أية ملائكة تضاف إلى أحلامنا

( شعراء التسعينات في سوريا )

ملف أعده : علي سفر
(سوريا)

عن الملف

مقدمة

الشعراء

إبراهيم حسو
إبراهيم الجبين
أحمد ديبو
أحمد محمد سليمان
أديب حسن محمد
أسامة إسبر
إسماعيل كوسة
إسماعيل الصمادي
أكرم قطريب
أوس أسعد
أيمن إبراهيم معروف
بسام علواني
بشير العاني
بهية مارديني
جاكلين سلام
جبران سعد
جولان حاجي
حازم العظمة
حسان الجودي
حسين بن حمزة
حسين حبش
حسين عجيب
خضر الآغا
خلف علي الخلف
دلدار فلمز
رشا عمران
رفعت شيخو
رولا حسن
رياض العبيد
زياد عبدالله
سامر فهد رضوان
سرى علوش
سمر علوش
صالح دياب
ضرغام سفان
طالب هماش
عابد إسماعيل
عارف حمزة
عبد الرحمن عفيف
عبد اللطيف خطاب
عبدالله ناظم الحامدي
عبدالله ونوس
عطارد عزيز حيدر
علاء الدين عبد المولى
علي حميشة
علي سفر
عماد الحسن
عمر إدلبي
عمر قدور
عهد فاضل
عيسى الشيخ حسن
فارس البحرة
فرات إسبر
فراس الضمان
فراس سليمان محمد
كمال جمال بك
لقمان ديركي
لقمان محمود
لينا الطيبي
ماجد قاروط
مازن أكثم سليمان
محمد الحموي
محمد المطرود
محمد دريوس
محمد صارم
محمد عفيف الحسيني
محمد فؤاد
محمد مصطفى حسين
محمد نور الحسيني
مروان علي
معتز طوبر
معن عبد السلام
منير محمد خلف
مياسة دع
ندى منزلجي
نديم الوزة
نذير إلياس
نضال بشارة
هالة محمد
هنادي زرقة
وائل شعبو
وفائي ليلا
ياسر الأطرش
ياسر أسكيف

