تقريباً مقدمة

.. وها هو أيضاً الكتاب الثالث من "ديوان الشعر العربي الجديد" الخاص هذه المرة بلبنان، كجزء أوّل من ثلاثة أجزاء مكرّسة لبلاد الشّام.. هذه البلاد الخصبة: اعتقدت في البداية بإمكانية حصر ما أقع عليه من الشعراء داخل مجلّد واحد على غرار الكتاب الثاني الخاص بالجزيرة العربية، ولكن أثناء العمل الميداني وأثناء تجميع المادة، اتضح لي أن ذلك غير ممكن، إلاّ إذا "انتخبت" عن كلِّ بلد عدة شعراء ممثلين له وللمشهد الشعري فيه - وفي هذه الحالة كانت أسماء الواجهة فقط ستفرض نفسها بالضرورة، لا لشيء إلاّ لأنها في الواجهة ولا ينبغي إهمالها! لشعراء الواجهة جمالهم الأكيد، لكنهم لن يمثلوا إلاّ جزءاً بسيطاً من المشهد العام، ومن يعمل على ما وراء الواجهة، وعلى البعيدين منها، سوف يكتشف هذه الحقيقة، وسوف يضع يده على ورود وأعشاب برية، معادلة لأسماء الواجهة كي لا أقول متفوقة عليها. وهذه، على أية حال، فلسفتي في هذا المشروع منذ بداياته: العمل على أكبر كمٍ ممكن من الشعراء والاحتراس من الوقوع في أسر الواجهة.

إذن، ابتعدت، وسوف أبقى كذلك، عن فلسفة الانتقاء والانتخاب الضيقة، وتقصيتُ أسماءً وأسماءً أخرى بحثاً عن توسيع دائرة التمثيل قدر الإمكان أو بحثاً عن "مثالية" الكمال.

وضمن هذه الرؤية، يأتي الجزء الأول من الكتاب الثالث خاصاً بشعراء لبنان، الجدد أو بتعبير أدق بقسم كبير من الشعراء الجدد في لبنان، وتحديداً بشعراء الموجات التالية على الشعراء الرّواد الذين لا يضمهم هذا الكتاب.

ربّما كان عليَّ أن أضع أسماء شوقي ابي شقرا، إنسي الحاج، فؤاد رفقة، يوسف الخال، أدونيس، ولا أدري لماذا لم أفعل ذلك، مع أن حركة الحداثة العربية، وليس اللبنانية فقط، تدين لهؤلاء الرواد ولزملائهم من البلدان العربية الأخرى بالكثير. لعلّي لم أجد لديهم ما يناسب هذا المشروع، أو لعلّ الخوف من أن يأكل ذكرهم الكتاب بكامله فيقال وفي هذا الديوان فلان وفلان، هو السبب، أو لعلَّ التحدي هو السبب: إذ قلت لنفسي ألا يمكن تشكيل مشهد شعري عام من دون هذه "القلاع" و"الحصون" الشعرية، ألا يمكن رصد حساسيات شعرية جديدة مختلفة عن حساسية الرواد الميتافيزيقية بامتياز، أو لعلّ قناعتي بأنهم نتاج المطبخ التوحيدي هي السبب. هذا المطبخ الذي سوف يرد الحديث عنه مفصّلاً في الآتي من صفحات هذه المقدمة. على أية حال، ومهما كان السبب، لا أحد يستطيع إلاّ أن يحترمهم ويحترم إنجازاتهم الشعرية ومواقفهم النقدية من قضايا التجديد والتغيير؛ لكن لا أحد يستطيع أيضاً - إذا أراد "الخيانة" و"الإنحراف" - إلاّ أن يرفع يديه ملّوحاً: وداعاً أيها الروّاد الأصدقاء، وداعاً لكم ولأوهامكم الحداثية، وداعاً لكم ولكتبكم السماوية المقدسة التوارة والإنجيل والقرآن، وداعاً لكم ولمعارفكم وعقولكم التوحيدية، وداعاً لكم ولمفاهيم النبوة والعرافة والحدس، وداعاً لكم ولمطولاتكم، وداعاً لكم ولآلامكم، وداعاً للبكائيات والرثائيات، وداعاً لمعطف الآلام داخل الشعر، وداعاً أيها الأصدقاء الرواد، وداعاً، وداعاً..

