والإنترنت منزلٌ أوسع

(هل تحل الرسالة الإلكترونية محل الورقية؟ بزي وحداد والأمير يجيبون)

عناية جابر
(لبنان)

لو كانت رسائل غسان كنفاني الى غادة السمان مرسلة على شكل «ميلات» لأمكننا التشكيك بها وبمرسلها. ولأنكرها المستاؤون من نشر تلك الحميميات، إلا أن رسائل كنفاني كانت بخط يده. رسائله كانت حياته الصغيرة وفخه. الرسالة العادية، المكتوبة بخط اليد أعني، تقيم احتفالها الخاص. سخونة العواطف على نصاعة الورق وتخطيطاته وكاروهاته، وصولاً الى المغلف الذي يحضن الكتابة. لمغلف الرسالة معناه ايضاً، مستطيلاً ومثلثاً في آن، الشكلين الهندسيين العجيبين تخفق لهما الافئدة على بساطة تركيبهما وعلى ما ينطوي عليه داخلهما من إثارة. الهموم أكثر هماً في الرسائل العادية. الحب أكبر. التوترات والخلافات، ترقيقها وتسعيرها في النبض المتنوع فوق المساحة البيضاء، فوق الصفحات التي لا مثيل للإحساس بملمسها.
المخلصون للورق وللكتابات الورقية، يجدون في الرسائل الالكترونية، خطر تعرية كاتبها امام الملايين. وعلى الرغم من التطمينات التقنية التي تحفظ للكاتب حق صون رسالته عن أعين الفضوليين، يبقى غير كثير الثقة بتلك الخصوصية التي تكفلها رسالته، مرسلة بخط اليد معززة مكرمة الى صاحبها دون سواه. أعداء الرسائل الالكترونية يجدون فيها مجرد رشقات لغوية، من دون روح، مختصرة ولكن من دون كثافة، كأنما في فعل اختصارها تفكير «بالكلفة» أكثر مما هو حاجة او كفاية. ينكرون على الرسائل الالكترونية أناقتها، وحميميتها وإحجامها عن تنوع السرد الذي يدمغ كتابة الرسائل العادية، واقتصارها على التبليغ في اقتضاب مترفع، وعلى نوع الرسائل «العملانية» والخدماتية، وبعض الهذيانات التي لا طائل منها، البرودة برأي المتعصبين لفن التراسل القديم، تسود عالم الرسائل الفورية، لان المسافة بين رسالة واخرى، حياة. ولان انتظارها، حياة. ولان الرحلة التي تقطعها بين ذهاب وإياب حياة. ولأن فعل تدوينها اليدوي حياة مضاعفة.
صورة متغيرة
تتسع الهوة ويبدو التفاوت بائناً بين حزب وآخر. حزب الرسالة العادية، وحزب الالكترونيات في المعركة الصامتة، ولكن الشرسة بين حزبي التراسل. ومع أن الغلبة واضحة اليوم، والانتصار قطع أشواطاً هائلة لمصلحة سرعة التخابر إلا ان اصحاب النهج القديم ماضون في الذود عن قديمهم ولهم فيه على ما قرأنا وجهات نظر.
بحسب «نشرة واشنطن»، بلغ عدد مستخدمي الانترنت في اميركا وحدها، أكثر من ثلثي السكان اي حوالى ثمانين بالمئة من مجموع عدد الاميركيين الذين تزيد اعمارهم على ثمانية عشر عاما، ما اظهر من خلال الدراسة فوارق واضحة بين من يستخدمون شبكة الانترنت للتراسل والخدمات، ومن لا يستخدمونها. ثمة هنا الصورة المتغيرة لوسائط التخابر والانماط المتغيرة، وعموما التواصل بجميع أشكاله. الاقليات العرقية اقل استخداما لشبكة الانترنت من البيض، فيما مستخدموها الـ99 بالمئة من السكان هم عموماً أصغر سناً وأكثر ثراء وأفضل تحصيلاً علمياً من غير مستخدمي الشبكة.
هذه الملاحظة سردها لي أحد الشعراء الأصدقاء ممتنعاً عن تدوين اسمه هنا، شاكياً أن في التراسل الالكتروني تلك اللمسة الطبقية الخاصة بطبقة معينة، وهو نوع ـ بالنسبة إليه ـ من الإرهاب التقني أمام من لا يطيق استعمال التقنيات. أعرف شاعراً آخر رفض عرضاً في احدى الوكالات العالمية، من مجرد فكرة جلوسه حيال تلك الآلة «الغريبة»!! وقضاء ساعات النهار في تصاريف يلذ له شخصياً قضاؤها على الورق لا غير.
