محمد لطفي
اليوسفي
أنشودة
المطر
الزمن
أشرنا
في مدخل هذه الدراسة، إلى أن البحث عن سمات الزمن الذي تتحرك ضمن أطره
القصيدة يمكن أن يعتمد كمنفذ هام في. مقاربة "القصيدة الجديدة". كيف
تتعامل أنشودة المطر مع الزمن؟ أو ما هي سمات الزمن الذي تطرحه؟ تحتوي
القصيدة على زمنها الخاص في صلبها. غير أن هذا الزمن يأخذ، في الحقيقة،
أكثر من وجه، ويصير إلى التكون مرافقا صيرورة النص ذاته
تبعا لذلك يصبح الإمساك
بسماته المميزة شكلا من أشكال النغاذ إلى محور هام من المحاور التي
تنهض عليها بنية النص
ولعل أول ما نشير
إليه في هذا الصدد، أن نص السياب ينبني على زمنين رئيسيين
أحدهما منبثق عن الجو الأسطوري الرمزي الناتج عن حضور الرمز العشتاري،
وراجع إليه. وثانيهما متولد عن الومضات الواقعية التي ترد في شكل تداعيات
منبعها ذاكرة الشاعر
الزمن الأول: زمن أسطوري
ملحمي (#)
يتجلى هذا الشكل الزمني
بطريقتين:
أ |
يبدأ
النص ساكنا هادئا،كما قلنا سابقا، فتطغى الجمل لاسمية (عيناك
غابتا نخيل/ شرفتان راح ينأى عنهما القمر) ثم تأتي الأفعال كلها
في المضارع (عيناك تبسمان / تورق الكروم/ ترقص الأضواء/ تنبض
النجوم) فتوحي بالاستمرارية والدوام. وتأتي الحركة التي توحي
بها تلك الأفعال في شكل "سريان! يتسم، بدوره، بالسكون. فالأقمار
ترقص دون ضجة والكروم تتفتق دون صخب، حتى لكأننا ننزل داخل لحظة
الخلق أو البدء. قبلها كانت الأرض خربة وكان العدم، ثم تسرى
الحياة (دبيب نمل) ولا شئ هناك غير: الماء.. النور.. النباتات.
هكذا تبدأ القصيدة كالأسطورة، أسطورة الحياة وهي تجاهد لتكون.
لذلك تأتي الانفتاحات الصوتية العديدة الواردة في الجمل الأولى،
لتوحي بتلك المجاهدة والمغالبة. مغالبة الحياة للعدم
ما
هو زمن هذه الحركة ؟ انه اللازمان أو هو، في الحقيقة، لحظة النبوءة
أو لحظة الرؤيا التي لا يمكن أن تقاس بمقاييس الزمن الموضوعي
المتعارف
|
ب |
ينسحب
هذا الشكل الزمني على مجمل النص فتأتي جميع الحركات ذائبة في
تلاوينه. لذلك نرى الصراع الذي يشير إليه النص في اكثر من موضع
(الصراع مع عواصف الخليج/ صراع العبيد في الحقول/ بإيجاز صراع
العراق الذي يذخر الرعود) يكف عن كونه صراعا اجتماعيا سياسيا
ويتحول إلى صراع شبه أسطوري أو شبه ملحمي يصب في لحظة البدء،
حتى لكأنه نوع من المغالبة تجاور مغالبة الحياة للعدم ثم يصبان
معا في "عالم الغد الفتي واهب الحياة" أي في لحظة التجدد
|
وتأتي اللازمة الصغيرة
"مطر مطر مطر"بمثابة المستقر الذي تظل جميع الوحدات والحركات تصب فيه.
ولما كان المطر في الحقيقة، هو الوجه الآخر لعشتار أي انه رمز الخصب
والتجدد، فانه يسم جميع الحركات بأبعاده ويجعلها تتحرك داخل الشكل
الزمني المتسم بالثبات والدوام
الزمن الثاني: زمن ميقاتي
متعارف
يأتي
هذا الشكل الزمني ليرفد الأول ويحد، بالضرورة، من جموح النص حتى لا
ينزلق على الواقع ويتناساه. وبذلك يمنح النبوءة أو الأسطورة مرتكزات
تجعلها تستدعي الواقع وتصهره في صلبها. هنا تلعب ذاكرة الشاعر دور
الدعامة المركزية التي تنهض علها هذه الظاهرة. ذلك أنها تطرح مخزونها
في شكل تداعيات يمكن أن نفرعها إلى قسمين:
أ -
قسم مداره طفولة الشاعر، لذلك نجد الطفل الذي كان يحضر في اكثر من
موضع:
(....)كنشوة
الطفل إذا خاف من القمر
(...)وكركر الأطفال في عرائش الكروم
(...)كأن طفلا بات يهذي تبل أن ينام
ومنذ أن كنا صغارا كانت السماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
ب - قسم مداره القمع الذي عاشه
الشاعر وهو على نوعين:
- القمع داخل العراق :
(...)وفي العراق جوع
(...)ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
(...)وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
- التشرد خارج العراق :
(...)
