعة التي ظللت قوماً من الجاهلين فإذا ما استتروا تحتها من حر الشمس أمطرتهم ناراً فكانوا من الهالكين كما جاء في الموروث الديني!.
وهكذا لماذا لاتكون (الأعمدة) في نص السياب أعمدة بابل، او أعمدة الاكروبول او أعمدة بيوت الشعر العربية او أعمدة الكهرباء او أعمدة الشعر! أرجو ان ننتهي من مثل هذه الافتراضات عن تبعية الشاعر العربي لشاعر أجنبي وكأن الشاعر الأجنبي شيطان الشاعر الذي يلهمه الشعر - كما جاء في حكاية او أسطورة توابع الشعراء عند العرب.

(3)

وهكذا في مواضيع عديدة من شعر السياب نجد الدكتور البطل يرد كل صورة او شطرة يرد فيها اسم (قابيل قايين) الى تأثير سيتويل وكأن هذا التراث ليس تراث السياب نفسه وهو الأقرب اليه من سواه قال د. صلاح فضل : انه غير صحيح الانطباع الشائع عن إسراف السياب في استخدام الأساطير الغربية دون العربية:(في قراءة الجداول الإحصائية والاهتمام باستخلاص نتائجها الكلية الدالة فأن بوسعنا الإشارة الى ان جملة العناصر الأسطورية التي يوظفها السياب ابتداءً من ديوانه الناضج:(أنشودة المطر) تبلغ(36) عنصراً يتكرر ذكرها(217) مرة وان الإشارة الى المسيح والصلب تتمتع بأعلى نسبة تكرار في هذه الرموز إذ تبلغ (65) تليها الإشارة الى تموز وعشتار التي تصل الى (41) مرة ثم قابيل وهابيل التي تستخدم (24) مرة. والسندباد الذي يتكرر(14) مرة.(ص79 أساليب الشعرية المعاصرة)
(4) وباختصار - كأن كتاب الدكتور البطل يريد ان يقول - او قال فعلاً- انه لم يكن لدى السياب من (شغل ٍ)الا احتذاء سيتويل - وقع الحافر على الحافز- كما يقول المثل- او التنويع والتفريع على قصيدتها و(شبح قايين) او سواها على نحو ما أي ان السياب كان (يؤلف بقوة الاحتذاء أكثر مما كان يبدع بأصالته الذاتية (ص96) (إتباعا لما قاله د. إحسان عباس عن قصيدة :(رؤيا فوكاي(
(5) وأخيرا لابد من الإشارة بشأن السياب- الى أمرين الاول : ان السياب كان يغرف من بئره(المكان) بالدرجة الأولى وإذا كان قد انساب ماء من بئر الآخرين الى بئره كما ينساب محفوظ الذاكرة او اللاوعي- دون وعي الى ما يقوله او يكتبه، فذاك هو شأن جميع الكتاب والمبدعين وانه لأمر طبيعي ينطبق عليه ما ينطبق على الجميع منذ بدأ الانسان يقول الشعر ويروي القصص ويرسم على جدران الكهوف الى اليوم وحتى الأبد.
الثاني: ما سبقت الإشارة اليه وهو ما دعاه د. صلاح فضل في كتابه المشار اليه بـ(تقنية التناص) في خطاب السياب الشعري - بـ(لعبة الأقواس) إذ قال: حين نتحدث عن (تقنية التناص) في خطاب السياب الشعري ندرك مدى جرأته المبكرة في استخدام هذه التقنية بوعي كبير يجعله يمزج مستويات خطابه الشعري بعناصر سردية وشعبية ورمزية وأسطورية بأبيات من شعراء سابقين عليه وفلذات مما قاله من قبل وجمل مما كان يعرفه معاصروه وضاعت الإشارة اليه..) (ص75) ويضرب على هذا مثالاً قصيدة (أنشودة المطر) نموذجاًَ لنص يحفل بالعديد من التقنيات التعبيرية المتضافرة يقوم فيها الترجيع والإنشاء والتناص والأسطورة والترميز بالدور الأساسي في تكوين بنية النص وتوليد دلالاته المشعة طبقاً لإستراتيجية حيوية فعالة تحقق درجة عالية من شفافية التوازن والكثافة النسبية بحيث لاتقع في الإبهام وهي تحول العالم الى كلمات.(84).

********

شاعر الحرية في مضامينه الانسانية

خالد الخزرجي
(العراق)

شاعر الحرية في مضامينه الانسانيةالتجربة الشعرية
يمكن ان نعد السياب واحدا من شعراء العالم الذين اكتشفوا أقانيم جديدة للقصيدة وصاغوا قوانينها الموضوعية كـ ( بابلونيرودا وجون كيتس وناظم حكمت ) لما يتمتع به من ثقافة موضوعية ë فقد كان له دور مبرز في تطوير القصيدة العربية واستخدامه للأسطورة وما طرحه من موضوعات تجاوزت حدود الوطن الى ما هو أكثر.
وكانــت هذه الموضوعات ذات بعد إنساني تصب في قنوات عالجها السياب بأسلوب (دراماتيكي) وفي (تكنيك) شعري جديد تبدو فيه مقدرته الإبداعية
وفلسفته في الشعر قديمه وحديثه من غير تقليد او نسخ لتجارب من سبقوه من شعراء مدرسة ( أبوللو ) وشعراء (المهجر (.
كان تأثر السياب بشعراء المدرسة الغربية واضحا لاغبار عليه وعلى رأس هولاء (ت. س. اليوت) و(ايديث سيتويل) و(عزرا باوند) و(جون كيتس) و(شيللي) وغيرهم ë لكنه كانت له تجربته الخاصة حيث لم يلبس قمصان هؤلاء الشعراء ولا استعار أساليبهم ë كونه شاعرا إنساني النزعة ، صادق الرؤية وقد تجلى ذلك في قصائد ( المومس العمياء وحفار القبور والأسلحة والأطفال وجميلة بوحيرد) الخ.
وربما كان لتأثر السياب بالمدرسة الغربية قد جعله ينحاز الى القصيدة (الحرة) التي تخالف القاعدة العروضية للفراهيدي ë ولم يكن السياب في حياته السياسية ملتزما على الرغم من انه كان له ميل الى واجهة سياسية معروفة ë لكنه كان متقلب الأهواء نزاعا الى الحرية وعدم الالتزام، يشغله عن ذلك مرضه الذي أضناه طويلا حتى وفاته لكن قلب الشاعر ظل ينبض بالمعاني الانسانية و يأرق لمرأى طفل يفقد ذويه او يتألم لشعب يجلى عن أرضه.
كان الهم الأكبر للسياب ينصب في موضوعات البحث عن حقيقة الانسان والدفاع عن قضية الحرية والمضطهدين والمنافحين عن رغيف الخبز والباحثين عن غد أفضل لبلادهم لما يتمتع به من تجارب حياتية واكبها الشاعر أسهمت في تفجير شاعريته وجعلت منه رائدا من رواد القصيدة الحديثة لا في العراق فحسب بل في العالم.
عرف السياب شاعرا ينشد للحرية مناديا بالخبز للجائعين و بالحرية للذين يقبعون في زنزانات الموت من غير ما جرم ارتكبوه سوى مناداتهم بعالم يسوده العدل ويؤمن فيه الناس ë وبقي متضامنا مع المعوزين يعضدهم وقد سخر جهده وكفاحه من اجل الآخرين ولبث أمينا على مسيرته حتى انطفاء الضوء في مقلتيه :

أود لو عدوت أعضد المكافحين
اشد قبضتيّ ثم أصفع القدر
أود لو غرقت في دمي الى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وابعث الحياة، إن موتيَ انتصار

اكتسب السياب خصوصية فنية لشاعر أصيل وهب جل ما عنده للآخرين فكان بحق إنسانا عاش في خضم عذاب وعوز وحرمان في حين كان مجايلوه في موقع يحسدون عليه من نعيم العيش وترف الحياة ومات غريبا عن وطنه وأصدقائه والموت في الغربة موتان موت الجسد بعيدا عن أرومته والموت الثاني فقدان الإحساس بالانتماء وهو أبشع ما تعانيه النفس الانسانية لذلك كان الشاعر السياب متفردا على أقرانه الشعراء كونه ذاق مرارة الألم واحترق في أتون الوحدة منعزلا في مستشفى او مصح بعيدا عن ديار الأهل والأحبة وكانت صرخاته الهستيرية بقرب نهايته تصل الى الوطن معبرة عن حزن الانسان وضياع القيم الاجتماعية :

فبأي آمال أعيش إذن
وأدبُّ حياً بين أحياء
لولا مخافة أن يعاقبني
عدل السماء لعنت آبائي
ولعنت مانسلوا وما ولدوا
من بائسين ومن أذلاء

فتى المعرة - أبو العلاء - سبق السياب في تشككه بما حوله من الأشياء و عبثية كينونته ë بالرغم مما يفصل بين الشاعرين من أزمنة موغلة في القدم و ظروف تكاد تجمع بينهما وشائج المرض ë فمما ابتلى به المعري كونه رهين محبسين ( العمى اولا وثانيهما ملازمته لبيته :
هذا جناه أبي علي وما جنيت على احد
فالمعري لم يخلف بعده من يبكي عليه على حين ان السياب خلف بعد رحيله الحزين زوجة وثلاثة أبناء.
التجربة الشعرية هي قدر الشاعر تفجر طاقته الإبداعية من شانها ان تهيئ له المناخ المناسب لاستفزاز ما يكمن في أعماقه ë والتجربة عند السياب واقع ملموس وليس خيالا بمعنى ان السياب لم يكن(نظاما) بالمعنى الدارج لنظم الشعر إنما كانت له رؤية وإحساس ومعاناة وموقف ولن نجد قصيدة للشاعر كتبها وهو غائب عن الوعي بل كان يعي حقيقة الواقع الذي يعيشه ويتألم وألمه يتفجر شعرا يقاسي الحرمان وحرمانه يبعث فيه روح التمرد على الواقع المزري الأليم ويعاني مرارة الجوع فيثور :
جياع نحن مرتجفون في الظلمة ونبحث عن يد في الليل تطعمنا تغطينا نشد عيوننا المتلفتات بزندها العاري ونبحث عنك في الظلماء عن ثديين عن حلمة فيا من صدرها الأفق الكبير وثديها الغيمة سمعت نشيجنا ورأيت كيف نموت فاسقينا انضم السياب الى قافلة المناضلين المنافحين عن المضطهدين وعانى من شظف العيش والحرمان الشيء الكثير فكان موقفه أخلاقيا من عالم المحتاجين والمنفيين خارج عصرهم وظل ملتصقا بالكفاح ونذر شعره لهؤلاء ولم يتخل عنهم وكان يصدر عن موقف إنساني لامساومة فيه ولا مهادنة.
في أيام الوثبة من عام 1948 كان السياب في شبابه يتقدم التظاهرات مناديا بسقوط العملاء الذين لعبوا دورا خطيرا في وضع سيناريو معاهدة بورتسموث التي أجهضها الشعب قبل ان تحقق أهدافها وقد مارس السياب دورا رائعا في تلك التظاهرات السياسية التي كان لهادور بارزفي صقل موهبته الشعرية إذ كان في مقتبل عمره وبداياته الشعرية وكانت جموع المتظاهرين تحمله على أعناقها وهو يلقي بعضا" من قصائده التي قالها في محاربة الاستعمار والمستبدين.

(2) آراء حول الشعر

كان السياب يؤمن آن الشعر يتضمن أهدافا سامية ، وليس الشعر وسيلة لكسب الرزق، وكلما كان الشاعر صادقا في التعبير عن ذاتية المجموع، نجح في إيصال مفاهيمه الى المتلقي، كما ان السياب لم يكن مع الذين خرجوا عن قوانين القصيدة العمودية على الرغم من انه كان يعد رائدا لمدرسة الشعر(الحر) او ما يسمى بشعر (التفعيلة) ولكنه كان يدعو الى تعدد الأوزان في القصيدة الواحدة، فكان ينتقل من بحر الى بحر آخر وفق شكل هندسي جميل، وهو في دعواه هذه كان ينحاز الى شعراء التجديد لمواكبة الشعراء الغربيين الذين يحاولون ان ينقلبوا على كل المفاهيم السائدة في العصر الفيكتوري، ( ويرى السياب ان لابد من خيال يجوب الآفاق ويستلهم الصورة الحسية او المرئية ويطوف عوالم الإنسانية لكي يعطي الشعر لونا جديدا (
كما ان السياب يؤمن بضرورة الإفادة من الشعر القديم ومن لغته ومعانيه وأخيلته ويؤكد على نبذ ما تفه ولا يساير روح العصر ويؤمن كذلك (بان لابد من وجود وزن في الشعر في البيت الواحد على اقل تقدير وعد تجاهل الوزن او إهماله كليا امتهانا لوظيفة وأسلوب الشعر وخروجا على ابرز مميزاته كما طالب بمحاربة ذلك النوع الذي لا يعتمد على الأوزان )
وفي الوقت نفسه كان السياب يرى ( ان الشعراء القدامى من مختلف العصور والى ما بعد الفترة المظلمة لم يكونوا يعبرون عما يجول في خواطرهم في اغلب الأحيان إذ ان جل شعرهم لم يكن ذاتيا وإنما كان بهدف الرزق والحصول على المغانم أي ان الشعر لديهم لم يكن غاية بحد ذاته وإنما كان وسيلة للوصول الى هدف ما ( ). أما موقف السياب من شكل القصيدة فيرى فيها رأيا ثاقبا مصيبا يبرهن على ثقافته وأسلوبه المتين وجزالة ألفاظه في كتابته لقصيدة التفعيلة فهو يرى في هذا الشكل من الشعر الحر ( عبور التعقيد الى مرحلة الأسلوب بهدف أيضا ح الفكرة عند الشاعر أي ان الشاعر حينما يتحرر من القافية الواحدة والوزن الواحد إنما يبغي من وراء ذلك إيصال فكرته الى الجماهير بيسر وسهولة ( ).
ولم يكن السياب يلجا الى الغموض والتعتيم فيما يكتب من شعره الجديد بل كان يميل الى التبسط للوصول الى قلب المتلقي وإيصال معاني الشعر و مراميه الى الجماهير بصورة أكثر بساطة واجلي فائدة منطلقا من مبدأ ان الجمهور ينتظر من الشاعران يعبر عن أهدافه لغرض ان تنجح قصيدة الشاعر في كسب رضا المتلقي وفي الوقت نفسه يبقى الشاعر محافظا على لغته الشعرية المتماسكة ونضجه الفني من غير إسفاف في التعبير. وكان السياب يرفض ان يختلط مفهوم الشعر بمفهوم النثر إذ يرى ان الشعر الموزون على الأكثر هو الأصل الذي يبحث فيه الدارسون عن أعاريضه واضرابه، تميزا عن لون آخر من الشعر نسميه ( شعرا مرسلا )وهو نوع من النثر يحتوي على ديباجة قوية و موسيقى ظاهرة ويتميز بأسلوب جدير بقراءته تستسيغه الآذن والنفس البشرية. كما ان الخيال والعاطفة عند السياب هما عنصران أساسيان لابد من توفرهما في القصائد لإخفاء شي من المتعة النفسية لاستفزاز القارئ الى متابعة الشاعر أدراك ما يرمي اليه، ولذا يرى السياب دراسة الشعر القديم لما فيه من سبك ممتاز وبلاغة رصينة ولغة سليمة يمكن الاستفادة منها في رفد الحاضر ومسايرة روح التطور في الشعر العربي.

**********

دلالات الفرح والحزن في أنشودة المطر

مازن دويكات

دلالات الفرح والحزن في أنشودة المطرالشاعر شاهد العصر وصوت خلجات الوجدان فيه، ينفعل مع أحداث محيطة، فيرسمها في شعره على ما بها من تناقض. والشاعر المبدع لا يملك إلا أن يكون مخلصاً لفنه، صادقاً في تجربته، وبدر شاكر السياب واحد من الشعراء العرب الذين سحقهم قدرهم، فعاشوا أمر غربة.. قلق.. مرض..
تلك مكونات التجربة السيّابية، وأنشودة المطر تنطلق من مقدمة وجدانية جارحة، ظاهرها الغزل الحسي، وباطنها الفجيعة والتلاشي، وما بين الظاهر والباطن واقع سياسي مرير أدمى قلب الشاعر.
أنشودة المطر، بكائية دامية على مصير الوطن الذي تنهشه الغربان، أنشودة المطر، فرح حزين يسير باستحياء في شوارع بغداد المسكونة بالأفاعي من أزهار الفرات، إن المادة الشعرية مستمدة من هذا الواقع الموجع، فكأن الشاعر يتمثل عراقه بامرأة جميلة تسحره بعينيها، والاستهلال يُرجح أن المحبوبة التي عيناها (غابتا نخيل ساعة السحر(
ما هي إلا امرأة من نوع آخر، امرأة ليست من لحم ودم، وقد انطلق الشاعر منها إلى العام الشامل، إلى الأوسع والأرحب، إلى الوطن، ومن خلالها أوغل في المعاناة العامة والمجابهة، مع قوى الشر المتمثلة في السلطة الغاشمة، وأعوانها الصغار، تلك مهمة الشاعر، فضح وتعرية أعداء الحياة، والانحياز التام للبسطاء صنّاع الحياة.

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يرجّه المجداف وهناً ساعة السّحر
كأنما تنبض في غوريهما " النجوم"

استهلال احتفالي متناغم، غني بالصور الموحية، والخطاب هنا كلي ذو نبرة صوفية ودلالات الفرح مؤطرة بالرمز الشفاف الذي من خلال شفافيته تكاد ترى بل تكاد تلمس وتحس ملامح هذه الحبيبة المتألقة في وجدان الشاعر.
دلالات الفرح: عيناك/ غابتا نخيل/ السحر/ شرفتان/ نأي القمر/ عيناك/ تبسمان/ تورق الكروم/ ترقص الأضواء/ الأقمار/ نهر/ المجداف/ السحر/ تنبض/ غوريهما/ النجوم.
تلك هي الآلات التي عزفت سيمفونية الفرح، والنشيد الابتهالي الفتان، كلمات تنبض بالحياة الجميلة، حياة صاغ عوالمها وجدان الشاعر، وأريد أن أوضح هنا كيف اعتبرنا ( نأي القمر) دلالة فرح، واعتبرنا بقاء الأقمار (الجمع) والنجوم أيضاً دلالة فرح مع أن وجود وبقاء الكل يكرس حالة واحدة ألا وهو الليل.
ناي القمر يمثل اندحار الليل الذي ينتظره الشاعر في ساعة السحر. وبقاؤه يمثل حالة فعل وسيادة لليل.
ومن النص نكاد نحس أن ليس للأقمار ( فعل سيادة). ودورهما الوحيد في النص. الصفة الجمالية فقط.

" وتغرقان في ضباب من أسى شفيف
" كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف.
والموت، والميلاد، والظلام والضياء.
فتستفيق ملء روحي. رعشة البكاء.
ونشوةً وحشيةً تعانق السماء
كنشوة الطفل إذا خاف من القمر.

يبدأ هذا المقطع بخطاب الصفة ( تغرقان) ويكاد يكون التضاد هو الحالة المسيطرة في النص / أسى شفيف/ دفء الشتاء/ ارتعاشه الخريف/ الموت والميلاد/ الظلام، والضياء/ النشوة والخوف/ رعشة البكاء/ والتضاد.
تداخل وامـتزاج بين الســـلب ( الحزن) والإيجاب ( الفرح) وبعد الفصل والفرز يتساوى السلب مع الإيجاب في النص.

دلالات الفرح
شفيف/ البحر/ ارتعاشه الميلاد/ الضياء/ تستفيق/ روحي/ رعشة/ نشوة/ تعانق/ السماء/ الطفل.