من جهة أخرى، الشاعر يوسف بزي يقول: «أبدأ صباحي بفتح جهاز الكومبيوتر خاصتي، وأنهي نهاري بإقفاله. علاقتي بـ«الميلات» يومية ـ قال لي ـ اتلقى يومياً ما يعادل رسائل عشراً، وأرسل اجوبة ورسائل شخصية ومهنية بما لا يتجاوز 4 او 5 رسائل. مع ذلك ـ يضيف بزي ـ لا أجدها وسيلة تواصل مرضية. اطمح الى اضافة «أكسسوارات» الى الكومبيوتر، توفر لي التواصل صوتاً وصورة، لربما اكتملت هكذا مهمة الكومبيوتر في التراسل والتخاطب وإقامة العلاقات. مضى زمن طويل جداً لم اكتب رسالة خطية. أنا من الذين يمقتون فن التراسل الخطي. كنت اعجب من شخص ما في المغرب مثلاً، او في العراق يقرر أن يعطي من وقته لكتابة رسالة يرسلها لي. نادراً ما كنت أجيب على مثل هذه الرسائل. أجد هذا النوع من التراسل غريباً فعلاً، وأتذمر من الذي يعاتبني على ندرة اجابتي على رسائله، او عدمها».
أتباع الرسائل الخطية حتى اللحظة يستنجدون بالرسائل الشهيرة المكتوبة بخط اليد كملاذ لتأكيد وجهة نظرهم غوته كتب الى حبيبته شارلوت: «يا ملاكي الحبيب، يجب ان اخبرك ايتها المختارة بين النساء انك ألقيت في قلبي حباً يملؤني بهجة..». ومن بيتهوفن الى امرأة مجهولة: «ملاكي، كياني، ذاتي الاخرى، كلمات قليلة فقط هذا اليوم، مكتوبة بقلم الرصاص، هل إن خطأك يكمن في كونك لست لي كلياً وأنا لست لك كلياً؟ انتِ تعانين باستمرار، اعرف ذلك من رسائلك. كنزي الأغر، لكن علينا أن نتحلى بالصبر الجميل».
رسائل لا حصر لها، تختلف عن التراشق السطحي على شاشة الكومبيوتر، تختبئ عن أعين الفضوليين في حقائب قديمة او بين ركام «كراكيب» متربة، او مموهة في حجرات مهجورة وعلى رفوف منسية، لكن التقليب فيها.. إمساكها باليد.. مجرد مرور العين عليها يفتح آلاف الاشواق والضحكات والحسرات والدمعات والصور.
مستخدمو الإنترنت، الحب في حسبانهم يأتي في آخر الاهتمامات، فثمة استعمال متزايد له للحصول على معلومات صحية ودينية ومالية ورياضية وسياسية، كذلك في البحث عن معلومات حكومية رسمية، وإجراء المعاملات المصرفية على الإنترنت، والاشتراك في المزادات، وتبادل الرسائل الفورية العادية، والحصول على ملفات موسيقية وإلى ما هنالك من عمليات بيع وشراء تطاول كل شيء بما فيها البيوت والعقارات وسوى ذلك.
غير أن تبادل الرسائل الالكترونية هو «الاستخدام الأول» للإنترنت.
منزل أوسع
فالروائية والناشرة رشا الأمير تجيب عن معرض علاقتها بنوع التراسل الالكتروني:
«حياتي يدور كثير من رحاها أمام شاشاتي (حاسوبي، هاتفي المنقول وتلفزيوني) التواقة، كل على طريقتها، الى الاستحالة اطواق نجاة تصلني بالآخرين؛ الأدنون منهم والأبعدون، المدونة اسماؤهم وعناوينهم في دفتر عناويني الالكتروني ومن لا أعرف ممن قد تصلهم كلماتي، تلك التي أنثر تحت كل نجم.
صغيرة، كنت استغرق في الضحك وأنا أمر هازئة على ركن التعارف في مجلات من مثل سوبرمان وباتمان. كان الباحث عن أصدقاء جدد يعرّف بنفسه قائلاً إنه يهوى المطالعة ومراسلة الجنس الآخر!
