عبدالله السفر
(السعودية)

عبدالله السفراحتضن، النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية في مدينة الدمام، قبل فترة، التجربةَ الجديدة للشاعر محمد حبيبي، المتألفة من عملين قِوامهما التجريب بأكثر من عنصر جمالي؛ هما:

1 ـ غواية المكان.
2 ـ حدقةٌ تسرد.

وذلك بانفتاح النص على مكوِّناتٍ وممكنات تتجاوز سطح الورقة، إلى فضاءٍ أشمل ينهل منه عناصرَ شعريّة مختلفة المصادر ومتعددة الوسائط، تعمل على شدِّ عَصَب النص، وتأخذه إلى مطارح من الغواية وآفاقٍ من الجاذبيّة؛ توسِّع مجرَى التلقي، وتحفر مساراتٍ يدلف إليها النص، معزِّزاً رصيده الجمالي بما يتجاوز " الشاعر/ الشخص " إلى عتبةٍ شعريّة جديدة في مسيرة الكتابة في السعودية.

ومن الرصد الخارجي، والسريع، لشعر محمد حبيبي في " انكسرتُ وحيدا ، دار الجديد، بيروت ـ 1996 " و" أطفِئ فانوس قلبي، نادي جازان الأدبي ـ 2003 " يتلمّس القارئ أن النص بهيئته المعهودة والمنتظمة، لا تكفي الشاعر. نراه يعيش وضعاً متململاً مقلِقاً، من جهة حصار الشكل وانحصار المعنى، الذي يناوره بالخروج على نظام الجملة إلى إرباكها بالتقديم والتأخير والحذف وبالجمل الاعتراضية... بمعنى أن ثمّة هاجس " يقَلقِله " ويدفعه إلى التجريب من كتابة السطر إلى كتابة الكتلة، من الكتابة الممتدة المترسِّلة إلى كتابة اللقطة، من الكتابة التأملية في شؤون الذات إلى كتابة المشهد والرصد التفصيلي على نحوٍ واضح في " أطفئ فانوس قلبي ". إذاً، الشاعر يجرّب في جسد النص بناءً وتشكيلاً، تتحوّل معه الورقة من قيدٍ يرسف فيه إلى شرنقةٍ؛ تتخلّق فيها التجربة إلى الحدِّ الذي يؤذِن بمبارحة ـ تلك الورقة ـ واستضافة النص إلى أرضٍ جديدة وفضاءٍ مفتوح على التنويع، وإلى هواءٍ يستقطب ويستقطر " الشعريات " الظاهرة والكامنة في متعدِّد جمالي، يتجاوب مع طموح الشاعر، وقلقه، وتوقه الإبداعي لمعايشة النص ومعاشرته بأكثر من " حياةٍ واحدة ".

" غواية المكان "، العرض الأول، حيث بناء الذاكرة، واستعادة المكان بحس الحنين والرثاء واللوعة، وغائر المشاعر المتماسّة مع وحداته الصانعة لـ " الأثر " الساكن والممتد في ناس جيزان وطبيعتها، وحيواتها الفائضة بالبشر والشجر والطير، والأمكنة مأهولةً وفارغة، بخلفية يقودها نايٌ كأنه الروح السارية والعابرة للجغرافية وللأسلاف. ينهض الناي كخلفية، لكنه يتقدّم روحا ضامّةً تختصر وتختزل القيمة الكبيرة لـ " المكان / جيزان "؛ الأثر؛ الجوهر؛ الجذر الجامع والمُشترَك الذي يهب المعنى والقيمة والروح لـ " غواية المكان ". لكن المحصّلة العامة لهذا العمل لا تأتي ضفيرةً واحدة منصهرة بالقول الشعري واللقطة والمشهد السيّال والموسيقى وأصوات الحياة. الوحدات التعبيرية البانية لغواية المكان تحضر منفصلةً ومُجزَّأة، في علاقة تجاور، وترجمة مباشرة؛ النص بإزاء الصورة أو اللوحة، على النحو الذي خبرناه سابقا في تجسيد تلفزيوني لقصائد عبد الرحمن الأبنودي ونزار قباني ( مثلا ) بما يقفل المساحة الجمالية لصالح النص، ويسدّ الطريق على التفاعل، ويحرم المخيّلة من التمدّد والحراك إلى أفقٍ أغنى وأبعد؛ تحرّض عليه الممكنات الجمالية المستخدمة لإنشاء هذه الغواية، ممّا حصر التجربة في حدٍّ أدنى سِمَتُهُ الرّصد والتوثيق.