دلالات الحزن
تعرفان/ ضباب/ أسى المساء/ الشتاء/ الخريف/ الموت/ الظلام/ البكاء/ وحشية/ كنشوة/ خاف/ القمر
" ونشوة وحشية تعانق السماء
كنشوة الطفل إذا خاف من القمر.
وفرز الدلالات المختلفة. أوضح ما يكون في البيتين الأخيرين في المقطع.
فالنشوة الأولى دلالة فرح تؤكدها حالة العناق للسماء.
والنشوة الثانية دلالة حزن تؤكدها حالة الخوف من القمر.
وحشية دلالة: حزن. تعامدها الطفل. دلالة فرح. تعانق دلالة الفرح، تعامدها خاف، دلالة الحزن. فحالة الخوف التي سببها القمر للطفل. تؤكد ما ذهبنا إليه في مقطع الاستهلاك عن حالة نأيه ذات الدلالة المفرحة. مما سبق يتضح أن هذا المقطع، غارق في الضبابية، يسيطر فيه عدم الرؤيا، والانحياز هنا مشلول الحركة، يراوح في نقطة المنتصف ما بين الفرح والحزن.
" كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم.
وقطرة فقطرة تذوب في المطر
وكركر الأطفال في عرائش الكروم.
دغدغ صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر..
مطر..
مطر..
تثائب المساء. والغيوم ما تزال تسح ما تسح من دموعها الثقال.
دلالات الفرح.
أقواس/ السحاب/ الغيوم/ قطرة/ تذوب/ كركر الأطفال/ عرائش/ الكروم/ دغدغ/ الشجر/ تثائب/ الغيوم/ تسح/ دموعها الثقال.
دلالات الحزن.
صمت/ المساء/
ضباب.. حيرة.. قلق وإصرار على التخطي. تلك مكونات البروق والرعود التي في تماسها يتشكل المطر، مطر جارف لا تمنع تدفقه سدود الكبت والطغيان، وهكذا يعلو صوت الفرح وهكذا يتحرر وجدان الشاعر من الدائرة الضبابية، وقد حكم هذا التحول. نفس قلقة. دائمة التوق للتحرر، من الذات قبل التحرر من الآخر. وأقواس السحاب التي تشرب الغيوم، هي ذاتها أقواس النصر التي نصبت لموكب العرس، والمطر الهطال هو ذات المطر الذي غسل الشوارع من رجس الطغاة. وما العروس إلا الثورة التي نزعت أكمام الخوف من مناقير العصافير الصامتة فوق الشجر. فلها الآن أن تغرد إلى ما شاء الله.
"أن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه- التي أفاق منذ عام فلم يجدها. ثم حين لجّ في السؤال.
قالوا له: بعد غدٍ تعود
لا بد أن تعود

********

الوجع الإنساني في ثقافة السياب

احمد عبد الزهرة الكعبي

بدر شاكر السيابالانسان تجده أينما وقفت في عالم السياب الشعري هو يسترسل في الحدث حتى ينزل بك الى موضع الألم الذي أشعرك به من هسيس القصب حتى فانوس سليمة المطفأ علني اخترت شاعرا لكثر ما تناولته الأقلام ولكني اخترته من بين الهواجس التي يشعرها المتفحص في أدب هذا الآدمي المتألم.هاجس الألم والشعور المتناهي بالعزلة هل كان الشاعر يحتضر ما بين الموتى لإحساس منه انه ما زال يتنفس لا أكثر ، أنا لم أتأثر لخلو جنازة السياب من ستة مشيعين كان من بينهم الشاعر الكويتي علي السبتي ولكن هناك شيء مؤثر ومحزن جدا هو وجود المطر بين المشيعين الذي كان مرافقا له في رحلة حزينة من الكويت للبصرة عل الشاعر اكتفى بصاحبه ان يكون مودعا.يقول الشاعر في أنشودة المطر ذات الإطار الشجي والروح الباقية على حساب الكثير من التقلبات والمتغيرات

مطر.. مطر.. مطر
وفي العراقِ جوعٌ
وينثرُ الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبعَ الغربانُ والجراد
وتطحن الشوان والحجر

نعم تجرأ الشاعر هنا ليجعل مأساته عامة لينتحل شخص العموم على حساب ذاته الموجعة ، حكاية أنشودة المطر وتنويعة الصورة التي تنقل المشهد من الحسيه المفرطة إلى واقع آخر يتجاوز إطار الصورة ليبلغ فضاءات أقل مايقال عنها إنها كانت مؤلمة وتاريخ شعب بل هي تاريخ أمم. لقد بالغ النقاد في تناول قصيدة السياب هذه عل احد هذه الأسباب هو انتشارها على حساب قصائد الشاعر الأخرى التي تفيض بالصور والأحاسيس والشعور الإنساني.تنقل السياب في قصائده في عالم مضطرب يتنقل هو بانتماءاته المتغيرة بحسب الفترة التي يعيشها بينما العالم المضطرب ينتقل على حساب وجوده وبقائه ،السياب يذكرني بالشاعر الجاهلي والإسلامي الحطيئة الذي لقب بهذا الاسم لقصره وقربه من الأرض ، نعم يذكرني فالشاعران يتميزان بأنهما ليسا من أصحاب الشكل الجميل ومن الذين ملأوا زمانهم بآرائهم وشعرهم كان الحطيئة هاجيا وناقدا عظيما وقد هجا نفسه بأبياته المعروفة..

أبت شفتاي اليوم الا تكلماً
بسوء فما أدري لما أنا قائله
أرى لي وجهاً شوه ألله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله

وأنا هنا أخذ الحطيئة كونه صوتا كان واضحا تميز بأنه كان موثرا والدليل ان أبيات رفضه لواقع الحال مثل نوعا من نقل الوجع ومن جرأته التي أحدثت دويا آنذاك نقده للخلافة ودخوله المعترك السياسي بأبيات ظلت خالدة حتى يومنا هذا :

أطعنا رسول الله إذ كان حاضرا
فيا لهفتي مال أبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده
فتلك وبيت الله قاصمة الظهر

نعم إن السياب امتداد طبيعي لشعراء تفوقوا في نقل الواقع الآني الى داخل حدود البيت الشعري ، لان الحطيئة احد رموز الثقافة العربية وكان صوتا حيا فأن بدر كان يأخذ الثقافة العربية برمتها نعم برمتها ويطورها من خلال مقارنة مع الحدث اليومي وأحداث الأمس وإن لم يتعرض هو لإحداث كبرى قدر أخذه صورة من كل حدث وهو الأمر الذي جعل من قصيدة السياب فيها الآم الحاضر ويناقشه على إنه ماضيا يتكرر. عل السياب كان الحطيئة او غيره من الذين لم يحظوا بالأضواء مثل الحطيئة ولكنها علهم كانوا يكتبون بريشة واحدة ولست أبالغ إن قلت ان السياب تفوق على الكثير من السابقين واللاحقين مقارنة مع عمره القصير.

الأم والطفلة الضائعة
مضى أزل من الأعوام : آلاف من الأقمار، والقلب يعد خوافق الأنسام، يحسب أنجم الليل، يعد حقائب الأطفال، يبكي كلما عادوا من الكتّاب والحقل.
ويا مصباح قلبي، يا عزائي في الملمات، منى روحي، ابنتي : عودي إليّ فهاهو الزاد وهذا الماء. جوعى؟ هاك من لحمي طعاماً. آه !! عطشى أنت يا أمي؟ وجهت عناية الباحثين في أدب السياب والحوا في أطروحاتهم حول استلهامه من الأسطورة الإغريقية (بالذات) التي ظهرت جليا في قصيدة المومس العمياء ولكن لم يلتفت الا القليلون الى العظمة المأخوذة من سفر أهل البيت ع وقد ألفتت نظري إحدى المقالات التي تناولت موضوع قصيدة سفر أيوب.ففي قصيدة سفر أيوب لو قرأنا دعاء الإمام زين العابدين ( ع ) قبل المقدمة الروحية للقصيدة لرأينا كيف تتجلى ثقافة هذا الوجع الآدمي ((أللهم لك الحمد على ما لم أزل أتصرَّف فيه من سلامَةِ بدني، ولكَ الحمدُ على ما أحدثتَ بي مِن عِلّةٍ في جسدي)) كيف وظف السياب الألم والثقافة الى جراحات مشتركة لتنزف روعة
في سفر أيوب يقول:

لك الحمد مهما استطال البلاءْ
ومهما استبدَّ الألمْ،
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعضُ الكَرَمْ

ان السياب الانسان الذي تنقل ما بين أوجاعنا بمنتهى الحرية لم يكن وليد الصدفة بل هو الخارج من رحم الحرمان الى عالم يكاد يلفظه خارجا بسرعة البرق في أي لحظه ، والشاعر الذي عانى من كونه ليس من ذوي السحنة الجميلة لان الشاعر قبل ان يكون إنسانا يعاني من نفور المرأة منه على أساس انه يبني لهم من خيالاته جمالا يحب ان يكون له نصيب فيه، ناهيك عن الجدل السياسي والمتغيرات التي أدخلته السجن مرات عديدة

عيـوني بآفــاقـــه ســـاهرات
وحولي يبيت الـــورى رقَّدا
بأرجائه ألتقي بالـممات
كأني على موعد بالردى

إذن هناك وضع نفسي يعيشه الشاعر يصعب فتح رموزه ، عل حياته العائلية الخاصة التي عاشها سمحت له بالاختلاط داخل الهم العام ليكون صورة منتقاة من صميم العدم لتكون القافية على هذا القدر العالي من الحزن الذي كانت له أراء جديدة وحديثة دائما وفي أي مجال يكتب فيه وهذا ينبع من ثقافة كبيرة كان يمتلكها الشاعر تسمح له ان يكون مجددا ومتجددا دائما ولازلت اذكر رأيه في وصول المسرح متأخرا للعرب فهو يقول يتساءل الكثيرون من الكتَّاب والأدباء، لماذا لم يعرف العرب في جاهليتهم وفي إسلامهم وحتى في عصر متأخر المسرح والأدب المسرحي، وهم يعزون ذلك إلى أسباب شتى، منها عيشة البداوة التي كان العرب يحيونها متنقلين من مكان إلى مكان، غير لابثين في مكان واحد إلا قليلا ولكن ذلك في رأيي، أن سببا واحدا فات جميع الباحثين، كان العربي إنساناً جدياً وهو يرى في تقمصه دور ملك أو أمير أو سواه من الأدوار سخرية بنفسه وبالمتفرجين.

***********

السياب بين حفـار القبور والمرأة الغائبة

صائب ادهم

يبقى السياب مدرسة للشعر الواقعي المنزوع من أغوار النفس الإنسانية ومن رموز التاريخ السحيق ممثلة بآلهة الإغريق وبابل والتاريخ المعاصر ممثلا في شخوص ومجتمعات أوجدت الحدث التاريخي الذي سيبقى شاخصا على اقتدارات الإنسان المعاصر في مواجهاته لما يصادفه من تحديات ومحاولات إعاقة تقدمه لتحقيق أماله المشروعة أي تعزيز وجوده وفعله التاريخي-الموقف والحركة أي ديمومة المسار ورفض التوقف أو التراجع..
كان السياب(يلوب) من أجل مفردة أو كلمة كما قال لي صديقه ورفيقه الكاتب الأديب محي الدين إسماعيل. المفردة عنده كانت( مخاضا) صعبا أن تعذرت عليه في قصيدة أو مقالة وحتى عجزه عن إيجادها نجدها ظاهرة في صور عدة من تأملاته وفي نبضه.

( الموت هاجسه والمرأة)
كان الموت هاجسه ولا نغالي القول أنه أحد مناهله وأكثرها شماء وحكمة..(واحسرتاه. كذا أموت..؟ كما يجف ندى الصباح. أني أخاف من شبح تخبئه الفصول..)
وقال عنه مدني صالح:أن الغد عند السياب أسم من أسماء الموت وأنه لم يكن شاعر هوى وإنما كان شاعر فجيعة واستغاثة وتوجع واستصراخ..
وهنا يقول عنه الشاعر فاروق أبو شوشة.. عاش السياب عصراً فجعياً وكانت الاستغاثة عنده. استغاثة المجتمع الغريق آنذاك، الكل كان يستغيث ويبحث في أكوام القهر عن زورق نجاة ليصل به إلى شاطئ آخر. وكان هذا الشاطئ يمثل عنده صبحاً جديداً.ويمثل في ذات الوقت حالة حنين إلى (الغروب) فقد كان كما لو أنه يستنجد بالغروب ليحتمي من حروق الشمس وحقيقة الموت ويأمل فيه عشرة امرأة. وكما يقول مدني صالح: كان يرجو امرأة ويتوجع إلى امرأة ويستغيث بامرأة ويستدر عطف ورحمة امرأة..
(أحبيني.. لأن كل من أحببت قبلك لم يحبون(
المرأة عنده كانت دائما غير موجودة وأن وجدت فأنها لا تلبث إلا قليلا ثم ترحل. (ووقفت أنظر في الظلام وسرت أنت نحو النهار..!)
ومن هنا كان دائما يعود إلى المقبرة. ملتجئاً إلى صدر أمه مناشدا إياها أن تأخذه إلى أحضانها..
وأختلف مع الأستاذ مدني في كل من لا حبيبة له هو فجيع. ذلك تقدير مفرط ولا شك لدور المرأة الحبيبة في حياة الرجل..لكن في الوقت نفسه ومما لا جدل فيه كلما غربت المرأة في حياة شاعر أو فنان كلما زاد ذلك في عطائه وعمقه..
وارى ألا نملأ المرأة غرورا كونها مصدر الإبداع والمأساة (الملهاة). وأنها تستطيع القول الفصل : لو لم أكن أنا. من أنت؟
ولا شك أن الفروق والمساحات كبيرة بين المرأة الغريزة والمرأة الملهمة. ولنلاحظ أن السياب كان ملهما في أغلب قصائده دونما امرأة برغم أنه كان في حنين متواصل إليها ويتمنى أن تأتيه يوما ليشتكيها من نفسه ومنها. ولعل هذا ما يمكن أن نطلق عليه عذاب الغريب وأن غربة السياب امرأة. إضافة إلى قسوة حياته وملامحه الخافية وتمكن غربته كذلك في مرضه الذي حار فيه الطب واستعصى العلاج وخاب الرجاء في الشفاء. وكان لغربته سبب آخر أعمق من الأسباب كلها. وهو الخوف من عذاب الموت وسوء العاقبة في الآخرة.كان هذا الشعور دليلا على عتمة مستقبله وفي أن تهل عليه يوما امرأة تزيل عنه الصمت ووحشة الدروب وكما يقول الأستاذ مدني. أن سلالم السياب تصعد دائما نحو التدهور والظلمة وكثيرا ما كان السياب ينطلق من أفكار آخرين عن الموت لا من ظروفه ودوافعه الشخصية فحسب موضحا أنه ليس بالحقيقة وحدها يحيا الإنسان. وهذا موقف استلبه السياب من آخرين سبقوه في الشعر والغربة. وعند هؤلاء. الحقيقة تعني أن الموت آت لا محالة لكن لا بد للإنسان أن يستمر يعطي ويتفاعل ويبدع برغم حقيقة الموت: كما قال البير كاميه الفيلسوف الوجودي الفرنسي الراحل: لا شيء حقيقي في الوجود سوى الموت.. لكن كما قال الأستاذ مدني. يبقى الصوت والأغنية بعد موت المغنية.

لاشيء هنالك في العدم
إنا سنموت
وسننسى في قاع اللحد
حبا يحيا معنا ويموت
الصوت هنا باق..ليل نهار
هل ضاق مثلي بالزمن
تقويما خط على كفن..

والظلام عند السياب مثل الغروب. موت..
(مات الضياء سوى بقايا من مصابيح الطريق.)
قصيدة حفار القبور-ثورة الموتى..
تظل قصيدة حفار القبور دليلا على حسن اندماج السياب بالموت.
يقول:

وعلام تنصب هذه الغربان..
والكون الرحيب باق يدور
يصبح بالأحياء: مرضى.جائعين

ولاح للسياب حفار القبور، جامد الكفين.جائعا كذئب سجين وهز الحفار يمناه في وجه السماء:

يارب.. أسبوع طويل مر كالعام الطويل.. والقبر خاو
يفغر الفم في انتظار
ما زلت أحفره ويطمره الغبار..!

لقد بلغ الشاعر هنا قوة كبيرة في التعبير وحسن المقابلة في الرموز والتشبيه أقترب فيها وفق تصوري من أسطورة سيزيف. لـ(البير كاميه). حيث كان سيزيف يرفع الحجارة إلى قمة جبل فتتدحرج مرة ثانية إلى القعر ويستمر الحال على هذا المنوال بدون أية جدوى. سوى أن سيزيف كأنما خلق ليعذب..
(وما زلت أحفره. ويطمره الغبار
(حفار القبور(
لكن السياب في هذه القصيدة كثيرا ما يقصد معان آخر وينسى في خضم همومه حاجة الحفار وتطلعاته إلى الرزق من الحرفة. فيتوعد الشاعر ويحذران الموتى سيثورون يوما بوجه من قبرهم.
( يا مجرمون إلى الوراء. فسوف تنتفض القبور
و تقيئ موتاها.ويا موتى على أسم الله ثوروا.(
في النساء والخمر
لبس السياب جلودا كثيرة غير جلد حفار القبور مثلا أحب النقود والحلم بالنساء العاريات وبالخمور ففي قصيدته (غريب على الخليج) يصغي بشغف ولهفة الى رنين النقود والى عدها أكثر من مرة.

ما زلت احسب يا نقود أعدك واستزيد
ما زلت أوفد بالتماعتكن نافذتي وبابي
في الضفة الأخرى هناــــــــــــك فحــــــــدثينـــي يانقود

وهنا- حسب مدني صالح أننا لم نعرف شاعرا عربيا معاصرا عرى نفسه أمام الآخرين مثلما فعل السياب ولم يخجل من عريه حتى حين نزع الجلود المستعارة وظهر أمام الناس بجلده حقيقة بلا قناع يعد النقود فعلا وأدبا وصراحة وشعراً ويحلم في أواخر حياته بالعاريات من النساء وهو من الموت قاب قوسين أو أدنى وقد فعلت مشارط الجراحين في أضلاعه وفقــرات ظهره ما لم تفعل بأيوب.أخيرا اذكر أستاذنا مدني صالح بشاعرنا الســــــــياب إنسان من هذا الزمن وقبـــــــــله من أزمنة طويلة يـــــــرنوا الى النقود ليعيش كالآخرين ليخرج من عتمة حــــفار القبور وجشعه ويملأ ناظـــــــــــريه كالآخرين من بيــــــــاض أجســـاد النســـاء ويرتشف من نهودهن فما هي المشكلة أذاً؟ ومالغرابة في إنسان شاعر لم يصل يوما الى حلم أو أمنية نقودا كانت أم امرأة..

