نبيل علي
(مصر)

رفيق شرقمقدمة: عن هذه الدراسة
تستهل هذه الدراسة بتقديم منظومة المعرفة من منظور عصر المعلومات، يلبيه استعراض لعناصر الدورة الكاملة لاكتساب المعرفة عموما والإنترنت بصفة خاصة، وذلك في ظل قناعة راسخة أنه يتعذر نقل المعرفة وتوطينها في تربة الوطن العربي دون مراعاة هذه الدورة بأكملها، ويزعم الكاتب أن فشل المشاريع السابقة لنقل المعرفة في الوطن العربي يرجع - بصورة أساسية - إلى الاكتفاء بمهمة الحصول على موارد المعرفة وإغفال المهام الأخرى المتعلقة باستغلال هذه الموارد وتنميتها. على أساس هذا التمهيد تتفرع الدراسة عبر ثلاثة محاور أساسية هي:
المحور الأول: اللغة العربية ودورة اكتساب المعرفة من منظور الإنترنت.
المحور الثاني: التربية العربية واستيعاب المعرفة من منظور الإنترنت.
المحور الثالث: البحث العلمي وإنتاج المعرفة الجديدة في العالم العربي من منظور عصر المعلومات.
تتعرض الدراسة في تناولها لكل من هذه المحاور إلى ملامح الوضع العربي الراهن تتبعه مجموعة من المنطلقات المقترحة لتحسين هذا الوضع.

أولا: منظومة المعرفة من منظور معلوماتي

1 : 1 الإطار العام لمنظومة المعرفة
يلخص (شكل 1) الإطار العام لمنظومة المعرفة من منظور الدراسة الراهنة، ويشمل هذا الإطار ثلاثة مقومات رئيسية هي:
نوعيات المعرفة ومستوياتها.
الدورة الكاملة لاكتساب المعرفة.
الفروع المعرفية التي تساند المعرفة وتنبع منها وتصب فيها.
وسنتناول فيما يلي المقومين الأولين بمزيد من التفصيل:

شكل رقم 1: الإطار العام لمنظومة المعرفة

1 : 2 نوعيات المعرفة
يمكن تقسيم المعرفة وفقا لمجالها وطبيعتها إلى:
معرفة علمية: وهي ترتكز على علوم الطبيعيات ممثلة هنا بثنائية علم الطبيعة (الفيزياء) الذي يتعامل مع "اللاحيوي" أساسا، وعلم الأحياء (البيولوجيا) الذي يتعامل مع "الحيوي"، وقد قام اقتصاد المعرفة على تكنولوجيا الكمبيوتر والاتصالات التي تعد الفيزياء - حتى الآن - أهم العلوم المؤسسة لها، والتكنولوجيا الحيوية وليدة الثورة التي حدثت في مجال الميكروبيولوجي وهندستـه الوراثيـة، وقد اندمج هذان الفرعان حاليـا فيما يعرف بالمعلوماتية الحيوية bio-inforonatics التي يتوقع الجميع أن تكون لها إنجازات بالغة الأثر على إنتاجية جميع الكائنات: إنسانا وحيوانا ونباتا، وستكون لها تطبيقاتها المثيرة ذات الأبعاد الاقتصادية البعيدة المدى.
معرفة الإنسانيات: ويأتي على رأسها علم اللغة، والذي يعد - بلا منازع - الركيزة الأساسية لفروع الإنسانيات الأخرى، والتي تشمل علم الاجتماع، وعلم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، وعلم التاريخ، والجغرافيا البشرية، وعلم الثقافة، وقد زادت أهمية علوم الإنسانيات في الآونة الأخيرة نظرا لتنامي التوجه الثقافي الاجتماعي لمنتجات تكنولوجيا المعلومات، وراحت تبحث مع ارتقاء نضوجها العلمي عن مناهج جديدة يخلصها من أسر ما اقترضته من مناهج علوم الطبيعيات، وهناك كثيرون يتوقعون أن تستحدث الإنسانيات مناهج فكر جديدة يمكن أن تقترضها علوم الطبيعيات ذاتها، بعد أن باتت هي الأخرى تواجه أزمة منهجية حادة.
تأسست العلاقة بين علوم الطبيعيات وعلوم الإنسانيات عن طريق الرابطة الوثيقة التي أقامها الميكروبيولوجي الحديث، ذروة علوم الطبيعيات، مع اللغة، سندريللا علوم الإنسانيات، وهي الرابطة التي تتضح - أكثر ما تتضح - في استخدام اللغة من قبل الميكروبيولوجي الحديث كنهج أساسي له، وها هو المجاز اللغوي يطغى على قاموس الميكروبيولوجي، والأمثلة على ذلك عديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: السفر الوراثي - المعجم الوراثي - الأبجدية الوراثية - الجملة الوراثية - الترجمـة البيولوجيـة، وها نحن نسمع - حاليا - عن "فهرسة البروتينات" واللبس في قراءة سلاسل الجينات، وعن تطبيق أساليب النحو والتحليل الدلالي على النص الوراثي لكشف بنيته التركيبية ومعاني (دلالات) مقاطعه الجينية.
لقد استدرجت تكنولوجيا المعلومات علوم الإنسانيات إلى حلبة الاقتصاد بعد أن وفرت لهذه العلوم شقها التكنولوجي الخاص بها، المتمثل في تكنولوجيا اللغة وهندسة الذكاء الاصطناعي وهندسة المعرفة والهندسة المجتمعية وصناعة الثقافة وما شابه، ويمثل الثالوث المعرفي المكون من الميكروبيولوجي وعلم اللغة الحديث وتكنولوجيا المعلومات مقدمة ركب اقتصاد المعرفة والتي تجر وراءها قاطرة المعرفة الإنسانية بأكملها: فلسفة وعلما وفنا وثقافة وتقانة.
المعرفة الكامنة وراء الفنون: إن الفن - في جوهره - ضرب من المعرفة، معرفة تختلف من حيث طبيعتها عن تلك التي يمدنا بها العلم، وقد أكد هذه الحقيقة المنحى المعرفي الذي اتخذته فنون عصر المعلومات، والتي نورد هنا بعضـا من أجناسها: الفن الرمزي - الفن المفهومي - الفن الاتصالي، وجميعها - كما تدل أسماؤها - كثيفة المعرفة. لقد فجر هذا التوجه الفني كثيرا من القضايا التي استلزمت تمحيص المعرفة الكامنة وراء الفنون والتي أصبحت عنصرا أساسيا في تكامل معرفة عصر المعلومات، وهي المعرفة التي تنأى - كما أوضحنا - عن الفصل بين الطبيعيات والإنسانيات من جانب، وتسعى لاختراق الحواجز الفاصلة بين العلوم والفنون من جانب آخر.
تكمن علاقة الفنون بعلوم الطبيعيات والإنسانيات بعلاقة ثلاثتهما بعلم اللغة، وقد أشرنا أعلاه إلى علاقة الطبيعيات والإنسانيات بعلم اللغة، أما فيما يخص الفنون فاللغة هي بمثابة "النسق الرمزي الأم" الذي يحتذى به لوضع الأساس النظري للغات الفنون الأخرى: لغة الموسيقى ولغة الشعر ولغة التشكيل ولغة المسرح ولغة الأداء الحركي.
تمثل المعرفة الكامنة وراء الفنون مدخلا نظريا أساسيا لإحدى التكنولوجيات المحورية لاقتصاد المعرفة، ونقصد بها تكنولوجيا الوسائط المتعددة multi-media التي تمتزج فيها أنساق الرموز المختلفة: نصوصا وأشكالا وأصواتا.
معرفة الخبرة العملية: وهي المعرفة الدارجة، معرفة الحس الشائع المباشر common sense knowledge، ومعرفة الخبرات العملية، وممارسات الحياة اليومية، وهي المعرفة الشغالة - إن جاز القول - التي يلجأ إليها الفرد العادي لفهم واقعه، وحل ما يواجهه من مشاكل، وتفسير ما يلاقيه من ظواهر. إن هذه المعرفة العملية الدارجة هي التي أبدعت الفلكلور والحكمة الشائعة، والموسيقـى الشعبية والحرف اليدوية وما شابه، وهي معرفة فشل حتى الآن اقتصاد عصر المعلومات، ناهيك عن الاقتصاد التقليدي، في تحديد ملكيتها وحماية حقوق مالكيها.

1 : 3 الدورة الكاملة لاكتساب المعرفة

شكل 2: الدورة الكاملة لاكتساب المعرفة
يوضح (شكل 2) المهام المختلفة التي تتضمنها الدورة الكاملة لاكتساب المعرفة وهي تندرج تحت أربعة عمليات أساسية هي:

( أ ) العملية الأولى: اقتناء مصادر المعرفة وتشمل المهمتين التاليتين:

النفاذ إلى المعرفة: وتشمل عمليات النفاد إلى مصادر المعرفة المختلفة، خاصة الإنترنت، من خلال نظم استرجاع المعلومات أو من خلال حضور المحاضرات والمؤتمرات والمشاركة في الندوات عن بعد، أو من خلال الحوار المباشر بالمشاركة في حلقات النقاش المتناثرة عبر الإنترنت.
ترشيح المعرفة: وتشمل تنقية مصادر المعرفة من المعلومات التافهة والضارة والخاطئة، وقد أتاحت تكنولوجيا المعلومات طرقا عديدة لتزوير الصور وتشويه النصوص ونشر المعلومات المضللة.

(ب) العملية الثانية: نقل واستيعاب المعرفة وتشمل المهام التالية:

تحليل المعرفة: وتشمل عمليات تحليل النصوص التي تكشف عن البنية الداخلية لهذا النصوص وشبكة العلاقات التي تتفاعل بداخلها، ومنها العلاقات المعجمية التي تربط بين ألفاظها ومشتقاتها ومترادفاتها، والعلاقات التركيبية التي تربط بين فقراتها وجملها وأشباه جملها، والعلاقات الزمنية والمكانية التي تربط بين مسلسل أحداثها، والعلاقات المنطقية التي تربط بين الأحداث والأسباب وبين المقدمات والنتائج.
تبويب المعرفة: وتشمل العمليات الخاصة بتصنيف محتوى المعرفة وفهرسة الوثائق لتحديد قائمة من الكلمات المفتاحية key words المستخلصة من نصها لكي تكشف عن مضمونها وتحدد مجالها وموضوعها.
استخلاص المعرفة: ويعني الكشف عن المفاهيم الأساسية basic concepts والأفكار المحورية key ideas التي ينطوي عليها النص، واستنباط المعلومات الضمنية implicit المستترة وراء سطوره وذلك باستغلال قرائن يتضمنها ظاهر النص الصريح، وجدير بالذكر هنا أن المعرفة السافرة explicit التي يحملها ظاهر النص لا تمثل - عادة - إلا 10 % تقريبا من المعرفة الكلية التي يحويها النص، أما الباقي - وهو الجزء الأكبر بكثير - فيبطنها النص في جوفه.
دمج مصادر المعرفة: ويعني صهر أكثر من مصدر معرفي (وثيقة) في كيان معرفي متسق ومتكامل، وهي عملية أبعد ما تكون عن عملية "القص واللصق" حيث لا يمكن تحقيق عملية الدمج هذه إلا على مستوى الأفكار المحورية والمفاهيم الأساسية لكل مصدر، والتي يتم تحديدها من خلال عمليات التبويب والاستخلاص السالفة الذكر، وكثيرا ما تتطلب عملية الدمج إعادة صياغة لنصوص المصادر المدمجة في نص متجانس ذي بنية مستقلة عن بنية لمصادرة.
تفكيك المعرفة: تسعى عملية تفكيك مصادر المعرفة للكشف عن فكر مؤلفها واستظهار ما سكت عن البوح به سترا لنواياه - ولجهله أحيانا - أو تحاشيا للصدام مع السلطة على اختلاف أنواعها.

(ج) العملية الثالثة: توظيف المعرفة وتشمل المهام التالية:

توصيف المشاكل: وتشمل تحليل المشكلة إلى عناصرها المحورية ودراسة العلاقات بين هذه العناصر وتمثيل ذلك بصورة منهجية.
مقارنة بدائل الحل: طرح عدة بدائل للحل وتوضيح أسلوب كل منها في حل المشكلة ووضع معايير للمقارنة بينها واختيار أفضلها وفقا لذلك.
تطبيق الحل: ويشمل تفاصيل تنفيذ الحل والموارد المطلوبة لتنفيذه وكذلك مراحل التنفيذ ومخططها الزمني.
تقييم النتائج: تقييم أداء النظام بدلالة عدة مؤشرات كمية ومقارنة النتائج الواقعية بالنتائج المتوقعة، واتخاذ إجراءات تصويب الأخطاء وتحسين الأداء.

(د) العملية الرابعة: إنتاج المعرفة وتشمل المهام التالية:

توليد المعرفة: ويقصد به البناء على المعرفة القائمة من أجل إنتاج معرفة جديدة من خلال أسلوب الاستقراء، والذي يعتمد - أساسا - على الاستيعاب الدقيق للمعرفة المتراكمة، واتخاذ منطلقات جديدة تمكن من تجاوز هذه المعرفة وصولا إلى المعرفة الجديدة.
إهلاك المعرفة: ويعني التخلص من المعرفة القديمة وإحلالها بأخرى أكثر حداثة، وتتزايد أهمية عملية الإهلاك المعرفي مع تسارع معدل إنتاجها والاحتفاظ بالمعارف القديمة يخلق نوعا من الفوضى في نظم تخزينها، "تلوثا معرفيا" إن جاز التعبير.
توثيق المعرفة: وهي عملية تسجيل المعرفة الجديدة في صورة وثائق علمية وتكنولوجية، واستخلاص الشق المفيد من المعرفة المتقادمة لأغراض الأرشفة لا بدافع التوثيق التاريخي فقط بل لاحتمال أن نحتاج في المستقبل إلى إعادة تدويرها Knowledge recycling.