إنْ كان عرض " غواية المكان " قوامه التجاور والرصد وحبس المخيّلة في إطار المكتوب؛ فإن العرض الثاني " حدقةٌ تسرد " ـ بدقائقة الخمس والعشرين والمتألف من ثمانية نصوص شعرية بصرية موسيقية صوتية ـ يمثِّل خطوةً إلى النجاح الذي تطمح إليه تجربة محمد حبيبي، حين تندغم العناصر الجمالية باختلاف مصادرها، في نسيجٍ واحدٍ يُنسِي المرجعية الفردية لكل مصدر، ويحلُّها في تركيبٍ جديدٍ، ينقل السمات السابقة في غواية المكان، إلى سماتٍ أخرى متحوّلة. فمن التجاور إلى التفاعل، ومن الرّصد إلى التخليق، ومن حبس المخيّلة إلى انطلاقها وانفتاحها ومشاركة المتلقي ليس في المتعة وحسب، ولكن بالاندراج في مقترحات " الحدقة الساردة " وتوسيع دلالاتها. لأن الأفق الممنوح في بعض هذه اللوحات يحفز الحواس على التجاذب والتجاوب والتفاعل، إنْ لم نقل الانفعال الصّاخب، بدرجاتٍ متفاوتة تبحث عن المخبوء الثاوي؛ اقترابا وملامسة مع التجربة، وتواصلاً بكيفيّاتٍ مختلفة، يفرضها منطق الحواس نفسها من جهة، والصيغة الفنية التركيبية من جهةٍ ثانية. ولعل أسطع مثال على هذا النجاح " جدارية " التي تعرض، ما نطوف به يوميّا، من كتاباتٍ عاميّة على الجدران، لها طابع التلقائية والإفشاء المباشر دون امتثالٍ لموانع ولا لحدود. تلك النصوص الجدارية تتنقّل بينها الكاميرا مرفوقةً ومتداخلةً بغناءٍ ذي مذاقٍ شعبيٍّ صرف للفنان طلال مدّاح، بما بدا نصّا شعبيا؛ بصريّا سمعيّا، لا يحتاج معه إلى " كتابة نصيّة " من الشاعر. فالحمولة الفنية والدلالية وصلتْ من الجدران ومن صوت المغني ومن الحركة، في تآلف، وفي مزاجٍ شعبيٍّ يستغني عن " الثقافة العالِمة " وعن حكمتها ( وإنْ كانت شعرية ).

هناك مفارقة بين غواية المكان وحدقة تسرد. فإذا كانت الصورة في غواية المكان تأتي ترجمةً للمقروء؛ فإن المكتوب في حدقة تسرد جاء أحياناً بمثابة " تعليق " على الصورة أو على التحديد " ترجمة " لها وليس امتداداً، أو امتزاجاً ضمن مكوّنات اللوحة. كما أن المكتوب ـ بصفة عامة ـ يعكس مشكلة " الزمنية " في مسار لوحات الحدقة بين سيولة المشهد وتدفّق الصوت والموسيقى، وبين جمود المكتوب وثباته. بين انطلاقة العين وبين إكراهها على الوقوف وقراءة المكتوب إجباريّا ولأكثر من مرة. وهذا يؤدي إلى خلل الرسالة، وبالتالي إلى الاضطراب في عملية التواصل.

بقي أن نذكر أن هذه التجربة قام بأعبائها الشاعر محمد حبيبي وحده. فهو المصوّر الفوتوغرافي، وهو المصور السينمائي ( وإذا أعوزته الكاميرا المحمولة؛ أسعفه الجوّال )، وهو السيناريست، وهو المنفّذ، وهو العاكف على الكمبيوتر يعالج عملياته الفنية، وهو صائغ الخلفيات الموسيقية والصوتية. صحيحٌ أن هذا يؤجّج شعلة الفرح في أعماقنا، ويزيدنا إعجابا بالتجربة وبصاحبها، إلا أن تجميع فريق العمل في إهاب الشاعر يثقل المسئولية، ويحدّ من النتيجة الإبداعية، ويطامِن من سقفها الجمالي. الناحية التقنية هنا هي لهاوٍ وليست لمحترف. وهذا يقترِح على حبيبي أن يدخل آخرين معه؛ على دراية وبصيرة بأدواتهم المهنية والتقنية، حتى يكون الاتساق في العناصر الصانعة للتجريب. وفي كل الأحوال، الشاعر معنيٌّ بصقل أدواته التقنية، لأن هذا المشروع؛ التجريب يعد بحقولٍ قادمة، تستنفر طموحه وتوقه. فهو يعرف، ويستعذب هذه المعرفة، أن الفراشة ما تزال بعيدة.

جريدة الحياة
الطبعة السعودية
22 مايو 2007