لا، لا يمضي المرتاح الى حاسوبه جل وقته في الكتابة الى معارفه واصدقائه من الجنسين. لا يمضي وقته لاهياً، فاضاً رسائله الواحدة تلو الأخرى، مجيباً عنها بانتظام. الحاسوب وتوابعه البريدية المدهشة سلاح فردي رشيق يجمع بين الجد واللهو والإثارة.
فحين ينهي الكاتب كتابة مقاله على برنامج ورد، يرسله فوراً الى اقاصي الارض بنقرة واحدة. لا فاكس ولا مغلفات ولا (لشديد الاسف) طوابع بريد. وحين ينشر صديق بحثاً له في مجلة متخصصة، يتكرّم بإرسال عنوان هذه المطبوعة الافتراضي غير المتوفرة بسهولة في مكتبات بلدنا. او حين يسافر عزيز إلى المقلب الآخر من الكوب، نفرح أن نتابع سير رحلته رسالة تلو الأخرى. ليس البريد الالكتروني وحده سبب تعلقنا الحميم بشاشاتنا. هذا التواصل اللعوب الذي تؤمنه لنا سيدة عصرنا، سلطانة التكنولوجيا، مثير وحار وشاحذ.
فلا تعجبن من تعلق المولودة مثلي في محبرة البدء والكلم، إن هي اصطفت الاوسع والادهش منزلاً!».
كما ان للشاعرة جمانة حداد علاقتها الوطيدة بالكومبيوتر عملاً ورسائل شخصية وغير شخصية تستدعيها المهنة، تقول جمانة:
«المرة الأولى استلمت فيها رسالة «حقيقية»، لبضعة أعوام خلت، من قارئة لي في السعودية، نظرت الى الغلاف الموضوع على الطاولة أمامي غير مصدقة، كأنه معجزة. كنت «أسمع» عن ساعي البريد، لكني درّبت نفسي على الاعتقاد بأنه شخصية اسطورية، مثل بيضاء الثلج وسندريللا. كيف لا وقد نشأتُ في بيروت أيام الحرب، حيث لم يكن هناك بريد ولا من يحزنون؟ بل إني كنت في طفولتي احسد الاجانب في الافلام كلما رأيت ساعي البريد يصل على دراجته الى باحة بيتهم، ويودع رسائل في صناديقهم، واشتهي ان استلم رسالة واحدة في حياتي.
المرة الاولى استلمت فيها رسالة «حقيقية» إذاً، فتحت ذلك الغلاف المستطيل ـ المستحيل ـ الابيض، المخططة اطرافه بالأحمر والأزرق، بنشوة لا تعادلها نشوة. حدث ذلك في الفترة التي بدأت الحياة تعود فيها الى نوع من الإيقاع الطبيعي في لبنان. حدث، ايضاً، في موازاة اكتشافي الانترنت، واكتسابي بريداً الكترونياً على الهوتميل.
كان البريد الالكتروني «فشة خلق» عظيمة بالنسبة إليّ، انتقمت فيها، وبواسطتها، من كل القمع التواصلي الذي عانيته قبلاً. كنت أفتح علبة بريدي كل يوم بترقّب وحماسة، متشوقة الى المفاجآت التي سيحملها إليّ ذلك الفضاء الافتراضي الواسع. ولم أزل أذكر كم كان ذهولي عظيماً عندما أدرت الكومبيوتر في احد الصباحات على عادتي، فوجدت «ايميلاً» من الشاعر الفرنسي الثمانيني ايف بونفوا، يرد فيه على رسالتي (الورقية) اليه! ادهشني ان تكون التكنولوجيا قد طوّعت عادات رجل بهذا العمر، بينما اعرف اصدقاء «ديناصوريين» كثراً لا يزالون «يصمدون» أمام إغراء الكومبيوتر، ويصرّون على الكتابة والتواصل بالقلم والورقة.