*********

ماذا فعل الشعراء بمعطف السياب؟

علي حسن الفواز
(العراق)

إذا كان تشيخوف قد قال قديما أننا خرجنا جميعا من معطف غوغول،،، فهل يمكن لشعراء الحداثة ان يقولوا أنهم خرجوا من معطف الشاعر بدر شاكر السياب ؟؟ فهذا الشاعر المعلول والساخط حمل مغامرته الشعرية عند زمن البداية الحداثية في الشعرية العربية وكأنه يمارس لعبة خبيئة في موروثات المسكوت عنه !!!
ولهذا حملت هذه المغامرة نزوعا غرائبيا أثار الكثير من الأسئلة إزاء المرجعيات التقليدية في التاريخ الشعري حدّ ان هذا النـــزوع تحوّل الى تمرد على الأيقونة الشعرية،، لكنه وبحكم آليات إعادة إنتاج الخطاب الثقافي التقليدي تحول النموذج السيابي ذاته الى أيقونة اخرى !!!
ان البحث عن أسس موضوعية في مجال الحداثة الشعرية العراقية والعربية يأتي في إطار البحث عن عوامل خارجية لها فاعلية التأثير والمغايرة فضلا عن ضرورات الوعي الذاتي لإشكالات تحررنا من مهيمنات أنماط تاريخية معقدة ارتبطت بمكونات السلطة والنظام الاجتماعي والاقتصــادي مثل مهيمنات (الفكر العمودي ) التي كرست الكثير من القداسات والمطلقات والتي جعلت في بعض منها الشعر خطاب الأمة والممثل الوطني لديوانها وتاريخها غير القابل للغش والتخريب،،
وهذا مايفسر اتساع الكثير من التابوات في شجون التعاطي مع انزياحات ثقافتنا الشعرية بدء من أثارات أبي نواس مرورا بتغايرات أبي تمام وصولا الى مغامرة السياب ومجايليه والتي يبدو انها كانت أكثر وفرة في المشــــــروعية من غيرها!!
لقد اقترنت مرحلة الأربعينات والخمسينات في العراق بتحولات وعي الثورة الاجتماعية وحركة التحرر الوطني والتي انعكست بدورها على واقع الكثير من البنيات الثقافية واستحقاقات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية،، إذ أثارت هذه المرحلة أسئلة جديدة ومهدت لتصورات وتصادمات ثقافية مغايرة وجدت في مشروع الحداثة والتجديد والخروج عن الذوق الأدبي والتقاليد الأدبية السائدة فضاء غير مألوف في أجندة القوى الاجتماعية والسياسية وأنماط خطابها الإيديولوجي والأدبي والذي مهد بالضرورة لإنتاج مفاهيم جديدة في مجال اللغة الثقافية والشعرية خاصة باتجاه الذات والرؤيا واستنطاق أبجديات جديدة غير خاضعة بالكامل للسياق الاجتماعي...
وسط هذه الأجواء المفتوحة على التغاير كتب الشاعر بدر شاكر السياب أولى قصائده التجديدية (أنشودة المطر) التي نشرتها مجلة الآداب البيروتية عام 1954،،وكما هو متوقع، انطلقت حولها الكثير من الطروحات النقدية بين مؤيد ورافض،، لكنها أشرت حقيقة التحول في مجال النظر الى دور الثقافة الشعرية وما يمكن ان يحمله التغاير الشعري من تجليات تعبيرية متميزة تعبّر عن المتغيرات الجديدة في الواقع وفي الثقافة الشعرية والإيذان بدخول زمن شعري له بضاعة غير مألوفة التداول تمتزج فيها مفاهيم الحياة بالموت والخصب والجفاف من منطلق الانكشاف على أسطورة الانسان وقوته في المواجهة ممزوجة برؤيا حلمية ذات محمولات لنظام دلالي يحمل سياقه العام استشراف الانسان لعالم جديد، لاحدود لجغرافيا الوعي فيه، ولاسيطرة فيه لسلطة الوهم والخرافة.انه عالم اللانهائيات . ومن هنا فان ما يميز مرحلة السياب الشعرية انها كانت مرحلة انفتاح ومحاولات غير أمينة للمغامرة !! وان نمطها التأسيسي اقترن بقسوة العالم وتحولاته بكل ما تحمله من تطلعات الى عالم مغاير،، ولكن هذه التجربة تحولت الى نوع أيقوني جعل منها النقاد بحكم أدواتهم النقدية المحدودة وضعف الوعي المنهجي فضاء للترهل الشعري،ولم تجد قراءات واعية ودقيقة لمشروعها التجديدي،وهذا ما يجعلنا أميل الى القول بان أسطورة السياب الشعرية صنعتها عوامل غير عراقية !! قد يكون الفضاء الشعري المغاير في بلاد الشام أكثر ميلا لاستعراض هذه المغامرة وتغريب نمطها التعبيري والحداثوي،،وربما هو ذات السبب الذي جعل السياب قريبا من تجربة مجلة شعر وجزء من فضائها التجديدي ومغامرة شعرائها بكل نزوعهم التمردي، فضلا عن ان شخصية السياب القلقة وغرابة سلوكها ومعاناته مع المرض والعقد الاجتماعية انعكست على سلوكه السياسي وخياراته الأيديولوجية وربما جعلت منه شخصية هي الأقرب الى نموذج المازوكي الباحث عن العذاب اللذة الغريبة وتحولاته غير المتوازنة !! كما ان شعراء مرحلة الستينات مارسوا نوعا من التمرد على الفضاء السيابي، وقد قلل بعضهم من شأن مغامرته ومشروعه الحداثي، وكأنهم يمارسون في لاوعيهم طر د شبح أيقونته الشعرية المهيمنة،ان قيمة السياب الشعرية والتاريخية لاتكمن في مجموعة التغايرات الشعرية في النموذج الشعري حسب بقدر ما تتمثل لقوة الصدمة التي طرحها هذا النموذج بكل معطياته ومكوناته ومرجعياته ونموذج بنيته للجملة الشعرية وصياغتها الوزنية والعروضية وانفتاحه على التجارب الشعري الكونية وترجماتها،، وهذا مايجعل المشروع السيابي لاينتمي لمشروع (الإسلاف المباشرين) كما يرى انسي الحاج وإنما ينتمي لمشروع الآباء الباسلين الذين القوا الحجر على البرك الساكنة، وهو ماينبغي إعادة قراءته في إطار مسؤولية الوعي النقدي وإشكالاته ضمن دراسة السياق التاريخي للحداثة الشعرية العربية ومؤثراتها واستحقاقاتها وتحولاتها وأسئلتها دون مغالاة او تعقيد او إسقاطات غير دقيقة تستعير خطابها من أجندة نقدية وتاريخية خارج وعي هذا السياق .. لذا فان الحديث عن المعطف السيابي هو حديث تطهيري قد يجد البعض فيه لذة للخلاص بعد ان ازدحم الطريق بالراحلين الى الجلجلة.

الزمان -25/12/2004

******

إنّهم يعبُّونَ من "بويب" ويُنكِرون

د. عبد الرضا عليّ *
(العراق/ بريطانيا)

كان بدر يحسُّ أنه لن يعيشَ طويلاً، فكان جلّ حلمهِ في الحياة، أن يكون لهُ بيتٌ يجدُ فيه الراحة، والطمأنينة، وامرأة تحبّه، لذلك كانت المرأة (كما صرّح) أكبر حافز دفعهُ إلى كتابة الشعر، وقد وضح ذلك في ديوانيهِ: "أزهار ذابلة" و"أساطير". أما تأثُّراتُه الشعرية، فقد كانت بالبحتري، وعليّ محمود طه، وأبي تمام، والجواهري، وغيرهم من الشعراء العرب، وبـ "شلّي" وشكسبير، وجون كيتس، وتوماس إليوت، وإديث سيتويل، ودانتي، وهوميروس، وفرجيل، وغوته، وغيرهم من الغربيين، لكنه يفردُ لأبي تمّام، وإديث سيتويل مكاناً خاصاً في هذا التأثر، إذ يقول في إجابتهِ لمحمود العبطة: "وحين أستعرض هذا التاريخ الطويل من التأثر أجدُ أنّ أبا تمّام وإديث سيتويل هما الغالبان".

كان السيابُ أول شاعر وظَّف الأسطورة في الشعر الحديث توظيفاً فنياً، وجعلها في محورين: الأول هو المحور الجمالي، والثاني هو المحور السياسي، لأنه أسبق الشعراء ارتهاناً بها، وإن شاركهُ المجايلون لهُ بعد ذلك، ونعني بهم: نازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، وخليل حاوي، وغيرهم.

إنّ بدراً حين وظّف الأسطورة في الشعر وجدها أعلى مراحل الرمز، كما أنه لم ينظر إليها كما نظر إليها إنسانها البدائي، إنما حمّلها موقف الفعل الخلاّق، لذلك لم يكتف بتوظيفها فنّياً، إنما حوّرها، وحمّل بعضها مضامين جديدة، ومن تلك المضامين:

  1. التوحد بالأسطورة
  2. قلب الأسطورة
  3. مزج الأسطورة بغيرها

ومن أمثلة "التوحد بالأسطورة" قصيدتا "المسيح بعد الصلب" و"رحلَ النهار"، ففي الأولى يوحِّدُ السياب بين رمزي "تموز" و"السيد المسيح" عليه السلام، ثم يتوحَّدُ بهما من خلال مناجاة نفسيّة ذات وقعٍ جنائزي:

مت كي يؤكل الخبز باسمي
وكي يزرعوني مع الموسم
كم حياة سأحيا: ففي كل حفرة
صرتُ مستقبلاً، صرتُ بذرهْ
صرتُ جيلاً من الناسِ: في كلِّ قلبٍ دمي
قطرةٌ منهُ أو بعضُ قطره

وفي الثانية "رحلَ النهار"، يوحِّدُ بين رمزي "السندباد البحري العربي" و"عوليس" الإغريقي، ثم يتوحَّدُ بهما. ففي القصيدة صوَّر انتظار حبيبتهِ لهُ بما يشبهُ انتظار "بنيلوب" لـ "عوليس" في الأوديسَّة. ولمّا كان رمز السندباد يُقاربُ من حيث الملمح الشعري رمز "عوليس"، فقد آثرَ السياب أن يتبناهُ في التصريح لكونهِ عربياً، ولأنّ صورة ارتحالهِ الدائم ماثلة أكثر من "عوليس" في وجدان القارئ العربي.

فليس للسندباد زوجة معينة تنتظرهُ كما كانت "بنيلوب" تنتظر "عوليس".
إنّ منجزات السياب الجماليّة، لم تتوقف عند التوظيف، إنما تجاوزتها إلى آفاقٍ فنية أخرى، كما في منجزات التداعي الحر، والمونولوج الدرامي، والمحاورة، والتناظر المصطنع، لكنّ الرمز ظلّ أثيراً في تجربتهِ الفنّية، فثقافتهُ الواسعة، ووعيهُ التام، جعلاهُ أقدر من غيرهِ على تفعيل الإبداع وجودياً، والدفاع عن هذا الاستخدام الجديد نقدياً، ولعل رسالته إلى سهيل إدريس في 7/5/1958، قد كشفت عن عمق قراءاته في هذا الجانب، فلأول مرة يتضح للمتلقي العربي أن مدينة (تعز) اليمنية، تسمية مأخوذة من (تاعوز)، التي تعني أصلاً (تموز).

ولأهمية هذا الرأي، فإننا نقتطع هذا الجزء من الرسالة ونضعهُ بين أيدي القرّاء وأعينهم ليكون شهادة في صالح الإبداع الواعي، الذي يحمِّل الرمز موقف الفعل الخلاق، لهذا قال ردّاً على من سألهُ عن تلك الرموز: "إنّ العربَ أنفسهم تبنّوا هذهِ الرموز، وقد عرفت الكعبةُ بين إبراهيم الخليل.. وظهور النبيّ العربي العظيم جميع الآلهة البابليّة، فالعُزّى هي عشتار، واللاة هي اللاتو، ومناة هي منات، وودّ هو تموز، أو (أدون = السيّد)، كما كان يسمى أحياناً. بل إنّ العرب الجنوبيين أيضاً عرفوا هذه الآلهة. فتموز الذي يروي لنا بعض المؤرخين العرب، أنهُ رأى أهلَ حوران يبكونهُ، تحت اسم تاعوز.. عرفتهُ اليمن باسم تعز، وما زالت إحدى مدنها تسمى باسمه حتى اليوم، وتقابل تعز الذكر أُنثاهُ العُزّى. بل يخيلُ إليّ أحياناً أنّ قوم عاد وثمود قد كانوا من عبدةِ تموز: عاد، أو آد ـ العين والهمزة تحلُّ إحداهما محل الأخرى بين لغة سامية وأخرى ـ عاد = عادون، هو آدون: السيد، وثمود هو تموز".

إذا كان السيد المسيح عليه السلام، قد حلَّ راغباً في أجسادِ مريديهِ، وظلّ دمهُ سارياً في قلوبهم:

صرتُ جيلاً من الناسِ: في كلِّ قلبٍ دمي
قطرةٌ منهُ، أو بعضُ قطرهْ

فإنّ شعر السياب/ دمهُ قد حلَّ هو الآخر في بعض تجارب الأجيال الشعريّة التالية لهُ رغبة منهم، مع سبق الإصرار والترصّد، وليتهم اعترفوا بهذا التأثر، وأومأوا إلى أمكنةِ حلولهِ، وتركوا المكابرة، وتحلّوا بالأمانة الإبداعيّة في أقلِّ تقدير، لأننا وجدنا بعض مريديهِ ممن كانوا يعبُّونَ من بويب عبّاً، قبل إحكامهم الصنعة، قد تجّرأوا على إلقاء بعض الحصى في "بويب" ناكرين أنهم قد عبّوا منهُ، أو حتى ارتشفوا منه رشفات، إنهم كانوا قد تجاوزوا مرحلة الظمأ، وهم في قرارة أنفسهم كاذبون يدركون جيدا ان الزبد يذهبُ جفاءً، وأنّ ما ينفعُ الناسَ هو الذي يمكث في الأرض، ويبقى. ولسوف يدركون عاجلاً أم آجلاً أنهم لن يتركوا بعدهم منازلَ عظيمة في بيتِ الفن كما تركها السياب، ولن يجد الصادي عندهم نهراً كبويب يعبُّ منهُ ساعة الظمأ.
رَحِم اللهُ السيّاب الذي توحَّد بالسيد المسيح عامداً، فماتَ ليلة عيد ميلادهِ المجيد في 24/12/1964.

الشرق الأوسط- 24- 12- 2004

****

سياب القراءة الجديدة : الشعر من المعترك التاريخي إلى المعترك الداخلي

فوزي كريم

عزلة السياب عن المعترك الأيديولوجي الصاخب في محيطه العراقي والعربي كانت عزلة "شعرية" عميقة غير ظاهرة. الشعر، وليد المعترك الداخلي، لم يترك للسياب فرصة الخوض في المعترك الخارجي إلا في الظاهر، بسبب ضعف شخصيته، وانعدام إرادته، وسهولة مكسره، ومحدودية ثقافته أيضاً. ولذلك فإن كل انتماءات السياب، وحماساته الأيديولوجية، هوائية، وقشرية، ووليدة استجابة لا يد له عليها رغم كل المسحة الجدية التي منحها لها النقاد لأنهم يرون الشاعر، ببساطة، عبوة أفكار ومواقف مسؤولة، وملتزمة، لا عبوة مشاعر والتباسات ناسفة.

كان السياب ماركسياً حيناً، وقومياً عربياً حينا آخر، بسبب ضعفه وبسبب الضغوط القاسية واللا إنسانية من محيطه الثقافي. كان يجب عليه أن يتقبل من المحيط الأقوى الهوية المفترضة. وهل يمكن أن يواصل شاعر وأديب منذ الخمسينات كونه شاعراً وأديباً من دون هوية ؟ ماركسية السياب أعطته موقعاً ممتازاً. ثم حقق امتيازاً أكثر حين صار قوميا عربياً، وأخطر حين توهمه البعض في رحاب القومية السورية. ولذلك أعتقد أن فهم شاعرية السياب لم يحن زمانه بعد تماماً. حين تلغى الهوية ويتلاشى شاعر القضية سيضع الفضاء المفتوح كل شاعر في مكانه الذي يستحقه.

شعر السياب ذهب، بفعل عزلته العميقة غير الظاهرة، بعيدا باتجاه الانسان العراقي كإنسان. باتجاه الانسان عاريا من الانتساب الوطني، القومي، الأممي أو الطبقي. يمكن بالتأكيد لإنسانه أن يظل عراقيا وعربيا وطبقيا.. ولكن كخصيصة إنسانية، لا تشكل "النموذج الذهني الأمثل" للوطني، القومي، الأممي، والطبقي، الذي فرضته المشاعر العقائدية، والذي ألفناه في قصائد الملتزمين من أبناء جيله والأجيال اللاحقة.

بهذا المعنى سيقرأ الناس والنقاد السيابَ بطريقة جد مختلفة، طريقة أكثر صحية ووفاءً، لا لشعره وحده، بل للشعر جملةً. سيقرؤون "أنشودة المطر" عارية من المعاني التي فرضت عليها بفعل هيمنة "الالتزام بالمعاني الوطنية والاجتماعية" في الستينات والسبعينات. سيُفهم الجوع العراقي، والحزن العراقي الذي يبعثه المطر، ونشيد المهاجرين: مطر، مطر، مطر..." بصورة أعمق من المعنى الظاهر النفعي الذي فرضته الذائقة الملتزمة. والتي لا تقرأ الشعر إلا كمادة تؤكد مصداقية الأفكار الملتزمة.
الرائع أن السياب سيبقى في ذاكرتنا مجتمعاً، من دون استثناء في قصائده. الحكمة من ذلك أن الشاعر الذي ينصرف للإنسان، ولمعتركه الداخلي ـ لا المعترك الخارجي ـ يبقى شاعراً حتى في أسوأ قصائده. للسياب قصائد ضعيفة. يعرف ذلك من قرأ :

"وما من عادتي نكران ماضيّ الذي كانا
ولكن كل من أحببتُ قبلك ما أحبوني"

فيض من الميوعة والمباشرة. ولكنه فيض شعري على كل حال، يشف عن ميوعة ومباشرة إنسان منقاد من داخله (لا من خارجه!)، حتى في أضعف لحظاته العقلية والروحية. عدد من شعراء جيله والتالين عليهم سيخلفون قصائد يمكن لقراءتنا الجديدة ان تفرز منها الشعر وتهمل ما تجده دخيلا على الشعر، لأنه لا يقود الى داخل إنساني مهما كان ضعفه والتباسه. بل يقود الى استجابة مملاة من الخارج. مع السياب لن يحدث ذلك، لأن أضعف قصائده هي وليدة داخل إنساني فريد الهوية، وحي. هذه الفرادة ولدت من لحم، ودم، وروح، وعقل، وتطلعات، وانكسارات، وقوة، وضعف، وكلية، ومحدودية الانسان، الذي هو السياب الشاعر. وما من ثمرة أو زبدة، تُقطف من هذه التجربة الشعرية، يمكن أن تُختزل بكلمة، أو فكرة، أو قيمة.
الكلمات في تجربة الشاعر، الذي ينصرف للمعترك الداخلي، تنطوي في كل صيغها على معنى الفعل لا الاسم. والأسماء، كما يرى عالم النفس أريك فروم، هي الرموز المناسبة للأشياء التي تشجع على التملك، بينما الأفعال هي الرموز المناسبة للنشاط والفعل، الذي يشجع على الكينونة.

ولنقرأ هذا في قصائد السياب، ولننتخب موضوعة "الموت" الطاغية في تجربته الشعرية.

هناك إقبال واضح على كلمة "الموت" في الشعر العربي، قديمه وحديثه بصورة خاصة. هذا الإقبال على مفردة الموت يخفي، بفعل السيادة اللفظية، دافعاً سايكولوجيا يتنافى مع مهمة الشعر، لأنه يعزز التزوير. هذا الدافع السايكولوجي يكمن في الرغبة اللا واعية لاستخدام مفردة "الموت" كرقية لاتقاء شر الموت. اللعب على الاسم لاتقاء شر المسمى. السياب لم يفكر بالموت بل استشعره، وعاشه. وهو لم يكتب عنه، بل كتب فيه، ومن خلاله. والنقاد لا يحسنون إدراك ذلك لكي يكتبوا عن "موت السياب" في شعره، بل هم يفضلون دائما الكتابة حول "الموت عند السياب". لأنهم اعتادوا، بفعل العرف الشكلي والحذر من الانفراد بالهوية الداخلية، على التعامل مع مفاهيم وأفكار مستقلة وقائمة خارج الشاعر.