و كم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع
(...) أصيح بالخليج: يا خليج
لا بد
من الإشارة هنا، إلى أن عملية التداعي تأتي في شكل ومضات تشع وتختفي
عبر مجمل حركات النص ومراحله. لذلك نراها تقوم بتنزيل النص في الواقع
وتمنحه دفقا إنسانيا حميما يلغي طابعه التعميمي فيذوب الوجع الذاتي
في الوجع الموضوعي وبالإضافة إلى ذلك تتحول هذه الومضات، نتيجة ما
تتبعه من تسلسل دوري إلى قانون من القوانين الهامة التي تدير البنية
الإيقاعية. بمعنى آخر اكثر وضوحا، إن التداعيات تدخل في علاقة تناوب
ذات وجهين،
تناوب داخلي: يتجلى هذا الشكل في قالب انتقال دوري من عذابات الطفولة
إلى عذابات المناضل المقموع. وبذلك تكون الومضات قد تفاعلت فيما بينها
على نحو يسهم في خلق إيقاع داخلي خاص
تناوب خارجي: يتجلى هذا الشكل في قالب انتقال دوري أيضا، لكنه يحدث
بين الومضات التي ترشح بأحداث واقعية والطابع الابتهالي الأسطوري الذي
يسم مجمل وحدات النص. من هنا يصبح صوت الشاعر والنص بالتبعية له عبارة
عن حركة تمضي في اتجاهين: الابتهال في حضرة عشتار وتعرية الواقع. تبعا
لذلك لا يمكن للابتهال أن يصير بدون التداعي والتداعي لا يمكن أن يكون
بدون الابتهال. وبذلك يصبح النص عبارة عن وحدة متناغمة تحمل في بنيتها
شروط صيرورتها وتحمل في صيرورتها أسباب تحققها كنص شعري يلغي القديم
ويتجاوزه
العلاقة
بين الزمنين
هذه
العلاقة هي إحدى الحركات المحورية التي تسمح للنص بالتشكل والتقدم.
فالزمن الأول يخلع على الأحداث التي تجرى في الزمن الثاني شفافية الحلم
فتلحق بالطابع الأسطوري الطاغي وتذوب فيه
ويأتي
الزمن الثاني ليعطى القصيدة طاقات جديدة تسمح لها بالتقاط حركة الصراع
التي تعتمل في الواقع سلبا وإيجابا. يجب أن نشير هنا، إلى أن الأحداث
التي تجري في الزمن الثاني، تأتي في الحقيقة، مهيأة للذوبان في الأول
ذلك أنها
جملة من الأحداث أمعنت في الغياب وصارت تسكن الذاكرة-ذاكرة الشاعر-
ومن ثم صارت في مأمن، لا يمكن للزمن أن يطالها ويحدث فيها فعله أي
يغيرها كما يغير الأشياء التي تجري في اللحظة الحاضرة المتفتتة. بمعنى
آخر إن الزمن لا سلطان له على الذاكرة والأشياء التي تسكن ذاكرتنا
تظل دائما هي- هي. لذلك لا يكبر الأموات في ذاكرتنا ولا يهرمون فنتذكرهم
دائما كما رأيناهم في السابق
ولذلك أيضا عندما يستدعي الشاعر أحداثا عاشها في الماضي تأتي في شكل
صورة شفافة مرهفة حتى لكأنها عبارة عن حالة دائمة لا يدركها الزمن
أنها تستدعى مرارا وتظل دائما هي، هي محافظة على شفافيتها. تبعا لكل
هذه العوامل مجتمعة نراها تكسر آنيتها وتجاور الزمن الأسطوري الملحمي
لتذوب فيه وتنساب متتابعة، على نحو تلقائي، داخل الجو الأسطوري العام.
نصل بعد هذا إلى بقية العناصر التي تسهم في خلق القصيدة كالصورة ومنجزاتها
والإيقاع الشعري وطرائق حضوره.
ا
لصورة
لاحظنا
أن التداعي يمثل، بمعنى ما، الجذر الذي تعتمده القصيدة وتستند إليه
عبر مجمل مراحل تقدمها. وقد تمظهرت التداعيات، كما أشرنا سابقا، في
شكل صور تتوالد داخل الصوت الذي ينقلها. لذلك تحول النص إلى حشد من
الصور تنبني، جوهريا، على التشبيه المتعارف الذي تظهر جميع عناصره
صحيح
أن الصورة أصبحت تشكل وحدة مركزية مكنت النص من تجنب جميع أنواع الانفعالات
الحماسية، وجعلته ينفذ إلى دواخل الواقع ويلتقط التناقضات التي تعتمل
في صلبه. لكنها لم تستطع أن تكسر البساطة التي تسمها. ومن ثم عجزت
عن توظيف طاقاتها في خدمة التوجه الدرامي الذي تحاول القصيدة، جاهدة،
أن ترتقي إلى مصافه
بتعبير
اكثر وضوحا عجزت الصورة نتيجة اعتمادها على وسيلة بسيطة جدا (التشبيه
الذي ظهرت جميع أطرافه: كأن طفلا.../ كالبحر.../ كأنما تنبض في غوريهما
النجوم) عن استيعاب الواقع. لقد اكتفت بوصفه. إنها لم تنقل حركة الصراع
الجدلي القائم في الواقع بل وقفت عند رسم تجلياته. لذلك أغرقت النص
في نوع من التفجع (تنشج المزاريب/كم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع/ تسح
ما تسح من دموعها الثقال...) يذكر، إلى حد ما، بالتفجع الرومنطيقي.