عندما باشرت العمل على هذا الجزء، كنت أعتقد أنني سأقع على ضالتي لدى الكثير من الأسماء التي قرأت لها متفرقات ومتفرقات من قصيدة واحدة إلى ديوان أو ديوانيين، والتي كنت أعتقد أنني أعرفها معرفة شعرية وافية، أو أُلمُّ إلماماً متواضعاً بطريقة وشكل كتابتها. غير أن القراءة النظرية شيء والقراءة التطبيقية شيء آخر تماماً. في القراءة النظرية، لا نتوقف إلاّ قليلاً، نقرأ بسرعة نسبية، نتصفح، نطالع، نقلّب الأوراق، لا نقرأ بجدية منتظمة أو بصرامة مطلوبة، نقرأ بالأحرى كي نردَّ الدين لصديق ونقول قرأنا.. في القراءة التطبيقية، نتوقف ملياً، نعيد ونعيد، نرى إلى المفردات كيف تتوالى، كيف تتراكب، وكيف تؤدي ما أريد، لها أن تؤديه، نقرأ لنمسك بالسّرّ، بالآلية التي يعتمدها هذا الشاعر أو ذاك، نقرأ وفي رأسنا - بعد هذا العمر وبعد انفضاح وهم الحداثة - ضالّة وموّال.. وأيُّ قارئ ليس في رأسه ضالّةٌ أو موّال!!
هكذا فوجئت بأسماء وأسماء، مع أنني أخذت من جميع هذه الأسماء. فوجئت بـ"بلاغة" و"إنشائية" و"حرفية" أسماء الواجهة، فوجئت بألعابها الذهنية، بضجيجها اللّغوي، بارتكازها على مفاهيم المجاز التقليدية، أو على المجاز مجرداً، لذلك وجدت صعوبة في الوصول إلى "نتيجة" معها، في الوصول إلى ضالتي وموالي كما هما مجسدان في المقاطع والأمثلة المعطاة داخل هذا الكتاب. كنت أشعر بالخوف والاختناق وأنا أمارس القراءة التطبيقية على هذه الأسماء رافعة بيرق الحداثة الأخرى..

لكن وبالمقابل، فوجئت بأسماء بعيدة، بأسماء تختفي طواعيةً أو كرهاً وراء الواجهة، فوجئت بطراوتها، بقدرتها على تقليص المجاز إلى حدوده الدنيا والاحتفاظ في الوقت ذاته بجمالية الشعر، أو بالشعر هكذا مجرّداً؛ فوجئت بقدرتها على استخدام الحواس الخمس والانفلات من سيطرة الذهن، والجرأة في القول دونما "حسابات" شعرية تقوم على "الشطارة" و"الذكاء" وترتيب الأوزان داخل الوسط الأذلي.