عن هذا الملف

علي سفر

هذا الملف حصيلة لجهد طويل ..
وقد أستغرق من العمل أكثر من سنة كاملة توقفنا فيها عدة مرات بسبب من رغبتنا الصادقة في عدم وروده إلى القارئ ناقصاً أو مبتسراً أو أحادي الجانب.
و أزعم بعد كل المنعرجات التي مررنا فيها ونحن نحاول الحصول على أوضح صورة للشعر في سورية خلال فترة التسعينيات وما بعد..أن هذا الملف يكاد يكون أكبر وثيقة تعبر عن الشعر السوري خلال مئة عام ..!
فنحن نرى وفي تضاعيف الملف ورود عدد كبير من الأسماء التي جرى فرزها من عدد أكبر بدت تجارب من استبعدوا منه شبه تكرار لما سبق وبلا ملامح شخصية مؤكدة أو محتملة..
و لغرض توفير العناء على القارئ الذي سيبحث عن المتعة في قراءة تجارب أشعار هذا الجيل فقد قمنا بالبحث في ملامح التجارب المثبتة عن نصوص تتجنب التشابه بين أصحابها وتقدمهم كأصوات مختلفة وأعتقد بأن النجاح في هذا المقصد نسبي وقد نصل إليه وقد لا نصل ولكن لا بأس بجعلنا له أساساً لاختيار النصوص ..
لقد بدأت المشاق في عملية جمع النصوص ومنذ البداية في تعامل الشعراء مع نصوصهم وذواتهم في أن معاً ولاسيما وأن أغلب أفراد هذا الجيل مصابون باكتئاب عام سببه تعامل المنابر الإعلامية معهم وكأنهم قطع زائدة لا تستحق حتى أن ينظر إليها ..
ولا عجب حين نرى في المشهد الثقافي السوري أشخاصاً قد بلغوا من العمر عتياً ولازالوا يحتلون الصدر في أغلب الأحاديث عن الشعر في سورية ..!
فالستينيون مازلوا راسخون في المكان بحكم التقادم
والسبعينيون يسمون أنفسهم شباباً
والثمانينيون شبه مغيبين
بينما ينظر للتسعينين على أنهم شيء من سقط المتاع ..!!
و المشكلة الحقيقية وراء كل هذا هي غياب المنابر التي تحتفي بالشعر كأصوات وليس كأشخاص..كنصوص وليس كمراتب ..!!
ومن هنا لا نعثر وطوال أكثر من أربعين عاماً سوى على تجربتين وحيدتين أتاحتا للأصوات الجديدة أن تظهر..:
الأولى هي : تجربة ملحق الثورة الثقافي الذي ظهر في منتصف السبعينيات من القرن الماضي..
والثانية هي : تجربة مجلة ألف في بداية التسعينيات ..
وفيما غاب الاهتمام بالشعر في أغلب الصحف والمجلات القليلة أصلاً. اتجهت أغلب التجارب للنشر في الصحافة الخارجية.. وهكذا بدا المشهد الشعري السوري مبعثراً ومتباعد وغير مستوٍ في حراك ثقافي يظهر التجربة وينقيها ويدعمها ويساهم في استنهاضها..
ولعل البحث في أغلب المراجع التي تبحث في الشعر في الوطن العربي يوضح ضعف الملف السوري دائماً وعدم راهنيته وأحياناً كثيرة عدم صدقيته بسبب من تحكم العلاقات الشخصية في تظهير التجارب وتصديرها للقارئ في الخارج ..
ومن هنا حاولنا في هذا الملف البحث في المخفي والمغيب والمستور ..
والاستغراق في رغبة أن يظهر المشهد الشعري السوري راهناً وحديثاً بتبايناته واختلافاته..
فهنا سيلاحظ القارئ وجود الطيف الشعري عبر طبقاته المتعددة وملامحه المختلفة فقصيدة النثر ( على سبيل المثال )التي تتهم بأنها تسيطر على المشهد كله نراها هنا واحدة من أنواع عدة تكتب راهناً كما يكتب غيرها كالتفعيلة والقصيدة العمودية..
وقد حاولنا أن نضع القارئ في مواجهة النص دون أن نجعله يقارب البعد الشخصي للشعر عبر تثبيت المعلومات الشخصية عن الشاعر واكتفينا بدلاً من ذلك بوضع عدد الإصدارات وتاريخها...
ونظراً لوجود عدد من الشعراء الذين كتبوا الشعر كأصوات مختلفة ومتميزة دون أن يصدروا كتباً فقد قمنا بتثبيت نصوصهم دون أن نضع تحت أسمائهم أي معلومات..
ويجدر بنا أن ننبه القارئ المطلع والذي يدري عمق التجربة الشعرية السورية
واتساعها أن الملف مقصور على من يسمون اصطلاحاً بجيل التسعينيات أي أولئالآن.ن ظهرت تجاربهم المطبوعة كدواوين في الفترة الممتدة من عام 1990 وحتى الآن .. وكل من صدر له ديوان قبل هذا العام جرى اعتباره من مرحلة مختلفة مع علمنا الأكيد بأن كثير من الذين كتبوا في نهاية الثمانبرمته.د تكرست تجاربهم في التسعينيات وقد سموا على هذا الجيل ..
أشكر كل من ساعد على إعداد الملف وأشكر هيئة تحرير الشعراء على رغبتها في تظهير التجارب الشعرية الحديثة في الوطن العربي برمته..
وإذا كانالمشاركون:بيب هذه التجربة فإن ذلك يعود للشعراء الذين دفعوا وبحماس بنصوصهم إلينا وإذا لحقها شيء من الفشل فإننا نتحمل وزره دوناً عن الآخرين ...

علي سفر

***

قصيدة التسعينيات السورية
التمايز والولادة الخلاّقة من رحم أموميّ
نما وتطبّع في أحضان لحظة معرفية مغايرة