يمكن تلمس هذا أكثر إذا ما قارنا تعامل شاعر مثل أدونيس مع الذاكرة، وتعامل شاعر مثل السياب. الأول يستعيد ذكرى شخوص تاريخية "كقناع" فني، كما تحلو للنقاد التسمية، أو يستعيد المدن العربية الكبرى (بيروت، القاهرة، صنعاء...) فيؤرخ لها "داخلياً"، كما يحلو للشاعر والنقاد التسمية. ولكن هذه الاستعادة في حقيقتها لا تعدو استعادة ذاكرة عقلية، ونفعية، عمادها المنطق، حتى في العلاقة بين الأضداد والمتناقضات. والذاكرة، وخاصة الشعرية، يتلاشى فيها العقل والمنطق. قاهرة أدونيس هي القاهرة المدينة ولكن أعاد بناءها بكلمات واستعارات وعناصر مخيلة قدمت كل ما من شأنه أن يقنع القارئ بأن أدونيس ليس إلا مؤرخ من طراز فني. جيكور أو بويب السياب تحولا في لحظات استعادتهما من قبل الشاعر الى مدينة ونهر لا ينتسبان للزمان التاريخي الظاهر، بل لزمان السياب الداخلي. الزمان الخالد. تماما كما تخلق الأساطير في مخيلة الشعوب.
سياب القراءة الجديدة سيستعيد مكان الريادة، لا كمجدد في حقل الرطانة الشكلية غير المثمرة، رطانة محدثي المصطلح المترجم وحقل المعترك التاريخي، بل كمجدد في حقل إعادة الشعر الى حرمة المعترك الداخلي.

الشرق الأوسط- 24-12- 2004

****

تشظّي الصوت السيابيّ... في أصوات لاحقة

كمال سبتي

أربعون عاماً مرت على موت الشاعر والمريض والعراقي بدر شاكر السياب، والسجال حوله قائم.
فُتِنّا باسمه وبشعره شباناً ولم نتخلَّ عن قراءته التي تزيدنا متعة كلما تقدم بنا العمر. وأحسب أن شعره سيظل يصاحبنا حياتنا كلها بعد أن خرج من حدود معاييرنا النقدية واكتسب نظرة إليه ترقى إلى تلك النظرة إلى الآداب الكبرى في حياة الشعوب.
ما الذي فعله السياب في الشعر العربي؟
سؤال قد يكون جوابه الواضح عند رفاقه الأوائل الذين اتبّعوه كصاحب رسالة لم يعرف أن يكون أستاذ أحدٍ مّا قط في الحياة، على رغم أن بعضهم حاول في ما بعد سرقة الجهد الفني والتاريخي كله. لكن لنحاول الإجابة، إجابتنا، إجابةَ أجيال لاحقة تكوَّن لها منظور زمني كاف وحافل بالبحث وتتبعِ الامتداد الفني والتاريخي للإنجاز الشعري الذي جاءت به رسالة بدر.رسالة بدر كانت تغيير الشعر العربي الموروث من القدم وتكوين شعر جديد. وقد تحقق هذا حقاً وها إن العرب من المغرب إلى بغداد يكتبون شعراً جديداً موزوناً أو متخلياً عن الوزن.
وفي هذا كُتِبت الكتب ونوقشت الأطاريح الجامعية.
ولكن على أهمية ما تحقق، وهي أهمية بالغة في تاريخنا العربي، فإن بدراً جاء بأمر مهم آخر هو: الصوت الشعري الشخصي الذي بدأ يتكون معه بيتاً بيتاً، قصيدة قصيدة. وانتقل منه إلى رفاقه كلهم ممن رافقوه في البدء أو ممن لحقوا به متأخرين عدداً من السنوات. لم نملك صوتاً شعرياً واضحاً وكاسحاً قبل صوت بدر. لم نتعرف إلى الصوت الشخصي لجبران واضحاً في شعره العربي قدرَ تعرفِنا إلى صوتٍ مّا كونته لنا معانيه في مؤلفاته النثرية الموضوعة والمترجمة، كان الجواهري "فرخ المتنبي" كما يقول عن نفسه وفرخ آباء آخرين كما قلت عنه قبل أسابيع قد وجد في تقربه إلى الأصل الأول روحاً له، وكان لشوقي آباء لا يحصون فيضيع في هوية تقليدية عامة، وهذا ما نقوله عن شعراء كبار مثل الياس أبي شبكة والرصافي وعلي محمود طه... إلخ. فلم يمتلك أحد منهم الصوت الشخصي تماماً. كانوا شعراء مجيدين لكنهم كانوا أسرى شكل الشغل الشعري في قرونه كلها وأسرى معانيه في الحال الأعم. فكانت أصواتهم الشخصية تضيع بين أصوات الشعراء وأشباح الشعراء الذين أبرزهم التاريخ والذين يخفيهم التاريخ في مكان مّا منه أيضاً.
وكان السياب ابنهم وابن آبائهم كلهم. لكنه كان يؤسس شعراً جديداً، فكان التأسيس نفسه يكوّن له صوتاً شخصياً جديداً تصاحبه فيه - إضافة إلى موهبة نادرة - المهارة الشخصية والتراجيديا الشخصية والظرف الموضوعي العام. صوت بدر هو صوت شعري أول في الشعر الحديث وصوتٌ أبٌ تشظى في الشعراء العرب كلهم. وقد لا يسع المجال لهذا الكلام أن يكون بحثاً مدرسياً عن هذا التشظي كله بمثال عربي عام فأكتفي بشيء من مثاله العراقي.
لا نملك في الشعر العراقي الذي وُلِدَ بعد تجارب بدر أصواتاً كثيرة. نملك شعراء كثيرين، خرجوا من صدى صوت بدر. لم يستقلّ بصوته الشخصي، في ما بعد، إلاّ عدد قليل من الشعراء.
في ذهني الآن ثلاثة، تداخلت أصواتهم الشعرية في ما بينها كثيراً، هم: عبدالوهاب البياتي (1926-2000) وسعدي يوسف (1934) وحسب الشيخ جعفر(1942).
كتب البياتي أول أربع قصائد له من الشعر الجديد تقلد السياب كلها في "أباريق مهشّمة" الصادر عام 1954، وكتب سعدي أول قصيدتين له من الشعر الجديد في ديوانه "أغنيات ليست للآخرين" الصادر عام 1955 مؤرختين بعام 1953، الأولى "غضب حزين" لا علاقة وطيدة لها بتجربة البياتي، والثانية "تخطيط أوّلي عن حصار غرناطة" وهي قريبة من شعر البياتي اللاحق، وإذا ثبت تاريخياً أن سعدي كتبها قبل أن يكتب البياتي شعراً حديثاً نكون حقاً أمام نكتة نقدية ثبِّتتْ بحيل مرةً وبغباء مرةً أخرى في النقد العراقي. ممّا يستدعي معها ومع القصيدة الأولى وقفة لترتيب الرأي النقدي القائل بتبعية سعدي في البدء للبياتي. لقد اشتبكت تجربتا البياتي وسعدي في الدواوين الأولى كثيراً قبل أن تنفصلا عن بعضهما بعضاً. وتعلقت تجربة حسب الشيخ جعفر بتجربة البياتي حد التأثر الواضح، وبحدة أقل بتجربة سعدي، قبل أن تنفصل عنهما الانفصال المعروف فنياً في الشعر العراقي، بل ان البياتي وسعدي، تأثرا بتجربة "حسب" في بعض قصائدهما لاحقاً. لا تُقرأ تجربة التجديد في الشعر العراقي في البدء من دون انتباه قوي إلى العروض، فقد كان الشغل الأول شغلاً عروضياً في الدرجة الأساس، وتأسيساً لعروض جديد للشعر العربي.
كان السياب يجرب في العروض من بحر إلى آخر، ليخلق عروضاً للشعر الحديث، وكان الآخرون متأثرين لا محالة بما يفعل. قصائد البياتي الأربع - كلها من بحر الكامل - في ديوانه الصادر عام 1954 كانت تقليداً لقصيدة السياب "في السوق القديم" المكتوبة عام 1948 والتي كانت من بحر الكامل. يبدأ السياب قصيدته البداية الآتية: الليل، والسوقُ القديم / خفتتْ به الأصواتُ إلاّ غمغمات العابرين / وخطى الغريبِ وما تبث الريح من نغم حزين". ويبدأ البياتي قصيدته: "سوق القرية" - لاحظوا العنوان - البداية الآتية: "الشمسُ، والحمر الهزيلةُ، والذباب / وحذاء جنديّ قديم". ويبدأ البياتي قصيدته: "القرصان" - لسعدي قصيدة من الشعر العمودي، بالعنوان ذاته، وهي كتابه الشعري الأول، وقد صدر عام 1952 - البداية الآتية:
"غليونه القذر المدمّى والضباب، / وكوة الحان الصغير". ويبدأ قصيدته "الأفّاق" البداية الآتية: "سكتت وأدركها الصباح، وعاد للمقهى الحزين". ونقرأ في القصيدة الرابعة "مسافر بلا حقائب" من بين شواهد عدة فيها: "مستنقع التاريخ والأرض الحزينة والرجال / عبر التلال". هذا يعني أن البياتي جاء إلى الشعر الحديث عندما كان السياب أنجز قسطاً وافراً من رسالته، ولنتذكّرْ هنا أمراً آخرَ، هو أن السياب كتبَ في العام 1954 قصيدته "أنشودة المطر" وهي من بحر الرجز، ليُدخِلَ هذا البحرَ في الخدمة فعلياً حاله حال البحور الأخرى كالرمل والكامل والمتقارب والمتدارك... إلخ. و"أنشودة المطر" تمثل مرحلة فنية متطورة في الشعر الحديث كما نعرف جميعاً. ويبدو سعدي في قصيدتيه اللتين أشرت إليهما سيابياً في الأولى وسيابياً وبياتياً في الثانية، وللتدليل على بياتيته، نقرأ من الثانية "تخطيط أولي عن حصار غرناطة"، وهي قصيدة من بحر الكامل، كتبت عام 1953 في بغداد كما يقول ديوان "أغنيات ليست للآخرين": "رمياً! وتنطلق السهام / رمياً! ويسقط قائد الأعداء تسحقه الخيول". ولكن ماذا لو أنّ سعدي كان كتب قصيدته هذه قبل أن يقرر البياتي دخول الشعر الحديث؟
سنؤخر الجواب قليلاً. أمّا قصيدة "غضب حزين" التي هي من بحر الرمل فهي تعلن انتماءً واضحاً الى بدر: "لا تعودي / غَضِبَ البحرُ وجرحي / والرياح". وفي هذه القصيدة يشذ سعدي في التقنية قليلاً عن غيره، لكن لا أحد على حد علمي قد انتبه إلى ما فعل. لننتبه كيف تنتهي القصيدة: "واحتواني المعبر المظلمُ، والنهر ُالبخيل / شاحب الأمواجِ..."، ألحانُ مضاء / ثمّ أغمضت عيوني / والرذاذ... فقد جاءت الرذاذ وحيدة من دون قافية شبيهة سابقة، وفي الأعراف الشعرية لعام 1953، كان هذا الأمر خروجاً ما. انك لا ترى البياتي في هذه القصيدة، لكنك كنتَ رأيتَه في القصيدة الأخرى والتي قد تكون سابقة على البياتي...!
سيكون لزاماً علينا هنا أن نتذكر على الدوام الصوت الأصل، صوت بدر شاكر السياب المتشظي في الشعراء. وأن البياتي الذي رأيناه في سعدي قبل أن يكتب البياتي شعراً حديثاً إنما كان صوتاً متفرعاً من الصوت الأول: صوت بدر. وينسحب الأمر ذاته إلى حسب الشيخ جعفر، الذي أخذ صوته الشعري من البياتي مباشرة. نقرأ له في قصيدة "الكهف القديم" من الرمل من ديوانه "نخلة الله": "أيها الكهفُ القديم / ها أنا أعوي على بابك كالذئبِ، طريداً أستجير / ها أنا في نزعِ الروح الأخير / في يدي النارُ التي تنفخُ روحاً في الهشيم". غير أن استقلاله سيتم لاحقاً عندما يبدأ الكتابة الشعرية المدوّرة، نقرأ له في الرباعية الأولى "وهي من الرجز" من ديوانه "الطائر الخشبيّ": "الزمنُ اليابسُ يا حبيبتي كالقشّ في أصابعي. أرتجفتُ مثلَ الوتر المشدودِ في انتظار لون الثوبِ. وامتلكتُ في وجهكِ خفق النورسِ الغريقِ. وارتحلتُ في انزلاقةِ اليدينِ حتى العروة الأخيرة. اتكأتُ في الظلّ على انحناءة الشفاهِ. هل أتركهُ ينصبّ كالجدول؟ "فرَّ الشَّعرُ الثقيلُ كالنهر". لقد دوّر حسب الشيخ جعفر صوته المأخوذ مباشرة من البياتي، فامتلكه مستقلاً بموهبة ومهارة شعريتين، شخصيتين.
اذاً نحن هنا أمام حركة تنقلية للصوت الشعري الأول من شاعر إلى آخر، لكنها حركة صعبة وقاسية.
فبمقدار ما تقتل التفرد الشخصي للشعراء وتجعلهم أشبه ببغاوات تردد صوت شاعر واحد فذ، فإنها في الوقت نفسه قد تستقر في صوت شاعر بحُنوّ وتأخذ بيديه لامتلاك صوته الشخصي لاحقاً كما حدث مع البياتي وسعدي وحسب... عندما تتوافر الموهبة والمهارة الشعريتان، الشخصيتان.
لقد أدركت الحداثة الشعرية العراقية كل هذا وهي تشق الطريق الجديد في الشعر العراقي. واحتفظت لهذه الأصوات بالتحية، والاستذكار بما يُشبه التكريم في كل خطوة خطتها وتخطوها في طريقها الطويل.

الحياة 2005/01/1

*****

الشعراء المائيون السياب نموذجًا

د. كامل فرحان صالح

الماء تطهير وشرط للخصب، ألم يطهر الله الأرض بالطوفان؟، ويخلق من الماء كل شيء حي (2)؟ وعندما لا تمطر السماء، ألا يقيم المسلمون "صلاة الاستسقاء" تضرعًا لله تعالى، وذلك كي يغيث الأرض والعباد؟ وعندما يصعد المؤمن إلى السماء، ألا يسكن في جنة تجري من تحتها الأنهار؟ وألم يقدم السيد المسيح الماء إلى تلامذته، قائلاً: "اشربوا هذا دمي".. ومشى فوق الماء.. وتعمّد بالماء (3) ؟ وحوّل الماء إلى خمر في عرس الجليل، وكانت هذه أولى معجزاته (4)؟.

لذا يعتبر الماء من العناصر المقدسة في الأديان وبخاصة عند المسيحيين، إذ ليس يقدر أحد الدخول ملكوت السموات ما لم يولد من الماء والروح (5). من هنا كانت المعمودية بالماء بمثابة العودة إلى رحم الأم ليولد المؤمن من جديد(6). ويقول السيد المسيح: من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا له، فلن يعطش أبدًا، فإن الماء الذي أعطيه له ينقلب فيه نبعًا يتفجر حياة أبدية(7). كما ارتبط رمز الماء بمريم العذراء في صلوات الكنيسة: "افرحي يا ينبوع الماء الحي الذي لا يفرغ(8)".

ويمكن القول إن الماء رمز من رموز الأمومة(9)، وهو الحركة التي تدعونا إلى السفر، لأن المياه الجامدة توحي بالموت وتدعو له(10). لهذا يمكن اعتبار الأم والماء من رموز المسيح التي تشير إلى ثيمة الموت والانبعاث(11).
يلحظ، بدءًا من ذلك، مدى أهمية الماء لا للبشر وحسب إنما للدين أيضًا، وهو كذلك للشعر العربي الحديث.
لعل أكثر الشعراء العرب "مائية"، إذا صح التعبير، هو بدر شاكر السياب(12)، إذ قلما لا نجد الماء وعناصره في شعره. وبتأمل عناوين قصائده(13)، يجد المرء في ديوانه أزهار وأساطير: قصيدة "أقداح وأحلام"؛ والقدح إشارة إلى الخمر - الماء، وقصيدة "نهر العذارى". وفي ديوانه "المعبد الغريق" يبرز رمز الماء منذ البداية: الغريق، والغرق يكون عادة في الماء، وقصيدة "الغيمة الغريبة"، و"يا نهر"، و"صياح البط البري" والبط من الحيوانات المائية. وفي ديوان منزل الأقنان، قصيدة "هدير البحر والأشواق"، و"أسمعه يبكي". وفي ديوانه أنشودة المطر، أكثر دواوينه "مائية"، تأتي قصيدة أنشودة المطر - عنوان المجموعة - أبرز قصائد السياب، وأشهرها ارتباطًا برمز الماء وتحولاته وعناصره، ثم القصائد: "غريب على الخليج"، والخليج من قاموس الماء، وقصيدة "قارئ الدم"، و"النهر والموت"، و"مدينة بلا مطر"، وقصيدة "بور سعيد" وهي مدينة مصرية ساحلية.

يلاحظ، أن تدفق استخدام رمز الماء، وعناصره، وإشاراته، وتحولاته في عناوين قصائد السياب بدأت قليلة، ثم توسعت إلى أن شحت في ديوانه الأخير "شناشيل ابنة الجلبي وإقبال"، حيث غاب رمز الماء كليًّا عن عناوين قصائده، ولعل ذلك يرمز بشكل أو بآخر، إلى النهاية - الموت، أو "هرم تموز - المسيح" الذي لم يعد بإمكانه أن يموت ويعود إلى الحياة. وهذا لعله يتقاطع مع المراحل الأربع التي مرّ بها السياب وشعره(14)، وهي:

- الرومانسية 1943- 1948.
- الواقعية 1949- 1955.
- التموزية أو الواقعية الجديدة 1956- 1960.
- الذاتية 1961- 1964 (15).

فالمرحلة التموزية أو "المرحلة المائية" هي عهد بدر الذهبي، وذروة مجده، وأثبت ريادته للشعر الحديث بجدارة، بعد أن تراجعت نازك الملائكة. كما أثبت في هذه المرحلة تمثله لتجربة ت.س. إليوت تمثلاً حيًّا، ويبدو ذلك واضحًا في عدد من قصائده. أما المرحلة الأخيرة من حياة بدر: الذاتية، فهي فقيرة ومحزنة؛ لقد واجه قدره، وأصبح يدافع عن "مجرد بقائه". الموت لم يعد رجولة ولا حبًّا ولا فداء، بل أصبح عبثًا. إن قارئ شعره في هذه المرحلة: (المعبد الغريق ومنزل الأقنان، وشناشيل ابنة الشلبي وإقبال) يلمس كيف أصبحت الحياة في نظر السياب موتًا فقط.. الموت الحقيقة الوحيدة في الوجود(16).
لكن الماء ضد الموت، والمسيح- تموز كذلك، والسياب - ما قبل المرحلة الأخيرة - لمس في شعره هذا الانبعاث المتجدد، حيث الماء يجري، والمسيح يعود من الموت، وبعد الجدب ينهمر المطر.
علاقة السياب بالماء علاقة حياة وأمل وثروة للمقهورين وثورة ضد الظلم والتحرر من السلطة المستبدة. من هنا تمكن السياب إعطاء معان جديدة وفضاءات مفتوحة للآية القرآنية: ?وجعلنا من الماء كل شيء حي?، ولطقس المعمودية عند المسيحيين، فاتسعت دلالة الماء وأبعاده، ليلمس في شعر السياب حلم الأرض والإنسان والسماء، والولادة الجديدة معًا.
لعل قصيدة "أنشودة المطر" للسياب من أكثر القصائد التي تناولها النقّاد العرب المعاصرون(17)، ويمكن القول إن هذه القصيدة مرت عليها المدارس النقدية الحديثة كافة، وقد رسمت فيها بيانات ودوائر، حتى باتت الصفحات التي كتبت فيها وعنها تتسع لعدد من المجلدات.
أمام هذا الوضع، ماذا يمكن أن يضيف هذا البحث؟ لعل الإجابة، تكون أن البحث سيتناول هذه القصيدة، أو مقاطع منها وفق السياق المتعلق عليه، ألا وهو مدى استفادتها من النص الديني المقدس، وتقديم انزياحات تشكل المفصل بين النص الإبداعي الذي يتجدد كلما قرأته، والنص العادي الذي يموت أحيانًا قبل أن تقع العين عليه. ومما لا شك فيه أن قصيدة أنشودة المطر تنتمي إلى القراءة الأولى، حيث يجد المرء نفسه أمام نص يضج بالروح التموزي - المسيحي، نص شفاف ممتع، تعشقه الذاكرة وتحن إليه كالحنين إلى الحبيبة الأولى.
يستهل السياب نصه بوصف امرأة ما، وهذه المرأة غير المحددة المطلقة تشكل مفتاحًا أساسيًا للقصيدة، إذ من خلالها ينطلق السياب ليقول ما يريد ويفعل ما يريد: ينتفض، يشكو، يثور، يصرخ، يبكي، يجوع، يشرب، يموت / يحيا.
يقول:

عيناك غابتا نخيلٍ ساعة السحر،
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر،
عيناك حين تبسمان تورق الكروم.