ثانيا: اللغة العربية ودورة اكتساب المعرفة

2 : 1 مقدمة عن تعاظم دور اللغة في مجتمع المعرفة
اللغة العربية - بلا شك - أبرز ملامح الثقافة العربية، وهي أكثر اللغات الإنسانية ارتباطا بالهوية، وارتهانا بالمتغيرات التاريخية، فهي اللغة الإنسانية التي صمدت سبعة عشر قرنا سجلا أمينا لحضارة أمتها في ازدهارها وانتكاسها، وإن كانت منظومة المعرفة - كما اتفقت معظم الآراء - هي مناط الأمل في تجاوز المجتمعات العربية لتخلفها الراهن، فمنظومة اللغة - كما يرى الكاتب - هي مناط الأمل في بعث الحيوية في جميع أرجاء منظومة المعرفة هذه.
لقد تعاظم دور اللغة في مجتمع المعرفة، ويرجع ذلك إلى عوامل عديدة نلخص فيما يلي أهمها:
محورية الثقافة في مجتمع المعرفة فلم تعد الثقافة مجرد بنية فوقية، أو عنصرا ضمن عناصر أخرى تتكون منها منظومة المجتمع، بل أصبحت الثقافة هي المحور الأساسي الذي تدور في فلكه عملية التنمية المجتمعية الشاملة.
محورية اللغة في منظومة الثقافة نتيجة لتعاظم الدور الذي تلعبه اللغة في جميع العناصر الفرعية المكونة لمنظومة الثقافة في مجتمع المعرفة، والتي تشمل: الفكر والإبداع والتربية والإعلام والتراث ونظام القيم والمعتقدات.
محورية تكنولوجيا المعلومات في منظومة التنمية التكنولوجية الشاملة، في حين أصبحت معالجة اللغة آليا بواسطة الكمبيوتر هي محور تكنولوجيا المعلومات، فاللغة هي المنهل الطبيعي التي تستقي منه هذه التكنولوجيا أسس ذكائها الاصطناعي، وقواعد معارفها، وهي التي تكسب النظم الخبيرة وأجيال الإنسان الآلي القدرة على محاكاة الوظائف البشرية، والتكيف التلقائي مع البيئة المحيطة.
تعاظم أهمية موقع اللغة على خريطة المعرفة، حيث ازدادت علاقة اللغة توثقا مع جميع فروع المعرفة على اختلاف أنواعها، فلسفة وعلوما وفنونا، حتى أوشكت فلسفة العلم أن تصبح مرادفا لفلسفة اللغة، وكاد المدخل اللغوي أن يصبح نهجا معرفيا عاما لا تستهدي به علوم الإنسانيات فقط، بل العلوم الطبيعية أيضا؛ فلكل علم طبيعي - كما قيل - شق سردي، وخير شاهد على ذلك ما أسفر عنه الميكروبيولوجي الحديث بلغته الوراثية وسفره الجيني.
مجتمع المعرفة هو - أيضا - مجتمع التعلم مدى الحياة، والذي لا يقتصر فيه التعلم على البشر دون سواهم، فهو يمتد ليشمل الآلات والنظم والمؤسسات، بل الخلايا والفيروسات أيضا، وقدرة كل من هذه الكائنات على التعلم يرتكز أساسا على اللغة، سواء كانت لغة إنسانية طبيعية، أو لغة برمجية اصطناعية، أو لغة جينية بيولوجية.
يحتاج مجتمع المعرفة تواصلا أوسع نطاقا وأكثر تنوعا خاصة فيما يتعلق بالتواصل الإنساني عن بعد، أو الحوار بين الإنسان والآلة، وهو الأمر الذي يحتاج - من جانب - إلى تجديد النظرة إلى مهارات التواصل الأساسية: قراءة وكتابة وشفاهة وسماعا، ومن جانب آخر إلى تأصيل العلاقة بين اللغة بصفتها النسق الرمزي المحوري، مع الأنساق الرمزية الأخرى: أشكالا وأصواتا وأداء تعبيريا أو حركيا.
وأخيرا وليس آخرا، يتعاظم الدور الذي تلعبه اللغة على صعيد السياسة والاقتصاد بعد أن أصبحت اللغة من أشد الأسلحة الأيديولوجية ضراوة؛ وذلك بعد أن فرضت القوى السياسية وقوى المال والتجارة سيطرتها على أجهزة الإعلام الجماهيرية، بل صناعة الثقافة بوجه عام، في نفس الوقت الذي تعمل فيه هذه القوى - من خلال اللغة أساسا - على توليد خطاب معرفي يخدم مصالحها بصورة مباشرة، أو يتخلل نسيج البنى المجتمعية ليمارس دور الأيادي الخفية التي تتحكم في أداء النظم والمنظمات والمؤسسات والأسواق، ويتحكم - بالتالي - في أقدار الجماعات والأفراد.
خلاصة، إن تراث الماضي، وفكر الحاضر، ومعرفة المستقبل يؤكد الحاجة الماسة إلى تجاوز راهن الخطاب اللغوي العربي الذي ساده اللغويون والتربويون، ويتطلب ذلك نظرة أشمل وأعمق لمنظومة اللغة العربية، سواء بالنسبة لعناصرها الداخلية شديدة التداخل، أو علاقاتها الخارجية شديدة الأهمية التي تربط المنظومة اللغوية بالمنظومات المجتمعية الأخرى.

2 : 2 الملاح البارزة للوضع الراهن للغة العربية
في مسعاه لدخول مجتمع المعرفة، يواجه العالم العربي تحديات قاسية، سياسية واقتصادية وعلمية وتربوية وتكنولوجية وثقافية، بل أمنية أيضا، ولكل من هذه التحديات شقه الذي يتفاعل مع اللغة العربية تأثيرا وتأثرا. في المقابل، يتيح مجتمع المعرفة فرصا هائلة لتعويض التخلف الراهن لا يمكن النفاذ إليها دون إصلاح لغوي شامل وعاجل يستغل إلى أقصى حد تلك الذخيرة الهائلة من موارد المعلومات التي يوفرها مجتمع المعرفة في المجال اللغوي.
لا يخفى على أحد أن العالم العربي يعيش أزمة لغوية طاحنة على جميع الأصعدة: تنظيرا وتعليما، نحوا ومعجما، استخداما وتوثيقا، إبداعا ونقدا، وجاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى خليط هذه الأزمة عنصرا تكنولوجيا متعلقا بمعالجة اللغة العربية آليا بواسطة الكمبيوتر. نلخص فيما يلي أهم أعراض الأزمة الراهنة للغة العربية:
سياسة لغوية غائبة على المستوى القومي، وما يتواجد منها على المستوى القطري يظل حبيس الأدراج.
مجامع لغوية ضامرة السلطات، شحيحة الموارد، تنتقي من إشكالية اللغة ما تقدر على تناوله، لا ما يحتاجه الإصلاح اللغوي بالفعل، وتجاوب هذه المجامع مع ما تشهده ساحة اللغة - منذ ما يزيد عن نصف قرن - من إنجازات علمية وتكنولوجية مازال دون الحد الأدنى، أما اتحاد المجامع العربية الذي يضمن التنسيق وحشد الموارد فمازال حبرا على ورق، وذلك على الرغم من تواصل الجوار الجغرافي وشدة الحاجة إلى التكتل اللغوي، وتلح على الذهن هنا مقارنة مع الدور الذي يقوم به المجمع الملكي الإسباني في تنسيق شؤون اللغة الإسبانية بين موطنها الأصلي الأوروبي وفروعها المنتشرة عبر المحيط الأطلنطي في جزر الكاريبي وأمريكا اللاتينية.
تعريب متعثر يواجه معارضة شديدة من قبل كثير من الأكاديميين، بل من قبل بعض الرواد الثقافيين، وذلك برغم أهمية اللغة الأم في استيعاب المعرفة، خاصة مع تزايد أهمية موقع اللغة على خريطة المعرفة الذي سبقت الإشارة إليه.
قصور حاد في الترجمة إلى العربية، خاصة في المجالات العلمية الحديثة، ناهيك عن أمهات الكتب التي يقوم عليها الفكر الإنساني الحديث.
جمود التنظير اللغوي، وقصور العتاد المعرفي لمعظم المنظرين اللغويين، وانغلاقهم داخل نطاق تخصصهم الضيق في مجال يسوده طابع تعدد التخصصات وتعديها بعد أن أصبح المجال اللغوي ساحة ساخنة للتداخل الفلسفي والعلمي والتربوي والإعلامي والتكنولوجي، ويكفي أن نشير هنا إلى أن ذلك العتاد المعرفي بات يشمل حاليا نطاقا شديد الاتساع من صنوف المعرفة المتباعدة والمتباينة من قبيل: الرياضيات الحديثة والمنطق ونظرية المعرفة ونظرية الأدب ونظرية التربية ونظرية المعلومات والإحصاء والطبيعة والبيولوجيا، وقد لحق بهذه الكوكبة المعرفية حديثا هندسة المعرفة، وهندسة النظم، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الشبكات الأعصابية.
القطيعة المعرفية التي يقيمها البعض على اختلاف ميولهم الفكرية مع التوجهات الفلسفية الحديثة، كالتفكيكية وما بعد الحداثة - على سبيل المثال - وهي التوجهات التي تولي اهتماما شديدا بأمور اللغة تنظيرا واستخداما.
ثقافة لغوية غائبة، وذلك على الرغم من تزايد أهمية هذه الثقافة كأحد الروافد الأساسية للثقافة العلمية والتكنولوجية.
وعي غير كاف على مستوى القيادات السياسية والاقتصادية، بل ولدى بعض القيادات الثقافية أيضا، بخطورة الدور الذي تلعبه اللغة في تنمية المجتمع الحديث.
ثنائية الفصحى والعامية، وغياب خطط علمية ومنهجية وواقعية لمواجهة هذه المشكلة التي تنخر في صلب المجتمعات العربية.
ضعف النشر الإلكتروني باللغة العربية، وعدم تطور آلات البحث في النصوص العربية، وقلة البرمجيات المتقدمة لتعليم اللغة العربية وتعلمها.
تكرار جهود البحوث والتطوير في مجال معالجة اللغة العربية آليا بواسطة الكمبيوتر، وهو الأمر الذي يتناقض جوهريا مع ندرة الموارد البشرية المتخصصة، والقصور الشديد في الموارد (هناك على سبيل المثال أكثر من ستة مشاريع لتطوير محلل صرفي آلي للغة العربية في مصر وسوريا والكويت وتونس والمغرب).
أخيرا وليس آخرا، غياب رؤية واضحة للإصلاح اللغوي، وتضارب التشخيص للداء اللغوي المترسخ، فتارة يوجه الاتهام إلى المؤسسات التعليمية، وتارة إلى المجامع وأجهزة الإعلام، بل وصل الأمر بالبعض إلى إدانة اللغة العربية نفسها، تحت زعم أنها تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر، وياله من اتهام جائر لهذه اللغة الإنسانية العظيمة التي توفر للجماعة الناطقة بها إمكانات هائلة، ابتداء من آليات تكوين الكلمات اشتقاقا وتصريفا ومزجا، وانتهاء بأساليب صياغة أنواع الخطاب المختلفة علمية كانت أم إنسانية أم أدبية.

