كاركتير خالد الهاشميفوتغرافيا طفول حداد
هكذا نرى...
(توقيع جماعي)
لم نكن يوماً بعيدين عن نبض الشارع، عن حركته وإيقاعاته في مختلف حالاته وأجوائه وأمزجته..لم نكن يوماً بعيدين عن همومه وأحلامه، عن ضحكه وغضبه..لكنّا كنا ننأى عن كل ما يحرّف ويشوّه ويلوّث ويفسد.لسنا أكثر براءة، أكثر وعياً، من غيرناإلا أننا حاولنا أن نظل صادقين مع أنفسنا، مع قيمنا ومبادئنا وأفكارنا، لهذا لم نروّج يوماً لتعاليم سلطة أو نظام أو حزب أو تيار ديني..ولعل أشد ما يقلقنا هو التوظيف الديني، المتطرف والمتعصب، الذي يجري التسابق به في مجمل المشهد، فنحن لا نرى في ذلك وسيلة أو حلاً أو أفقاً لمشكلات حياتنا. قبل أسبوعين، اغتسلت هذي الأرض بدماء طاهرة، نقية، ثم بكت البكاء الذي رجّ القلوب وشلّ الأحداق.سالت الدماء الشجاعة والنبيلة من أجسام شجاعة ونبيلة أبت أن تمرّ أمامنا مثلما يمرّ الحدث العابر. لا، ليسوا رقماً ولا عدداً.. زرعوا فينا أسماءهم اسماً اسماً، رسموا فينا وجوههم وجهاً وجهاً،كي لا ننسى بشاعة الحدث وعنفه وجنونه.. ثم مضوا يذرعون ميادين البلاد على مهل.لم نكن يوماً بعيدين عما يحدث..نؤمن بحق الشعب، بكل فئاته وطوائفه وأفراده، في التعبير سلمياً عن مطالبه المشروعة في العيش بحرية وكرامة، في تحسين أوضاعه المعيشية والقضاء على البطالة والفساد، في إعادة النظر في التجنيس السياسي، والقوانين التي تحول دون تحقيق حريات المجتمع أو تعطل مشاركاته العادلة في الحقوق والواجبات ونحن ضد العنف والمعالجات الأمنية لمشاكل حياتنا. لكننا لا نتفق مع بعض الشعارات المرفوعة في الشارع، تلك الشعارات العنيفة التي تدعو إلى إسقاط النظام الآن وفوراً، في وقت نرى إمكانية تحقيق مكاسب معينة عبر حوار وطني شفاف وديمقراطي. لا نريد لهذه الاحتجاجات الشعبية أن تديرها التيارات الدينية، الطائفية، فتحرّف المطالب وتشوّه الحقوق وتوجّه الحركة وجهةً ليست خاطئة فحسب، بل مضادة، وقد تفضي إلى التناحر.كذلك نرفض القوائم السوداء – بكل مسمياتها وعناوينها ومبرراتها - التي يبتكرها كل طرف من أجل قمع وتخويف وتخوين وتصفية الآخر؛ هذه الممارسة، أو هذا السلوك، الذي يتنافى مع أبسط قواعد الديمقراطية، التي تقوم على حق الاختلاف والحوار والجدل، واحترام الرأي الآخر.نرفض التعامل مع الفرد ككائن تابع، خانع، قابل للاغواء أو التهديد أو الابتزاز. نؤمن بحرية الفرد، وحقه في التفكير واتخاذ الموقف الخاص والمستقل، دون أن يُفرض عليه موقف ما، أو الضغط عليه كي ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك. لسنا في موقع الوصي والموجّه والمرشد والمنظّر.. لا نحسن هذه المهن..نحن أفراد نرى الهاوية أمامنا، فاغرة الأشداق، فنلتمس من الجميع أن يحذر وينتبه.. هذه الأرض لا تحتاج إلى دماء.