أمام هذا المطلع، تستحضر الذاكرة بدايةً، مطالع الشعر الغزلية عند الشعراء العرب القدامى، حيث تتفق على الاستهلال بوصف الحبيبة والتغزل بجمالها، واللوعة من فراقها. غير أن السياب تخطى هذا الأسلوب ليضخ هنا بعدًا آخر، وتتحول عين هذه المرأة إلى فعل خلق وولادة، أشبه بالمعجزات التي يحققها الأنبياء.
هل هذه المرأة هي الإلهة عشتروت، أو هي إنزياح لرمز المسيح - تموز، حيث يتحول الـ "هو" إلى الـ "هي"؟. أو "هي" العراق وطن الشاعر، وقد أشار إليها بغابتي نخيل، والعراق يعرف عادة بأرض السواد، والسواد المقصود هنا، هو دلالة على كثافة أشجار النخيل المزروعة فيه؟
لعل هي كل هذا، عشتروت والعراق والمسيح المتمثل هنا أيضًا، بالكرمة التي كانت رمزًا له وبعثًا لكل حي.
يدخل السياب منذ البداية في لعبة المشهد، حيث الحركة تنبعث في الأشياء - كل الأشياء - من خلال نقطة ارتكاز واحدة هي العينين؛ فهو ينطلق من "وميض" ليمتد إلى الأرض وزرعها، السماء وكواكبها.
ثم ينهمر المطر، رمز تموز إله الخصب والنماء وزوج الأرض وابنها الذي يقوم بتخصيبها واضعًا في أحشائها بذرة الحياة. إلا أن الحياة التي بدأت ترتعش في الطبيعة، تتكشف عن "مساء يتثاءب" و"دموع ثقال" "كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام".. ماذا حدث؟ لم توقف كل هذا الفرح فجأة، واستفاقت ملء روح السياب رعشة البكاء، حيث امتزجت دموعه بدموع المطر، ولم يعد بالإمكان التفريق فعلياً بينهما؟.
يواصل السياب الدخول عميقا في رحلة موت المطر/ الدمع في عمق الأرض، لتبرز طفلاً فقد أمه، سمع أنها ترقد "هناك في جانب التل تنام نومة اللحود" "تسف من ترابها وتشرب المطر".
الأم / الأرض/ الوطن، هذه الثالوث المقدس ينفرج بالتدريج في سياق القصيدة، متوحدًا في بوتقة المطر المنهمر من السماء / فوق ومن الشاعر/تحت، إلا أنهما يلتقيان معًا عندما ينقران قشرة التراب، ليدخلا في رحم الأرض ويزيلا غشاء "العتمة".

"أتعلمين أي حزنٍ يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
بلا انتهاء - كالدم المراق، كالجياع،
كالحب، كالأطفال، كالموتى - هو المطر‍"(18)

يقف السياب بين مطرين، مطر الحياة ومطر الموت، ففي الأولى، التي تأتي لاحقًا، ثمة قيامة لا بد منها لتستمر الحياة نفسها، أما في الموقف الثاني فثمة "جوقة" متنوعة، وثمة لغة يائسة تهرّ بالتشبيهات دون أن تدرك ما تقول، كأنها تهذي، أو هي تهذي فعلاً: إذ كيف يمكن أن يشبّه المطر بالدماء والجياع والموتى من جهة، وبالأطفال والحبّ من جهة أخرى، غير إنسان مليء بالحزن والألم والغربة؛ إنسان شفاف كالماء، لا يخفي ما يمر عليه، بل يعكسه ويصبح جزءًا من شكله العام. فالسياب هو المطر، بتناقضه ووضوحه وموته وولادته. هنا يتداخل السياب/ تموز - رمز المطر - مع المسيح الذي معه ترسخ مفهوم قداسة الماء، وضرورته لتطهير البشر من الخطيئة الأولى. والسياب يبكي، ويتألم، ويلمس الدماء والموتى، والمسيح فعل ذلك أيضًا، مع اختلاف في التفاصيل، فالأول يريد لشعبه الحياة والأمل والحرية، أما الآخر فيتحمل عذاباته وآلامه لأجل البشرية كلها.

أصيح بالخليج: "يا خليج
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى!"
فيرجع الصّدى
كأنه النشيج:
"يا خليج
يا واهب المحار والردى.."

الواهب هو الله، لكن السياب ينحرف في صلاته، ويطلب العون من الخليج، الغني باللؤلؤ، رمز الثروة والبذخ والحياة الكريمة، إنما هذا الخليج يتحول إلى واد قاحل لا مستجيب فيه ولا إنسان، فيعود صدى الصلاة، إنما بدون لفظة "اللؤلؤ"، يسقط منها، وكأنه لا يريد لهذا المنادي أن يستمتع، حتى، بما تحمله اللفظة من معانٍ وأبعاد.
يواصل السياب نسج أنشودته، فيكاد يسمع العراق يذخر الرعود، ويخزن البروق، حتى إذا فضّ عنها ختمها الرجال، هبت رياح الثورة، ومحت كل شيء أمامها، كما فعل الله في "ثمود". هنا يوظف السياب في قصيدته، مرة أخرى، رمزًا من رموز الفعل الإلهي ليحيله على فعل إنساني "الرجال"، وكأن غضبهم يتماهى مع غضب الخالق على ثمود، التي فسُد أهلها فيها، ففجروا، وكفروا، فاستحقوا العقاب.
إنما الأمل عند السياب يأخذ مكانه، دائمًا، فبعد اليباس والجوع والموت والقهر، المنفصل عن المطر/ الحي والمتصل بالمطر/ الدمع، ثمة مطر متوحد بالإنبعاث، بـ "مبسم جديد / أو حلمة تورّدت على فم الوليد/ في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة"(19).
إن المطر لم يطهّر أرض العراق من الجوع في البداية، إنما مع الموت، أخذت النتيجة مسارًا آخر، هو الخروج إلى الحياة. لأن الجفاف لن يستمر، والمطر يهطل ممزوجًا بدم العبيد، ويغدو كل فرد من أبناء العراق تموزًا ومسيحًا يهب بموته الخلاص، والحياة.
وإذا تأخر رمز الماء للدخول في قصيدة أنشودة المطر، فإنه "يبلل" منذ البداية، قصيدة السياب "النهر والموت"(20). وقد ورد فيها ثلاث وأربعون إشارة إلى الماء موزعة على العنوان، والمقاطع بحسب أجوائها ودلالاتها(21).
عالج السياب من خلال عالم الموت موضوعين أساسيين هما: الحياة في الموت، والموت في الحياة، وهذه الرؤيا للموت قادته إلى جعل الصراع بين الموضوعين واضحًا في قصيدة "النهر والموت"، وأن اختيار الماء في هذه القصيدة هو اختيار الموت كتجربة، تجتازها الذات الفردية والجماعية، لتكشف إمكانية التحول الذي هو مفهوم أساسي من مفاهيم الحداثة العربية (22). وفي خضم ذلك يستحضر المسيح ومعجزاته وتموز المرتبطين في النسق المائي.

بويب..
بويب..
أجراس برجٍ ضاع في قرارة البحر
الماء في الجرار، والغروب في الشجر
وتنضح الجرار أجراسًا من المطر

كما يلاحظ، أن هذه المقطع من "النهر والموت" لا يبتعد عن أرضية قصيدة "أنشودة المطر"، بل ويمكن القول إنهما معًا يشكلان وحدة متداخلة تتوسل عنصر الماء لتأكد فعل التضحية من أجل حياة أفضل.
"بويب" نهر يقع في قرية الشاعر التي تدعى: جيكور، ومن خلال هذا النهر/ البداية، يدخل السياب في لعبة الزمن، فيعود للوراء ليموت في الحاضر، وينتصر في القادم من الأيام. ويتخذ، لتحقيق هذا الفعل، عناصر متنوعة، غنية في دلالاتها، وحضورها الديني. فـ "الماء في الجرار"، تحيل إلى معجزة المسيح الأولى، وهي تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، إنما السياب يحور هذا الفعل التحول/المعجزة، ليتحول الماء في الجرار إلى أجراس من المطر، أي يعود الماء إلى دورته الطبيعية، المقتصرة هنا على نصف الدائرة: الماء - المطر مباشرة. إنما هذا النهر يكتسب خاصية للبشر، وهي "الحزن":

فيدلهم في دمي حنين
إليك يا بويب،
يا نهري الحزين كالمطر.

النهر/ المطر انعكاس لذات السياب، لدمه المتصل به. هذا الاتصال: الدم/ المطر، الذي يرد في أكثر من مكان في ديوان السياب(23)، هو حضور مسيحي بامتياز، وهو حضور الحياة، فجريان الدم صنو الحياة في الإنسان، وجريان الماء في الأرض صنو الزرع والثمار والتجدد، فهما يكملان بعضهما، وقد تمكن السياب أن يبرز هذه التكاملية في شعره.

وأنت يا بويب…
أودّ لو غرقت فيك، ألقط المحار
أشيد منه دار
يضيء فيها خضرةَ المياه والشجر
ما تنضح النجوم والقمر،
وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر!
فالموت عالم غريبٌ يفتن الصغار،
وبابه الخفي كان فيك، يا بويب..(24)

السياب يتمنى الغرق/الموت في النهر، لكن هذه الأمنية لا تعكس رغبة غياب تامة، إنما هي رحلة موت للعودة ثانية مصاحبة بتحقيق الأحلام، إنه - على حد تعبير خالدة سعيد - غرق يحيي(25)، غرق الموت فيه حياة، وهذا الفعل، في الواقع لا يكون إلا في رحم الأم، فهو الحيز الوحيد الذي يكون الموت فيه حياة، باعتبار أن موت النطفة حياة الجنين، وموت الجنين حياة الطفل(26). ويدعم هذا التأويل الدار المشيدة من المحار، الدار الغارقة في قرارة النهر، فالمحارة حاضنة الحياة رمز من رموز الأمومة(27). وقد اكتسبت بعدًا جنسيًّا للشبه الوظيفي بينها وبين رحم الأم. كما يلاحظ أن أوصاف هذه المحارة - الدار هي أوصاف فردوسية : الطمأنينة، الخضرة، الماء، الأنوار الندية(28).
تتداخل في هذا المقطع دور أو أحضان ثلاثة هي: الرحم/ الدار الفردوسية/ العالم الغريب. وتنتمي هذه الدور إلى مستويات ثلاثة: المستوى الذاتي، أو مستوى الوعي الباطن، المستوى الاجتماعي والوعي بالقهر والحرمان، وبالتالي الحلم ببيت فردوسي، ثم المستوى الكوني، والرغبة في الاتحاد بالكون مقدمة للولادة الجديدة التي تضمرها حكمًا العودة إلى الرحم(29).
بويب / النهر يحمل وجهي الموت والحياة، فالانبثاق منه حياة، والدخول فيه حركة الحياة في اتجاه معكوس، عودة إلى الأصل، إلى المنبع، والأساطير(30) والشخوص الدينية تؤكدان هذا الوجه المزدوج للنهر: الحياة والموت، فإحالة مشهدية النبي يونس (أو يونان) الخارج من بطن الحوت، كذلك خروج النبي يوسف من الجب الذي ألقوه فيه إخوته، وما حدث مع النبي موسى عندما ألقته أمه في الماء، علّها بذلك تجنبه عقاب فرعون، هذه المشاهد تجسد فعلاً متشابهًا ومتقاطعًا هو الرحلة من الموت إلى الحياة الجديدة. ولا شك، هذا الحشد من الرموز الدينية يحضر، عندما يتلمس النص الشعري رحلة الموت/ الحياة، ويحضر بقوة وبتوسع عندما يضيف النص إلى هذه الرحلة عنصر الماء، جذر كل شيء حي على هذه الأرض.

أودّ لو عدوتُ أعضد المكافحين
أشد قبضتي ثم أصفع القدر.
أودّ لو غرقتُ في دمي إلى القرار،
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة. إن موتي انتصار!(31).

السياب ينتقل في المقطع الأخير من قصيدته من الغرق في النهر/الفردوس بحثًا عن العدل والجمال والأمان، إلى الغرق في الدم/ الحياة الجديدة. رحلة تبدأ من الكوني لتهبط على الأرض، وكأن السياب يريد أن يقول لتحقيق الرحلة الأولى/ السماوية، علينا بداية العمل على ملامسة معاناة الرحلة الثانية/ الأرضية: أعضد المكافحين- أصفع القدر - أحمل عبء البشر... من هذا المستوى الإنساني/ الألوهي يتخذ السياب بعدًا خارج إطار الفردية الذاتية ليتحد مع العام، مع المعذبين والمكافحين والمضطهدين والحالمين لحياة أفضل، فحين يصبح "الموت اختيارًا واعيًا، واتحادًا بالآخر، أو بالجماعة تكون الولادة التي يتأله بها الإنسان"(32). ومما لا شك فيه أن المسيح المصلوب يبرز هنا بتفاصيله كافة، غير أن المسافة بين "المسيحين" أن لغة المسيح/الإنسان جاءت تلامس التمني والحلم غير أنها أدركت أن موتها انتصار، وبالتالي أنه "كلما مات الإنسان بات أعظم حياة، وأقدر على الموت ثم على الانتصار"(33). أما لغة المسيح/ الإلهي فالتحمت مع الفعل والصلب/ الموت ثم الولادة الثانية.
السياب، أو صانع المطر(34)، تمكن من تحويل "الماء" إلى رمز، حيث يراه المتابع منسابًا في القصيدة، متشكلاً مع رؤيتها، مع دورانها، مع سمو الغاية فيها. لقد نفخ السياب الروح في الماء، فأنسنها، بل وشارف أن يؤلهها، معلنًا من خلالها انتصار الإرادة والسعي والحق على منطق الظلم واللاعدل والظالمين والموت. فقاموس الماء السيابي غنيّ بمدلولاته، ومفاهيمه، والإشارات التي يحيل إليها، فهو أرض وسماء وزرع وقرية ووطن وثورة وحلم وجنة وتاريخ وحاضر ومستقبل وهو أيضًا: الإنسان والله والشيطان والموت والحياة...

kamelsaleh@hotmail.com

الزمان- 2004 الأحد 26 ديسمبر

****

مزيد من الأسئلة الإشكالية حول شعر السياب!

حاتم الصكر
(العراق/ اليمن)