2 : 3 اللغة العربية واقتناء مصادر المعرفة
مع تضخم ظاهرة الانفجار المعرفي لم تعد المشكلة هي توفر المعلومات بقدر ما هي كيفية التعامل مع ظاهرة الإفراط المعلوماتي over-information، أو حمل المعلومات الزائد information over-load، وهو الوضع الذي يخشى معه أن ينسحق العقل العربي أمام إعصار المعلومات الهادر مما يتطلب استحداث وسائل عديدة ومبتكرة لزيادة فاعلية النفاذ إلى المعرفة، سواء كانت مصاغة باللغة العربية أو باللغات الأجنبية خاصة اللغة الإنجليزية.
يتطلب النفاذ إلى مصادر المعرفة باللغة العربية إلى توفير عدة وسائل برمجية لمعالجة النصوص العربية آليا تأتي في مقدمتها:
وسائل آلية للفهرسة والاستخلاص والتلخيص
وسائل ذكية للبحث المتعمق في متن النصوص العربية بهدف الكشف عن بناها العميقة، واستخراج ما يبطنه ظاهر النصوص من مفاهيم وافتراضات وتوقعات، وما يسكت عن البوح به من دوافع وحقائق.
يحتاج تطوير مثل هذه الوسائل إلى استخدام أساليب الذكاء الاصطناعي في تحليل مضمون النصوص العربية وفهمها آليا بغرض تطوير آلة استنتاج مصممة أصلا للغة العربية Arabic Inference machine. خلاصة لا بد أن يولي البحث اللغوي العربي مزيدا من الاهتمام لمطالب إنتاج الوثيقة الإلكترونية العربية وإكسابها جدارة السريان عبر شبكة الإنترنت، ويتضمن ذلك الأمور المتعلقة بقابليتها للقراءة (المقرونية) والبحث والاختزال والتشعب النصي hypertext والترابط التناصي intertextuality.
هذا عن النفاذ إلى مصادر المعرفة باللغة العربية، أما النفاذ إلى مصادر المعرفة بغير العربية فيرتبط - أساسا - بقضية الترجمة، ومن المعروف أن الترجمة إلى العربية مازالت شحيحة للغاية، ولا يمكن لها بحال من الأحوال مواكبة ظاهرة الانفجار المعلوماتي، وهو ما يؤكد ضرورة دفع الجهود في مجال الترجمة الآلية، وفي هذا الصدد يجب الإقرار بداية أن هناك عدة مستويات للترجمة تتراوح ما بين الترجمة الخشنة التي تكفي للإلمام السريع بالموضوع كما يجري حاليا في الإنترنت بصورة متواضعة للغاية والترجمة الدقيقة للنصوص الأدبية وسيمضي وقت طويل قبل أن ترقى الترجمة الآلية لهذا المستوى.
هناك اختلافان جوهريان بين البحث في النصوص العربية والنصوص الإنجليزية وهما:
الاختلاف الأول: أن النصوص العربية تكتب غير مشكولة مما يولد لبسا شديدا نتيجة لتعدد احتمالات قراءة الكلمة الخالية من عناصر التشكيل، فكلمة "علم" مثلا ممكن أن تقرا "عِلم" مفرد علوم، أو "عَلم" مفرد أعلام، أو صنيع الأفعال المعلومة والمجهولة "عَلِم - عُلِم - علَّم، علِّم)، وكلمة "والدين" ممكن أن تقرأ على أنها كلمة "والد" في صيغة المثنى أو "و + الدين" بمعنى الديانة أو "و + الدين"، بمعنى القرض. لذا فإن نظم البحث في النصوص العربية تحتاج إلى محلل صرفي آلي automatic morphological analyzer ليولد جميع البدائل المحتملة للكلمات غير المشكلة، علاوة على نظام للتشكيل التلقائي automatic diacritizer يمكنه انتقاء القراءة السليمة من هذه البدائل بناء على السياق النحوي الذي وردت به (مثال: بالنسبة للبس في كلمة: والدين يمكن فكه في سياقات من قبيل: "العقيدة والدين هما ركيزة الإنسان"، و"الدين الواجب السداد يستحق.."، "كانا والدين عظيمين".
الاختلاف الثاني: مصدره الاختلاف في طرق تكوين الكلمات الإنجليزية عن الكلمات العربية سواء على مستوى الاشتقاق أو التصريف، ولتوضيح ذلك نذكر هنا أن توسيع نطاق البحث للكلمات الإنجليزية يتم بإضافة اللواحق عليها، فعلى سبيل المثال، يتم توسيع نطاق البحث عن كلمة "computer" بالكلمات التالية: "computers"، "computerized"، "computational"، "computerization"، ويلاحظ أن تجميع مثل هذه الكلمات لا يحتاج إلا لعلميات بسيطة لنزع اللواصق وذلك نظرا لاشتراكها جميعا في سلسلة الحروف الواردة في مقدمتها (مقطع "comput" في المثال المذكور). لا يصلح هذا الأسلوب في جوهره لتوسيع نطاق البحث واسترجاع النصوص العربية، ويرجع ذلك إلى أن المفردات العربية ترد داخل النصوص تتصدرها الأدوات والحروف، وتذيلها زوائد التصريف والإعراب والضمائر المتصلة، أي أن المفرد (أو ساق الكلمة word stem) الواحد يمكن أن يرد داخل النصوص على هيئة عدد ضخم من أشكال الكلمات النهائية، لتوضيح المقصود هنا، دعنا نتصور على سبيل المثال أننا نريد أن نبحث عن لفظ "أتي" وكل ما يرتبط به من كلمات نهائية داخل النص القرآني، فسنجد القائمة التالية من الكلمات التي لا تشترك في بداياتها أو نهاياتها:
(وأوتوا - سنؤتيكم - تؤته - فآت - نؤتى - والمؤتون - يأتيانها - آتيتك - يؤت - تؤتوه - لتأتون - مأتيا - أوتي - ولتأت - لآتيناهم - وآتاني - وآتت - لتأتني).
من الواضح أن مثل هذه الأشكال المتنوعة للكلمات النهائية لا تجدي معها العملية المبسطة المذكورة أعلاه لنزع اللواصق، وهنا، يطرح ثانية المحلل الصرفي الآلي كمدخل منطقي لعملية البحث داخل النصوص العربية، وذلك لاستخلاص ساق الكلمة مما لصق به من سوابق ولواحق من أشكالها النهائية التي ترد على صورتها داخل النصوص، فيستخلص - على سبيل المثال - ساق الفعل المضارع "يأتي" من الكلمة النهائية "يأتيانها" ويستخلص ساق اسم المفعول "مؤتى" من الكلمة النهائية "والمؤتون".

2 : 4 علاقة اللغة العربية بنقل المعرفة واستيعابها
تنطوي علاقة اللغة العربية بنقل المعرفة واستيعابها على العديد من القضايا سنكتفي منها هنا بقضيتين محوريتين شديدتي الارتباط، وهما: تعريب التعليم، وتعليم اللغة العربية.
لم تعد أهمية تعريب التعليم الجامعي بدافع الحمية القومية فقط، بعد أن ثبت للجميع كونه شرطا أساسيا لتنمية أدوات التفكير وتنمية القدرات الذهنية والملكات الإبداعية، علاوة على سرعة استيعاب المعرفة التي تتجدد بمعدلات متسارعة في مجتمع المعرفة، وفضلا عن ذلك فإن عدم تعريب العلوم يمثل عقبة أمام إقامة جسور التواصل بين التخصصات العلمية المختلفة لكون اللغة هي رابطة العقد في منظومة المعرفة الإنسانية، وهو ما سبق أن أكدنا على أهميته في صدد الحديث عن علاقة اللغة العربية بالفكر، وبرغم هذه الأهمية، وكثرة المؤتمرات والندوات والدراسات، إلا أن جهود التعريب مازالت متعثرة نتيجة للمعارضة الشديدة التي تلافيها من قبل كثير من أساتذة الجامعات، حجتهم في ذلك أن تعريب تدريس العلوم سيكون بمثابة حاجز يفصل بين الطالب العربي والمصادر الأصلية للمعرفة العلمية ومعظمها باللغات الأجنبية، وهو موقف يتعارض - في جوهره - مع تضخم مصادر المعرفة وتعددها مما لن يجد معه الطالب مفرا من اللجوء إلى هذه المصادر، وهو الأمر الذي يتطلب ضرورة أن تتوازى جهود التعريب مع زيادة الجهد المبذول في تدريس اللغات الأجنبية لجميع التخصصات العلمية، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى الاستخدام الركيك للغة الإنجليزية على مستوى الوطن العربي، ولا نستثني من ذلك إلى قلة من أساتذة الجامعات والمثقفين. يمثل ذلك عائقا أم كثير من الدراسيين العرب لنشر بحوثهم في الدوريات العلمية، ناهيك عن تجنبهم إبداء المداخلات في اللقاءات العلمية باللغة الإنجليزية، أو المساهمة في حلقات النقاش وجماعات الاهتمام المشترك عبر الإنترنت. يؤكد ذلك أهمية تطوير أساليب تعليم اللغة العربية حيث استقرت الآراء - على خلاف ما كان سائدا فيما مضى - أن اللغة الأم هي وسيلة أساسية في تعليم اللغات الأجنبية.
يستلزم دفع جهود التعريب إلى تجديد النظرة إلى آليات تكوين الكلمات، وتشجيع التأليف باللغة العربية في المجالات العلمية المختلفة، ومساندة الجهود المبذولة حاليا في مجال الترجمة الآلية، واستغلال ما تتيحه تكنولوجيا المعلومات حاليا من وسائل في بناء بنوك المصطلحات وتحليل البنية المفهومية للكلمات العربية conceptual decomposition حيث يستند نقل المصطلح الأجنبي إلى العربية - كما هو معروف - على المحافظة على مفهوم المصطلح بقدر الإمكان.
هذا يكفي عن تعريب التعليم، أما عن ما يخص تعليم اللغة العربية فهو يواجه كغيره أزمة حادة سواء من حيث محتوى المادة التعليمية، أو منهجيات التدريس، ومن أبرز أعراض هذه الأزمة:
التركيز على الجوانب الصورية في تعليم الصرف والنحو الجملة لم تتم سواء في كذا أو كذا، وهكذا طغت سطحية قراءة النصوص على عمق استيعاب مضمون هذه النصوص والقدرة على كشف بنيتها الكلية، أما إنتاج النصوص العربية فيعوز الكثيرين القدرة على الربط بين جملها وفقراتها، وعلى تقوية أواصر تماسكها اللفظي وترابطها المنطقي.
عدم الاهتمام بشق الدلالة اللغوية، ليتوه المعنى بين لفظية الصرف وصورية النحو وشكلية المحسنات البديعية.
إهمال الجانب الوظيفي لاستخدام اللغة، وعدم تنمية المهارات اللغوية المطلوبة في الحياة العملية، لتسود نبرة الخطابة والانفعال على فاعلية التواصل اللغوي في كثير من المراسلات والمساجلات والمداخلات.
اقتصار تنمية القدرات الإبداعية اللغوية على شق الكتابة دون شق القراءة، حيث باتت القراءة - هي الأخرى - نشاطا إبداعيا بغية استكتاب النص لقارئه وحثه على إعادة تأليف مؤلفه.
عزوف الصغار والكبار عن استخدام معجم اللغة الأم، إما لسوء تنظيم مادته، وإما لصعوبة النفاذ إلى مدخلاته، وإما خلطه بين المعاني القديمة والمستحدثة.
عدم تنمية الذائفة اللغوية لمآثر اللغة العربية نثرا وشعرا
لم يتطرق البحث التربوي اللغوي إلى الفروق الجوهرية بين تعليم اللغة العربية تلقينا من خلال المدرس، وتعلمها ذاتيا في غيبة منه؛ وهو الأمر الذي أصبح واجبا نظرا لأهمية التعلم ذاتيا لتعويض أوجه القصور في تعليم اللغة تلقينا، وتلبية مطالب تجديد المعرفة اللغوية، تمشيا مع مبدأ التعلم مدى الحياة علاوة على ذلك فتعليم أبناء الجاليات العربية في المهجر لغتهم الأم، يشكو من ندرة المعلمين، وغالبا ما تنقص ذويهم المعرفة الكافية باللغة العربية، والأسس المنهجية لتعليمها.
ومرة أخرى يمكن أن تساهم تكنولوجيا المعلومات وشبكة الإنترنت مساهمة فعالة في تحديث تعليم وتعلم اللغة العربية، محتوى ومنهجا، ويتطلب ذلك دفع الجهود البحثية في مجالات اللغويات الحاسوبية، واللغويات النصية وعلم النص ونظرية القراءة. علاوة على فروع علم اللغة: التربوي والنفسي والاجتماعي.

2 : 5 اللغة العربية وتوظيف المعرفة
تبرز علاقة اللغة بتوظيف المعرفة ما أن ننظر إلى اللغة من منظور حل المشاكل، وكما هو معروف فإن القدرة على حل المشاكل تتوقف - بداية - على دقة توصيف هذه المشاكل والمقارنة المنهجية بين البدائل المطروحة لحلها، وغالبا ما يتم ذلك باللجوء إلى التحليل المنطقي.
بخصوص شق التوصيف، مازالت اللغة العربية في حاجة إلى مزيد من أدوات التعريف من بنوك المصطلحات ومسارد تعريف المفاهيم glossaries والمكانز والمعاجم المتخصصة في المجالات المعرفية المختلفة، علاوة على قواعد ذخائر النصوص textual corpora التي تزيد من إنتاجية إعداد الوثائق ذات الطابع المتواتر والتي يكثر استخدامها في الأنشطة العملية.
فيما يخص اللغة العربية وتنمية القدرة على التحليل المنطقي، فالخطاب العربي الحالي بات في حاجة إلى تحديث أسس البرهان وأساليب المحاجاة بما يتجاوز الطرق المعهودة للقياس والاستدلال وتكتيكات الحوار اللغوية السائدة، وتبرز أهمية الحاجة لمثل هذا التحديث إذا ما استعرضنا أساليب هذا الخطاب في الدفاع عن الحضارة العربية والثقافة الإسلامية ضد اللهجة الشرسة التي تتعرضان لها عبر الإنترنت. لقد أصبح للإقناع وإثبات البرهان فرعه المتخصص في تكنولوجيا المعلومات، وهو ما يطلق عليه مصطلح "تكنولوجيا الإقناع بمعاونة الكمبيوتر Captology: Computer Assisted Persuasive Technology"، أما الحوار فقد استحدث له هو الأخر فرعا هندسيا خاصا به يعرف بـ "هندسة الحوار conversational engineering".
لسنا بحاجة إلى تأكيد مدى أهمية علاقة اللغة العربية بالمنطق؛ وقد تحدث كثيرون عن تشبث نحو العربية بمنطق أرسطو ذي الطابع المعياري القاطع، وهو التشبث الذي تعزى إليه تلك النزعة الاطرادية لدى كثير من نحاة العربية القدامى في سعيهم إلى تفسير الشاذ اللغوي في إطار المطرد، وعلى مر العصور، وحتى يومنا هذا، يحاول البعض، دون جدوى، إخضاع اللغة لمنطق أرسطو، منطق الرتبة الأولى first order logic، القائم أصلا على أساس مبدأ "إما نعم وإما لا"، ولا يتعامل مع الزمن إلا في صيغة الحاضر، فكيف تخضع اللغة لهذا المنطق الصوري القاطع الذي تستحيل فيه المقولات اللغوية إلى مجردات لا صلة لها بالواقع الذي تعبر عنه؟!. لقد ثبت فشل منطق أرسطو ذي الرتبة الأولى في التعامل مع اللغة بغموضها واحتمالاتها ولبسها، وكذلك في تناول الجوانب الزمنية للحدث اللغوي وما يضمره من مقاصد ونوايا، ناهيك عن برجمانيات المقام الذي يتم فيه هذا الحدث. يتطلب كل هذا توثيق علاقة اللغة العربية بالرتب الأعلى من المنطق الحديث، وتجديد صياغة قواعد النحو العربي وفقا لها أسوة بما يتم حاليا في اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
أما فيما يخص هندسة الحوار فقد أغفلت معظم الدراسات اللغوية جوانب استخدام اللغـة العربية وظيفيـا، بمعنى استخدامها في مسار الحياة الواقعية، استخدامها في إبداء الآراء والدفاع عنها، وفي عمليات التبادل والتفاوض والتراسل والتهاتف، وهلم جرا. ومازال توظيف اللغة العربية عمليا أسير اللغة المكتوبة وقد أغفل دراسة الفروق بين الأداء الشفهي والأداء الكتابي. يتضح ذلك، بصورة سافرة، في ضعف مهارات التواصل لدى الكثيرين، صغارا وكبارا، كتابة وقراءة، شفاهة واستماعا. وليس هذا - بالقطع - نتيجة قصور في العربية ذاتها؛ فهي تمتلك العديد من الخصائص والأدوات التي تؤهلها لتكون لغة حوار فعالة.