الموقعون:
******************************************
بيان أسرة الأدباء والكتابمن أجل الحرية
في هذه اللحظة التاريخية الشديدة الحساسية التي تشهدها البحرين، أصبح من الواجب الوطني على المثقف البحريني أن يعلن عن موقفه الجاد والحازم تجاه ما يجري على أرض الوطن، ومن هذا المنطلق، تؤكد أسرة الأدباء والكتاب على:
وعليه، فإن أسرة الأدباء والكتاب، وبالرغم مما تعرض له المثقف البحريني من تهميش وتجاهل طوال السنوات الماضية، فأنها تؤكد على المطالبة في التغيير وتحقيق العدالة والديمقراطية، موجهة النداء إلى كافة المثقفين الفاعلين في المجتمع البحريني للدفاع عن هذه المواقف والمبادئ الجوهرية لتحصين قيم المواطنة والإبداع والحرية والديمقراطية، وضرورة الكشف عن بؤر الفساد الثقافي والسياسي والاجتماعي ومحاربتها، و فضح دور المؤسسات الثقافية والإعلامية الرسمية، وتتمثل هذه المبادئ فيما يلي: أولا: الثقافة باعتبارها منظومة من التوجهات الحضارية الفاعلة للمحافظة على هويتنا العربية، والدفاع عن حق المواطنة وتعزيز الوحدة الوطنية، والتنمية البشرية والإنسانية المستدامة المرتكزة على الحقوق القانونية والسياسية والمدنية. وتحديد العناصر والمفاهيم الخاصة بثقافة البحرين الوطنية.لقد تعرضت الحركة الثقافية في بلادنا إلى تشويه حقيقي نتيجة عدم قيام وزيرة الثقافة بدورها وتفرغها لتحقيق مكاسب شخصية وفساد إداري ومالي كشفه بالتفصيل "ديوان الرقابة المالية"، خاصة في المجالات التالية:أ- تحويل الثقافة إلى عمل اقطاعي يخدم وزيرة الثقافة، حيث مكنها ذلك من تحقيق مصالحها الشخصية التي تصب في مجال مراكزها الخاصة، مستغلة بذلك منصبها كوكيل مساعد سابقاً، ثم كوزيرة لاحقاً. ولعل ما فعلته من تحويل "بيت الشعر" بيت الشاعر البحريني الكبير إبراهيم العريض من مشروع وطني للدولة إلى مشروع شخصي ينضوي تحت مراكزها الخاصة عبر استغلال منصبها الرسمي لدليل واضح على ذلك.ب- تهميش الثقافة الوطنية واعتبار مشروع "ربيع الثقافة" مشروعاً خاصاً يتم تمويله من قبل "مجلس التنمية الاقتصادي" لصالح علاقاتها الخاصة ومنافعها الشخصية، وتنشيط مراكزها الخاصة على حساب المؤسسات الثقافية والأهلية.ت- تجاهل المبدع البحريني وإقصائه عن المشاركة في "ربيع الثقافة" كمهرجان وطني، يفترض فيه أن يفسح المجال للقيمة الإبداعية الوطنية وتقاطعاتها مع الثقافة العالمية.ث- تهميش وتجاهل دور الموروث الشعبي كجزء من ثقافة البحرين الوطنية، مما نتج عنه اغلاق العديد من الدور الشعبية وطمس جزءا هاما من تراثنا الوطني.
ثانيا: الإعلام بوصفه المرآة الحقيقية للديمقراطية والوسيلة الحضارية لتعميم الوعي وإشاعة قيم العدل والاعتزاز بالمواطنة المتساوية وبالمنتج الثقافي والفني البحريني، وسبيل التواصل الفعال والمؤثر، بإعتباره صوتاً حراً لمختلف فئات المجتمع، لكنه وللأسف، لم يلعب هذا الدور،بل أسهم مساهمة فعالة في إشاعة وتعزيز الطائفية والتناحر والتطرف عبر استضافة الرأي الواحد المتفق، وتغييب الرأي الآخر المخالف، واستخدام كافة القنوات التواصليه المرئية والمسموعة والمقرؤة في تشويه الحقائق والابتعاد عن صوت الحق والعدالة والموضوعية.
