أحمد النسور
(الأردن)

منذ أن تعرفنا عليه وهو يعدنا بكتابة قصيدة جديدة. كانت سمعته قد سبقته الى عفان, ثم لحقت به, عدة نسخ من ديوان صفير مطبوع بجهود فردية من أصدقائه في بغداد. لأسابيع متتالية كنا جميعا، نلح عليه لسماع قصيدته الجديدة. وكان يتعلل بأنه لم يكملها بعد تهرب كثير: ومحاصرة طويلة كان أن نطق: قصيدتي الجديدة ستبدأ بهذه العبارة "ماذا يفعل الرخ في قصائدكم التي لن تكتب ؟" أعجبتنا أيما اعجاب هذه البداية. انتظرنا، متحفزين في كل مرة كنا نراه, لسماع بقية القصيدة التي يطبخها على ما يبدو على نار هادئة جدا.
طيلة عامين ولا من جديد.. طويلا... طويلا انتظرنا.
سال,منذها، ماء كثير تحت جسور وحيدة وكانت مياه تحاول الوصول الى حافة رصيف ما. لاعادة سمكة كانت تغازل أقمارا زرقاء في حانة (دجلة ).
...
بعد تسع حروب كونية مدمرة تغير عالمنا، بعد نهاية الحرب الكونية الثامنة لم يكن قد بقي فوق كوكب الأرض سوى رجلين يتصارعان على امرأة واحدة. كان هذا الثالوث يقتسم العالم الذي أصبح, بفعل الحروب سهلا منبسطا, المياه ساوت أرصفتها، غامرة البياض الأكبر من الكوكب.
المساحة الترابية الصغيرة كانت تبدو, حينها, كسمكة كبيرة طافية تميزها ثلاث نقاط غريبة الهيئة. لا تكف عن الحركة, ذهابا إيابا، متشنجة كضحايا حاجة مبهمة. كقراصنة يرقبون قدرهم.
لم يكن سهلا على الرجلين المتصارعين. بناء قلاع كما في غابر الزمان حتى الحجارة لم تعد متواجدة على رقعة التراب الصغيرة. كانا يتصارعان, في أغلب الأوقات بالأيدي أو بقايا هراوتين تشظيتا، ذلك أنهما كانتا من بقية أشجار،كانت متواجدة قبل الحرب الكونية الرابعة.
اهترأت الهراوتان, تماما كجسديهما المدعيين. كانا مع ذلك يلعقان جراحهما وهما ينظران للمرأة الأجمل,فيما تبقى من الكون حائرين كيهما، باحثين.
الرجل الذي على جهة اليمين عثر أخيرا على دفتر صغير مصفر
كان متأكدا أنه سلاحه الأخير.
أخذ يحاول تكوير الدفتر بطيه ليصنع منه شيئا شبيها بكرة مدورة كالقلة أو رأس هراوة مدبب. بعد جهود مضنية ووقت لا بأس به, عصر دماغه وخرج بحل بدا له مثاليا. استخدم ما تبقى له من العزيمة لنزع جلدة الدفتر القاسية والتي كانت تحول دون الحصول على مجسم كروي للو رق المضغوط بسرعة بطينة أخذ بالضغط وثني أوراق الدفتر الفارغة إلا من صفحة "وحيدة "أسمرت بفعل خط رديء.
وما إن نجح الرجل الذي على اليمين, في الحصول على سلاحه الخطير، حتى جاءته المفاجأة من خصمه الذي على اليسار والذي اقترب منه بخطي ثقيلة _كان يعتقد أنها أقصى سرعة على وجه الأرض وضربه فيما يشبه شيئا من بقايا أحرف معدنية حادة كانت, في زمان غابر جزءا من آلة طابعة, ربما في زمن ما قبل الحرب الكونية الثالثة. هرب بعدها، ثقيلا بجراحه, نحو جهة اليسار بأقصى ما سمحت له سرعته القصوى المعدومة.
تحامل رجل الضفة اليمنى على نفسه, وشد قبضته الممسكة القلة الورقية قاذفا بها بأقصى طاقته المعدومة, مسددا الكرة نحو رأس مهاجمه غير البعيد. خر الرجلان إثر هذا، ميتين فانتهت هكذا الحرب الكونية التاسعة باستئصال ثلثي الجنس البشري في المعمورة - المغمورة.
كان بإمكان الثلث الأجمل في الكون. ملكته المتوجة تحصيل حاصل أن تقرأ على ورق مصفر متكور متجعد افتتاحية قصيدة لشاعر من عصور غابرة كان اسمه (جان دمو) تبدأ بتساؤل: (ماذا يفعل الرخ في قصائدكم التي لن تكتب ؟!).

لكن كان المدرسون, والمدارس, قد اختفت إثر الحرب الكونية السادسة, بينما لم يحتج الشعراء لأية حرب كونية كي ينقرضوا. كانت هناك إشاعة قوية في عصر ما بعد الحرب الكونية الرابعة, فحواها أن (من يسمون بالشعراء) انقرضوا لأنهم كانوا يتناسلون فيما بينهم.
فلم تقرأ، أبدا, سيدة الكون الأجمل قصيدة (جان ).


إقرأ أيضاُ