2 : 6 اللغة العربية وإنتاج المعرفة الجديدة
يتعاظم بإطراد دور اللغة في توليد المعرفة الحديثة سواء في دعم جهود البحث العلمي الحديث في المجالات العلمية المختلفة، أو مؤازرة الإبداع الفني والأدبي على اختلاف أنواعه وتوجهاته. يرتبط دور اللغة في البحث العلمي الحديث بما يجرى حاليا على ساحة علوم الإنسانيات، ونقصد بذلك سعيها الحثيث لاستكشاف مناهج بحثية جديدة مغايرة لتلك التي اقترضتها من العلوم الطبيعية، وذلك بعد أن ثبت عجز هذه المناهج في تناول الإشكاليات العديدة التي يواجهها المجتمع الإنساني الحديث. هذا في نفس الوقت الذي تواجه فيه العلوم الطبيعية ذاتها أزمة منهجيته، وربما تلوذ بعلوم الإنسانيات بحثا عن منطلقات جديدة تمكنها من تهذيب قطعية الرياضيات، وصرامة المنطق، وتعميم الإحصاء، ومحدودية التجريب. تمثل هذه النقلة النوعية المرتقبة فرصة نادرة للعلماء العرب للحاق بالركب العلمي انطلاقا من اللغة العربية لكون اللغة هي ركيزة العلوم الإنسانية مما يوحي بأن يكون معه النهج اللغوي هو أكثر البدائل الواعدة لتحديث الأطر المنهجية لهذه العلوم.
أما أهمية دور اللغة في مجال العلوم الطبيعية فتعود إلى العلاقة الوثيقة التي أقامتها اللغة مع الميكروبيولوجي الحديث، وهي - بلا منازع - أكثر العلاقات العلمية إثارة وأهمية، فهي تمثل ذروة اللقاء العلمي بين اللغة، قمة العلوم الإنسانية، والبيولوجي الذي يعتلي - حاليا - قمة العلوم الطبيعية. وعليه فقد أصبحت اللغة والميكروبيولوجي والمعلوماتية بمثابة المثلث الذهبي، أو رأس الحربة، الذي يجر وراءه قاطرة المعرفة الإنسانية الشاملة: فلسفة وعلما وفنا وتقانة، ومرة أخرى هناك فرصة نادرة أمام العلماء العرب للحاق بالركب العلمي في مجتمع المعرفة انطلاقا من اللغة العربية، واستنادا إلى تمحيص دقيق لعلاقة اللغة العربية بالميكروبيولوجي الحديث من جانب، وعلاقتها بالمعلوماتية الحديثة من جانب آخر.
كما هو شأنها في مساندة الإبداع العلمي، يتعاظم دور اللغة كذلك في الإبداع الفني والأدبي، فكل فن: أدبا كان، أو تشكيلا، أو موسيقى، أو أداء تعبيريا أو حركيا، هو - في نهاية المطاف - نسق رمزي له لغته الخاصة به، وهي اللغة التي تسعى نظرية الفن وعلم الجمال إلى تحديد دقيق لها، وليس هناك خير من اللغة - بصفتها النسق الرمزي الأم - لتكون ركيزة أساسية لكافة الأنساق الرمزية الأخرى.
لقد بات في حكم اليقين أن الفن في مجتمع المعرفة لم يعد نوعا من الرفاهية بعد أن توثقت عراه مع العلم والتكنولوجيا، وعلى ضوء ما سلف تمثل اللغة العربية أملا كبيرا في إحياء الإبداع الفني العربي، وذلك لسبب بسيط مفاده أن فنون اللغة العربية من أدب وشعر هي أبرز فروع الإبداع العربي، في حين تشكو الفنون الأخرى من ضمور شديد في المجالات الإبداعية الأخرى من الموسيقى وفنون الأداء المسرحي والحركي، بل وفنون التشكيل أيضا التي مازالت قاصرة على النخبة. إن اللغة العربية تزخر بموارد الإبداع من اشتقاق فريد لا يدانيه اشتقاق لغة أخرى في سخاء مشتقاته وروعة نظامه وانتظامه، ومن نحو يتسم بالمرونة وثراء التراكيب وقدرة فائقة على الإيجاز والإيعاز، ومن معجم لا يفوق تعدد مترادفاته إلا وفرة معاني مفرداته وكثافة مضمون كلماته.

2 : 7 تعريب عناوين الإنترنت
كما هو معروف، تستخدم اللغة الإنجليزية عالميا في كتابة عناوين الإنترنت التي تتيح الوصول إلى موارد المعلومات من مواقع وبوابات ووثائق إلكترونية، أو لتوجيه رسائل البريد الإلكتروني، وأطوار أخرى مما تسمح به بروتوكولات الإنترنت، من أمثلة هذه العناوين:
بوابة: WWW:YAHOO.COM
موقع: WWW.ALGAZIRA.NET
عنوان بريدي: nali@aliali.org

ومن الجدير بالذكر أن هذه العناوين لا تتعامل معها برمجيات الإنترنت الداخلية حيث يتم تحويلها إلى أرقام كما في المثال التالي، http://www.l-DNS.net= http://209.249.141.24 إلا أنها وضعت لتسهيل استخدامها وسهولة تذكرها.
وتنظم عملية منح هذه الأسماء وتسجيلها الهيئة الأمريكية المعروفة باسم: Internet Corporation for Assigned Names and Numbers (ICANN) وعادة ما يتكون العناوان من ثلاثة مقاطع:

مقطع صاحب العنوان
مقطع كود النطاق domain name
مقطع البلد country code

وتكتب هذه العناوين باللغة الإنجليزية باستخدام الحروف من A إلى Z، والأرقام من 1 إلى 9 مضافة إليها "النقطة"، وهو الوضع الذي لا يسمح باستخدام اللغات الأخرى، وقد سعت الصين إلى التغلب على هذه العقبة، بشكل جزئي، من خلال السماح باستخدام الحروف الصينية عن طريق كمبيوتر خادم خاص proxy server.
مع انتشار ظاهرة تعددية اللغات عبر الإنترنت، ظهرت الحاجة إلى استخدام لغات أخرى غير الإنجليزية، وقد تزعمت بلدان جنوب شرق آسيا وحافة الباسيفيك الحملة المطالبة بضرورة تعددية اللغات عبر الإنترنت. رضوخا لهذه الضغوط أقرت هيئة ICANN تدويل هذه العنواين باستخدام ما يعرف بـ UNICODE الذي يسمح باستيعاب معظم لغات العالم، وقامت بتشكيل مجموعة عمل I-DNS لوضع القياسيات الخاصة بذلك. تجاوبا مع هذا، ظهرت عدة جهود لتعريب عنواين الإنترنت كان آخرها مجموعة العمل التي شكلتها منظمة الإسكوا لهذا الخصوص ADNTF، وكذلك المجموعة المتخصصة التابعة للجامعة العربية التي شكلتها اللجنة التحضيرية للقمة العالمية لمجتمع المعلومات بتونس.
وترجع المطالبة بتعريب هذه العناوين إلى عدة أسباب من أهمها:
إتاحة استخدام الإنترنت لمن لا يتكلمون الإنجليزية، وهم كثيرون، ومن المتوقع أن يزداد عددهم مع انتشار التطبيقات التي تهم العامة، مثل الحكومة الإلكترونية والتعليم الإلكتروني والتجارة الإلكترونية.
أهمية هذه العناوين من الناحية التجارية حيث أصبحت أحد العناصر الأساسية في تشكيل صورة المؤسسة company branding.
تشجيع تبادل المعلومات ما بين المؤسسات والجماعات العربية.
هناك عدة مشاكل متعلقة بتعريب عناوين الإنترنت نتيجة اختلاف نظام كتابة العربية عن الإنجليزية ومن أهمها:
استخدام عناصر التشكيل، وقد اقترح أن تؤجل حاليا، وهناك اقتراح بديل بأن يقصر استخدامها على واجهة التعامل مع المستخدم user interface فقط دون أن تدخل في عملية التحويل إلى أرقام.
استخدام شرطة المد (الكاشيدا) وقد اقترح إهمالها.
استخدام الفواصل بين الكلمات واقترح استبدالها بشرطة.
فيما يخص تعدد أشكال الحروف، كالهمزة في أول الجملة ووسطها، والخلط بين الألف المقصورة والياء فقد اقترح تجنبها.
فيما يخص أسماء النطاقات مثل COM - GOV - ORG - NET - EDU اقترحت مقابلات عربية لأسماء النطاقات (شرك - حكم - نظم - شبك - علم)، ورموز البلدان واقترح - على سبيل المثال - "بح" مقابل "bh" للبحرين و "جز" مقابل "dz" للجزائر و "قم" مقابل "rm" لجزر القمر.
إن المشكلة التي تواجه العربية هنا أنها لا تقبل وضع الاختصارات كما في الإنجليزية نظرا لغياب عناصر التشكيل مما يجعل كتابة العربية كتابة مختزلة في أساسها لذا فاختصارها يمثل اختصارا مضاعفا.

2 : 8 منطلقات لتهيئة اللغة العربية لعصر الإنترنت

2 : 8 : 1 منطلقات عامة
بلورة سياسية لغوية على مستوى الوطن العربي يساهم فيها اتحاد المجامع العربية ويدعى للمشاركة في وضعها بجانب اللغويين غيرهم من علماء التربية وعلماء النفس وعلماء الاجتماع والبيولوجيين على أساس أن اللغة هي مسؤولية النخبة المفكرة قبل أن تكون مسؤولية الساسة وأهل الاختصاص.
توازي جهود تطوير اللغة العربية مع جهود حوسبتها.
التوسع في الدراسات المقارنة والتقابلية للغة العربية.
المشاركة الفعالة في جهود المنظمات الدولية، وعلى رأسها اليونسكو، ومنظمات المجتمع المدني العالمية المدافعة عن التنوع اللغوي وحماية اللغات القومية.
إنشاء مركز قومي متخصص لرعاية أمور اللغة العربية تنظيرا ومعجما واستخداما وحوسبة، وتجدر الإشارة هنا إلى مبادرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الجاري بلورتها حاليا.
تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في مجال تكنولوجيا اللغة العربية بإعداد نماذج من دراسات الجدوى الاقتصادية التي تثبت الجاذبية الاستثمارية لهذا المجال التكنولوجي ذي العائد المرتفع.

2 : 8 : 2 منطلقات خاصة بالتنظير
( أ ) استغلال توسطية اللغة العربية من أجل الإسراع في سد فجوة التنظير من خلال الاسترشاد بما تم في اللغات التي تتشابه مع العربية في بعض خصائصها، ولا ضير مطلقا أن يصل هذا إلى حد الاقتراض.
(ب) تعدد الرؤى لمنظومة اللغة العربية من خلال تطبيق أكثر من نموذج نحوي عليها، ومن أهما نحو منتاجيو ذو الصيغة الدلالية المنطقية ونظرية الربط العاملي Government Binding Theory ونحو البنية العامة للمقولات النحوية GPSC.

