أديب كمال الدين
(العراق - أستراليا)

تحوّلات

أديب كمال الدين حين قبّلتكِ لأوّل مرّة
نبتتْ في بطنكِ الجميلِ وردة حمراء
وحين قبّلتكِ الثانية
حلّق طير أبيض فوق جسدينا العاريين
وحين قبّلتكِ الثالثة
هاجتْ عاصفة زرقاء
وحين قبّلتكِ الرابعة
سقطتْ علينا صاعقة لا شرقية ولا غربية
وأحرقتْ جسدينا الفَرِحَين
فذهبتِ أنتِ وردةً حمراء إلى الحياة
وذهبتُ أنا طائراً أبيضَ إلى الموت .

صبيّ

(1)

في الشارعِ المليء بالعماراتِ العالية
هبطَ الطائرُ العملاق
هبطَ حتّى مسّ الأرضَ فهربَ الجمهور
هبطَ وسط دوّامةٍ من الريح
كان قويّا
يطيرُ بلونٍ أسود
يطيرُ بجناحين ثابتين من الحديد
صرخَ الجمهورُ وولّى بعيدا
لكنّي اقتربتُ من الطائر
- كنتُ صبيّاً بكلّ معنى الكلمة -
لأمسك بيدٍ واحدةٍ بجناح الطائر
فارتفعَ بي قليلا
لأسقط ، من ثمّ ، على الأرض
وسط ضحكاتِ الجمهور.

(2)

هاأنذا أعود إلى المكان ذاته :
الشارعِ المليء بالعماراتِ العالية
لم أجد الطائرَ العملاق
لم أجد حتّى اسمَ الطائر
لم أجد الجمهور
لم أجد حتّى
ذلك الصبيّ الذي هو أنا
فارتسمَ خيط من الأسى
على وجهي
وخيط من الدهشة
وأنا أرفع يدي
- مثلما فعلتُ قبل نصف قرن -
لأمسك بجناحِ الطائر
الطائر الذي أعلمُ علمَ اليقين
أنْ لا وجود له أبدا.

أحجار

يوماً ما
قرر أن يذهبَ إليها
لم يعد يحتمل سكاكين الفراق
وطعنات الرغبة
وحين دقّ على شبّاكها المطلّ على الشارع
لم تفتح له
فذهبَ إلى الباب
وهمسَ باسمها الرقيق
فلم تفتح له
حينها رجع إلى الشبّاكِ المظلم
فصارت الأحجار تُرمى على ظهره
حجراً إثر حجر
وهو يدقّ
والأحجار تزداد وتزداد
لتغطّي ظهره وساقيه وقدميه
شيئاً فشيئا
وهو يدقّ ويدقّ
حتى اختفى خلف كومةٍ من الأحجار .

التباس نونيّ

هذه ليست النون
هذه بداية مقدسة للنون .
هذا سطوع روحي
وحبّ جارف كالشلاّل
كاحتواءِ الهلالِ لنقطةِ النون .
هذه بداية سعيدة
لشاعرٍ مجنونٍ كما يفُتَرض
وامرأةٍ ذات قلب حجري تُدعى النون .
هذا خط يُعبَد
والمؤمنون يرقصون عراةً حول النقطة
وربّما حول الهلال
وربّما حول النون .
هذا منفى بهيج
وأناس متجهّمون
وبواخر تغرق
ومنشدون يصدحون
وموسيقى تهبط وسط رفيف الملائكة
حول تمثال شمعي كبيرٍ لشاعرِ النون .
هذه مدن تتشابه كالموت
ولصوص يبتهجون بسرقةِ النهار
أعني كنز النهار
ربّما هم النونيون
ربّما هم مقلّدو النون .
هذه نون بلغةٍ أخرى توحي بالرفض
في حين يوحي الهلالُ بالقبول
والنقطةُ بالمثول
هذه قصيدة غريبة
تشبه جزيرةً تغرقُ في البحر :
بحرِ ذي النون .
هذه هي النقطة
أعني هذا هو الهلال :
هلالُ البحرِ وهلالُ السماء
هذه هي النون !

رغبات

تريد الشمسُ أن تسهرَ الليلة
في نادي الكواكبِ والنجوم
لكنّها تخاف أن تتأخر
ولاتشرق غداً في موعدها المحدد .
يريد القمرُ أن يحلّقَ عاليا
ويخرج من مداره المرسوم
لكنّه يخاف أن يقعَ في الثقوبِ السوداء .
يريد العاشقُ أن يستحضرَ حبيبته
من غياهب النسيان
لكنّه يخاف حين تجيء
أن يجيء معها الماضي
وأشباحه وسكاكينه المتوامضة وسط الظلام .
يريد النهرُ أن يعودَ لأهله
لكنّه يخاف من اللصوص
اللصوص الذين وقفوا له بالمرصاد
عند حدود الطبيعة .
يريد الشاعرُ أن يكتبَ قصيدته الجديدة
لكنّه يخاف أن يكون ثمنها
كفّه التي لاتجيد ُإلاّ المحبّة
ورأسه الذي يعيشُ بشغف
عزلةَ العارفين والأنبياء .

في تلك اللحظة

(1)

حين بدأ يرمي حروفه
الواحدَ تلو الآخر في النار
كانتْ عيناه تشعّان
بوميضٍ غريب
وميض من البهجةِ والألمِ والخسران .
كانت النار
تصّاعد شيئاً فشيئا
حتى تكاد تصل الى السقف .
لايهمّ
- قالَ في سرّه –
لايهمّ
كلّ شيء سينتهي ذات يوم
كما انتهتْ هذه الحروف !

