جمانة حداد
(لبنان)

رسالة الى الطفلة ماشا جافيداري

الأزل
هو البحر ممزوجا بدماء الشمس
أرتور رامبو

**

المياه التي تشربها الآن
عرفت البحر قبل أن تعرف شفتيك
اوجين غيفيك

الموت الأزرق ماشا،
أكتب إليكِ من بيتي، وأنتِ بلا بيت،
من غرفتي المسقوفة، وأنت سقفكِ السماء،
من بين جدراني الصلبة، وأنت السائل جداركِ،
من دفء سريري المريح، وأنت الحصاة وسادتكِ،
من أمام نافذتي المطلة بترفٍ على البحر، وأنتِ مفجوعة البحر.

كيف تصدّقين بعد اليوم أن البحر جميل؟
كيف تحتملين رائحته الدبقة في هواء قريتك؟
ماذا ستسمّينه بعد الآن؟
الخبيث؟ المجرم؟ السفّاح؟
هل ستجتـنبين لفظ اسمه كأنه لعنة؟
هل ستتذكرين صوت انكسار أمواجه السحري على الشاطىء؟
أم ستحفظين منه فقط صوت انكساركِ أمامه؟
هل ستكرهين بسببه اللون الأزرق؟
قولي، هل ستختنقين عندما يهمس لكِ بول ايلوار أن الأرض زرقاء،
زرقاء مثل برتقالة؟

البحر صديقكِ يا ماشا، البحر عدوّكِ.
البحر طريقكِ، وطريقكِ المسدود.
البحر جبلكِ، وهاويتكِ الليّنة.
البحر لكِ، وضدكِ.
البحر أعطاكِ، والبحر أخذ منكِ.

بالكاد كنتِ قادرة على الكلام عندما وجدوكِ: الناجية الوحيدة في عائلة من تسعة أفراد.
اللعين ابتلع عائلتكِ يا ماشا.
الغول. لا يؤمَن جانبه. في الماضي كانت عاشقات البحّارة يكرهنه لأنه يسرقهم منهن. ولا تزال زوجات الصيادين يخفنه لأن مزاجه سيف معلق على رقاب جوعهم.
أبوك كان صيادا، وقد عشتِ أربعة أعوام من خير صيده.
البحر أعطاكِ يا ماشا، والبحر أخذ منكِ. أخذ كل شيء.
أمكِ. أخواتكِ. ألعابكِ المتواضعة. سريركِ الخشبي المهترىء. صحنكِ. ملعقتكِ. ضحكاتكِ. شبّاككِ. نومكِ. قمركِ. غدكِ.
أخذ حتى فستانكِ الرث الذي خاطته لكِ أمكِ في عيد ميلادكِ الرابع منذ أسابيع.
قالوا إنك صمدتِ خمسة أيام من دون طعام. يا للمعجزة! نسي الشبعانون أنك من بلاد متعودة على الجوع. قالوا أيضا إنهم وجدوكِ حيّة تحت الركام. حيّة؟ كيف تكونين حيّة وكل ما فيكِ وحولكِ ميت؟
أين تسندين رأسك يا ماشا وفراشكِ وأحلامكِ عرض البحر؟

يشيعون أن وحوشا يغتصبون الآن الأطفال المشردين في بلادك، وأن آخرين يسرقون اليتامى بنيّة بيعهم في سوق الرقيق. ألا يكفي البحر مغتصبا وسارقا وقاتلا يا ماشا؟ ألا تكفي الدماء التي سفكها الموج؟ ألا تكفي حمرة المياه؟

ماذا علق في شباك والدكِ في شهر كانون؟ ماذا اصطاد في ذلك الصباح المشؤوم؟ لم يصطد سمكة، لا لؤلؤة، لا طحلبا، لا نجمة بحرية.
اصطاد موته الأزرق.
صار الخوف أزرق، الطعنة زرقاء، العنف أزرق، الدمعة زرقاء، القدر أزرق، البشاعة زرقاء، صمت الله أزرق، الندوب زرقاء، الغياب أزرق، الارتجافة زرقاء...
حتى الحداد صار أزرق.
آلاف التائهين مثلكِ، الجائعين مثلكِ، المذعورين مثلكِ، الوحيدين مثلكِ، التعساء مثلكِ، يقفون اليوم أمام المحيط غاضبين:
الأب يطالب بابنه
الحبيب يطالب بحبيبته
الرضيع يطالب بصدر أمّه
المؤمن بإلهه. يسأله: لماذا؟
"كنتُ جائعا فأطعمتموني"، يجيب البحر.

سرق البحر الكثير يا ماشا: الأمل، الضوء، الضفّة، يد أمّكِ الخشنة من فرط العمل، ابتسامة أبيك البلا أسنان لشدة الفقر، اللعب، لذة اللعب، الطفولة، لا مبالاة الطفولة. سرق الجزيرة والرغيف والخفّة والرمل والزبد والمفاجأة...
والبحر، يا ماشا،
سرق منكِ البحر.

Joumana333@hotmail.com
www.joumanahaddad.com