لذا وبناء على ما سبق واستجابة لمطالب شعبنا العظيم فاننا نطالب بالتالي:
* * *
هكذا نرى
لم نكن يوماً بعيدين عن نبض الشارع، عن حركته وإيقاعاته في مختلف حالاته وأجوائه وأمزجته..لم نكن يوماً بعيدين عن همومه وأحلامه، عن ضحكه وغضبه..لكنّا كنا ننأى عن كل ما يحرّف ويشوّه ويلوّث ويفسد. لسنا أكثر براءة، أكثر وعياً، من غيرناإلا أننا حاولنا أن نظل صادقين مع أنفسنا، مع قيمنا ومبادئنا وأفكارنا، لهذا لم نروّج يوماً لتعاليم سلطة أو نظام أو حزب أو تيار ديني.. ولعل أشد ما يقلقنا هو التوظيف الديني، المتطرف والمتعصب، الذي يجري التسابق به في مجمل المشهد، فنحن لا نرى في ذلك وسيلة أو حلاً أو أفقاً لمشكلات حياتنا.
قبل أسبوعين، اغتسلت هذي الأرض بدماء طاهرة، نقية، ثم بكت البكاء الذي رجّ القلوب وشلّ الأحداق. سالت الدماء الشجاعة والنبيلة من أجسام شجاعة ونبيلة أبت أن تمرّ أمامنا مثلما يمرّ الحدث العابر. لا، ليسوا رقماً ولا عدداً.. زرعوا فينا أسماءهم اسماً اسماً، رسموا فينا وجوههم وجهاً وجهاً، كي لا ننسى بشاعة الحدث وعنفه وجنونه.. ثم مضوا يذرعون ميادين البلاد على مهل.لم نكن يوماً بعيدين عما يحدث..نؤمن بحق الشعب، بكل فئاته وطوائفه وأفراده، في التعبير سلمياً عن مطالبه المشروعة في العيش بحرية وكرامة، في تحسين أوضاعه المعيشية والقضاء على البطالة والفساد، في إعادة النظر في التجنيس السياسي، والقوانين التي تحول دون تحقيق حريات المجتمع أو تعطل مشاركاته العادلة في الحقوق والواجبات ونحن ضد العنف والمعالجات الأمنية لمشاكل حياتنا.
لكننا لا نتفق مع بعض الشعارات المرفوعة في الشارع، تلك الشعارات العنيفة التي تدعو إلى إسقاط النظام الآن وفوراً، في وقت نرى إمكانية تحقيق مكاسب معينة عبر حوار وطني شفاف وديمقراطي.
لا نريد لهذه الاحتجاجات الشعبية أن تديرها التيارات الدينية، الطائفية، فتحرّف المطالب وتشوّه الحقوق وتوجّه الحركة وجهةً ليست خاطئة فحسب، بل مضادة، وقد تفضي إلى التناحر. كذلك نرفض القوائم السوداء – بكل مسمياتها وعناوينها ومبرراتها - التي يبتكرها كل طرف من أجل قمع وتخويف وتخوين وتصفية الآخر؛ هذه الممارسة، أو هذا السلوك، الذي يتنافى مع أبسط قواعد الديمقراطية، التي تقوم على حق الاختلاف والحوار والجدل، واحترام الرأي الآخر.
نرفض التعامل مع الفرد ككائن تابع، خانع، قابل للاغواء أو التهديد أو الابتزاز. نؤمن بحرية الفرد، وحقه في التفكير واتخاذ الموقف الخاص والمستقل، دون أن يُفرض عليه موقف ما، أو الضغط عليه كي ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك.
لسنا في موقع الوصي والموجّه والمرشد والمنظّر.. لا نحسن هذه المهن.. نحن أفراد نرى الهاوية أمامنا، فاغرة الأشداق، فنلتمس من الجميع أن يحذر وينتبه.. هذه الأرض لا تحتاج إلى دماء.