(2)

استمرّ برمي الحروف في النار
كلّ ليلة
مغيّراً في مكانِ النار
مرّةً في الغرفةِ المطلّةِ على الجحيم
مرّةً في الحديقةِ المطلّةِ على رمادِ الخريف
مرّةً في التنورِ المطلِّ على مواجع الخبز
مرّةً في فناءِ الدارِ المطلِّ على ربيعِ الحشرات
مرّةً في الوطنِ المطلِّ على مسرحيةِ العبث
مرّةً في النهرِ المطلِّ على حذاءِ الطفولةِ الأحمر
مرّةً في البحرِ المطلِّ على احتفالاتِ العري والتعرّي
مرّةً في أجسادِ النساءِ المطلّةِ على اللذّة
مرّةً في المقبرةِ المطلّةِ على الندمِ والعظام .

(3)

بعد أربعين عاماً من الحريق
لم تعد أصابعه تقوى على رمي الحروف
ولم يبقَ لديه مكان لإشعالِ الحرائق
في تلك اللحظة
في تلك اللحظة فقط
عرفَ قيمةَ الكتابة
وبدأ يكتبُ الشعر
حرفاً فآخر !

اكتشافات الحرف

(1)

حينَ قبـّلَ الحرفُ النقطة
اكتشفَ الوردة
وحينَ احتضنها بقوّة
اكتشفَ الحبّ
وحينَ أطلقها لتطيرَ فوق قلبه
اكتشفَ الهذيان
وحينَ صهرها مابين ذراعيه
اكتشفَ اللذّة .

(2)

وحينَ وضعها تحت جسده
وصارَ هو الشراع
وهي السفينة
اكتشفَ البحر
وحينَ باحَ لها بسرّه المكنون
اكتشفَ الشِعْر
وحينَ علّقها فوق الشجرة
اكتشفَ البيضة
وحينَ اعترفَ لها
كالطفلِ الذي ضيّعَ حقيّبته المدرسية
بذنوبه ووساوسه وهلوساته
اكتشفَ الدمعة .

(3)

وحينَ صرخ بها
في لحظةِ فراقٍ سوداء
اكتشفَ النهاية
وحينَ رفسها
في لحظةِ غضبٍ زرقاء
اكتشفَ الجنون
ثم حينَ طعنها
وسالَ منها دمُ الكلمات
اكتشفَ الموت
ومات !

قُبْلة

(1)

حبّكِ فاكهةُ الصيفِ في دفء الشتاء
ودفء الشتاء في قطاراتِ الحلم
و قطارات الحلم المليئة بأسفارِ الحبّ
ومطاراته التي تحاصرها الغيومُ والأمطار .

(2)

يا الهي
نسيتُ أن أتحّدثُ عن القُبَل
فحُبّكِ قُبْلة مليئة بفاكهةِ الصيفِ ودفء الشتاء
قُبْلة تقودني إلى قطاراتِ العالمِ التي تسابق
طائراته في جنونها ومتعتها
قُبْلة تفتحُ شفتيها
لأتذوّق فرحةَ الموّدعين والمستقبلين
وصيحاتهم ودموعهم
و لأتذوّق جسدك
مثل طائرةٍ ترتطمُ بجبلٍ من الطين .

اعتراف ملك الحروف

(1)

في خطأ لايُغْتَفَر
حوّلتُ النون
أو نقطةَ النونِ على الأدق
الى ملكةٍ جديدة
لا يحقّ لها أن تخرج معي
عاريةً في الاحتفالات
ولا تقاسمني سريري
عند فيضان عواطفي ورغباتي
ولا تكلّمني حين أصدح بالنشيد :
نشيد الجنّ والشياطين
ولا تتعرّى أمامي
حين أتعرّى أمام حروفي
لأوزّع عليها هبات المعاني
ولا تتعرّى أمامي
حين تتعرّى حروفي أمامي
لتوزّع عليّ كؤوسَ الأمل .

(2)

كان خطأ لايُغْتَفَر
أعترفُ بذلك أمام الجميع
نعم ،
كان خطأ من العيار الثقيل !

طَيَران

أقصى ما أحلمُ به
أن أطيرَ فوق الجسر
حتى لا أرى العابرين فوقه
نحو ساعات يومهم
ولا العابرين تحته
نحو الموت الأسود
لكنّ أجدادي المتبرقعين بالأخضر
طاروا جميعا
بعضهم طار فوق العمارات العالية
والآخر طار فوق الغيمة عالياً عاليا
حتى لم يعد يعرف أين هو !

القبطان

حين سحبتُ كارت الملكة
من على طاولةِ اللعب
طعنَ القبطان ُ ذو الفم البشع
والإصبع الوحيد
كفّي بالسكّين
فتوقّفتُ عن اللعبِ إلى الأبد
وصرتُ أحضرُ الحفلَ فقط
لأرى اللاعبين يصرخون ويسكرون
ويشتمون بعضهم بعضا
ويدخّنون أو يبكون .
وحين أصابُ بالملل
( وكثيراً ما أصابُ بالملل )
أبدد ُالوقتَ بالنظرِ عبر النافذة
الى النهرِ المجاور
الى النهرِ الراكدِ المجاور
لأرى صورةَ القمر
تتكسّرُ بهدوءٍ على الماء
حين يمرّ المركبُ الأسود الطويل
يقوده ُ، كذلك، القبطان ذو الفم البشع
والإصبع الوحيد !

www.adeb.netfirms.com
adeebkama@hotmail.com