  • قوبل الكتاب الأول من هذا المشروع "ديوان الشعر العربي الجديد" والخاص بالعراق، بجملة انتقادات سوف تعاد، على الأغلب، بصدد الأجزاء القادمة. قيل إنني لم أبرز خصوصية كل شاعر على حده، وذلك بسبب اجتزاء مقطع واحد أو مقطعين أو أكثر من القصيدة، أية قصيدة، بدل إيراد هذه الأخيرة كاملة. لكن هل اختيار قصيدة واحدة كاملة او قصيدتين كاملتين ـ وهذا أقصى ما يمكن أن يأخذه صاحب المختارات لأي شاعر ـ سوف يبرز خصوصية الشاعر؟! لا أعتقد ذلك، على الرغم من أن هذه الطريقة كانت أسهل بالنسبة لي، وهي طريقة تقليدية جداً في صنع المختارات وتقديمها. أضف إلى أن غاية هذا المشروع ليست إبراز خصوصية كل شاعر. ثم ما معنى الخصوصية في نهاية التحليل!! لدينا مثلاً في الكتاب الثاني 115 شاعراً وشاعرة من مختلف بلدان شبه الجزيرة العربية، فهل يعني ذلك أنه لدينا 115 خصوصية، كلٌّ منها مستقلة ومتميزة جداً جداً عن الأخرى، وعلى محمد عضيمة، إذا أراد لعمله الموضوعية وليست الذاتية أو المزاجية ـ لأنه ممنوع ممارسة الذاتيات والمزاجيات في أعراف العقل التوحيدي ـ أن يبرز كل واحدة منها بوضوح. مما لاشك فيه أن هناك شعراء امتازوا أكثر من غيرهم، لأنهم أعطوا وأنتجوا أكثر، وعن هؤلاء يقال إنهم محترفون، وهم الذين يقفون في الواجهة الأمامية للشعر العربي المعاصر، وكان يمكن لهذا المشروع أن يقتصر عليهم، لكنه كان سيأتي فقيراً جداً، ناقصاً جداً، وأخيراً تقليدياً جداً لا يضيف أي شيء. وقد لا يفهم هذا الكلام إلا من يتابع الحركة الشعرية في جميع الاتجاهات من الهوامش والحواشي الى المتون، ومن السطح الى الوسط إلى الأعماق، ومن القصيدة المنشورة في صفحة ثقافية يومية الى دواوين الأعمال الكاملة التي يأكلها الغبار في مكتبات العواصم العربية. هناك أعمال شعرية قد تتمثل في قصيدة واحدة، فيها مقاطع ولقطات جمالية لا يمكن إهمالها بحجة أن أصحابها غير معروفين، وغير متميزين، وليست لديهم خصوصية، ومن الخطأ وضعهم الى جانب أو في مصاف أهل الخصوصيات الكبار، لأن في ذلك مساواة غير عادلة!! لم أبحث عن المساواة العادلة ولا عن إبراز الخصوصية، بحثتُ عن إبراز الجميل كما بدا لي مجسداً، ناتئاً داخل النصوص، الجميل الذي لا يمكن تأميمه. ولم يكن ذلك سهلاً، كما ظن بعضهم، فالامر يحتاج إلى قراءة متأنية للديوان ولنصوصه، نصاً نصاً، ويحتاج إلى دقة في الإجتزاء ، وكثيراً ما طفت الديوان الواحد مرتين او ثلاث كي لا يفوتني شيء مما أريد. لذلك قلت أعلاه إن اختيار قصيدة بكاملها أو قصيدتين، طريقة سهلة كي لا أقول مبتذلة. ومع ذلك، فإن الحد الأدنى الذي اخترته لشاعر ما من هؤلاء الشعراء ومن عدة قصائد يتجاوز حجم قصيدة واحدة كان يمكن اختيارها. وبهذا ربّما أكون قد اقتربت من خصوصية الشاعر أكثر مما لو كنت اعتمدت على نص واحد يدور في غالب الأحيان حول نقطة واحدة. فأنا بعبارة أخرى، ولتكن عبارة تقليدية، أخذت من كل قصيدة وردتها المتفتحة، أو عدة ورودها المتفتحة. وبهذا أيضاً، أكون قد أعطيت الشاعر فرصاً متعددة للتعبير عن عالمه، وليست فرصة واحدة كما كان سيحدث لو اعتمدت قصيدة واحدة. وقيل إنني بهذا الإجتزاء قد أخرجت المقطع من سياقه الموضوع له اساساً داخل القصيدة والذي يريده الشاعر، وجعلته في سياق آخر لم يتوخاه صاحبه أثناء الكتابة. وليكن!! أين الخطأ؟ هذا دليل على أن المقطع جميل ومكتفٍ بنفسه وحيداً، منفرداً أو داخل سياق القصيدة جملة، وهذا دليل أيضاً على أنه شعر، والشعر لا يسير في اتجاه دلالي واحد، وقد يأتي شخص ثالث ليأخذ المقطع نفسه ويضعه في سياق آخر فيتولد معنى آخر. هكذا هو الشعر الجميل: كريم بمعانيه وتجلياته. وسوف يأتي الحديث لاحقاً حول "المقاييس" التي اتبعتها في الاختيار. وهي "مقاييس" ذاتية، مغامرة، تبتعد عن المعايير السائدة. وهذا الكلام موجه لمن اتهم العمل بالابتعاد عن المنطق الأدبي. والحقيقة هي أن هذا المشروع بالكامل هو محاولة لرؤية الأشياء ببعض الإختلاف، لذلك من الطبيعي أن يأتي وكأنه "خارج على.. "، وقيل إنني وزعت المقاطع توزيعاُ لا يوحي بشيء ما من الترتيب، أو لا يمنحها ترتيباً معيناً، بحيث تبدو في سياق ما من الإنسجام. في الواقع، لم أفهم كثيراً هذا الكلام، ولا أعرف ما هو المقصود بالترتيب الإنسجامي، في عمل مماثل تبدو فيه هذه القصائد، وكيفما جاء تواترها، متكاتفة متعاضدة لبناء هذا المشهد الجمالي التشكيلي. وليت الذي انتقد هذا "الترتيب" وهذا "التواتر" اقترح طريقة، أو أعطى مثالاً موجوداً لدى شاعر ما يحتذى به في ترتيب القصائد داخل الديوان. كان يمكنني ترتيب هذه المختارات حسب الموضوعات، فأقول مثلاً: باب النافذة، باب الشارع، باب المقهى، باب السيجارة الصباحية، باب الإغتراب، باب العدم، باب التعب، باب الحذاء، باب الضمير أنا، باب الضمير نحن، باب الضمير هو، باب البذاءة، باب الثياب، باب التسكع، باب الخمور،.. إلى آخره، وتحت كل باب أورد قولاً أو أكثر لهذا الشاعر أو ذاك، حتى آتي على أكبر كمية ممكنة حول الموضوعة. ومما لاشك فيه أن ترتيباً مماثلاً كان سيخدم طلاب واساتذة الأدب الحديث في المدارس والجامعات، لكن كنت سأبدو، من وجهة نظري وهذا هو الأهم، مثل فراهيدي معاصر، لا يحصي الأوزان هذه المرة، بل الموضوعات المتواترة في الشعر المعاصر، يسنُ لها القوانين ويضع لها القواعد. وبناء عليه، كنت سأبدو قريباً الى منطق الأشياء السائد، في الترتيب والتبويب. وربما كان سيأتي مـِنْ بعدي، كما حدث مع الفراهيدي، مـَنْ يجعل من هذه الموضوعات شرطاً من شروط الحداثة الشعرية، أو شرطاً من شروط الجمال في الشعر. فالعقل العربي خبير هائل في الإتباع، ما إن يرى قاعدة، أو قانوناً، أو بالاحرى ما فيه رائحة القاعدة أو القانون، حتى يبدأ بنسج شبكة قانونية يحيطها بهالة من القداسة والتبجيل. وفي التاريخ العربي الشعري وغيره، ولا سيما علوم الفقه، أمثلة لا تحصى على هذا الصعيد. وكان يمكنني أيضاً التبويب حسب الأسماء، فأضع تحت اسم الشاعر جميع المقاطع التي اخترتها من أعماله، لكن كان سيأتي الكتاب روتينياً، مملاً، مضجراً، مقـطَّعاً تقطيعاً تنعدم فيه الحركة من وإلى، تقطيعاً استاتيكياً، كان سيبدو مثل جسدٍ فيه دمٌ ولكن ثابت لا يجري في العروق، يعني كلّ عضو في هذا الجسد ثابتٌ دمه لا يتصل بدم عضو آخر؛ وإلى ذلك، كان سيبدو تقليدياً مطابقاً لما هو سائد من المختارات، لا إضافة نوعية ولا جديد فيه. بل سيكون تكديساً على تكديس. ولذلك كله، رأيت أن يتجلى الشاعر في أكثر من مناسبة، وأن لا أحصره في عدد من الصفحات، وأن يساهم في التشكيل كلما أتاحت