ضياء العزاوي- العراقتكتمل، في الخامس والعشرين من هذا الشهر أربعة عقود على غياب بدر شاكر السياب، الذي نستذكره دوماً مقترناً بتحديث القصيدة العربية، والدخول بكتابتها في أفق جديد لم تعهده في دورة حياتها الطويلة. كما تحفّ باستذكاره فكرة "الريادة" والجيل الذي ارتبط وجوده الشعري بها في تاريخ الشعرية العربية المعاصرة، والشعر العراقي بخاصة. وكأي شعر لا يكرر بل يبتكر، ولا يصالح بل يصدم، ولا يختبر بل يبتدع، فإن شعر السياب يثير مزيداً من الأسئلة كلما كرّت عليه قراءة القارئ، ويحرّض على مزيد من الكشف والتعرّف، وبهذا يمنحنا متن السياب الشعري - على رغم عمره المحدود (1926 - 1964) مناسبة أو فرصة البحث عن حداثته المتجددة، ذلك ان "شاعرية" السياب تخترق قوانين الطبيعة المتمثلة بالميلاد والموت، فهو ذو حضور يتعمق كلما أوغل في الغياب.
والأسئلة التي يثيرها متن السياب لا تزال ماثلة على رغم دخول الشعر العربي بعده مناطق بعيدة في التحديث، أكثر عمقاً وغرابة ومغامرة، أسئلة من صنف: ثنائية الموروث والتجديد، المؤثر المعرفي الرمزي والأسطوري، أشكال الشعر المقبلة - والمستلفة - من الغرب، الالتزام والحرية، مشكلة الموت والانبعاث، الريف والمدينة، تمثل الحرمان واليتم وتمثيلهما شعرياً، ولكن تلك الثنائيات التي ولّدت قصائد السياب في مراحل تطوره الشعري من العمود حتى قصائد الرمز الأسطوري، تخفي كذلك ثنائيات "ظلّية" تحكمت في بناء قصيدته، سأحاول - لمناسبة استذكاره هنا - أن أتوقف عند واحدة من أبرزها هي: ثنائية "الشاعرية" و"الشعرية".
الشاعرية - وهي ملكة أو مقدرة منظمة ذات فاعلية نصية مولّدة - أكيدة في جسدية السياب، وبها ومنها يُحال دوماً الى منجزه النصي المتحقق، حتى إذا شئنا أن يكون منجز السياب منذ أواخر أربعينات القرن الماضي في حداثة الشعر العربي مرجعاً لشاعريته ذاتها.
فالهدم الذي رافق بناء قصيدة السياب الحديثة لا يمكن إقصاؤه في قراءة استعادية كهذه، إنه الهدم اللازم والضروري للتقاليد الشعرية السائدة حتى ببعض أدواتها أحياناً وملفوظاتها ووسائلها البلاغية... ذلك الهدم المتمثل في احتشاد القصيدة بثقافة لم يعهدها قارئ الشعر العربي ولم يتسع لها بناء القصيدة ذاتها، في عمل السياب النصي، وهو أكثر من بطانة أو داخل يشف عنه نسيج قصيدته...
نقترح هنا إذاً قراءة السياب بمنافذة "شاعريته" - وهي مقدرة ذاتية - مع شعرية نصه: أي نظامه الداخلي وقوانين بنائه، مما يوصلنا الى التعرف على قدرته في تنظيم الانجاز، تلك التي أدارت خطابه وميّزته على أقرانه المصطفين تحت لافتة الريادة التحديثية الأولى بعثراتها ومصاحبات الولادة المعتادة... وحماستها...
تعود الشاعرية الى صاحبها: السياب محصوراً بين قوسي ميلاده وموته، أما الشعرية فتؤول الى نصّه: تمتماته الأولى تقليداً وابتداعاً، في إطار الحاضنة الشعرية الموروثة، مروراً بتجاربه الشكلية والموضوعية أو المضمونية، وترقيق أو تخفيف ثقل الشكل الخارجي للنص وإيقاعه وابتداع القصيدة الحرة مبكراً، وصولاً الى "أنشودة المطر" كلحظة تحديث ناقصة يعوزها الوعي بما وراء الشكل الحديث من مشغّلات وفواعل فنية وجمالية، تخص الكتابة وتلقيها في شكل خاص.
وإذا كانت الشاعرية كقدرة على التنظيم تخفي نفسها وراء أسماء كالموهبة والمهارة الذاتية والقدرة والملكة والاستعداد، فإن الشعرية كمظهر لقوانين ذاتية نصية تثير مشكلات الأداء والتشكّل واتخاذ هيئة أو بنية نصية ما.
نشير بذلك الى الصراع المحتدم بين قدرة نص السياب على التموضع في الشعر خطاباً، وتحويل الموقف من الحياة والمجتمع والذات الى حال شعرية، وبين الانجاز النصي الذي تتنازعه رغبة الهدم والبناء البديل بابتكار وسائل فنية...
وحدها القراءة ستمنحنا فرصة التعرف الى برنامج السياب التحديثي، فما يعلنه السياب من تفوّهات حاولت بعض الدراسات لملمتها وتوليفها لا ترقى الى مفردات برنامج شامل وواضح. علينا هنا أن نلتفت الى زوايا مهمّشة في شعره، ثانوية وبعيدة من الإنارة بالدرس النقدي المعتاد.
ومن ذلك نقترح هنا:
- اختراق واقعية العالم وخارجيته بالبديل الرمزي الأسطوري.
- استبدال الشخصيات بالأقنعة.
- تخفيف الغنائية بالسرد.
- التنبه الى العتبات النصية والهوامش.
- الانزياحات الصورية القائمة على تراسل الحواس.
وهي مناطق لا نحتكم فيها الى (موهبة) السياب - كما يصر دارسوه من جهة تغييب أو تقليل دوره التحديثي كما يفعل الشاعر سامي مهدي مثلاً، أو الى (العفوية) بتعبير مقدم أعماله الكاملة ناجي علوش، ولا حتى قوة الانبعاث بتعبير أدونيس في مقدمة "مختاراته" من شعر السياب، أو "الصراخ الجريح" كما يسمّي أنسي الحاج وهو يرثيه في مجلة "شعر"...
إن تلك التسميات تذكّر بالاندفاعة الشعرية التي تكتنزها قصيدة السياب، مما يعيد الى منطقة القراءة مشكلة (القصيدة والشعر) والكمّ اللازم للشعر أو منه في داخل القصيدة... وهي ثنائية غريبة تنبثق من ثنائية الشاعرية كقدرة، والشعرية كإنجاز... ولعل التفريق بين الشعر والقصيدة وعلاقتهما البنائية سيأتي من طرف شاعر هو أوكتافيو باث الذي يعطي للعلاقة شكلاً آخر، إذ يقترح أن نسائل القصيدة عن حقيقة الشعر فيها. لأن القصيدة عنده شعر مبني أي متخذ لبنية ما داخل القصيدة...
وعلى رغم مقدرة السياب على جعل الشعر خاضعاً لبناء مقصود داخل القصيدة، فقد عانى نصه من ازدحام التراكيب وتداعيها، وهو ما التفت اليه دارسو السياب واقترحوا له مسميات عدة:
- فهو "سيل من الشعر يسيل به ويسيل معه حتى الموت" بعبارة أنسي الحاج، مما سيولّد ميزة "الصراخ: صراخ وعلٍ جريح" في نصوصه...
- وهو "انسياح وفيض" بعبارة ناجي علوش الذي يشبهه بالدوائر المائية التي تنساح حتى تتلاشى وتتسع بدل أن تتعمق، لأنه بلا بؤرة ثابتة، بسبب شاعريته المتدفقة التي تحرك - كالعاصفة - حتى مركزها.
- وهو "تدفق" بمصطلح نازك الملائكة التي عممت من خلال شعر السياب هذه الميزة على الشعر الحر كله، الذي رأت انه يتدفق فلا يستطيع الشاعر إيقافه داخل القصيدة، إلا بأساليب قطع رأت أنها خارجية ومقحمة، سمّت منها - مثلاً - أسلوب "ويظل..." الذي يختم به السياب بعض قصائده الحرة...
- وهو خلق لصور مستعرضة متمددة أفقياً بمصطلح إحسان عباس...
إن هذا السيل والفيض والانسياح والتدفق والأفقية الممتدة أو المتمددة ما هو الا استحضار لشعر أكثر كمّاً مما تتطلبه القصيدة. وهكذا كلما أرادت قصيدة السياب أن تظهر للعيان أو تتحقق بالفعل: عيان القراءة وفعل الانجاز، طمسها شعر غزير يفيض به إناؤها ويطفح...
في الشعر يضخ السياب اندفاعته القوية ليقبض بيد واحدة ويصرخ بصوت واحد "ان هذا العالم الذي نعيشه عالم لا شعر فيه - بمقياس القيم... فهي قيم لا شعرية... لا روح فيها" ولذا - وتأسيساً على تصريح السياب ذاك -، يعوّض داخل قصيدته عن الشعر المفتقد في العالم الخارجي: القاسي والمعادي والمرفوض... بعد أن دخل السياب حياتياً وشعرياً الى قاعه وزواياه ثم عاد خالياً إلا من جراح وخسائر...
سنستعين هنا بصورة مما تولده "أنشودة المطر" من تداعيات:

تثاءب المساء، والغيوم ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال
كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه - التي أفاق منذ عام
فلم يجدها ثم حين لجّ في السؤال
قالوا له: "بعد غدٍ تعود..."،
لا بد أن تعود
وإن تهامَسَ الرفاق أنها هناك
في جانب التلّ تنام نومة اللحود
تسفّ من ترابها وتشرب المطر.

نستطيع أن نجد لهذا الاستطراد والتمدد أو النمو الصوري والتداعي تعليلاً يقربنا من فكرة صراع الشعر والقصيدة، فالمحور أو المركز البؤري لأنشودة المطر يتمدد الى أطرافها، ليلتم على نفسه بهيئة المطر المنتظر المستحيل كانتظار الطفل لأمه الغائبة غياباً أبدياً... وذلك ما تريد القصيدة من دلالة ويتطلبه نظامها الرمزي وكليتها التي تندرج فيها جزئيات عدة منها: جزئية الأم الغائبة والطفل... لكن الشعر الذي تزخّه شاعرية السياب كالنزف من دون انقطاع، يكتسح ما تريد أن تبنيه القصيدة جزئياً لمصلحة كليتها، فينصرف الشاعر - وقارئه من بعد - الى الجزئية المتمددة حد الانفصال عن المركز النصي أو المولّد الصوري.
وفي الطريق الى ذلك يبث الشعر تردداته العالية أو أمواجه التي تخنق النص، فتكون بنية البيت الشعري بديلاً للجملة الشعرية، والموسيقى الخارجية المقبلة من تقاليد الشعر المألوف متجسدة بتواتر القافية (اللام - الميم - الدال) بديلاً للإيقاع الذي يؤطر القصيدة بجو أسطوري طقسي أو تعبدي خاص... وصورياً ستبتلع أو تلتهم المجازات المبالغ فيها توترات النص ولحظات تكثيف شعري (لنلاحظ: تثاءب المساء، ودموع الغيوم، وتسف التراب، ونومة اللحود...) ولعل هذا يتأكد في قصائد هيمن عليها فيض الشعر أو تدفقه وسيوله مثل "سِفر أيوب" و"المعبد الغريق" و"قافلة الضياع" على رغم أهميتها النصية موضوعاً وأبنية وتقنيات...
لكن قصيدة السياب تقترح حداثات أخرى: فالهوامش التي ذيّل بها قصائده محاكياً إليوت في قصائده الشهيرة، تتراوح بين الشرح والتعليق وكشف المصادر وتفسير الرموز وتوضيح مقاصد الشاعر التي يوحي من خلالها بالعجز عن توصيل ما يريد متنياً، وقد تسببت في إشكالات قراءة كثيرة، منها ما أثاره عليه يساريو العراق التقليديون حين تحدث عن عروبة المومس وسلالتها التي لا يليق بها ما آلت اليه... ويثير مشكلات فنية كما في هوامش "رؤيا فوكاي" التي درسها أخيراً شتيفان فيلد في (عيون - العدد الأول) - بترجمة سالمة صالح - وتوصل الى أن النص يكلف القارئ العربي "بما هو فوق طاقته، ويترك لدى القارئ مشاعر متناقضة بسبب الجناس الصوتي وتكرار الكلمات و"سيل" المقتبسات المباشرة والمستترة، والرمزية المثقلة تحت وطأة استدعاء العناصر الميثولوجية من ثقافات كثيرة"... ويصف جبرا ابراهيم جبرا تلك الإشارات الهامشية المطولة بأنها "فاقدة لتأثيرها في القارئ". كما ان بعض العتبات النصية التي - كانت في الأساس وكمبدأ تنظيمي داخل النص فتحاً حديثاً جاء به السياب - تسببت في إشكالات توثيقية، كالتشكيك مثلاً بصحة هامشه في ختام "أنشودة المطر" بأنها (كتبت في العهد المباد) وفسره البعض بأنه كتب في فترة لاحقة من قيام الجمهورية، لكن السياب تهرب من ذلك، على رغم ان نهاية الأنشودة توحي بالغد - واهب الحياة - وبفعل سردي يلي النص بعبارة موجزة: (ويهطل المطر) وقد شككت القراءات بمقدمة قصيدة "أساطير" التي يقول فيها إن المتحابين فرق بينهما الدين كما تقول أسطورة يونانية!! وربما كان يفتعل ذلك....
... أما الأقنعة فهي تقنيات أفلح السياب في ضبطها لتغطية وجوه كثيرة جلبها الى قصائده: "المخبر" مثلاً، والانضباط السردي في تداعيات ضمير السرد الأول (المتكلم) وبقاء الشاعر - الراوي خارج السرد تماماً، ليلاحظ القارئ انهيار المخبر أخيراً...
وهذا ما يحصل في "حفار القبور" حيث يبني السارد - الحفار شخصيته ورؤيته كبطل بديل وراوٍ مفارق لما يروي، ثم يهدم ما يريد الشاعر في الخارج أن يهدمه، برفض شخصية الحفار الذي يعيش بموت الآخرين.
وفي نصوص لاحقة سينجح السياب في إنجاز قصيدة مكتفية بكمٍّ شعري مناسب، يغلّفها الشعر أو يوجهها من دون أن يحجبها أو يخنقها... ويغرقها بتفاصيله. ونمثل لذلك بقصائد مثل "المسيح بعد الصلب" و"النهر والموت" و"أفياء جيكور" و"الشاعر الرجيم" و"غارسيا لوركا" و"حامل الخرز الملون" ويوغل في الترميز والبناء الداخلي المكتفي بذاته كما في "تعتيم" و"مدينة بلا مطر" و"أغنية بنات الجن" و"لوي مكنس" و"جيكور أمي" و"الغيمة الغريبة..." و"دار جدي"...
وفي هذه القصائد ومثيلاتها، لا يكون الشعر سبباً في تلف خلايا القصيدة بل يعضد مركزها ويفيض به بنائياً، أي ينتشر برفق ذهاباً وعودة الى أطراف القصيدة ومركزها البؤري الذي تلتم حوله... وتنبثق منه رؤى السياب. وقد أوصله ذلك الى ارتياد (السرد) تخفيفاً لغنائية نصه (الشعري وهو ما اتخذ سبيلين أو وسيلتين:
- بالقصيدة المطولة ذات المنحى السردي بنائياً.
- وبالبناء السردي الداخلي في قصائده.
ويهمنا السبيل الثاني لأنه سيتعزز كحداثة مقترحة من السياب، فنجد استعانته بالمداخل الزمانية أو المكانية أو الشخصيات في قصائده، وكذلك في الإكثار من الواو التي يفتتح بها نصوصه، وهي وأو سردية تنبّه الى "مسكوت عنه" أو حدث منقض، وتدع أفق النص بالسرد والحكي داخل نسيج القصيدة، وتكرر ذلك في نحو خمس عشرة قصيدة له، أشهرها مفتتح "شناشيل ابنة الجلبي":
وأذكر من شتاء القرية النضاح فيه النور
ومفتتح أو استهلال "جيكور والمدينة":

وتلتف حولي دروب المدينة:
حبالاً من الطين يمضغن قلبي.
واستهلال "صياح البط البري":
وذرّى سكون الصباح الطويل
هتاف من الديك لا يهدأ.

وهذه مناسبة أخرى لدراسة سردية قصيدة السياب والاستعانات التي ابتكرها ذاتياً لإنجاز القص بالضد من الغنائية العالية.
كما يجدر أن نشير الى الانزياحات المبكرة في تراكيبه، لا سيما التراسل الحسي أو إسناد عمل حاسة ما الى سواها: كقوله بلسان المومس العمياء: "خلّني - بيدي أراها" وفي "النهر والموت": "تنضح الجرار أجراساً من المطر" وفي "أنشودة المطر": "عيناكِ حين تبسمان" و"أكاد أسمع النخيل يشرب المطر" إن المصهر الذي خلقه السياب في قصيدته، يستوعب مصادر معرفية متباعدة، يؤلف بينها رحم القصيدة، فنجد استعارات قرآنية ومسيحية وبابلية وشعبية ومرويات شائعة ومعتقدات خرافية وأساطير ورموزاً من جيمس فريزر وأشعار الكلاسيكيين، بل حتى في سياق اللغة يأخذ السياب مفردات عامية لعل تفسير نقاده بأنها محاكاة لنصوص إليوت غير بعيد عن الصواب، الى جانب بداياته الواقعية والشعبية... لكن اتجاهه الأسطوري كمنحى موضوعي وفني معاً سيتأكد عبر ثقافة نصه، وهو مصدر صعوبته وتشعبه وتشظيه أيضاً... إذ تثقل تلك المفردات الثقافية النص أحيانا...
لقد كان السياب فاتح طرق ومنبهاً الى حداثات كامنة موجودة بالقوة، أخرجها اللاحقون الى الفعل والتحقق النصي، ذلك أن قصيدة السياب تخترق متن عصرها وترسل إشارات تشف عن ضوء باهر يكشف ويهدي، وبذا يكون البحث عمّا تبقى من السيّاب، لا في نصوصه فحسب، بل في التقاليد التي أرساها وطوّر بها بناء القصيدة الحديثة، إذ حفر لها مجرى دافقاً تمرُّ منه سفن الحداثة صوب هدفها الغامض البعيد، متدرجاً من القدرة الشاعرية المرهونة بحلم التجديد بواسطة الشعر، وصولاً الى الانجاز النصي (الشعرية) عبر التحديث كهمّ أساسي لانجاز القصيدة باختراق النسق السائد، وإرساء طموح شعري يجدد نفسه محفوفاً بصخب الحياة ذاتها، واكتظاظ مفرداتها، وازدحام رؤاها، مما جعل من شخصية السياب التمثالية - خارج شعره - نموذجاً تموزياً فريداً تلهمه مآسيه بما يغذي جسد قصيدته، فكأن شعره يعتاش على وجوده، وينفيه حتى الموت الذي صار أمنية وضعها على لسان الأم العراقية الجنوبية المتعبة التي تهدهد طفلها لينام منشدة لنفسها وسط سواد العراق وعذاباته:

- يا خيول الموت في الواحه
تعالي واحمليني
هذه الصحراء لا فرح
يرفّ بها، ولا أمنٌ، ولا حبٌّ، ولا راحهْ.

الحياة 2004/12/24

رحل السياب شاباً،
فهل بقي شعره شاباً، أما زلنا نقرأه وكيف؟

عباس بيضون
(لبنان)