2 : 8 : 3 منطلقات خاصة بتطوير المعجم
مراجعة شاملة لآلية توليد الكلمات في العربية.
إدراج علم المعجم في عمل المجامع ومناهج الجامعات، خاصة فيما يتعلق بالدلالة المعجمية وظاهرة المجاز.
إنشاء قاعدة بيانات معجمية للعربية الحديثة تشمل البيانات الصرفية والنحوية والدلالية، وهناك مبادرات عربية في هذا الشأن يلزم استغلالها.
بناء معجم للغة العربية الحديثة على أساس ذخائر النصوص.
تطوير معجم المفاهيم بترجمة معجم روجيه الإنجليزي.
بناء معجم واف للتعابير الاصطلاحية على أن يشمل ما يحدد سلوكها التركيبي والسياقي.
مراجعة شاملة لتعريفات المعاني في المعجم العربي ويمكن الاستهداء في ذلك بمعجم أكسفورد، مع تحويل هذه التعريفات إلى شبكات دلالية في إطار مشروع بحثي متكامل تشترك فيه أكثر من جهة بحثية.
إنشاء نظام آلي لدعم عملية توليد المصطلحات الجديدة بطرائقها المتعددة تعريبا وترجمة ومزجا.
توحيد الجهود التي تمت في بناء بنوك المصطلحات ويمكن الاستهداء في ذلك ببنك المصطلحات الروسي المعروف باسم MULTILEX وبنك المصطلحات الألماني المعروف باسم DIN TERM BANK.
تجريد أمهات التراث العربي لاستخراج ما لم يتم تعجيمه من ثنايا نصوصها.
تطوير نظام آلي للتحليل المعجمي قادر على استنباط المكونات الدلالية للمفردات، وكذلك العلاقات الدلالية لأنواع التصاحبات اللفظية المختلفة.

2 : 8 : 4 منطلقات خاصة بتعليم اللغة العربية وتعلمها ذاتيا
التأسيس النظري لتعليم اللغة العربية وتعلمها على ضوء الإنجازات الحالية لعلم تعليم اللغة.
التركيز على الجوانب الوظيفية وتنمية المهارات اللغوية الأربع بصورة متوازنة (الكتابة والقراءة والتحدث والاستماع).
"مسرحة" تعليم العربية لتنمية المهارات الحوارية واستخدام ما يعرف بالتواصل القائم على المواقف situational العملية لاستخدام اللغة وظيفيا، ولا بد أن يستند ذلك على التخلص مما يدعيه البعض أن اللغة العربية لغة غير حوارية، ولنبحث بدلا عن ذلك عن الأسباب الحقيقية وراء ظاهرة اللاحوار التي تعاني فيها، فالقرآن نفسه خطاب يقوم في جوهره على الحجاج بمستوياته المختلفة.
إنشاء موقع متخصص على الإنترنت لإعادة تأهيل معلمي اللغة العربية.
إنشاء مواقع على الإنترنت متخصصة في تعليم وتعلم اللغة العربية كلغة أولى للناطقين بها، ولغة ثانية لغير الناطقين بها ويمكن الاستهداء في ذلك بمواقع تعليم اللغة الإنجليزية وتعلمها المنتشرة عبر الشبكة.
تطوير برمجيات ذكية لتعليم وتعلم اللغة العربية باستخدام الوسائل المتوفرة حاليا، وعلى رأسها المعالجات الآلية الصرفية والنحوية والمعجمية.

2 : 8 : 5 منطلقات خاصة بالترجمة
وضع دليل المترجم العربي للترجمة العلمية تتضمن قائمة بالمشكلات التي تواجه الترجمة من وإلى العربية وكيف تم التعامل معها من قبل ثقات المترجمين.
دعم الجهود الحالية في الترجمة الآلية.
تطوير مشاريع إيضاحية لتصميم نظم للترجمة الآلية على أساس معرفي قائم على نظم الفهم الأتوماتي المتعمق in-depth automatic understanding لمضمون النصوص.
الانضمام لعضوية مشروع الترجمة الآلية المتعددة اللغات الذي ترعاه جامعة الأمم المتحدة بطوكيو (UNU) والقائم على استخدام تكنولوجيا اللغة الوسيطة inter-lingua كرابطة العقد بين اللغات المختلفة، ولمكتبة الإسكندرية والأردن مبادرات محمودة في هذا الاتجاه.
إنشاء نظام متكامل لدعم المترجم العربي البشري (أو محطة عمل work-station) يشمل المعاجم والمكانز والمسارد، وذخائر النصوص الثنائية اللغة لوثائق مترجمة تغطي الموضوعات المختلفة، ويمكن أيضا إضافة ما يعرف بـ"نظم ذاكرة الترجمة Translation Memory" لزيادة إنتاجية المترجم في سرعة ترجمة النصوص المتشابهة.

2 : 8 : 6 منطلقات خاصة بمعالجة اللغة العربية آليا
استغلال ما يعرف حاليا بـ "أزمة البرمجيات" للحاق بالموجة الثانية لمعالجة اللغات الطبيعية آليا وتهدف إلى التوسع في تطبيق أساليب الذكاء الاصطناعي.
تطوير آلة استنتاج عربية Arabic Inference Machine لدعم نظم الفهم الأتوماتي وتلبية مطالب الويب الدلالي.
تطوير آلة بحث ذكية intelligent search engine للغة العربية
التوسع في تطوير النظم الآلية للفهرسة والاستخلاص والتلخيص، وتطوير نظام ذكي لتصنيف الوثائق العربية أتوماتيا على أساس المضمون من أجل مواجهة حمل المعلومات الزائد.
تطوير نظم التعرف على الكلام العربي بدمج شق معالجة الصوتيات مع النظم الذكية لمعالجة اللغة آليا.

ثالثا: التربية العربية واستيعاب المعرفة من منظور الإنترنت

3 : 1 بارادايم تربوي جديد
وفقا لتوماس كون في "الثورات العلمية" لا بد لثورة التعلم من بارادايم تربوي جديد(*) يعلن القطيعة على بارادايم تعليم عصر الصناعة القائم على ثنائية المنتج والمستهلك: مدارس تنتج وأسواق عمل تستهلك، وإستاتيكية المعارف والمهارات: معارف تتهالك ولا تجدد، ومهارات تتقادم ولا تستبدل، وهذه القطيعة ليست بالأمر الهين، فقد ترسخت النظم التعليمية، وتحجرت عبر القرون مما جعل محاولات الإصلاح التربوي تبوء بالفشل في الماضي بعد أن انحصر الإصلاح في النطاق التعليمي الضيق لا على النطاق المجتمعي الشامل.
وفي تصورنا أن أهم الأسس التي يقوم عليها هذا البارادايم التربوي الجديد هي:
مراعاة الوحدة المركبة للطبيعة الإنسانية
تحقيق الوفاق بين المتناقضات الكامنة في منظومة التعليم
التوازن بين العناصر التربوية
التصدي لظاهرة انفجار المعرفة
التغلب على آفة التلقي السلبي
دمقرطة التعلم
التمحور حول المتعلم
تعدد مسارات التعلم وتداخلها
الانطلاق من المعلم
نظام تقييم مختلف
والتالي قول موجز لما نعنيه بكل منها
( أ ) مراعاة الوحدة المركبة للطبيعة الإنسانية: من حيث كون الإنسان كائنا فيزيائيا وبيولوجيا ونفسيا وثقافيا واجتماعيا وتاريخيا، وهي الوحدة التي شتتها التعليم على مختلف المواد الدراسية إلى درجة تعوق - بشدة - إدراك ما يعنيه الكائن الإنساني أصلا.
(ب) تحقيق الوفاق بين المتناقضات الكامنة في منظومة التعليم: ونقصد بها تلك التناقضات الجوهرية التي أشار إليها البعض، والكامنة في صلب منظومة التربية، والتي تشمل التناقضات بين العالمي والمحلي، وبين الذاتي والموضوعي، وبين التقليدي والحداثي، وبين المادي والروحي، وبين الشمولي والتخصصي، وبين أهداف المدى القصير وغايات المدى البعيد، وبين تنمية إرادة التغيير لدى الفرد والمحافظة على سلام المجتمع واستقراره، وبين إذكاء روح المنافسة وتكافؤ الفرص.
(ج) التوازن بين العناصر التربوية: ونقصد بهذا التوازن بين ثلاثية: العلمي والتكنولوجي - الأخلاقي والثقافي - الاقتصادي والاجتماعي، ومصدر الإشكالية هنا وجود قدر لا يستهان به من تعارض التوجهات أو المصالح - إن جاز القول - بين هذه العناصر الثلاثة، ولا شك أن هذا التعارض يكمن وراء بعض المتناقضات الوارد ذكرها عاليه.
ولا تخلو العلاقة من قدر من التوتر بين طرفي كل من ثنائيات هذه العناصر. فعلى صعيد ثنائية العلمي والتكنولوجي، هناك سؤال مطروح بإلحاح، وهو: أيهما يقود الآخر؛ هل العلم يكتشف والتكنولوجيا تطبق؟ أم التكنولوجيا تطلب والعلم يلبي؟ والتكنولوجيا كعهدنا بها تسير على هوى الاقتصاد، وهو ما يفسر لماذا انصرفت البحوث العلمية في مجال الدواء - بدوافع اقتصادية محضة - عن الأدوية الوقائية ومكافحة الأوبئة التي تهدد فقراء عالمنا إلى بحوث مستحضرات التجميل وعلاج الاكتئاب لدى الكلاب. أما على صعيد ثنائية الأخلاقي والثقافي فمصدر التوتر في علاقتهما يرجع إلى ذلك السؤال المحوري: هل المعايير الأخلاقية تخضع للنسبية الثقافية أم أن هنالك نوعا من الخلق العام لا بد أن تلتزم به جميع الثقافات، وأخيرا وبالنسبة لثنائية الاقتصادي والاجتماعي فمنشأ التوتر يرجع إلى ذلك التعارض بين المكاسب الاقتصادية على المدى القصير والخسارة الاجتماعية التي يمكن أن تنجم عنها على المدى البعيد.
( د ) التصدي لظاهرة انفجار المعرفة: ويقصد بذلك كيف نوائم بين تضخم المعرفة وقدرة الإنسان على استيعابها، ومراعاة الفارق الجوهري بين المعلومات والمعرفة، فالمعلومات يمكن اعتبارها بمثابة المادة الخام للعمليات الذهنية، أما المعرفة فهي منتجها النهائي أو شبه النهائي، ولا خلاف في أننا، مع وفرة المعلومات وتعدد مصادرها، سوف نعرف أكثر عن عالمنا، ولكن ذلك لا يعني - كمـا يقول إدغار موران - "أننا سنعرفه بطريقة أفضل"، فما أكثر ما تاهت عنا الحكمة رغم وفرة المعرفة.
(هـ) التغلب على آفة التلقي السلبي: إدراك أن التعليم فعل إيجابي إرادي يدعمه التحدي وتثريه المشاركة، ويحيطه التهديد وقتل روح المبادرة، وإكساب التعليم الطابع الإيجابي يعني ضرورة تخليصه من آفة التلقي السلبي وأن يكون "التعلم شيئا يفعله الطلبة وليس شيئا يفعل لهم".
( و ) دمقرطة التعلم: ويعني ذلك تبني مبدأ البناء من أسفل بعد أن ثبت أن التعليم لا يقبل إصلاحا يأتيه من أعلى، ويترتب على ذلك ضرورة أن تضع البشر (معلمين ومتعلمين ومشرفين) أولا قبل الهياكل والتنظيمات والمناهج والتكنولوجيات، والتحدي الحقيقي بالنسبة لنا نحن العرب كيف يمكن لبراعم الديموقراطية أن تنبت في "تربة" تعليمنا الصخرية.
( ز ) التمحور حول المتعلم: تعني النقلة النوعية من التعليم إلى التعلم بالدرجة الأولى التمحور حول المتعلم، ويعني إكساب المتعلم القدرة على التعلم ذاتيا، ومواصلة تعلمه طيلة حياته، ويعني أيضا جعل التعلم حسب الطلب وحسب ظروف طالبه، وأن نزيد من فرص اللحاق وإعادة الالتحاق، وهذا التمحور هو أهم الركائز التي تقوم عليها دمقرطة المنظومة التربوية حيث ينشأ عنه تغيرات جوهرية في صلب العلاقات البينية التي تربط بين عناصر هذه المنظومة: المتعلم والمعلم والنهج والمنهجيات، ويتطلب التمحور حول المتعلم أمورا عديدة على الصعيد النفسي من حيث ضرورة إضفاء الطابع الشخصي ومراعاة خلفية المتعلم المعرفية وما في حوزة عقله من مفاهيم: صائبة كانت أم خاطئة، والإيمان بأن الذكاء قابل للتعلم، وأن تنمية القدرة الذهنية لا حدود لها. علاوة على عدم الفصل الحاد بين الذاتية والموضوعية على أساس أن المتعلم هو الذي ينشئ المعنى ويقيم الصلات بين المفاهيم والوقائع والعلل والأحداث، وأن حماس المتعلمين وحبهم أمران ضروريان للتعلم بعمق، حيث عادة ما نظرت التربية التقليدية إلى الذاتية بكونها خطرا على متابعة الحقيقة الموضوعية، فهي تفترض تجرد المتعلمين من انفعالاتهم والفصل التام بين العارف وما يعرف.
وغني عن القول أن التمحور حول المتعلم يأخذ أشكالا متعددة تبعا لهذا المتعلم: طفلا أم شابا أم كهلا أم شيخا، وحسب بيئة التعلم وأهدافها، وقدرات القائمين بها والموجهين لها، وربما تتجاوز حدوده الأمور الأكاديمية، وقد لفت فيصل يونس انتباهنا إلى ما يمكن أن يؤدي إليه نقص الحديد بسبب سوء التغذية من تشتت الانتباه وإضعاف القدرة على التركيز، ناهيك عن نقص البروتين وأثره المباشر على نمو الذهن ونمو الجسد عموما، وهو أمر يوليه التعلم ما يستحقه من اهتمام لما نعرفه جميعا عن مدى ارتباط سلامة العقل بسلامة الجسد.
إن هذه الجوانب النفسية تتطلب أن نعيد النظر في تنمية الكوادر العلمية في مجال علم النفس التربوي، حيث جرت العادة لدينا أن يكون المتخصص فيه تربويا أولا ثم بعدها يتخصص نفسيا، في حين أن التوجه السليم لا بد أن يتخذ مسارا عكسيا، فكما يوحي اسم العلم لا بد أن يكون الباحثون فيه علماء نفس - بداية - وبعدها يقومون بتخصيص مجال معرفتهم العام إلى مجال التربية الخاص، بقول آخر: إننا نخرج متخصصين في علم التربية النفسي لا علم النفس التربوي وشتان بينهما، وربما ينطبق ذلك بنفس القدر على علم الاجتماع التربوي.
(ح) تعدد مسارات التعلم وتداخلها: تتطلب النقلة النوعية من التعليم - في ضوء ما أورده "منير بشور" - إلى التعلم التخلص من مفهوم السلم التعليمي ذي البداية والنهاية المحددتين والتسلسل الخطي لسلميات مراحله ومعارفه ومهارته ومناهجه، وتحويله إلى شبكة مفتوحة من مسارات التعلم وتداخلها، والتي تسمح بالامتداد والتشعب مع نمو المعارف وامتزاجها وتفرعها، وسهولة الانتقال من مسار إلى مسار بل إمكانية السير بالتوازي في أكثر من مسار، وهو ما تفرضه طبيعة العلوم البينيـة والميتامعرفيـة.
( ط ) الانطلاق من المعلم: وهو مظهر آخر لدمقرطة التعليم، ويمكن النظر إليه باعتباره الوجه الآخر لعملية التمحور حول التعلم، ويقوم هذا المفهوم - أساسا - على الحقيقة البسيطة القائلة بأن فاقد الشيء لا يعطيه، ويتأسس عليها:
لكي نكسب المتعلم القدرة على التعلم ذاتيا لا بد أن تنمي لدى المعلم ذات القدرة بأن نكسب مهنته طابعا بحثيا، وألا نعطيه منهجا سابق التجهيز وبرامج تعليم بالكمبيوتر من "على الرف" ومنهجيات صارمة لا تسمح بالحيود عنها ولو في أضيق الحدود.
أن مطالبة المعلم بتخفيف سلطته على طلبته يعني في المقابل أن نخفف من صرامة الإشراف عليه من قبل المديرين والموجهين.
إن إدخال ت.م.ص في التعليم لن يكتب لها النجاح المطلوب إلا إذا علم المعلم نفسه باستخدام هذه التكنولوجيا منذ مراحل إعداده الأولى.
أن مطالبة المعلم بالتخلص من عادة التلقين وآفة التلقي السلبي ودعوة طلبته للمشاركة لن تتأتى إلا بالاستماع إلى صوته وبدعوته للمشاركة في توجيه مسار العملية التربوية، على خلاف ما هو جار حاليا الأمر الذي جعل المعلمين عازفين عن المشاركة.
أن تعدد مسارات التعلم تعني من وجهة نظر المعلم أن نتيح له فرصا عديدة لتوجيه مسار تطوره المهني، وأن تفتح الطريق أمامه للحصول على أعلى الدرجات العلمية.
تسرب الفكر الخرافي إلى عقول بعض من معلمينا يتنافى مع ضرورة إرساء التفكير العلمي، في عقول متعلميهم.
(ي) الكيفية قبل الماهية والجميع بينهما: تراوحت الرؤى في فلسفة المعرفة بين الماهية والكيفية وأبرز أمثلتها كيفية "مثالية كانط"، وماهية "ظاهراتية هسرل"، ووفقا لرؤيتنا له، سيؤالف علم ما بعد النقلة المعلوماتية ما بين النهجين ونكتفي هنا ببعض الأمثلة:
نظرية التربية: المؤالفة بين مضمون المعرفة وكيفية اكتسابها، لإكساب المتعلم القدرة على التعلم ذاتيا مدى الحياة وعبرها.
نظرية الإعلام: المؤالفة بين مضمون الرسالة الإعلامية وكيفية استقبال المتلقي لها، وذلك تجاوبا مع عولمية الإعلام التي تتعامل مع فئات عديدة من المتلقين من مختلفي الثقافات والخلفيات.
علم النص: التركيز على كيف يبني النص معناه، وعدم الاكتفاء بمضمونه حتى يتيح للقارئ القدرة على تفكيكه وإعادة تأليف مؤلفه، والكشف عما سكت عنه، واقتفاء مسارات التناص inter-textually التي تربطه بخارجه.
البيولوجيا: الجمع ما بين ماهية العناصر البيولوجية الميكروية، وكيف نشأت الحياة وتعددت وتطورت أشكالها.
(ك) نظام تقييم مختلف: لا يقوم على ما يسهل قياسه كميا على أساس تقدير حصاد المعرفة المكتسبة؛ بل يركز على كيفية اكتسابها وتوظيفها، وقدرة المتعلم على مواصلة التعلم ذاتيا، تقييم يؤكد مواضع النجاح لا يتصيد مواضع الإخفاق، ويتضمن آلية للتصويب الذاتي والتغلب على العثرات.
إن وراء المطالبة ببارادايم تربوي جديد عوامل عديدة من أبرزها:
غايات تربوية جديدة
معارف جديدة
مهارات جديدة
فضاء تعلمي جديد