معنى ذلك أن القصيدة تخرج من الماضي فعلا لكنها تظل تحمل بعض ترسباته.
لا يعني هذا. طبعا، أن الصور قد أصبحت بدون وظيفة. إنها تقوم رغم نقائصها
تلك، بدورين هامين
أ تسم
النص بأبعاد إيقاعية واضحة عندما تتوالد وتتحول إلى جملة من الإشعاعات
التي تومض بصفة، دورية، متتابعة داخل القداس الابتهالي. ب تقوم، مستندة
دائما إلى وسائلها المتواضعة، (التشبيه- الطباق)، بإبراز المفارقة
الكامنة في عمق الحياة
دفء الشتاء فيه
وارتعاشة الخريف
والموت والميلاد والظلام والضياء
ومن ثم تلح على موضوعة الخلاص
البشرى التي تتحلق حولها القصيدة، خصوصا عندما تجمع المتناقضات وتؤلف
بينها (الموت- الميلاد/ الظلام- الضياء/ دفء- ارتعاشة)
الإيقاع
يمكن
أن نقول في ضوء النتائج التي وصلنا إليها بأن "أنشودة المطر" قد أسست،
معتمدة على مؤهلاتها الذاتية، إيقاعا خاصا ينبع من دواخلها انه ينبثق
عن الحركات التي يشهدها الرمز العشتاري والعلاقات التي يخلقها مع بقية
الذوات الحاضرة،؟ ينبع من ظاهرة التداعي التي تتبع نوعا من التسلسل
الدوري، بالإضافة إلى مسألة التضاد الجدلي، وما توفره من تناغم بين
المتناقضات.
بإيجاز: لم يعد الوزن الخليلي يلعب دور المحدد الرئيسي لإيقاع النص.
صحيح أن السياب يستعمل بحر الرجز. لكنه يخلصه من طابعه الاكراهي فتصبح
التفعيلة موظفة في خدمة الإيقاع المعنوي
واضح إذن أن "أنشودة المطر" موسومة بطموح كبير. إنها تريد أن تلغى
الماضي وتقطع مع جميع مخلفاته بكل صرامة. لذلك نجدها تتحفز وتجند كل
طاقاتها لتكسر مساحة الإيقاع الشعري القديم وتخلق إيقاعها الخاص. إنها
تستعمل طرائق متنوعة وتصهرها في شكل ضوابط إيقاعية خارجية ترفد بها
الإيقاع الداخلي، منها: التكرار: يتجلى بطريقتين واضحتين
- لازمة صغرى تتمثل في ترديد كلمة مطر
- لازمة كبرى ترد مرتين لتؤكد على حتمية الخلاص البشري أي حتمية مجيء
"الغد الفتي واهب الحياة"
الوسائل البلاغية
القديمة
(هنا،
يستند السياب إلى لغة الماضي فيستدعي الجناس (مبسم- ابتسام
وكل قطرة تراق من دم
العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
والطباق
(الموت والميلاد والظلام والضياء). تلعب هذه المحسنات دورا إيقاعيا
على المستوى الصوتي وذلك باستدعاء نفس الصورة الصوتية في الجناس وعلى
المستوى الدلالي في حالة الطباق أين يصبح الانتقال الدوري من الضد
إلى الضد ثابتا إيقاعيا
ندرك إذا في ضوء ما تقدم أن هذه القصيدة تعيش داخل مدارات البحث. لذلك
وردت مليئة بالتحفز والترجرج. إنها تحاول أن تخرج من الماضي مستندة
على مؤهلاتها (الرمز الأسطوري- الصورة وما تمنحه من أبعاد إيقاعية-
وتزاوج الذاكرة والرؤيا...) وتوظف جميع الإمكانيات حتى الماضي نفسه
خصوصا عندما تستند إلى المحسنات البديعية والوزن والقافية لتخلق بنية
متفردة
من هنا يمكن أن نقول إن هذه القصيدة تمثل فعلا الفضاء الذي ستتحرك
داخله القصيدة العربية الجديدة وتحاول أن ترتاد جميع آفاقه كما سنرى
في ما بعد، أي عند استقراء تجربة سعدي يوسف ومحمود درويش وعلى أحمد
سعيد (أدونيس)
سنستعمل عبارة زمن
أسطوري ملحمي للدلالة على زمن يتسم بالثبات والدوام. ويجعل النص
يفلت من عقال الآنية ويصبح عبارة عن أسطورة أو نبوءة تختزل الأزمان
جميعها وتلغي شرطيتها |
(#) |
/ مصدر النص : في بنية الشعر العربي - محمد لطفي اليوسفي -الطبعة
الثانية- 1992 سراس للنشر- تونس
| @ |
رجوع
|