بدر شاكر السيابنعم لا زلت اقرأ السياب. اقرأه من الذاكرة واقرأه من الكتاب وارفع الصوت عاليا ب(غريب على الخليج) و(مدينة بلا مطر) و(المعبد الغريق).
في تضاعيف الحرب اللبنانية قرأت مرات أو جهرت مرات ب(غريب على الخليج) أكان ذلك من قبيل التأسي أو الشفاء من وطنية لا ككل الوطنيات. مكسورة وضعيفة حتى توشك أن تكون تسولا للنسمة والنعاس في حضن البيت، قرأتها قبيل الحرب العراقية حين كاد العراق أن يكون ثانية ذلك المحل، المعذب الذي يتيتم وييتمنا مجددا.
لست سيابيا. ولم يعد في الشعر سيابيون. لم يعد فيه حاويون ولا بياتيون ولا يربح الشعر شيئا من ادونيسييه ودرويشييه وماغوطييه وقبانييه وحاجييه وبولصييه. ما هكذا نقرأ الشعر أو النثر. فهذا ليس اقتراعا عاما وتداول الشعر ونفاذه يرخصه في الغالب وإذا كان واقعه بالتأكيد إلا انه ليس معيارا.
لا زلت اقرأ السياب سنة بعد سنة، اقرأه لحاجة تتعدى الطرب بالشعر. الأرجح أن الشعر لا يُستدعى ليكون درسا في الفن. يستدعى ليكون أثرا فحسب أو أغنية لما ليست له أغنية. يستدعى للذة أخرى سكر النفس بنفسها وعض الحياة عليها وقرب الألم من أن يتكلم. واقتراب الأحوال من أن تغدو حقائق أو تغدو لها حقائق. اقرأ السياب بل أستعيره، إذ لا نعاود قراءة غُيّاب كالسياب إلا لغرض وإلحاح لا يُصدان. إنها حاجة نفس لأن تسيل في كلام أو عوزها الى وتر والى تكملة أو انه عنوان اتخذه لحالي حين افقد العنوان والأثر والدليل، حين لا يظهر شيء إلا تحت عنوان وعلامة. بعض الكلام مصداق للتجربة وحجة لها. بعض الكلام يقطع على المرء مجال الشك في أمر حاله وأمر مسيرته ولا يهم في النهاية غوره أو فنه، فهو لا بد سيفلت من الفن ولا يعود إليه إلا وقد غدا طبقا للحال. لعل السياب بعد 40 عاما قد تحرر من الشعر والحداثة وها بعض كلامه بين تجاربنا أو (حقائقنا). وإذ استدعيناه فلكي نتيح لمعانينا الكامنة أن تظهر.
لن نعود الى قراءة (المومس العمياء) ولا (الأسلحة والأطفال، ولم اعد شخصيا الى قراءة (أنشودة المطر)، التي لم ادر ولا أزال لماذا صارت علما على شعر السياب. لم ادر إلا أنها ميلودراما عاطفية وشعبية ولمام متفاوت بدون هيكل ويكاد كله أن يكون حشوا. كثير من شعر السياب لن يعود إليه احد وليس في هذا هجنة. ماذا يبقى من شاعر غير القليل. وحتى القليل لا يبقى إلا اقله، مع ذلك فان السياب بقي أكثر مما توقعنا.
لم يكن هذا لأن الشبان الموتى يبقون جميلين كما فقدناهم كالرغبات التي لم تتحقق على حد كفافي أو على حد فاضل العزاوي في كلامه على السياب. توفي السياب شابا لكن مصائر شيلي وكيتس ونوفاليس ورامبو ليست مخطوطة على كل من مات شابا. على العكس كانت تجربة السياب غير مكتملة حتى في أعين محبيه. لم ينكر احد حاجة هذا الشعر الى قدر غير قليل من التشذيب والتصفية، اشهر دواوينه (أنشودة المطر) لا يستوي كديوان ويظل جميعا غير مهذب ولا منخول، تجربة غير مكتملة ولم تؤت أكلها وظل أمامها مدد لم يتح لها أن تبلغه. سيقول شعراء ونقاد أنها تغلي بشعر لم يتصف ولم ترقد مياهه. كثير من الشعر سائب لائب مفلت على غير هدى لا يلتم في أشكال أو معمار أو هندسة. سيقول شعراء ونقاد أنها سيولة بلا بؤرة وسيبحثون عن بوتقة للكلام وعن وحدة وعن نظام. في النهاية سيقول بعضهم انه الحظ الذي سمح لكلام كهذا أن يبقى أو أنها الأسطورة أو انه الموت شابا. ليس لي إن أجادل ما لا يخلو من صواب، شعر السياب لا يموه مطاعنه أنها حاضرة جلية كمحاسنه. ذلك أن تشعب هذا الشعر وتشعثه أحيانا ظاهران وتكويمه التصويري في أحيان جلي، وانزياحه الفالت عن ركائزه ومنطلقاته أكيد. انه شعر لا يزال بعضه فطيرا لم يختمر كما يقال ولا يزال في زخمه الجارف وفيضانه. هذا عين الصواب لكنه لا يبقى صوابا إذا علمنا أن شعر مجايليه لا يضيق بالسيولة بل هو في الغالب على سيولة فلكية لا تصدر عن مرجع، ولا تعود الى مرجع وإذا كانت هذه السيولة قد استقامت شكلا للشعر إلا أن ذلك لا يعني أن له فعلا شكلا. وان ما هو ليس سوى توزيع ورسم لا يعد حقا معمارا. وان فقدان الموضوع لا يعتبر وحدة عضوية أو غير عضوية. الأغلب أن افتقار النص السيابي الى أمور كهذه مرجعه انه لا يتحايل عليها ولا يتظاهر بأنه يتخطاها. شعر السياب موصول لذا نعرف متى انقطع انه انقطع، وشعره يصدر عن بؤرة لذا نعلم انه شت عنها حين يشت، وشعره ذو محور لذا نعلم حين يسيل انه يسيل لكن المهم أن هذا الشعر لم يخف خروقه ولا قوة ضعفه. مع ذلك فقد بقي أكثر من أشعار تصنعت الكمال وموّهت بالتسامي والإعلاء خروقها وتسيبها وتكويمها. دُفنت تجارب بلغت أشدها بل تجاوزته الى حد اجترار الذات ومضغها. بوسع النقاد أن ينفجروا بغيظهم. بقي شعر السياب ولا مانع من أن يواصلوا درسهم البائت عن الوحدة العضوية. يحتاج الشعر الى قراءة والقراءة تثبت وتحذف وتعمر وتوحد. الأرجح أن القراءة فاتت تشعث الشعر السيابي وانفلات غاربه أحيانا، بل أن شعر السياب بعد كل القراءات يخرج اصح وحده وأكثر بؤرية ومركزية من نصوص أكثر مجايليه.
سيقال أن السياب لم يبتعد كثيرا عن القصيدة العمودية، لقد كان الأول والمحاولة الأولى تبقى مشوبة بما سبقها. انه تاريخ وقراءة شاعر من خلال تاريخ مفترض متصاعد للحداثة الشعرية من أطوارنا العجيبة. نفترض مثالا خفيا للحداثة يتدرج الشعر نحوه، كان هذا في أول إعلانات الحداثة ولا زال قائما. نقاد الشعر يتكلمون كمؤرخين بلا خبرة ونقد الشعر نفسه يبدو نوعا من الرجم بالتاريخ. ليس مهما أن نتحقق من قرب أو بعد السياب من الخطيئة العمودية الأولى إذا كان شعره كله بين أيدينا وبوسعنا أن نقرأه بدون ذكريات الحداثة. إذا كنا نقرأ السياب ونجد فيه قربا متجدداً فلأن (اللحظة) التي انطبعت في شعره لا تزال نابضة. (لحظة) انفصال اليم وعودة مسدودة وولادة بلا خلاص. لحظة (التروما) الأولى مجبولة بعذابات المكان والتراجيديا الشخصية والقدرة البابلية على صناعة الأساطير اليومية. كان لهذا الشعر دائما ذكرى (الكسر) الأول والحسرة الأصلية، وبقي الأغنية الأنسب للطرد المتزايد من التاريخ ولتجدد الكسر الأصلي اللذين وسما حياتنا بعد السياب. بقي أكثر مناسبة من عمارات الخلاص الأسطوري والملحمي والسياسي التي لم تنجح دائما بتخطي الجرح الأول. هكذا يعود السياب مع حرب لبنان ويعود مع حرب العراق، يعود مع حسراتنا الشخصية ويعود أيضا مع تلك الحاجة الى تفقد بدايات انزياح متفاقم لم يتح أي نشيد مستقبلي. قراءة شعر السياب تبدو زيارة شبه مأتمية لتاريخنا المعاصر فيما تبدو إعلانات الحداثة وتهاويلها جزءا من تخريف مستقبلي وتاريخ مكذوب خرجنا منهما الى الصحراء.
سيقال انه لم يفهم إليوت ولم يتقن الإنكليزية ولم يحسن بالطبع توظيف الأساطير. لن تكون هذه عثرات السياب وإذا صحت فان لنا أن نتعجب من نجاحه في الجامعة أما نجاحه في الشعر (إذا كان فيه ما يستحق أن يسمى نجاحا) فأمر آخر. لا يهمنا بالطبع أن نعرف كيف يكون المرء إليوتيا صالحا وما هي الطريقة الأفضل لتوظيف الأساطير. نعرف أن السياب كان سيابيا وانه صنع أسطورة لبويب وجيكور وعراق على صورتهما، عراق من طين ومطر وشناشيل وآجر. وجعل من هذا العراق وطنا ممكنا لكل من يزور شعره، جعل من سيرته المتألمة لكن العامرة بيتا ممكنا وحياة خاصة لمن يقرأونه. ليس في شعر السياب بالطبع عمارة ولكن فيه أطلالا ونقوشا تتردد بين القصيدة الطللية الأولى وبين الفنون الطينية القديمة واللحظة الراهنة أنها قدرة على التقمص، على منح ذاكرة وأسطورة لأجيال متلاحقة. لقد نجا السياب من الفن ومن الشعر وهو منذ زمن يقرأ كحاجة، كدعوة. لقد غدا للقصيدة الحديثة كلاسيكيها الأول.
هل ما زلنا نقرأ السياب اليوم وكيف؟ خمسة شعراء من كل الأجيال الشعرية التي تلت السياب وناقد شعر، حسن عبد الله وجمال باروت وبسام حجار ويوسف بزي واسكندر حبش وناظم السيد، يجيبون.

*****

لا سحر له عليّ

إسكندر حبش
(لبنان)

إسكندر حبشلنقل إن قراءة الشعر هي بمعنى من المعاني، حدث ينتمي إلى العديد من الصدف الاجتماعية، العائدة بدورها إلى بعض الظروف التي تتحكم بنا. إنها أيضا لحظات لا نعرف كيف تتكون ولا كيف تقودنا إلى هذه المناخات التي ننحاز إلى بعضها. والحال كذلك، لأعترف، إذاً، أن علاقتي بشعر بدر شاكر السياب هي علاقة ملتبسة. ربما من هذا الالتباس يبدو كلامي هنا، والذي أحاول فيه أيضا تمرينا في الذاكرة.
أول ما قرأته للسياب كان مقاطع من (أنشودة المطر) منشورة في كتاب القراءة المدرسي وأنا في الصف التكميلي الثالث. أذكر أنني أحببتها أكثر من قصيدتيْ نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي الموجودتين في الكتاب عينه، ضمن محور (الأدب العربي الحديث). لكن هذه العلاقة لم تستمر، بل انقطعت لفترة طويلة ولم أعد إلى قراءته إلا في العام 1983، حيث قرأت للمرة الأولى ديوانه الصادر عن (دار العودة) (في بيروت). ليس السيّاب وحده من انقطعت عنه، بل غالبية الشعر العربي الذي لم أقرأه بجدية إلا بدءا من 1986. كل تلك الفترة لم أكن أقرأ إلا الشعر الغربي (ولا أتحدث هنا عن الترجمات إلى العربية) وبعض الشعراء العرب الذين كنت أميل إليهم، لاعتباري أنهم يكتبون بلغة تشبه لغتي، ويتحدثون عن مناخات تتقاطع مع مناخات حياتي. لذلك أعتبر أن ذائقتي الشعرية تشكلت بفضل شعراء أجانب وليس بفضل الشعراء العرب (ولا أنسى ما منحته لي سلسلة غاليمار الشعرية الفرنسية من تجوال في خرائطية الشعر الغربي بأسره). كنت دائما أشعر أن الشعر العربي بعيد عني، ولا يشكل أي مفصل في حياتي. قرأته لاحقا، لأنه كان يجب أن أقرأه، إذ وجدت انه من (المعيب) أن أكتب بالعربية ولا أعرف هذا التراث الشعري.
أعدت قراءة السياب في العام 1991 ولو نظرت اليوم نظرة حيادية إلى شعراء تلك الفترة، لقلت إنه من قلة أصطفيها من بين رواد الحداثة والتجديد وأجعلها ضمن نطاقي المعرفي، لكن من دون أن يعني ذلك أنه يشكل مرجعية أساسية لدي. المفارقة التي أجدها، هي حضور شعر الجواهري في ذاكرتي أكثر من السياب، ولا أتردد في القول إن شعر سركون بولص يعنيني أكثر بكثير من شعر الاثنين.
أفهم أن يكون السياب حاضرا في مرجعيات شعراء الأجيال السابقة، ولا سيما الذين عاشوا بعض أحداث تلك المراحل، في العراق وغيره، وكذلك أفهم أن يكون قسم كبير من شعر الجيل السبعيني، ينحدر من هذه المنطقة الكتابية التي بلورها بدر شاكر السياب. من هذا الفهم، أقول إن عصري لا علاقة له بذلك العصر، وإن تشكلي الاجتماعي والثقافي، لا علاقة له بتشكله، من هنا تبدو قراءتي له قراءة حيادية. أقرأه مثلما أقرأ كل الشعر الكلاسيكي. أضف إلى ذلك، أن هذا الميل إلى الأسطورة لا يصيبني ولا أميل إليه بشكل عام.
لكن مهما يكن من أمر، لا أنكر ما لقامة هذا الرجل من ظلال وارفة. لقد ساهم عمله الكبير في بلورة قصيدة لم يكن من السهل الاعتراف بما جاء بعدها لو لم يستطع أن يفرض حضور قصيدته. بهذا المعنى، تبدو قصيدة السياب، بالنسبة إليّ، مفصلا أساسيا في سيرورة الشعر العربي الحديث، في سيرورته التاريخانية. إنه المفصل التاريخي الذي لا يستطيع أحد إنكاره. لكن اعترافي به، لا يعني أنه يمثل (أسطورة ما)، فقط هو شاعر كبير وحقيقي حتى ولو لم يمارس أي سحر عليّ بالمعنى الحرفي للكلمة.
لا تنبع مرجعيتي الكتابية من هذا التشكيل الشعري. بل من مناطق أخرى، لا ينتمي إليها بدر شاكر السياب. لكن متى كانت الثقافة أحادية النظر؟ من هنا أجدني أفصل وأشدد في ذلك بين ذائقتي الخاصة وبين شعر شاعر يكفي انه بعد أربعين سنة من رحيله، لا يزال حاضرا بكل هذه القوة في حياتنا الشعرية.

*****

ضد المرحلة

ناظم السيد
(لبنان)

ناظم السيدقرأت بعض القصائد لبدر شاكر السيّاب في عمر المراهقة. كانت أولى القصائد التي قرأتها آنذاك (أنشودة المطر). هذه القصيدة اشتهرت أكثر من السياب نفسه. بهذا المعنى، منحته هذه القصيدة شهرة غير شعرية، شهرة دعائية، وحجبت ما تبقى من شعره.
في الجامعة، درست السياب كشاعر رائد في (التفعيلة) وفي التوظيف الميثولوجي الذي راج في عصره مع شعراء أمثال صلاح عبد الصبور، خليل حاوي، يوسف الخال وأدونيس. إضافته كانت في التأثرات الإنكليزية (الاميركية) بشعراء مثل إليوت من خلال (الرجال الجوف) (والأرض الخراب) لهذا الأخير، في الوقت الذي كان فيه الشعراء المصريون واللبنانيون تحديدا يدخلون المناخ الفرنسي الى أعمالهم.
لا شك في أنني أعجبت بالسيّاب في تلك الفترة من قراءاتي، وتحديدا في (أنشودة المطر) التي نُظر إليها بوصفها قصيدة رائية، وربما وظفت أيديولوجيا بحكم تاريخ العراق الدموي والانقلابي، ثم في (المسيح بعد الصلب) و(جيكور) و(في السوق القديم). كانت شهرة السيّاب أقوى من أن تُناقش، والدعاية التي نالها غلبت على شعره وعلى نقده وتركت آثاراً ظلت واضحة حتى جيل السبعينيات (شعراء الجنوب اللبناني على سبيل المثال).
أعتقد أن عوامل اجتماعية وسياسية ساهمت في بروز السيّاب، وذلك بسبب ميل معظم الشعوب العربية الى التراجيديا بفعل التاريخ وبفعل الهزائم المتتالية. وغالباً ما تم تجاهل العناصر الفنية والجدة في شعره تحت ثقل ما تحدثت عنه.
بالطبع، تأتت شهرة السياب من ريادة العراقيين في زمنه في قصيدة التفعيلة، قبل أن تعمل قصيدة النثر التي راجت في لبنان على تقويضها والحد من تفردها.
اليوم، لا أستطيع أن أقرأ السيّاب إلا ضمن سياقه التاريخي، سياق تطور القصيدة العربية، ومنقوصاً من كل (الصلاحيات) الاجتماعية والسياسية والدعائية التي رافقته. قراءة كهذه تفقده بالطبع الكثير من القيمة الشعرية الجمالية والفنية التي نسبت الى شعره من طريق العمى. ويساهم في تحطيم صورة السيّاب تلك، قراءاتي لشعراء غربيين كبار أتوا قبله وكانوا يتفوقون عليه.
الأرجح أن شهرة السيّاب ظلمت شعراء آخرين عاصروه أمثال صلاح عبد الصبور، مثلما ظلمت (تفعيلته) شعراء أمثال الياس أبي شبكة المؤثر في شعراء قصيدة النثر وإبراهيم ناجي ومحمود سامي البارودي ومحمود طه.
أغلب الظن أن شعر السيّاب بات اليوم ضد المرحلة شكلاً وطرحاً و(كآبة).

****

نقرأه في داخلنا

حسن عبدالله
(لبنان)

حسن عبداللهليس عندي أدنى شك في أن عدد قراء بدر شاكر السياب يتضاءل يوما بعد يوم فهل يعني هذا أن شعر الرجل قد سقط في امتحان الزمن؟ أم أن العلّة هي في القرّاء الذين لا يعرفون اليوم ماذا يقرأون؟.
إن قصائد مثل (أنشودة المطر) و(شناشيل ابنة الجلبي) و(المعبد الغريق) و(شباك وفيقة) و(المسيح بعد الصلب) و(غريب على الخليج) لم تفقد في نظري ألقها وتوهجها، ولن تفقدهما أبدا. فإذا كانت الأجيال الجديدة من قرّاء الشعر وكتابه لم تعد تستسيغ مثل هذه القصائد فالعلة في نظري، هي في هؤلاء القراء والكتّاب، وليست في قصائد السياب التي لا تستمد خلودها من عدد القراء بمقدار ما تستمده من ندرتهم.
إن الذين توقفوا عن قراءة السياب اليوم هم أنفسهم الذين توقفوا من قبل عن قراءة احمد شوقي والمتنبي. وهم الذين قد يعيشون حياتهم بكاملها من دون أن يتعرفوا الشعر الجاهلي. ثم يندثر هؤلاء مثلما اندثرت أجيال كثيرة من قبلهم ويبقى الشعر الحقيقي حيّا ومؤثراً في أجيال متعاقبة من الناس يقل فيها قراء الشعر الجيد أو يكثرون بحسب انحطاط الأذواق أو سموّها في هذه المرحلة من الزمن أو تلك.
إنني لا أستطيع أن أتصور شخصا يقرأ الشعر العربي الراهن بشكل صحيح وسليم أن لم يكن قد قرأ بشكل صحيح وسليم شاعرا مثل بدر شاكر السياب مع نفر من جيله ومن الأجيال التي سبقته ابتداء بأحمد شوقي وانتهاء بامرئ القيس. فقارئ الشعر السوي ينبغي أن يكون ملما الى هذا الحد أو ذاك بالمحطات الأساسية من تاريخ الشعر العربي. وقد كان يمكن للمدرسة أو الجامعة في أي بلد عربي أن تجعلا التلامذة والطلبة قراء شعر أسوياء لو كانتا هما سويتين، ولانهما ليستا كذلك فإنهما تخرجان شبابا لا يملكون أي مناعة ضد الأوبئة الثقافية والأدبية والفنية التي تتفشى في مجتمعاتنا فتجعل أنظارنا تزيغ عن كل ما هو صحي وحقيقي وأصيل.
لكن قيمة السياب لا تنحصر في كونه شكّل نقلة نوعية كبرى ومنعطفا حاسما في تاريخ الشعر العربي لجهة التجديد في شكل القصيدة العربية فهذا الإنجاز الشكلي ليس في أهمية الصدق والعمق والأصالة والابتكار والحساسية الجديدة التي امتاز بها شعره فجعلته شعرا فريدا وجديرا بأن يكون مدرسة يتتلمذ عليها كل قارئ للشعر وكاتب له.
لا يبدو لي السياب مقروءاً كما ينبغي في لبنان، وإنني أجهل جهلا تاما المراعي التي يرتادها قراء الشعر وكتابه الشباب في هذا البلد الذي أعيش وأكتب فيه. وقد لا تكون حال السياب في مصر أو المغرب أحسن مما هي عليه في لبنان، بل لعلها كذلك في العراق نفسه. وهذا مؤسف حقا. فمن هم الشعراء العرب الذين نقرأهم في الوقت الذي لا نقرأ فيه السياب وبعض كبار شعراء جيله والجيل الذي سبقه؟
إذا لم يُعلن عن اللبن والعسل في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، فإن الناس ستتوقف عن تناول اللبن والعسل. وهكذا مع الشعر وسائر الفنون فالحي منها هو الذي تحييه الدعاية والميت هو الذي تميته الدعاية نفسها. ولو ينال السياب اليوم حظا كافيا من الإعلام والإعلان فقد يعود الى الازدهار من جديد كما كان شأنه في الستينيات من القرن الفائت.
إذا كان لا بد في هذا السياق من الحديث عن تجربتي الشخصية مع شعر السياب، فأنا، وشأني في هذا شأن الكثيرين من أبناء جيلي، قد قرأت السياب ومكثت أقرأه حتى حفظت ما يعادل ثلث أشعاره. وإنني أعود الى ديوانه من حين الى آخر بدافع الحنين الى شعره الذي كان له أثر كبير في نفسي وفي شعري. أما أن أعود الى قراءة السياب اليوم كما لو أنني لم أقرأه من قبل، فهذا لا يحدث مع أحد من قراء الشعر، لأننا عندما نقرأ شاعرا قراءة حقيقية مرة واثنتين وثلاثا فإننا لا نعود بحاجة الى قراءته، فهو يصبح في هذه الحال جزءا منا ويؤثر بشكل متواصل ولا واع في نظرتنا الى الشعر والشعراء، وفي نظرتنا الى أنفسنا والى العالم من حولنا. وبهذا المعنى فأنا وجميع الذين قرأوا السياب في الماضي يمكن اعتبارنا قراء دائمين له سواء فتحنا ديوانه من حين الى آخر أم لم نفتحه.