3 : 2 أسباب خاصة بالوضع العربي الراهن
بالإضافة إلى ما تزخر به دراسات عديدة عن أسباب تخلف التعليم والتعلم في الدول النامية والتي تنطبق جميعها على المجتمعات العربية بدرجات متفاوتة، نورد أدناه قائمة بأسباب إضافية تخص عالمنا العربي أو تعنيه بدرجة أكبر.
فقدان ثقة كثير من المجتمعات العربية في مؤسساتها التعليمية الرسمية، وقد ترسخ ذلك مع تكرار فشل جهود إصلاح التعليم.
سياق اجتماعي غير موات للتعلم، وبيئة خصبة تترعرع فيها اللاعلمية، وغياب ثقافة التعلم، وضعف مساهمة رأس المال البشري في عملية التنمية الاجتماعية.
تعليم ينفر من التعلم، فهو يفقد المتعلم متعة البحث الدؤوب عن المعرفة، ويميت لديه الرغبة في مواصلة التعلم بعد تخرجه، فكما هو معروف أن رحلة التعلم تبدأ من المدرسة، وكما يتغذى التعلم على نفسه حيث تزداد الرغبة في التعلم والقدرة على تحصيله كلما تقدمنا في مسيرته، كذلك يتغذى الجهل على نفسه، وسرعان ما يتحول النفور من التعلم إلى معاداة العلم والوقوع في شرك الخرافة وأشباهها. بقول آخر إن تدني أداء مؤسسات التعليم الرسمي وتفشي آفة التلقي السلبي يكاد يئد مسيرة التعلم في مهدها.
عقل تربوي ضائع بين التبعية والبحث عن الهوية، وبين نشود الغايات النبيلة وبرجماتية تفرضها عليه الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
عقبة مقاومة التغيير.
تدني خطاب تناولنا لدائنا التربوي الخبيث، بين أفكار بالية مازال يتشبث بها حرس التربية القديم وبين من يزجون بأنفسهم في الخطاب التربوي، من الصحفيين والسياسين والإعلاميين، دون فهم دقيق لطبيعة الإشكالية وأبعادها، ومساهمتهم في الخطاب التربوي ذو طابع فولكلوري، ويعوز مثقفينا - بشدة - الثقافة التربوية اللازمة لعصر المعلومات، والتربية بالنسبة لمعظمهم شأن خارج الخطاب الثقافي التقليدي برغم كونها محور عملية التنمية، ومحور قضايا حقوق الإنسان والحرية والعدالة والديموقراطية.
ضعف مساهمة الإعلام العربي تعليميا لتبنيه نموذجا ترفيهيا لا تنمويا ثقافيا.
قصور مؤسسات التعلم العرضي من مكتبات ومتاحف ومعارض ومرافق المعلومات الأخرى.
عزوف شبه تام عن المشاركة في الموارد التعليمية وغياب التكامل بين مراحل التعليم المختلفة، والتنسيق بين التعليمي والإعلامي والثقافي.
قطاع خاص انتهازي يستثمر في مجالات التعليم ذات الطلب المستمر المنظم، ويركز على الاحتياجات الملحة لسوق العمل ضمانا لتحقيق أكبر عائد استثماري، ومن زاوية أخرى، يفضل كثير من أصحاب الأعمال اجتذاب العمالة المدربة الجاهزة للعمل حيث يعزفون عن الاستثمار البعيد المدى في تنمية العنصر البشري.
عدم الاهتمام بتعريب التعليم، والارتداد إلى التعليم باللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، في كثير من الجامعات والمدارس الثانوية، وهو ما يؤدي إلى الازدواجية التعليمية، وضمور القدرة على إنتاج محتوى باللغة العربية يلبي المطالب المحلية للفئات الاجتماعية المختلفة.

3 : 3 منطلقات مقترحة خاصة بالتربية العربية في عصر الإنترنت
التعلم لا التعليم مدخلا، وبرغم البساطة الظاهرة فإن هذا التحول في فكرنا التربوي سيتيح رؤية أشمل، وسيفجر كثيرا من القضايا التي تعودنا أن نزج بها تحت البساط.
الجامعات هي التي تعلم وتبحث وتوجه مسيرة التعلم، فهي قاطرة التعلم، في حين أن التعليم الثانوي هو مدخله، وما قبل الثانوي هو زارع بذرته، لذا فإصلاح التعليم الثانوي يقع في قلب مجتمع التعلم، وإن لم يضف التعليم الثانوي مرحلة قوية وفعالة في حياة الفرد التعليمية فلا جدوى من الحديث عن مواصلة التعلم.
لا مجتمع بلا لغة، ولا مجتمع تعلم عربي بدون تعريب للتعليم وربط التعريب بالجامعة العربية المفتوحة.
إنتاج محتوى تعليمي عالي الجودة بأقصى مشاركة للجهود المحلية خاصة من قبل المعلمين أنفسهم.
جامعات حقيقية أكثر؛ وجامعات خائلية أقل، فلا معنى لتكرار نفس الجهد، وفي رأينا أن الجامعات الخائلية تمثل فرصة مثالية لتطبيق مبدأ المشاركة في الموارد.
استغلال المصادر المفتوحة للمحتوى التعليمي، ومن أبرزها مشروع المقررات العلمية المفتوحة لمعهد ماسوشوستس التكنولوجي MIT والذي يتيح المذكرات التفصيلية للمحاضرات، والخطوط الهيكلية للمقررات، وقوائم المراجع، ومجموعات المسائل والتمارين، ومقالات البحث المهمة، وهو الأمر الذي يعني أن المعرفة المتراكمة، لدى طاقم التدريس في هذه المنارة المعرفية العريقة، ستكون متاحة ليس بصفتهم باحثين فحسب، بل بصفتهم مدرسين محنكين، وهو ما يمكن أن يستفيد منهم معلمون آخرون بالدول النامية في تعليم وإلهام طلبتهم.
محو الأمية وظيفيا لا أبجديا فقط، ومحو الأمية الوظيفي مفهوم يرمي إلى تحقيق التكامل بين تعليم القراءة والكتابة وزيادة الكفاءة الإنتاجية والتدريب على الكفايات اللازمة للنجاح في الأعمال الاقتصادية والنواحي الاجتماعية.
مراجعة شاملة لبرامج تأهيل المعلمين، وخطة منهجية مدروسة لإدخال ت.م.ص في مناهجها ومراحلها المختلفة.
نشر ثقافة التعلم يبدأ بإعادة تثقيف المتعلمين وتوعية المفكرين وقادة الرأي.
استغلال الفرص التي تتيحها ت.م.ص لصالح تعليم المرأة، وعلينا أن ندرك في هذا الصدد أن تقدم العلم والتكنولوجيا يؤدي إلى تقليل التفرقة بين الرجل والمرآة وإتاحة فرص عديدة لتحقيق المساواة بينهما، ولعل الإنترنت، بما تتيحه للمرآة العربية من فرص للتعلم الذاتي، لخير دليل على ذلك.
تحاشي تدريب العناصر البشرية على الأمور ذات الصلة المباشرة بالمنتجات والخدمات التي تسوقها الشركات التجارية، دون أي اهتمام بتنمية هذه العناصر على المدى البعيد في مجالات التعليم المختلفة، والتي تعتمد على تنمية المهارات الأساسية، والمفاهيم المحورية، لا على المعارف القائمة على المنتجات الفعلية product-dependent، والتي هي - بحكم طبيعتها - إلى زوال خاصة في ظل التطور المتسارع الذي تتسم به ت.م.ص.
وننهي هذا الفصل عن فجوة التعلم بإبداء قناعتنا أن هذا الجيل العربي المعاصر يستطيع أن ينتشل أمتنا العربية من كبوتها لو جعلنا التعلم مدى الحياة مدخلا لتنميتنا، ودافعا أساسيا لتكتلنا.