الفرصة، وأن يتجاور مع أكثر عدد ممكن من الشعراء، ورأيت أن هذه "الديمقراطية المتوحشة" سوف تفضي إلى ديوان لا يشبه سوى نفسه، أو سوى غابة وحشية لا سياج لها، ولا أبواب، ولا أقفال، ولا حراس. يدخلها من يشاء من حيث يشاء ومتى يشاء، وكل شيء فيها متصل مع كل شيء، ومنقطع عن كل شيء وفق قوانين الطبيعة.. هل أقول الاعتباطية، أم الدقيقة في صرامتها، لنقل الاثنين معاً. والواقع هو أنني توخيت التنويع داخل كل صفحة، بحيث تبدو كل قصيدة عالماً خاصاً ، لا يربطها بما قبلها أو بما بعدها سوى الحالة الجمالية، أي تلك الدفقة ذات الوتر الواحد والحركة أو القفزة الواحدة، كما لا يربط بين صفحة وأخرى سوى ذاك النسيج الخفي الذي يُعنى بحالات خفيفة لا يُلتفت اليها عادة في الشعرية التقليدية. وهذا ما سوف اقوله لاحقاً عند الحديث عن "المقاييس". وقيل إنني وقعت أسير التطرف في التنظير النقدي، واعتمدت نبرة حادة في التعامل مع منتوجات العقل التوحيدي الشعرية، وإنني كنت استبدادي الخطاب فيما أهاجم الاستبداد الشعري الميتافيزيقي، وأن هناك مسافة بين تقديمي النظري والأمثلة التي اخترتها، كما طُرحت آراء قاطعة، فاصلة لاتقبل النقاش!!. وقيلت أشياء أخرى تناولت جميعها بعض ما جاء في المقدمة، التي سوف ترد تتمة لهذا الكلام فيما بعد، دون إعطاء مثال واحد من المختارات ومناقشته على أنه ليس شعراً، أو ليس جميلاً، أو يتناقض مع المقدمة كلياً، أو لا يشكل في سياقه المعطى حالة شعرية أو أو .. تمنيت على جملة الانتقادات هذه أن تكون مصحوبة بأمثلة، وألا تكتفي بالمجادلة وقلب وجه الميدالية. والواقع هو أنني لم أطرح ولن أطرح شيئاً غير قابل للنقاش، لكن طريقة طرحي تبدو شديدة الوضوح والبراءة حتى لكأنها لا ترد، مع أنها لا تتعدى وجهة نظر مألوفة إلى حد كبير. عندما أعرض رأياً، لا أعرف عرضه بلغة احتمالية قد يضيع معها القارئ فلا يدري أين رأيي وأين رأي الآخرين. واستخدم الضمير أنا بوتيرته العالية، لأن ذلك يشعرني بالمسؤولية تجاه كل ما أقول، ويعطيني دفعاً الى التعبير أكثر، بوضوح أكثر، كما أنه يريحني من أي ضغط خارجي لتمثيل الموضوعية، مع أنني لا أبتعد عنها على ما أظن. أما المسافة بين بعض الأمثلة التطبيقية وبين بعض ما أقول، فهو أمر لا مفر منه. لأن التنظير يبقى طموحاً سابقاً، والتعبير عنه أسهل بكثير من الوصول إليه وتحقيقه. ومع ذلك، لا أجد تلك المسافة الكبيرة التي أشير إليها من قبل بعضهم، لأنني اخترت أولاً الأمثلة، ثم بنيت عليها تجريبياً ما قلت وما كتبت. ولم تكن في ذهني أية فكرة مسبقة، وما تكوّن من أفكار، تكوّن أثناء السباحة في الأعمال الشعرية واصطياد أسماكها. أي اصطياد هذه المقاطع التي يتراوح طول الواحد منها بين ثلاثة أسطر وخمسة. ولم يكن التركيز على هذا الحجم بمثابة شرط "استبدادي" للشعرية، كما توهم بعضهم، ولكنه مجرد خيار من خيارات الشعرية المتاحة، والتي تفرز أدوات دفاعها عن نفسها مثل بقية الأشكال الأخرى من الشعر. إنه مجرد "توثيق" و"أرشفة" لجمالية الخفيف، ولحساسية شعرية قوامها الاعتماد على عدة ألفاظ تعمل لصياغة برهة مكثفة الجمال، وذلك دون جميع ألفاظ وعبارات القصيدة الواحدة، تلك التي تبدو وكأن لا عمل لها سوى التواجد، أو سوى البطالة، لكنها ترتدي قناع العمل.