عزت عمر*
www.izzatomar.com

تقديم

لعل قارئ هذا الملف سوف يفاجأ كما فوجئنا بهذا العدد الكبير من الشعراء الذين صنّفوا ضمن عقد التسعينيات الشعري في سوريا؛ أن يقرأ لما يزيد عن ثمانين شاعراً وشاعرة تراوحت نتاجاتهم الشعرية بين المجموعة الواحدة، مطبوعة أو مخطوطة، وبين عشر مجموعات تنوّعت أطروحاتها وتمايزت بما ينسجم والتوجّهات العامة للقصيدة الجديدة في التأسيس لمسيرتها بعيداً عن قصيدة الوزن والقافية التي وسمت الشعر العربيّ بمنبريته وخطابيته، هذا بالإضافة إلى ما اتّسمت به من بساطة معانيها وسذاجة رموزها ودلالاتها.
وإذا كانت الأوضاع السياسية والثقافية ومرحلة ما يسمّى بالنهوض الثوري في السبعينيات، قد عززت هذه المنبرية تلبية لتطلّعات الجماهير والنخب في النضال الذي اختلفت جبهاته ما بين الرجعية في الداخل والصهيونية والإمبريالية في الخارج، إلاّ أن مرحلة الثمانينيات وخصوصاً بعد اجتياح لبنان وحصار بيروت وطرد المقاومة الفلسطينية من جهة، وكامب ديفيد وانكفاء الأمة المصرية على نفسها من جهة أخرى، عدا عما استجد في الحياة السياسية من تقييد للحريّات ومن ميل للاستبداد والاستئثار بالحكم، وإخفاق خطط التنمية الاقتصادية والمجتمعية وغير ذلك، ربّما دفع بالشعراء إلى التفكير بخطابهم وبأدواتهم الشعرية ومدى ملاءمتها لما استجد من أوضاع.
وهكذا فإن مرحلة الثمانينيات، ربّما تشكّل إرهاصاً أوّلياً بتغيّر التوجّهات الشعرية السورية من حيث المضامين، وبتغيّر أنماط الخطاب من حيث الشكل، وكأننا بالشعراء الجدد، وربّما للمرة الأولى، وبما اتّصفوا به من حساسية ووعي استشرافيّ سوف يدركون الآثار المدمّرة لخطاب الأمس على الصعيد الوجداني والنفسي، ومدى ما افتعله من أوهام حول الذات الوطنية والقومية وأوهامها البلاغية؛ بالاندفاع عميقاً إلى الذات الإنسانية واختبار مدى قدرتها على التحمّل ضمن فضاءات طاردة لذات تتعطّش إلى حرية التعبير، وعن مدى العطب الذي أصابها نتيجة لهذه الفضاءات التي يمكننا تلخيصها في استشراء الاستبداد المجتمعي والسلطوي؛ وفي ممالئة النخب المثقفة لهذه السلطات وتوجّهاتها الأبوية المستحدثة كنظام رمزي وبلاغيّ قديم ومتهالك.
ومن هنا كان لا بدّ لهذا الشعر من التبرؤ من هذه الأبوية، ومغادرة مضارب الوعظ والإرشاد والمنبريات المزدهية بأوهامها، إلى الذات تحديداً، والتعبير عنها بكلّ شفافية وصدق وجدانيّ، ليبدأ هذا الهارموني الشفويّ في بناء مدن أحلامه وفضاءات قصائده بلغة جديدة. وربّما كانت تجربة الشاعر رياض الصالح الحسين تشكّل منعطفاً حاسماً في التأسيس لهذه اللغة الجديدة والمختلفة حتى عن لغة شعراء مجلة شعر وتنظيراتهم، وكان على هذه الولادة الجديدة أن تقحم في مواجهات شديدة وعلى أكثر من صعيد، ولم يكن شعراء التفعيلة في هذه المواجهات أقل شراسة من التقليديين، حيث كان الرأي الغالب أن توأد هذه المولودة الجديدة، جرياً على أعراف القبيلة الأولى، وقوانين الذكورة التي، في العموم، لا ترى إلاّ صورتها، ولا تسمع إلاّ صوتها. وربّما هذا كلّه سوف يذكرنا بأزمنة التمرّد الأولى والقطيعة الأولى على النظام البنائي التقليدي ورمزيته البدوية في وسط غادر البداوة نحو المدنية والحداثة منذ زمن بعيد من جهة، والتذكير هنا لا يعني المقايسة، وإنما التمايز والولادة الخلاّقة من رحم أموميّ نما وتطبّع في أحضان لحظة معرفية مغايرة، انفتح من خلالها الشعر على الثقافة العالمية ببعديها: الفنّي والإنساني، فباتت الطريق سالكة نحو أفكار أكثر إنسانية، وبما يمكن تسميته ب "لغة المشترك الإنساني" الداعية إلى تقويض فاعلية الذكورة المؤسّسة لخطاب قديم ما انفكّ يؤثّر في آليات التفكير المجتمعي والسلطوي، ويعيق بهذا الشكل أو ذاك، محاولات الشعر في التحاور والتثاقف مع الثقافات الأخرى على أساس هذا المشترك. ولكنها كغيرها من المحاولات أيضاً، فيها الغثّ وفيها السمين؛ الغامض المعقّد والسطحي البسيط، وما بين هذا وذاك ثمة شعراء ما زالوا يقفون عند العتبات ساعين بكلّ طاقتهم مجاراة من سبقهم في هذا المضمار، ولكنّ هذا الحرص الزائد منهم سوف يفضي دائماً إلى خلل بنائيّ في قصائدهم من حيث اللغة والصورة، بل ربّما أيضاً من حيث الصدق الوجداني والانفعال المطلوب. ولكن ثمة محاولات، أيضاً، جديرة بالقراءة، وجديرة بالإعجاب دفعت بنا دائماً نحو مقاربات نقدية لم تكن لتخطر على البال، وتلك هي خصوصية الشعر وأعجوبته في آن، الخصوصية التي ظلّت محافظة على لغة البراءة الأولى، وبما تحمله من قدرة على دوام إدهاش القارئ بالعبارة اللطيفة والصور المعززة والفكرة الخلاّقة.
وإذا كان ثمة انقطاع قد تمّ بين لغة البراءة وبين الشعر، فإن ذلك ربّما يعود لما جرى للشاعر وقصيدته من إذلال على أيدي الأقوياء من أصحاب السلطان والثروة الذين دأبوا، بعيد انقلابهم على قيم الأنوثة، على تسخيرهما لصالح أهوائهم ونزعاتهم العجيبة. وسواء كان هذا السلطان ماديّاً أو معنوياً (فكرياً وإيديولوجياً) إلاّ أنهما مارسا تأثيرهما بفعّالية كبيرة، فنتج لدينا هذا الكمّ الهائل من الشعراء الذكور والفحول على طول الخطّ الزمني للتاريخ البعيد والحديث، بينما خفت صوت الأنوثة ولم يبرز إلاّ في حالات نادرة وبائسة. وإن حدث وبرزت شاعرة من هنا أو هناك، فإنها بالتأكيد لن تلقى صدى لأشعارها، إلاّ بعد أن يوقّع الفحول على مشروعيتها الشعرية وأجازتها في المشهد الثقافي، وذلك لجملة من الأسباب ترتبط جميعاً بالهيمنة والرقابة الذكورية على المنتجة الشعرية الأنثوية، لتنكفئ هذه الذات على نفسها. وربّما مسألة الرقابة هذه خضع لها الذكور أيضاً، ولكنها في الجانب الأنثوي سوف تكون على الدوام أقوى في جانبنا العربيّ.
اليوم، وعبر هذا الملف عن الشعر السوري التسعيني، سوف نرى أن المرأة عادت إلى كتابة الشعر، ووقفت جنباً إلى جنب مع التجارب الشعرية الطليعية العربية والعالمية لوصل ما انقطع من لغة المشترك الإنساني، وهي على العموم محاولات جديرة بالقراءة كما في تجربة هالا محمّد الشعرية وقد أصدرت حتى الآن أربع مجموعات تمتاز بشفافيتها في التعبير عن شواغل وهواجس المرأة كذات إنسانية مستلبة ومهمّشة والندوب التي خلفّتها الذكورة في هذه الذات، ينضاف إليها تنويعات هنادي زرقة حول هذه الهوامش بمزيد من التفاصيل الصغيرة، بينما ستؤسس وجدانيات بهية مارديني لممكن العلاقة بين الأنوثة والذكورة، وبما يشبه البوح الذاتي عن الغربة ونواتجها على الذات كما في نصّ جاكلين سلام وتلك الذاكرة المستفيضة بالحبّ الأمومي المتدفّق أبداً بسيرة الخير والخيرات، بينما فرات إسبر ستعزز اسمها البالغ في دلالته بمزيد من الماء لكي تزيح غباراً تكاثف في الأنفس وفي الثقافة أيضاً، هذا بالإضافة إلى أن شعرية فرات لا تتحدد بمعطيات المضامين فقط، لأن ذلك قد تشترك به مع الجميع، وإنما في قدرتها على تطويع اللغة بما يعيد العلاقة لذلك السر الذي كنا تكلّمنا عنه سابقاً، ونعني به لغة البراءة الأولى برموزها وأساطيرها المعنية دائماً بالمشترك الإنساني. وما بين الشاعرتين تأتي لينا الطيبي ب"نعناعها" و"فراديسها" التي في الأعالي، وكأنها غير معنية إلاّ بإطلاق رغباتها وأشواقها عبر الصور والرموز التي تقطفها من حديقتها الفردوسية، كي تغزل أثوابها الوجدانية منها، فتتحول إلى أثير وتطير "بلاجناحين" هناك في السماء "مثل قوس قزح وحيد". أما ميّاسة دع التي كنا قرأنا لها مجموعتيها السابقتين، فإنها في هذا النصّ ستواظّب على التجريب في حقل اللغة كأفق بالغ الدلالة لثقافة رمز بصرية تفضي دائماً إلى زمكانين: داخليّ تعصف فيه الرؤى النبوئية، وخارجيّ يعيد صياغة وترتيب علاقة الذات مع الآخر، وربّما سنقع على كثير مما أسلفناه لدى كلّ من رشا عمران، ورولا حسن، وسمر علوش، وندى منزلجي، عطارد عزيز حيدر وغيرهنّ، ولكن لكلّ شاعرة من هؤلاء الشواعر خصوصيتها في التعبير عن هذه الذات الأنثوية المستنزفة إنسانياً، شأنها في ذلك شأن زميلها الشاعر الذي أدرك ولو بعد حين أن أسلافه من الشعراء قد ذهبوا بعيداً في استنزاف إنسانيتهم عبر لغة الفحولة وتمجيد ثقافة القوّة، وإن هذا العالم الذاهب إلى دماره يغصّ بكلّ ما هو تافه وعدواني: قتل ودمار ورعب وتجويع وآلات تفتك بالبشر والحجر، وان حضور الشعر يعني دائماً دفع هذه القيم الشريرة، بل إقصاءها واستبدالها بقيم الحبّ الجميل الذي استوطن جسد القصيدة منذ النصّ الأوّل، فبات نبعاً فياضاً يمنحنا ما حرمتنا تقاليد الذكورة منه.
إن تجارب الشعراء، في هذه النصوص التي بين أيدينا، قد لا تعبّر عن جملة الأفكار التي تقدّمنا بها تنظيراً وتحليلاً، نظراً لأنها قصائد مفردة من تجربة كاملة، ولكنها إلى حدّ ما، ومن خلال توجّهاتها الجمالية، عبّرت عن ممكن التجاوب مع المتغيرات الجوهرية التي طالت حياتنا وذائقتنا، وسعت في الآن ذاته إلى إعادة تشكيل هذه الذائقة لغوياً وبصرياً وقيمياً أيضاً، وخصوصاً لدى أصحاب المجاميع الشعرية ك: طالب همّاش، علاء الدين عبد المولى، نديم دانيال الوزة، فراس سليمان، كمال جمال بك، لقمان ديركي، محمد عفيف الحسيني، علي سفر، أكرم قطريب، منير خلف، هالا محمّد، رياض العبيد، أديب حسن محمد، أسامة اسبر، أيمن إبراهيم معروف، ميّاسة دع، عهد فاضل، محمد فؤاد، أحمد محمد سليمان، وغيرهم. إلاّ أن ثمة تجارب جديدة فرضت نفسها بقوّة وعلى نحو مختلف في المشهد الشعري منذ إصدارها الأوّل، كما في مثال: محمّد صارم، عمر قدّور، فرات اسبر،، خلف علي الخلف، عيسى الشيخ حسن، أحمد ديبو، حسين بن حمزة، عبد اللطيف خطّاب، زياد عبد الله، صالح دياب وغيرهم.
وإذا كان لابدّ من تحديد هذه التوجّهات من حيث التقنية البنائية في أطر عامة يمكننا التوقّف قليلاً عند الحضور السرديّ المكثّف في النصّ الشعري، والذي غالباً ما يسمه البعض بالنثرية، ولكنه برأينا عبارة عن اختراقات حدودية وتموضعات جغرافية في جسد الآخر، قد يمنحنا تصوراً معيناً عن لحظة نشوء النصّ الأوّل الذي كتبته البشرية منذ بدايات وعيها الإنساني، حيث جاءت نصوص الملحمة السومرية كلحظة اشتباك خطيرة بين القول الشعري والسردي، والاختراق هنا، إنما هو عودة طبيعية لإعادة صياغة نصّ مغاير قد يذكرنا بالنصّ الأول، ولكنه إلى ذلك يفتح الباب لمزيد من الأسئلة عن ممكنات ولادة نصّ إبداعي معاصر تنعدم فيه الحدود بين الأجناس، تماماً كما انعدمت الحدود والحواجز أمام الثقافة الكونية الجديدة، وذلك بما يمنح القصيدة الجديدة بعداً ملحمياً حافلاً بالمواقف المختلفة والإيقاعات المتغيرة ما بين دفقة وأخرى، وما بين ما هو أسطوريّ وبين ما هو واقعيّ ويوميّ تعبّر عنه لغة بسيطة مفهومة من القاصي والداني.
وإلى ذلك فإنه لابدّ من تقديم اعتذار كبير للكثير من الأسماء التي لم نذكرها بالرغم من أهمية حضورها، وعزاؤنا أن ثمة قراء سيقرأون هذا الملف ويطلعون على ما قدمته نصوصهم من إمكانية قراءة العالم فنياً وروحياً، وذلك من خلال جملة القضايا التي تعرّضوا لها من جهة، وامتحان قدرة لغتهم على التجاوب الأمثل مع نوازع التجريب التي يتحلون بها من جهة ثانية.