رابعا: البحث العلمي في العالم العربي من منظور عصر المعلومات

4 : 1 أزمة العقل الراهنة
لقد أصبح العقل شاغل الجميع بعد أن أصبح مصير الأمم والشعوب رهنا بنتاج العقول، وقدرة أصحابها على مواجهة القوى الاجتماعية الحاكمة: السياسية والاقتصادية والعسكرية، وكذلك القوى الرمزية(*) التي يلعب فيها العلم دورا رئيسيا وحاسما، وإن كانت حكمة الماضي قد علمتنا أن المعرفة قوة، فقد أثبتت لنا حقائق الحاضر أن القوة أيضا معرفة، فالقوة قادرة على توليد معرفة تخدم غاياتها، وتبرر ممارساتها وتؤازر أساليبها في إحكام قبضتها على المصادر والمصائر، وتأتي معرفة عصر المعلومات لتجسد المغزى الخطير لكون المعرفة قوة؛ فلم يعد ذلك هاجسا عابرا يثير القلق، بل واقعا جاثما يثير الذعر ويهدد مصير كوكبنا الهش الذي يشكو من التصدع ويزخر بالصراع، وهو أمر يتطلب - أول ما يتطلب - تحليلا دقيقا لعلاقة تكنولوجيا المعلومات بالعقل صانع هذه المعرفة.
إن معرفة الحاضر تواجه الأزمات على جميع الجهات، فعلوم الإنسانيات باتت في مسيس الحاجة إلى منهج جديد يخلصها من تبعيتها المنهجية لعلوم الطبيعيات، والتي باتت هي أيضا تواجه أزمة منهجية لا تقل حدة، والتي تعود أساسا - كما سنوضح - إلى عجزها عن تناول ظاهرة التعقد، والفن - الذي هو نوع من المعرفة - يواجه أيضا أزمة عنيفة، وما أكثر ما واجه الفن من أزمات في الماضي إلا أنها لا تقاس بتلك الأزمات التي فجرتها تكنولوجيا المعلومات في جميع أرجاء منظومة الإبداع الفني: على مستوى المبدع والمتلقي والعمل الفني ذاته.
لقد خلصت دراسة حديثة لليونسكو إلى أن الفكر السياسي قد تخلف، وهناك بون شاسع بين خيالنا السياسي وخيالنا العلمي، وبالقطع لم يصب الخمول فكرنا السياسي دون سواه، ففكرنا الاجتماعي مازال يحوم حول أطلال ماكس فيبر ودوركايم وكارل ماركس؛ عاجزا عن فهم طبيعة مجتمع المعرفة، وفكرنا الاقتصادي مازال أسير "اقتصاد الكازينو" يسعى دون جدوى لمد نموذج اقتصاد عصر الصناعة ليشمل الاقتصاد الجديد، اقتصاد عصر المعلومات، وأخيرا وليس آخرا، مازال فكرنا التربوي يقف حائرا غير قادر على استيعاب ما تعنيه نقلة التعلم عن بعد، والتعلم مدى الحياة، فمازال أسير ما خلفه له تعليم عصر الصناعة ذو طابع إنتاج الجملة، القائم على تجنيس العقول وتقييسها standardization، وهو الطابع الذي ينكر على الصغار إبداعهم، ويخرس أفواه الكبار لينضموا - تباعا - إلى جحافل الأغلبية الصامتة.

4 : 2 عن أزمة العقل العربي
وبالنسبة لنا - نحن العرب - فتضييق الفجوة المعرفية التي تفصل بيننا وبين العالم المتقدم عامة، وبيننا وبين إسرائيل خاصة، لن يتأتى إلا بسد "فجوة العقل"، العقل صانع المعرفة وصنيتعها، بعد أن ضمرت قدرة عقول نخبة عالمنا العربي على صناعة المعرفة، لتحرم - بالتالي - عامته من معرفة جديدة هي في أمس الحاجة إليها لتعيد تصنيع عقولها، وقناعتنا الراسخة أن تكنولوجيا المعلومات قادرة على انتشال العقل العربي من أزمته، وزيادة قدرته على إنتاج المعرفة: محليا وعالميا.
والعقل العربي في راهنه عقل حائر بين إرث ماضيه ومطالب حاضره وتحديات مستقبله، عقل ترهل وتشوهت رؤاه وتهرأت عدته المعرفية، فراح يجتر مقولاته القديمة ويردد مقولات غيره، وما أندر ما يستوعبها، وهو يرزح منذ زمن تحت نير التبعية بجميع صنوفها: فكرية وعلمية وتعليمية وإعلامية وإبداعية وتكنولوجية، وقد ارتضى في ظلها أن يحيل حل مشاكله إلى غيره؛ فأوكل مشاريع تنميته لمقاولي الخارج تسلم له على الجاهز، وأوكل نصوصه المحورية إلى المستشرقين ترد له جاهزة، مبوبة ومؤولة، ممزوجة بأهوائهم و"معقلبات"(*) أفكارهم عن تاريخنا وتراثنا وسلوكنا، وأوكل تعريب نظم معلوماته إلى الشركات المتعددة الجنسية لتزداد اتساعا يوما بعد يوم الفجوة الرقمية التي تفصل بينه وبين العالم المتقدم وبينه وبين إسرائيل. خلاصة، دعنا نوجز لنقول: إن العقل العربي - في غالبيته - إما أنه صنيعة سلفه، أو صنيعة غيره.
يواجه العقل العربي أزمات طاحنة على جميع الأصعدة، وقد عجز عن مواجهة واقعه، وانعزلت نخبته عن عامته تاركة إياها لقمة سائغة للقوى الرمزية الضارية المصوبة إليها من الخارج والداخل على حد سواء، وهكذا باتت الجماهير العربية ضحية لترسيخ عقدة التخلف الحضاري، والغوغائية الدينية، والتضليل الإعلامي، والجمود التربوي، واللاعلمية في طيفها المكتمل: شبه العلم - زائف العلم - ادعاء العلم - معاداة العلم - الخرافة.
لقد أوضحت النقلة النوعية لتكنولوجيا المعلومات مدى حدة أزمة العقل العربي، في ذات الوقت فكل أزمة - وفقا للحكمة الصينية - تنطوي على فرص لا تتيح فقط إمكانية الخروج من الأزمة بل تدفع إلى الانطلاق واللحاق بمن سبقوا، ولم تصدق هذه الحكمة قدر ما تصدق الآن نظرا للإمكانات الهائلة التي توفرها تكنولوجيا المعلومات خاصة في مجال الإنتاج العلمي، محور حديثنا الراهن.

4 : 3 بعض الملامح العامة للعقل العربي
بادئ ذي بدء، وقبل الخوض في الحديث عن فجوة العقل العربي، لا يمكن لنا، ولا لغيرنا، إنكار وجود عقول عربية شامخة في معظم فروع العلم، نكن لها أسمى آيات التقدير والتبجيل، إلا أننا لسنا في مقام سرد الاستثناءات بل بصدد عرض ظاهرة عامة كادت تصل إلى حد الوباء.
التالي بعض مما نراه من ملامح عامة للعقل العربي، وقد اقتصرت على ما يهم بحثنا الحالي:
عقل أسير تخصصه ينأى عن تداخل المجالات المعرفية وتعددها
عقل غير مدرب على التوجه المنظومي system approach الذي يضمن الاكتمال والاشتمال مما يجعل من السهل وقوعه في فخ التفاصيل وضياعه في تهويمات التعميم.
عقل ينزع دائما نحو الموجب والقاطع والمحدد والمحكم، ينحاز إلى الثابت على حساب المتغير، والسائد على حساب المتجدد، يلح على الإجماع، وينفر من الاختلاف والتعدد.
عقل يمتهن السالب، ويفزع من اللايقين، ولا يستأنس المشوش وغير الدقيق وغير المكتمل، يستهجن غموض الشعر ولاموضوعية الفن التجريدي ولانسقية الموسيقى اللانغمية، ولا يستوعب اللامحدود واللانهائي، ولا يروق له أن يكون للفوضى علمها وللتعقد سحره، وأن المعرفة ليست واقعة نهائية، وأن رحلة العلم هي نفسها رحلة أخطائه. لقد كبلت نزعة امتهان السالب العقل العربي من أن يقتحم المناطق المهجورة من فكره، واختراق أسيجة التحريم والتجريم المقامة من حوله.

4 : 4 أسباب فجوة العقل العربي
عفانا الكثيرون من تحليل أسباب أزمة العقل العربي؛ وتراوحت بشأنها الآراء إلى حد التباين، بعض يرجعها إلى عدم التمسك بـ "النموذج المعرفي الإسلامي" مما أوقع العقل العربي في فخ التبعية للفكر الأوروبي العلماني، ولا حل في تصوره إلا أسلمة المعرفة، وبعض آخر يرجعها إلى عدم محورية وضع العلم في الحضارة الإسلامية، كما هو الحال في الحضارة الأوربية، حيث لم يكن العلم محورا بل مجرد دائرة من الدوائر التي ترسمت حول الدين، وكصدى لهذا التوجه ونتيجة له، لا يرى هذا البعض حلا لأزمة العقل العربي الراهنة إلا من خلال قطيعة معرفية مع فكر ماضيه أسوة بما فعل العقل الأوروبي في عصر التنوير(*).

تنأى الدراسة الحالية عن أن تقحم نفسها في هذا الحديث المعاد الزاخر بالمزالق، مكتفية في شأنه بسرد أسباب تخلف العقل العربي ومظاهره بأسلوب تلغرافي يحدد صورة الموقف الراهن بفرشاة عريضة، وذلك بهدف وضع خلفية تظهر مدى الفجوة بين العقل العربي الراهن والعقل المرجو الذي أصبح لزاما علينا أن نصنعه تلبية لمطالب عصر المعلومات.
من منظور الدراسة الحالية نورد أدناه أبرز الأسباب كما نراها:
سياسات علمية تفتقد الواقعية، والخطط الإجرائية، ومؤشرات قياس مدى التقدم في تنفيذها.
تدني أداء مؤسسات التعليم الرسمية.
ضعف الموارد الحكومية المخصصة للإنتاج العلمي، وعزوف القطاع الخاص عن الاستثمار في مجالاته.
ظاهرة العلم الضخم وما نجم عنها من تبعية علمية وتكنولوجية.
ضعف الطلب على إنتاج العلم، ومحدودية النشاط الابتكاري، وتدنى تمويل البحث العلمي من قبل القطاعات الإنتاجية والخدمية.
غياب التراكم المعرفي، وضعف الحوار بين التيارات الفكرية المختلفة: (مثل: القومي والديني والعلماني)، فكل تيار منها عادة ما يستهل خطابه بنسف الركائز التي يقوم عليها فكر التيارات الأخرى.
عدم مواكبة المؤسسات الأكاديمية لحركة تطور العلم وإغفالهم للعلوم الأساسية، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن جامعاتنا العربية تسعى حاليا إلى نشر استخدام تكنولوجيا المعلومات بين طلابها ومعاملها، إلا أنها لم تقم بأي جهد جاد لدراسة تأثير تكنولوجيا المعلومات على تطور العلم، وانعكاسات ذلك على مضمون القرارات ومنهجيات التدريس، وعسى أن تسهم دراساتنا الحالية في إثارة الاهتمام بهذا الأمر الحيوي.

4 : 5 فرص تتيحها تكنولوجيا المعلومات للعقل العربي
لقد أقامت تكنولوجيا المعلومات بيئة مواتية تتيح للعقل العربي فرصا عديدة للمساهمة محليا وعالميا، نلخص فيما يلي أهم ما نراه من توجهات إيجابية تعمل لصالحنا:
عودة إلى الكيانات الصغيرة لإنتاج العلم
المعلومات كركيزة أساسية للبحث العلمي
وفرة موارد المعلومات العلمية
المشاركة العلمية عن بعد
النقلات النوعية التي يمر بها العلم حاليا
زيادة الطلب على العلم
رخص أدوات إنتاج العلم (نسبيا)
انفصال المعرفي عن التكنولوجي
لندع تعقدنا يعمل لصالحنا
والتالي شرح موجز لكل من هذه التوجهات:

( أ ) عودة إلى العلم الصغير: أفرزت تكنولوجيا الصناعة - ضمن ما أفرزته من تنظيمات كبيرة - مؤسسات العلم الضخم، وتحولت معامل إنتاج العلم إلى ما يشبه المصانع ليتربع على عرش العلم - كما قيل - قياصرة المشروعات البحثية الماموثية، وأتوقراطي التيلسكوبات العملاقة، وديكتاتوري فريق فيزياء الطاقة العالية (400 فرد). يلوح في الأفق حاليا تحول جذري في هذا التوجه يمكن أن نعتبره بمثابة عودة إلى الكيانات الصغيرة لإنتاج العلم، أو ما أطلق عليه البعض مصطلح "العلم الديموقراطي"، أما نحن فنراه انعكاسا لطابع التشظي fragmentation، ذلك الطابع الجوهري المميز لتكنولوجيا المعلومات. وقد نفذ في حالتنا إلى صلب إنتاج المعرفة ليكسر شوكة الاحتكار العلمي، ويرد بذلك الاعتبار لدور العقل الفردي في عملية الإبداع العلمي. إن المؤسسة العلمية الضخمة ذات الطابع المركزي وليدة عصر الصناعة يكاد يأفل نجمها لتحل محلها شبكات إنتاج العلم اللامركزية الموزعة، القائمة - أساسا - على المبدع العلمي أو التكنولوجي، وهناك شواهد عديدة تؤكد نمو هذا التوجه، من أبرز هذه الشواهد نجاح مجموعة صغيرة من العلماء والباحثين والمهندسين (مجموعة سيليرا) من أن تسبق مشروع اتحاد الحكومات الضخم لفك شفرة الجينوم البشري (3000 باحث ومتخصص)، وذلك بفضل فكرة عبقرية في كيفية استخلاص تتابعات الدنا DNA الفعالة من وسط بيانات الجينوم المليء بسقط الدنا، وكما يقول تيد أنتون في كتابه "العلم الجسور" إن إنجازات علمية ضخمة في البيولوجيا وفسيولوجيا المخ، والبيئة وعلم المناعة وعلوم الفلك قد تمت على يد مجموعات صغيرة من العلماء جمعوا بين جسارة العقل، وسرعة الفعل، والتفاني في حب العلم وخدمته، وهي خصائص أخذت تغيب عن مؤسسات "العلم الضخم" التي باتت تئن تحت ثقلها التنظيمي، وتعاني من برودة تجاوبها مع المتغيرات، والإفراط الزائد في رسميات إجراءاتها.
ومثال آخر عن الرجوع إلى الصغير نستقيه من عالم تكنولوجيا المعلومات ذاتها، وهو ظاهرة البرمجيات المجانية وذات المصدر المفتوح OSS: Open Source Software التي تطرح من قبل الأفراد عبر الإنترنت بكل تفصيلاتها الداخلية، مما يتيح تعديلها وإدماجها ضمن برامج ونظم أخرى. إن البرمجيات ذات المفتوحة المصدر تمثل تحديا حقيقيا لاحتكارية الشركات العملاقة لإنتاج البرمجيات - وعلى رأسها ميكروسوفت - التي تسوق برامجها صناديق سوداء منغلقة لا تسمح بأية إضافات أو تعديلات، ويصعب إدماجها في نظم التطبيقات. إن التاريخ يعيد نفسه فقد كان السر وراء نجاح ميكروسوفت الباهر، بالرغم من بدايتها المتواضعة للغاية، هو نجاحها في اللعب مع الكبار (شركـة: آي. بي. إم ومن بعدها شركة: آبل) وها هم الصغار يمارسون حقهم في اللعب معها بعد أن أصبحت - بلا منازع - كبرى الكبريات.
وجدير بالذكر أن "المصادر المفتوحة" لا تقتصر فقط على البرمجيات بل تشمل أيضا "المحتوى"، وتصميم عناصر العتاد وهو ما يفتح الطريق أمام الدول النامية لاقتحام المجالات المتقدمة لصناعة العتاد، وهناك بعض مبادرات عربية مشجعة في هذا الصدد (*).
(ب) المعلومات بصفتها ركيزة أساسية للبحث العلمي: العلم في تطوره يصبو نحو الليونة حتى كاد البحث العلمي يتحول، في كثير من الأحيان، إلى بحث عن المعلومات؛ تسلسلات الجينات وتركيبات البروتينيات - على سبيل المثال - هي في الأصل عملية تنقيب عن المعرفة في مناجم البيانات الجينومية الضخمة، لقد امتدت هذه النزعة المعلوماتية للبحث العلمي من البيولوجي الحديث إلى فروع علمية أخرى كعلوم البيئة والفلك والباثولوجيا الكلينيكية، ناهيك عن الدراسات المقارنة في اللسانيات وكثير من العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولا شك أن النزعة المعلوماتية للبحث العلمي هي في صالح الباحثين العرب شريطة توفر المهارات الأساسية للتعامل مع موارد المعلومات العلمية، وهو ليس بالأمر العسير.
(ج) وفرة موارد المعلومات العلمية: لقد كان الباحثون العرب فيما مضى يشكون من صعوبة الحصول على مصادر المعرفة، وعدم توفر المراجع، وها هي الإنترنت تساهم في حل هذه المشكلة بشكل جذري، إلا أنه يجب التنويه هنا إلى الفرق الشديد بين الحصول على المعلومات، واستخلاص المعرفة من خضم محيطاتها الشاسعة عبر الإنترنت. إن الباحث العربي عليه أن يكتسب عدة مهارات مستجدة مما يمكن أن نسميه "مهارات ما بعد المعلومات post-informatica"، ونقصد بذلك القدرة على تجميع المعرفة من شظايا المعلومات المتناثرة عبر الشبكة، والتجسس العلمي "الحميد" لاقتفاء التوجهات العلمية، والانتهازية العلمية "النبيلة" من أجل اقتناص المبادرات البحثية، ومن المنطقي، والواجب أيضا، أن يبحث المبدع العربي عن إبداع مختلف، إبداع ينشد العالمية وتضرب جذوره في التربة المحلية، فمع إجلالنا لإنجازات علمائنا بالخارج إلا أن نمط إبداعهم ليس هو النموذج الوحيد، فقد تم هذا الإبداع في بيئة مغايرة بشدة لظروفنا المحلية.
لقد كان الكثير من حالات الإبداع وليد الصدفة والأحداث العارضة، وعلى المبدع العربي أن يضع نفسه في مسار تتكاثر فيه الصدف والعثور على المعرفة العارضة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالجهد وساعات العمل الطويل، ولنتذكر مقولة أينشتين عندما صرح بأن أحد أسرار إنجازاته العلمية الباهرة يرجع إلى أنه كان يمضي ساعات أطول في المكتب، وقد وفرت الإنترنت بيئة تساعد على توليد الفرص واكتساب المعرفة بصورة عارضة وهو ما ستتناوله في البند التالي.

( د ) المشاركة العلمية عن بعد: يشكو كثير من طلبة الدراسات العليا لدينا من عدم وجود أساتذة مشرفين في التخصصات العلمية الحديثة، وإن توفر ذلك فعادة ما تكون الشكوى من الانشغال الشديد لهؤلاء الأساتذة مما لا يتيح وقتا كافيا للإشراف العلمي، خاصة على مستوى الماجستير حيث الباحث أحوج ما يكون للتوجيه سواء من حيث الموضوع أو المنهج. تتيح الإنترنت فرصا عديدة للإشراف العلمي من خلال التواصل عبر الشبكة والتلمذة عن بعد remote apprenticeship، وقد أظهرت الإحصاءات تضاعف عدد الأوراق العلمية التي يشارك فيها علماء من أمريكا وأوروبا مع باحثين من الدول النامية(*). إن أقصى صور الذكاء الجمعي هو ذلك الذي يحتشد فيه ذكاء المبدعين وتتيح حلقات النقاش وجماعات الاهتمام المشترك التي تزخر بها شبكة الإنترنت فرصا عديدة للتواصل العلمي شريطة إتقان الباحث العربي لـ "إتيكيت" الحوار عن بعد، وذلك بافتراض إتقانه اللغات الأجنبية خاصة للباحثين في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.
(هـ) النقلات النوعية التي يمر بها العلم حاليا: يمر العلم حاليا نتيجة للمتغير المعلوماتي، بمجموعة من النقلات النوعية سواء على مستوى المنهج أو المجال العلمي، ومن أهم هذه التوجهات تزايد أهمية علوم الإنسانيات والعلوم الاجتماعية والعلوم البينية، وهو ما يوفر فرصا نادرة أمام الباحث العربي للحاق بهذه الموجة الجديدة في بدايتها.

( و ) زيادة الطلب على العلم: نتيجة للتوجه نحو اقتصاد المعرفة سيتزايد الطلب على العلم بما يفوق قدرة الدول المتقدمة على إنتاجه، والدليل على ذلك زيادة نهم هذه الدول لاجتذاب نخبة عقول الدول النامية، ويتوازى ذلك مع تنامي التوجه الثقافي الاجتماعي لتطبيقات تكنولوجيا المعلومات مما سيترتب عليه زيادة الطلب على العلم الذي يتناول الشأن المحلي: الثقافي والاجتماعي، ليصب في تيار اقتصاد العولمة.
( ز ) رخص أدوات إنتاج العلم (نسبيا): أدت تكنولوجيا المعلومات إلى تقليل كلفة أدوات إنتاج العلم وعلى رأسها الكمبيوتر، الذي حقق في هذا الصدد المعادلة الصعبة: تناقص الكلفة مع زيادة الإمكانات، وتوفر المعامل الخائلية virtual labs التي لا تقارن كلفتها بكلفة المعامل الحقيقية الباهظة التكاليف، وربما ستتمكن قريبا - كما يتكهن البعض - من شراء جهاز تحليل شخصي لتحديد تتابعات حامض الدنا.
ويشهد تاريخ العلم أن كثيرا من إنجازاته الضخمة تمت بوسائل رخيصة، ونكتفي بمثاليين: أولهما نموذج الحلزون المزدوج الذي بناه واطسون وكريك من شرائح الصفيح والأسلاك، وثانيهما الرياضيات البيولوجية biomath التي دشنتها كيلر وسيجلز باستخدام الورقة والقلم، وكيف لنا أن ننسى أن كثيرا من إنجازات صناعة الكمبيوتر والبرمجيات تمت في الجراجات وأنفاق البدرومات.
(ح) انفصال المعرفي عن التكنولوجي: من أهم ما يميز منتجات اقتصاد المعرفة عن غيرها هو إمكانية فصل الشق المعرفي عن الشق التكنولوجي، وهو توجه جديد له سابقته التاريخية القديمة المتمثلة في حضارة روما التي قامت على علم اليونان وتكنولوجيا الرومان، وسابقته القريبة في اعتماد اليابان في المراحل المبكرة لنهضتها الصناعية على استيراد براءات الاختراع مكتفية بالشق التكنولوجي دون المعرفي، وقد حذت حذوها بعض دول حافة الباسيفيك. إن هناك من الشواهد ما يشجع على القول بأن كلفة إنتاج المعرفة ستقل بفضل تكنولوجيا المعلومات، على العكس ما يحدث حاليا بالنسبة لارتفاع كلفة الشق التكنولوجي لتحويل هذه المعرفة إلى منتجات فعلية، وتشير دلائل عديدة أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ت.م.ص) تتجه حاليا لتصبح صناعة كثيفة رأس المال قائمة - أساسا - معتمدة على اقتصاد الحجم ضمانا لتحقيق عائد يبرر حجم الاستثمارات الضخم سواء في إنتاج العتاد أو البرمجيات.

يعطي انفصال المعرفي عن التكنولوجي فرصة للعلماء والمهندسين العرب كي يساهموا معرفيا دون أن ينشغلوا بالجانب التكنولوجي، فيمكن - على سبيل المثال - تصميم الدوائر الإلكترونية للشرائح السيليكونية وتكليف مسابك تصنيع هذه الشرائح بإنتاج التصميمات في صورتها المادية، وهو ما يعرف بأسلوب: بدون فبركة fabless والذي توسعت فيه إسرائيل كثيرا، والمثال البالغ الدلالة في هذا الخصوص هو قيام مركز بحوث الرياضيات بمدينة مدراس بالهند بوضع الأسس الرياضية لتكنولوجيا البيوسيليكون.
لقد طالبنا الدكتور فاروق الباز بالتركيز على الجوانب التطبيقية لخدمة أغراض التنمية(*) بالطبع ومطالبتنا هنا بإنتاج العلم لا تعني بالمرة إهمالنا لجوانبه التكنولوجية وتطبيقاته العملية، وما نقصده بحديثنا السابق هو ضرورة توازي الجهدين: العلمي والتكنلوجي، وكما شرعت الدول العربية في إنشاء المجمعات التكنولوجية(**)، عليها في ذات الوقت إحياء مراكز البحوث والدراسات العلمية القائمة، وإنشاء أخرى في المجالات العلمية الجديدة، وأكد عالمنا أحمد زويل على إمكانية مساهمة الفقراء في إنتاج العلم إلا أنه ربط ذلك بتلقي الهبات من الدول المتقدمة وضرورة المشاركة معها في إنتاج العلم وهو - بالحتم - ليس البديل الوحيد. وأحيانا ما لا يكون أيضا هو البديل المفضل، وفي التحليـل الأخير يمكن أن تكون هناك تكنولوجيا للفقراء لكن العلم كان - وسيظل - ساحة يتنافس فيها الجميع.

إن إنتاجنا للعلم سيجعلنا أكثر قدرة على التعامل مع الاحتكار التكنولوجي، فهو الذي سيعيننا على كسر مغالق الصناديق السوداء، وقد كان العالمان النظريان آلان تورنج وكلود شانون هما اللذين كشفا سر "آلة الشفرة اللغز" التي أبدعتها التكنولوجيا الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.
(ط) لندع تعقدنا يعمل لصالحنا: تواجه المجتمعات العربية العديد من المشاكل المعقدة، والتي تفوق درجة تعقدها، في أحيان كثيرة، نظيراتها في الدول المتقدمة، إلى حد يمكن اعتبار "تعقدهم" حالة خاصة من تعقدنا، ولا شك أن هذا يزيد من صعوبة حل هذه المشاكل، إلا أنه يمثل في نفس الوقت استفزازا مفيدا للعقل العربي يحثه على البحث عن حلول أكثر عمقا، وقد أثبتت تجربة المؤلف في معالجة اللغة العربية آليا بواسطة الكمبيوتر جدوى هذا المنحى من التفكير، فاللغة العربية - كما هو معروف - أعقد من اللغة الإنجليزية حاسوبيا على مستوى الحرف والكلمة والجملة والنص المتصل؛ لذا كان تصميم نظم معالجة اللغة العربية آليا قادرا على استيعاب مطالب اللغة الإنجليزية كحالة خاصة منه، وقد تم بالفعل اتخاذ نموذج العربية الحاسوبي كنموذج عام يمكن تقليصه slimming down ليلبي مطالب الإنجليزية وغيرها من اللغات الهندوأوروبية.
وختاما، فإن استغلال هذه الفرص التي توفرها تكنولوجيا المعلومات يحتاج منا إلى جهد مكثف ومنسق، ونورد أدناه بعض تصوراتنا عن كيفية القيام به في ظل خلفية قوامها ثنائية التحديات والفرص.