  • هذه البطالة للألفاظ، للغة داخل الشعر العربي المعاصر هو ما حاولت رصده من خلال التركيز على النقيض، أي على الالفاظ الموظفة في أمكنتها بجدارة وبراعة، ومن أجل شيء تقوم بتكوينه خير قيام. وقناعتي أن هذه البطالة المقنعة هي التي جعلت الشعر الحديث يراوح مكانه منذ ولادته على أيدي الرواد، وجعلت اللاحقين اسرى السابقين. ولذا كنت استنكف عن قراءة أي شيء منه بعد الرواد قائلاً لنفسي: لا اريد أن اسمع الصدى، بل الصوت بالذات. لعلي كنت مأخوذاً جداً بصوت ذلك الجيل من الرواد حتى لم أعد استطيع سماع غيره، لا سيما انني مقتنع بأن الإنزياح عن الآباء، ومهما كان بسيطاً، ليست بتلك السهولة التي نتصور. اضف الى أن هؤلاء الآباء أنفسهم، أي الرواد، أرادوها هم أيضاً، انزياحاً ولو ضعيفاً عن سابقيهم. والحقيقة هي أن الجميع مرضى بالقول إن الشعر، كل الشعر، هو ما يرتبط بالآلام والأحزان، ما يرتكز على نبرة مصائبية، بكائية، كارثية، ولا عمل له إلا الوقوف على مافي هذا العالم من نقاط خراب ودمار. ولا أشك أن وراء هذا، كما وراء تلك البطالة المقنعة للألفاظ داخل الشعر، تكمن الرؤى الدينية التي تصبغ بلونها الأسود جميع مناحي الثقافة العربية والإسلامية، وهذا ما سوف أعرِّج عليه مهاجماً في ما يأتي من هذه المقدمة.

    بسبب هذه النبرة وذلك اللون، تلك الرائحة وذلك الطعم، كنت أصاب بالاكتئاب والاختناق عند قراءة الشعر، وصرت أبتعد بالتدريج عن قراءة أي شيء، شعراً كان أو لا، يدفعني باتجاه الحزن أو الموت. وكنت أنا بالذات مورّطاً في كتابة نصوص شعرية قوامها مضغ الآلام والسوداويات مضغاً معاداً حتى لم أعد أرى، وبشكل يومي، أية بسمة في أي مكان: اختفت الابتسامات في الداخل، فلم أعد أرى في الخارج إلا الكوارث.

    ولا أدري كيف انتبهت، وأنا في الأرخبيل الياباني، إلى أن الميتافيزيقيا والتجريد العالي والفوق ـ أرضية، إلى أنَّ التوحيدية، إلى أن النزعة الذهنية، هي المسؤولة جميعاً عن هذا القول الشعري السوداوي، داخل الشعر العربي برمته، وداخل شعر وإبداعات جميع مناطق التوحيد في العالم. فأي شيء يمكن أن توحي به أعمال ت. س. إليوت من "الأرض الخراب" إلى "الرجال الجوف" مروراً بغيرها، إن لم يكن الاكتئاب والتشاؤم. وليلاحظ القارئ جيداً عناوين المجموعات الشعرية الريادية كيف لا تتحدث أو لا تشير إلا الى الكآبات والخرابات والأحزان. إن جرداً بسيطاً لعناوين مجموعات وقصائد شعرائنا الكبار والصغار اليوم سوف يصيب بالدوخة والدوار ويدفع القارئ إلى زاوية داخل بيته أو داخل ذاته، حيث لا ضوء ولا فرح ولا ابتهاج: إنها دعوة إلى النفور من الأرض، أمنا الاولى والأخيرة، والحقد عليها.