بين كبسة الزر وشحطة القلم، سأختار، بلا تردد، كبسة الزر. هناك حبل سرّة بات يصلني بكومبيوتري، وعلاقتي بلوحة المفاتيح لا تقل حميمية وخصوصية عن علاقة البعض بالقلم. بل اصبحت الكتابة على انواعها (شعراً وصحافة وترجمة)، صعبة بالنسبة اليّ خارج اطار هذه الشاشة المضاءة امامي، والتي تناديني بإلحاح ورقّة. أيضاً، لي موقع على الشبكة منذ سنوات، وهي في مفهومي نافذة للتواصل الشعري موازية للكتاب من دون أن تحلّ مكانه، وزوّاره شعراء وقرّاء من مختلف أنحاء العالم. يحلو لي ان افكر ان هذا الموقع عالمي، كوكبي، بيتي الذي أستضيف فيه اولئك الذي يشبهونني واشبههم، وقد بات عندي اصدقاء وصديقات وقراء وقارئات احبهم حد شعوري بأنهم من لحمي ودمي، رغم إني لن ألتقيهم يوماً على الأرجح وجهاً لوجه.
ورغم سيئات البريد الالكتروني، وأبرزها اجتياحه فسحة الحياة الخاصة، وإرهاب تحوّله ضرورة قصوى في عصرنا، وسرعة التفاعل التي يفرضها على المتلقي، والتي قد لا تتناغم مع مزاج الأخير وإيقاعه؛ ورغم الفلتان الانترنتي الذي يتسم بعنف إعلامي وقذارة إعلانية مشبوهين الى حد لم يسبق له مثيل باسم حرية التعبير، فإن الانترنت سيظل من أهم المنجزات التي حملها إلينا القرن العشرون. عالم كامل، بناسه وجباله وأفكاره وأنهاره وحسناته ومصائبه، في قبضة يد: هل أجمل من ذلك؟ هل شرّ من ذلك؟
عود على بدء: قلت اني كنت، طفلة، احسد الاجانب في الافلام كلما رأيت ساعي البريد يودع رسائل في صناديقهم. الآن، مع امطار البريد الالكتروني الغزيرة ومع الكم الهائل من البريد الورقي الذي يغزو مكتبي في «النهار»، ومعظمه غير شخصي، صرت احن ـ صدقوا او لا تصدقوا ـ الى بعض الحرمان الذي ذقت طعمه في طفولتي!».
خصوصيات
«النوستالجيون»، يرون في التراسل اليدوي، تدويناً، ويرون فيه تأريخاً وتشغيلاً لليد على الورقة بكل العاطفة والقلب والاحساس. لا مصالحة ـ يقولون ـ ولا سلم مع «العولمة» في شكلها الصارخ هذا. بعض الكتّاب العرب يرون أن الرسالة اليدوية غنية مع حضارتهم العربية التي بدأت بالكتابة، وتوشك أن تنتهي عندها!! يرفضون المسار الأكاديمي في الرسائل الالكترونية، فمنطق الرسالة برأيهم في حريتها، في حين أن منطق «الإيميلات» غير متوتر أو مفتوح على العلاقات الانسانية الفعلية. يكرهون وقوع الأخبار والاحوال والمشاعر في شاشة زرقاء واحدة تشبه على ما قال احدهم ـ احد مراحيض الاوتيلات، الاضاءة نفسها، والتخلص من فضلات الكلام بأقسى سرعة ممكنة. Delete فحسب وينتهي كل شيء، لما ان رسائلهم هي عمارات احساس في طوابق، وطوابق انفعالات في شقق، وشقق بغرف دافئة، وغرف بزوايا وشرفات ومطلات ومشاهد خلابة.
حجة الميالين الى التراسل اليدوي، إنهم يأخذون على اصحاب الاختيار الآخر (الإيميلات) اهتمامهم الكبير به، ما يولّد الخشية من الاكتفاء به على حساب حضور القراءة عند الناس، وعند الشباب خصوصاً. فعبر الانترنت الآن، يناقش الشباب وغير الشباب قضاياهم العاطفة (وإن بملامسات خفيفة تفعلها الـ Mouse) وما يفضلونه من فرق غنائية وسوى ذلك. غير أن غالبية الكتّاب الذين يمتلكون اهتمامات أكثر رصانة، يستعملون الكومبيوتر لا لكلام عن خصوصياتهم عبر الإنترنت، بل للكلام على كتبهم ولهم في هذا المجال موقع خاص يدعى Library Thing وهو يسمح لمستخدميه ان يكوّنوا فهارس للكتب على الانترنت وان يعرفوا عما يمتلكه الأعضاء الآخرون من كتب وان يكتشفوا ما يفضله غيرهم وان يتبادلوا الكتب فيما بينهم، عبر عرض مكتباتهم الشخصية على الإنترنت، كما لو يسمحون لهم بزيارة بيوتهم.


إقرأ أيضاً: