" الى روح أمي طيّب الله ثراها "

يحيى السماوي

(1)

ليَ الآنَ
سَبَبٌ آخر يمنعني من خيانة ِ وطني :
لحافُ ترابِه ِ السميك
الذي تَدَثَّرَتْ به أمي
في قبرها أمس !
 

(2)

وحدُهُ فأسُ الموتِ
يقتلعُ الأشجارَ من جذورها
بضربة ٍ واحدة

(3)

قبل فراقها
كنتُ حيّا ًً محكوما ً بالموت ِ ..
بعد فراقها
صرتُ مَيْتا ً محكوما ً بالحياة

(4)

لماذا رحلت ِ
قبل أنْ تلديني يا أمي ؟
أما من سلالمَ أخرى غير الموت ِ
للصعود نحو الملكوت ؟

(5)

في أسواق " أديلايد "
وَجَدَ أصدقائي الطيبون
كل مستلزمات مجلس العزاء :
قماش أسود .. آيات قرآنية للجدران ..
قهوة عربية .. دِلالٌ وفناجين ..
بخورٌ ومِسْك ٌ ..
باستثناء شيء ٍ واحد ٍ :
كوبٌ من الدمع حتى ولو بالإيجار
أعيد به الرطوبة َ
إلى طين عينيَّ الموشكتين على َ الجَفاف !

(6)

لم تحملْ نعشَها عربة ُ مدفع
ولم يُعزف لها مارش ٌ جنائزي ..
أمي القروية لا تُحِبُّ سماعَ دويِّ المدافع ِ
ليس لأنه يُفزِع ُ العصافير َ فحسب ..
إنما
ولأنه ُ يُذكِّرُها ب " الطراطير" ..
الذين أضاعوا الوطن .. وشَرَّدوني ..
نعشُها حَمَلَتْهُ سيارة ُ أجرة ٍ
وشَّيعَتْها عيونُ الفقراء ِ
والعصافيرُ
والكثيرُ من اليتامى
يتقدمهم شقيقي بطرفهِ الإصطناعية
وشقيقتايَ الأرملتان ...
يتقدَّمُ الموكبَ
جدولٌ من دموعي

(7)

كيفَ أغفو ؟
سَوادُ الليل ِ يُذكِّرُني بعباءتها ..
وبياض النهار ِ يُذكِّرني بالكفن ..
يا للحياة من تابوت ٍ مفتوح !
أحيانا ً
أعتقدُ أنَّ الحَيَّ ميتٌ يتنفَّسُ..
والمَيْتَ حيٌّ لا يتنفَّس..

(8)

الأحياءُ ينامون فوق الأرض..
الموتى تحتها ..
الفرقُ بينهم : مكانُ السرير ِ
ونوع الوسائد والأغطية !

(9)


آخرُ أمانيها :
أنْ أكونَ مَنْ يُغمضُ أجفان قبرِها ..
آخرُ أمنياتي
أن تُغمِضَ أجفاني بيديها ..
كلانا فشلَ في تحقيق أمنية ٍ متواضعة

(10)

أيها العابرُ : لحظة ً من فضلك ..
هلا التَقَطْتَ لي صورة تذكارية ً مع الهواء ؟
وثانية ً مع نفسي ؟
وثالثة ً عائلية
مع الحزن والضجر ِ
وأمي النائمة في قلبي ؟

(11)

سُبحانك يا رب !!
أحقّا ً إنَّ عذابَ جهنمَ
أشَدُّ قسْوة ًمن عَذابي
حين تَعَذرَ عليّ توديع ُ أمي ؟
آه ٍ ... لو أنَّ ساعي بريد ِ الآخرة ِ
قد وضعَ الرسالة َ في صندوق عمري
لا على وسادة أمي ..

(12)

أشقّائي غطّوها بلحاف ٍ سَميك ٍ من التراب ..
ربما
كي لا تَسْمعَ نحيبي
وأنا أصرخ في البريّة ِمثلَ طفل ٍ ملدوغ ٍ : أريد أمي
فتبكي ..

(13)

لسْت ُ ثَمِلا ً ..
فلماذا تنظرون َ إليَّ بازدراء ٍ
حين سقَطْتُ على الرصيف ؟
مَنْ منكم لا ينزلقُ مُتَدَحْرِجا ً
حين تتعثَّرُ قدماه بورقة ٍ أو قطرة ِ ماء ٍ
إذا كان يحملُ الوطنَ على ظهْره ِ
وعلى رأسِْه ِ تابوتُ أُمِّه ؟

(14)

يا كلَّ الذين أغضْبْتُهم يوما
من أصدقاء طيبين .. ومجانين .. وباعة خضروات ..
وطلبة ٍ .. وزملاء ِ طباشيرَ وأرصفةِ منفى :
إبعثوا إليَّ بأرقام هواتفكم ..
فأنا أريدُ أن أعتذر َ منكم
قبل ذهابي للنوم ِ
في حضن ِ أمي

(15)

وأنتم أيها الهمجيون
من متحزِّمين بالديناميت .. وسائقي سيارات مفخخة ٍ ..
وحَمَلَة ِ سواطيرَ وخناجرَ :
كفى دويَّ انفجارات ٍ وصخبا ً ..
إنَّ أمي لا تحبُّ الضجيج ..
الطيبة أمي ما عادت تخاف من الموت ..
لكنها
تخاف على العصافير من الشظايا ..
وعلى بخور المحراب من دخان الحرائق

(16)

حين أزور أمي
سأنثر على قبرها قمحا كثيرا ..
أمي تحب العصافير ..
كل فجر ٍ :
تستيقظ على سقسقاتها ..
ومن ماء وضوئها : كانت أمي
تملأ الإناء الفخاري َّ تحت نخلة البيت
وتنثر قمحا وذرة صفراء

(17)

في صِغَري
تأخذني معها إلى السوق ..وبيوت جيراننا ..
وإلى الأئمة
حين تزور الأضرحة َمحملة ً بالنذور الشحيحة ..
حتى وأنا في مقتبل الحزن
لا تسافرُ إلآ وأنها معها ..
لماذا إذن سافرت وحدها نحو الملكوت ؟
ربما
تستحي من ذنوبي ..
آه ٍ
من أين لي بأم ٍ مثلها
تساعدني في غسل ِ ذنوبي
بكوثر دعائها حين تفترش سجادة الصلاة ؟

(18)

يا أحبّائي الطيبين
لا تسألوا الله أن يملأ صحني بخبز العافية ..
وكوزي بنمير الإنتشاء ..
فأنا الان بحاجة إلى :
صَبْر رمال الصحراء على العطش ..
وتجَلُّد ِ بغل ٍ جبليٍّ ..
وبلادة خروف ..
ولا بأسَ
من عقل ِ حمار

(19)

لم تكن أنانية ً يوما ً ..
فلماذا ذهبت الى الجنة ِ وحدها
وتركتني في جحيم الحياة ؟

(20)

مُذ ماتت أمي
لم أعُدْ أخاف عليها من الموت ..
لكنها قطعا
تخاف الان عليَّ
من الحياة

(21)

رباه :
أريدُ أوراقا ً من ماء ..
لأكتب عليها
كلمات ٍ من جمر ..

***

16-8-2007
استراليا