****

كنّا نسيرُ وكان السيّاب يسير بصحبتنا

بسام حجار
(لبنان)

1

بسام حجارلا أدري إذا كان قسرياً أم طَوعياً، المنفى الذي اخترناه (أو اختارنا هو، ربّما)، عباس بيضون وحسن داوود وأنا، أواخر الثمانينات المنصرمة، والذي لا يبعد عن بيروت، في رحلة جويّة فوق المتوسّط، أكثر من عشرين أو ثلاثين دقيقة. ولا أدري إذا كان المنفى اسماً يليقُ بالجزيرة التي قصدناها، سيّاحاً على الرغم منّا، وفي غير موسم السياحة، والتي عملنا فيها، شهوراً، بما لا نشتهي، وأقمنا حيث لا نشتهي، وخالطنا، ما أتيح لنا الاختلاط، مَن لا نشتهي.
أذكرُ أنّ المانوكانات، الجامدات في واجهات المحال، كنّ بطلات أيّامنا. مثلما كان الضجرُ بطل أوقاتنا المتكرّرة، وتسكّعنا، حتّى ساعات متأخرة، سعياً وراء المكان الذي نعلم جيّداً أننا لن نعثر عليه في أنحاء المدينة الصغيرة في الجزيرة الصغيرة.
بهذا المعنى كنّا غرباء. فلا البُعدُ ولا اضطرارك إليه، ولا الفراغ الذي تبني عليه روتين يومك إذ يستحيل اليومُ هو كلّ يوم، هي التي تجعلُ منكَ غريباً، حيثما كنتَ، بل جمعكَ بين هذه العطلات وزعمُكَ أنها مشاغل.
على نحوٍ ما، ومهما بدا الأمر مستهجناً، أذكر أننا لم نخرج يوماً في نزهة أو تجوال أو مجرّد تسكّع، إلاّ واصطحبنا معنا بدر شاكر السيّاب. أعلم أنّ الإنشاء هنا يشبه الإنشاء قليلاً، غير أني لا أجد وصفاً أدقّ.
ليس بدر شاكر السيّاب كلّه، وإنّما (أنشودة المطر) إذا كان الطقس مطيراً و(غريب على الخليج) إذا كان الطقس حارّاً. طبعاً، لم يكن طلبنا المتكرّر من حسن داوود أن يتلو علينا قصيدة السيّاب التي يحفظها غيباً، لدواعٍ شعريّة، أو لأننا نحسب أننا شعراء. بل ربّما لأننا، للمرّة الأولى، ربّما شعرنا، لشهور طويلة بأننا غرباء.
كنّا صباحاً نغادر العمارة التي نسكنها لنعبر زقاقاً قديماً واحداً، ثمّ نسلك الشارع الرئيسي الوحيد لكي نصل إلى المبنى المجلّة حيث نعمل. خمس عشرة دقيقة سيراً على الأقدام. وفي الأغلب لم تكن تلاوة (غريب على الخليج)، أو المقتطفات الواسعة التي يحفظها منها، لتستغرقه وقتاً أطول. كلّ يوم، أو كلّ يومين أو ثلاثة. كأنّها شيءٌ لن يكتمل نهارنا من دونه، بدايةً أو ختاماً.

2

ما صلة السيّاب بالجزيرة؟ ما صلته بنا، نحن، في الجزيرة؟ لا أجدُ الآن صلةً مقنعةً ولو فكّرتُ ملياً. ولا أحسب أن حسن أو عبّاس يجدان الآن تفسيراً. أعلم أن حسن روائيّ مولع بالشعر، وربّما أصبح روائياً لفرط ما أحبّ (ويحب الشعر). وأعلم أنني شاعر غير مولع بالشعر. وأحسب أنني أصبحت شاعراً لفرط ما أحببتُ الرواية. وأحسبُ (وهو حُسبان غير الموقن طبعا) أنّ عبّاس مولع بالشعر والرواية معاً وأنّه ربّما صار شاعراً لفرطِ حيرته بين النوعين. وأعلم أنّ في لعبة المفارقات هذه يكمن شغفنا ببدر شاكر السيّاب وبقصيدتيه في ما أسميناه، في ما بعد، ب(أوقات الجزيرة).
ربّما لأنني، إلى اليوم، أقرأ، شعراً أو رواية، بحثاً عمّا أسماه صديقنا الشاعر العراقي، محمد مظلوم، ب(السيّابيّة) وهي ما يوصفُ به كلّ ميل إلى انسيابيّة غنائيّة حزينة. والحقيقة أننا لا ندري حقاً ماهية هذه الإنسابيّة إلاّ إذا قرأنا، أو أصغينا إلى، قصائد بدر شاكر السيّاب. فإذا كان الشعرُ لا يقرّر ولا يُعلّم ولا يتنبّأ ولا يصف ولا يستطرد، بل يسترسلُ في روايته الألم على نحو الغناء، كان سيّابياً. وإذا كانت النسبةُ في الشعر تصحّ في ردّ الاسمِ إلى النوع، فإنّ ما صحّ في نسبة السيّاب إلى الشعر هو ردّ النوع إلى الاسم المُفرَد. فبرغم الإيقاع والوزن نقرأ نثراً في شعر السيّاب يكاد أن لا يقوى عليه الشعر. ولعلّ حجر الفلاسفة فيه هو توليفة بسيطة ومهجّنة لا يعرف أسرارها إلاّ مرتجلو الغناء اليوم. ليس تفسير العلّة والمآل بل سردهما وبالإيقاع الذي يجعلُ السرد كامناً في الذاكرة، والأحرى في طبقة منسيّة من طبقات الذاكرة. فالكلامُ، عنده، إذا قيل مرّةً لم يحفر مجرىً هو سكّة السيل من بعدِه، بل قوّض أمكنة وابتنى أمكنةً لكي يضلّ السيلُ مجراه فيتدفّقُ سعياً وراء المجرى.
لا أحد يعلم، أو يُبالي، إذا كان السيّابُ محبّاً لناسِه ووطنِه الصغير و/أو الكبير كما يُقال اليوم. لكننا نعلم ونبالي أن السيّاب كان رجُلاً مريضاً. وأن السيّاب كان رجلاً يتألم. وأنّ شعر السيّاب، كلّه، هو ترجمةٌ، أمينة أو خائنة، لهذا الألم. فكلّ شيء يعيدنا إلى اختبار الألم، ويُعيدنا إذاً في وقتٍ، أمسِ أو اليوم أو ذات يوم، إلى شعر السيّاب.
والألمُ في الحياة (إذاً في الأدب؟) هو نوعٌ على حدة. ولا بأسَ على الإطلاق إنْ لم يكن نوعاً أدبياً.
لستُ شاعراً مداوماً على قراءة الشعر. وأمقت الأنواعَ الأدبية بقدر ما أمقت الأدب نفسه. لا أداوم على زيارة المجاميع الشعريّة المركونة على أرفف المكتبة. ولا أحفظُ لا نثراً ولا شعراً. ولن أفاجأ إذا تبيّن أن الأسطر القليلة التي أحفظها هي كلّها من شعر السيّاب.

3

ثمة من قرأ السيّاب لأنه غريب ولأنه مات من دون عراق.
وثمة من يقرأ السيّاب الآن لأنّه غريبٌ ولأنّ العراق بين موت وحياة.
وثمة من سيقرأ السيّاب، في ما بعد، لأنّه غريبٌ بين غرباء وحسب.

******

الشاعر الوحيد الكبير

محمد جمال باروت
(سوريا)

(السياب-لمروان قصاب باشي)
(السياب-لمروان قصاب باشي)

تحتمل العودة إلى السيّاب اليوم عدة أبعادٍ، يمكننا أن نتلمس فيها بعدين: أولهما، بعد الحنين إلى الجذور (الرائدة) أو (المؤسِّسة) لما سُمي يومئذ تسرعاً بالشعر الحر ثم تمّ الاستقرار على تسميته بمفهومٍ أكثر اتساقاً وهو الشعر الحديث. وثانيهما نوع من ردة فعلٍ على إيغال الكتابة الشعرية الحديثة في إنتاج (كثرةٍ كاثرة) من الأشكال الكتابية الشعرية المتشظية والمتذررة التي تفكر بالشكل خارج المفهوم المتسق والمنتظم للقصيدة الذي حكم في النهاية طريقة تفكير الجيل المؤسس وفي مقدمته السياب للشكل الشعري. إن هذا التشظي الذي يبدو في قراءةٍ أولى كأنه قد وصل إلى ذروة منحنى يبدو داخل حمى التشظي بحاجةٍ إلى أسطورةٍ مؤسّسة.
تصدر حركة التفارق هنا عن كون التشظي الراهن يفر بطبيعته من المرجعية، ويركّز مرجعيته في ذاته بينما تشير وظيفة الأصل المؤسّس إلى محاولة وضع ذلك التشظي في إطار تحولات التجربة الشعرية العربية الحديثة نفسها، فعملية قتل الحداثة للآباء تخلق في الوقت نفسه آباءً جدداً، أو تستعيد آباءً (سابقين) في فهمٍ مجددٍ لهم، يحيّنهم ويجعلهم حاليّين. في حركة التفارق تلك هناك فهم التاريخ الشعري الحديث بالمعنى العام له كعمليةٍ أو سيرورةٍ، تتميز بديناميكتها الذاتية نفسها، بمعنى أن مرجعيتها لنفسها ذاتية، كما أن هناك نوعاً من البحث عن أصلٍ مؤسسٍ يضفي (المشروعية) على عملية التشظي، بوصفها قائمةً في نسغ العملية أو السيروة نفسها. إذا كان هذا التمييز لا يعدو هاجساً لدى الشعراء فإنه هاجس المؤرخين والباحثين في نظرية الشكل الحديث وطبيعته وظواهره ووظائفه، حيث يبدو الجيل المؤسس، وفي مقدمته السياب المستعاد، كأنه ينتمي انطلاقاً من لحظة التشظي الراهنة إلى ما يمكن تسميته تجاوزاً بكلاسيكيي القصيدة الحديثة. وقد يكون هناك نوع من الشطط في استخدام تعبير كلاسيكيي القصيدة الحديثة، من منطلق أن موقف المؤسسين من العالم لم يكن كلاسيكياً قط، لكنه يشير هنا إلى معنىً نسبيٍ سياقيٍ محددٍ، يدل على حركة الانتظام والقراءة ضمن نمذجةٍ لا مفر للعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومنها علم الأدب، من استخدامها.
إن العودة إلى السياب تحتمل في حقيقتها العميقة نوعاً من عملية استعادة لأصلٍ مؤسسٍ يحضر فيها السياب بقيمٍ مضافةٍ، ويمكننا التمييز فيها بين أسطورة السياب وبين شعر السياب نفسه. هذا التمييز منهجي أو شكلي، إذ تلعب عملية بناء الأسطورة على نحوٍ إشعاعيٍ دوراً تحفيزياً موجّهاً في عملية بناء قيمٍ مضافةٍ حول شعر السياب نفسه. إن عملية القراءة كلية، بمعنى أنه يحضر فيها مدخرات لاحصر لها تسهم كلها في بناء القيم المضافة وإدماجها في شعر السياب.
هناك في حياة السياب ومكابداته ومصيره المؤثر ما يخلق النسيج الأولي لهذه الأسطورة. فيكاد السياب أن يكون الشاعر الوحيد (الكبير) إذا كان لما يزل هناك معنى لهذه الكلمة، الذي حدثت حول استملاكه أعتى المعارك الإيديولوجية الثقافية واستطراداً الثقافية في الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي. إن التاريخ الشخصي للسياب بما فيه من تناقضات مليء بمفردات ذلك الصراع ومكابدة آثاره بدءاً من تجربته المرة مع الحزب الشيوعي العراقي ثم مع القوميين الذين حاولوا أن يستملكوه ببيروت، ليجد فضاءه الحر في حركة مجلة شعر مأوى الآبقين والمتمردين، وصولاً إلى موت (الغريب) في سرير المشفى الأميري بالكويت، في طقسٍ ماطرٍ صاحب جثمانه حتى مرقده الأخيرة في البصرة. ولقد أعطى السياب في سياق هذا الاستقطاب الحاد حول استملاكه رمزياً وثقافياً حركة مجلة شعر نوعاً من تعزيزٍ لفرضياتها النظرية الشعرية الثقافية في أن حركة الشعر العربي الحديث، وإن تأثرت بالشعر الغربي، نابعة من صميم التاريخ الشعري العربي، وجزء حديث أو تحولي منه.
إن (أنشودة المطر) (1954) التي قيّض لها أن تشتهر بين أكثر قصائد السياب كلها، وأن تحتل في الذاكرة الشعرية الاستظهارية الجماعية مكاناً طبيعياً لها إلى جانب استظهارات امرئ القيس والأخطل والمتنبي وابن زيدون وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل والجواهري.. إلخ، كانت قابلةً لأن تكون أصلاً مؤسساً. ويعود ذلك إلى أن هذه القصيدة كانت تعبر عن الاستمرارية والقطيعة في آنٍ واحد. فهي استمرارية لروحية الشعر العربي بشكلٍ تغدو فيه تطورا (طبيعيا) من تطورات زمنه الممتد، وقطيعة مع شكله الموروث من ناحيةٍ ثانيةٍ، بمعنى عدم انطلاقها مرجعياً من النموذج الشعري العربي الكلاسيكي للشعر. فلقد طوّع السياب البنية الإيقاعية الشعرية العربية الكلاسيكية الراسخة في اللاشعور الإيقاعي العربي بروح حديثةٍ، منحت ذلك الإيقاع تنويعاتٍ جديدةً. فلقد امتص السياب ذلك وحوله بروحٍ جديدةٍ، جعلت من شعره حديثاً يتصف بانقطاعية، واستمراراً في زمنٍ شعريٍ ممتدٍ في آنٍ واحدٍ. وتكثف هذه القصيدة كل أبعاد الشخصية الشعرية السيّابية، إنها الذروة التي كادت قصائد السياب الأخرى أن تكون منحنيات منحدرةً لها، ومنحدرة أحياناً بشكلٍ متهافتٍ.
مع (هل كان حبا) (1946) انشغل التاريخ المبكر للشكل الإيقاعي الجديد بقضايا شكلية أغرقت بمزايا الريادة ورأسمالها الرمزي، والجدل حول الأولوية الريادية في ذلك، مع إهمالٍ شديدٍ لمحدودية قيمتها الشعرية وتواضعها تماماً كما هي القيمة الشعرية المحدودة لكوليرا الملائكة. ولكن مع قصيدة (أنشودة المطر) سيبدأ التحول الحقيقي (دون منازع) باتجاه البنية الكلية للقصيدة التي تقوم على وحدتها وتماسكها الداخلي والإطلاق الحر لإيقاعاتٍ جديدةٍ متولدةٍ منها. لقد كانت (أنشودة المطر) تشرح بشكلٍ مسبقٍ تطور السياب الشعري نفسه الذي هو في الكثير من وجوهه تطور الحركة الحديثة في الشعر يومئذٍ. ففي الأنشودة نجد شبكة السياب التموزي الانبعاثي، والرؤيوي الحضاري والتخييلي، والمغني التطريبي والغنائي، والتخييلي الأسطوري، والحلولي الكوني، والميتافيزيقي، والرمزاني، والجيكوري أو العراقاني، والمسيحاني، والسانفوني المتصاعد فالمتهدل، والمتعدد الأصوات.. إلخ. ولقد ترتب على هذه الأبعاد تنمية حركة الجدل المتصاعدة حول وعي القصيدة الحديثة بواسطة مفاهيم مشتقة من بنيتها واقتراحاتها، وفهم طبيعتها ووظيفتها وأدواتها، خلف ذلك مفهوم الشعري نفسه.
منذ أواخر ستينيات القرن العشرين استوت بنية هذا الشكل من القصيدة في ما تمت بلورته تحت اسم القصيدة الرؤيا، وهو شيء مختلف عن عنصر الرؤيا القائم بهذه الدرجة أو تلك في كل تجربةٍ شعريةٍ تعتمد مبدأ الانزياح اللغوي بشكلٍ يفضي إلى ما يسميه الرمزيون رمزاً أو الفلاسفة مماثلة. وطريق الرمز والمماثلة واحد، إنه الطريق إلى المطلق أو إلى الله. بينما لا يقوم الشعر في مفهوم القصيدة الرؤيا إلا بواسطة الرؤيا التي ترتد إليها سائر العناصر الأخرى. ليس من قبيل التهور القول إن بنية تلك القصيدة قد استوت أو تبلورت ملامحها في نمطٍ أو نموذجٍ شعريٍ، لكن لا يستتبع هذا القول بالضرورة نهاية هذا النموذج بل يستبعد سيادته الآن على الكتابة الشعرية العربية، التي أدمجت عنصر الرؤيا ضمن عناصر جديدة، يحكمها منطق التقطع والفجوات واللانتظامية واللامتسق والعابر والمهمش والعادي وغير المتصل.. إلخ.
في إطار ذلك كانت قصيدة (أنشودة المطر) وليس غيرها نقطة التحول المفصلية التي منحت الحركة الحديثة في الشعر العربي وسطاً تعبيرياً مفتوحاً تحولت فيه تلك الحركة إلى حركةٍ مهيمنةٍ أو ذات سيادة في المجال الشعري حول ذلك المفهوم المنظومي: القصيدة الرؤيا. تبدو هذه القصيدة بالنسبة إلى حجم التحولات التي دخل فيها لاحقاً شكل الكتابة الشعرية العربية الحديثة في الكثرة الكاثرة من أشكاله، وكأنها تنتمي اليوم إلى لحظة (كلاسيكية) في تاريخ تلك الكتابة، إذا ما أعطينا الكلاسيكية سمة الاستمرار فوق الزمنية. وفي ضوء هذا الاستخدام باتت أنشودة المطر ومعها حزمة المسيح بعد الصلب، ورسالة من مقبرة، وبويب.. إلخ من كلاسيكيات الشعر العربي الحديث التي تتمتع بسمات النداوة والطراوة والاندراج في الشعرية العربية التاريخية التي تجعل من شعرية السياب حاضرةً باستمرارٍ وقابلةً للقراءة مجدداً، وبالتالي إلى الترهين الدلالي الذي ينخلع عن شروط إنتاجه الأولى. فلقد بات السياب اليوم من كلاسيكيي الشعرية العربية، ومن أصولها المؤسسة.

****

نكران المراهقة

يوسف بزي
(لبنان)

يوسف بزيما عدتُ لقراءة بدر شاكر السياب منذ عقد من الزمن تقريباً. أذكر أن أعماله الكاملة اهديت إليّ من قبل صديقة انتبهت الى شغفي بالشعر الجديد وأنا في سن ال19.
منذ القراءة الأولى تعلّقت به. سحرتني خصوصاً مجموعتاه (أنشودة المطر) و(شناشيل ابنة الجلبي). أذهلني العراق الغامض والميثولوجي. أذهلني الشعر المضمّخ بالدم والسوداوية والمغلّف بالموت وصور الدينونة بالقدر نفسه الذي شدّني إليه هذا الخليط الرومانسي والأسطوري والرمزي والواقعي الطالع من المشاهد اليومية والأحداث العابرة. وتعلّمت منه الانتباه الى سطوة الأمكنة والمناخ وعناصر الطبيعة.
لم أعد إلى قراءته على معنى الاستلهام والاستكشاف، وان كان عالقاً في وجداني. وأنا الذي اظنه الآن شاعراً رائعاً في نصف ما كتب على الأقل، لا يسعني تذكره جيداً، تماماً كما لم يعد بمقدوري العودة الى الياس أبو شبكة أو فؤاد سليمان.
اعترف أن علاقتي مع الشعراء باتت واهنة. لقد فقدت الحافز تقريباً لقراءة دواوين ادونيس، أو صلاح عبد الصبور الذي تعلّقت به لفترة وجيزة. لم أعد اقرأ محمد الماغوط أيضا، لنقل أن ذلك نوع من نكران ل(المراهقة) إذا جاز التعبير أو نوع من الهروب. هذه كلها أقوال اعتباطية ومزاجية بطبيعة الحال. لكن على الأقل أحاول الصراحة والصدق.
أحبّ في السياب كل ما هو موغل في الطين والغبار والقسوة والمأساوية والطبيعة المسرفة بتطرفها وغضبها وجمالها الوحشي. أحبّ رومانسيته القاتمة... لكني ما عدت احتمل نبرة قصائده، ما عدت أتذوّق لغته وربما خسرت (متعة) قراءته (بعد إنجاز هذا النص سأجرّب حقاً أن أتصفّح ديوانه الكامل).
ليس هذا نصيب السياب وحده. فتذمّري من الشعر يجعلني هكذا قليل المطالعة للقصائد، مأخوذاً باستمرار بالروايات والروائيين. وأظن أن هؤلاء الأخيرين، هم، ويا للمفارقة، وحدهم قراء الشعر الحقيقيون.

السفير- 2005/01/07

رجوع