قاسم حداد أمين صالح
بيان من أجل الحرية في البحرين
الموقعون-نشطاء سياسيون وحقوقيون وإعلاميون وكتاب- على هذا البيان يتوجهون بتحية الحرية إلى شهداء ومتظاهري الحرية في احتجاجات 14 فبراير بالبحرين، ويلفتون نظر الرأي العام العربي والدولي إلى:
ويؤكد الموقعون على:
ويناشد الموقعون الضمائر الحية والمجتمع المدني العربي والدولي ببذل جميع أشكال الدعم والتضامن الممكنة للشعب البحريني الواقع بين مطرقة القمع الوحشي وسندان التعتيم الإعلامي.
(البيان مفتوح للتوقيعات حتى الألف توقيع بعدها سيتم تسليمه إلى حكومة البحرين وسفاراتها، واعتباره شكوى احتجاجية تقدم إلى المؤسسات السياسية والحقوقية الدولية، يرجى إرسال التوقيعات إلى:
bfreedom2011@gmail.com،والعمل على نشره بكافة الوسائل).
أوائل التوقيعات:
(من المعتصمين في ميدان اللؤلؤة)
- الرابط الدائم: - http://www.jidar.net/node/5865
*******
مثقفو و نشطاء الشأن العام في السعودية يوجهون خطاباً للقيادة السياسية يطالبون به التحول إلى مملكة دستورية.
منبر الحوار و الأبداع:لا يخفى على أحد ما ترتب على الثورتين التونسية والمصرية من تفاعلات ، وما ظهر بسببهما من تأزمات وحراك سياسي في العديد من الأقطار العربية – وبلادنا في القلب منها - ، الأمر الذي أوجد ظروفا تفرض علينا جميعا مراجعة أوضاعنا ، وبذل أقصى الجد في إصلاحها قبل أن تزداد تفاقما ، ونجد أنفسنا أمام تطورات لا يمكن درؤها ولا التنبؤ بعواقبها.وقد سبق لنخبة من المثقفين السعوديين أن قدموا لخادم الحرمين الشريفين في يناير 2003 مقترحات محددة ضمن وثيقة "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله". وقد رحب بها سلمه الله ووعد بالنظر فيها. كما أعلن عدد من كبار المسئولين في أوقات لاحقة بان الحكومة عازمة على تبني سياسات إصلاح واسع النطاق في جهاز الدولة ، وفي علاقتها مع المجتمع السعودي.الآن، وبعد مرور عقد على تلك الوعود ، فان الإصلاحات الموعودة لم يتحقق منها إلا النزر اليسير، ونعتقد آن المشكلات التي أشير إليها في وثيقة الرؤية وما تبعها من خطابات مطلبية ، قد تفاقمت بسبب تأخر الإصلاح السياسي.إن الوضع الراهن مليء بالمحاذير و أسباب القلق. و إننا نشهد مع سائر أبناء الشعب السعودي انحسار الدور الإقليمي البارز الذي عرفت به بلادنا ، وترهل الجهاز الحكومي ، وتدهور كفاءة الإدارة ، وشيوع الفساد و المحسوبيات ، وتفاقم العصبيات ، واتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع ، ولا سيما الأجيال الجديدة من شباب الوطن ، الأمر الذي يُخشى أن يؤدي إلى نتائج كارثية على البلاد والعباد ، وهذا ما لا نرضاه لوطننا و أبنائنا.إن معالجة هذه الأوضاع تستوجب مراجعة جادة ، و الإعلان الفوري عن تبني الدولة والمجتمع معا لبرنامج إصلاحي واسع النطاق ، يركز على معالجة العيوب الجوهرية في نظامنا السياسي ، ويقود البلاد نحو نظام ملكي دستوري راسخ البنيان.إن رضا الشعب هو الأساس لشرعية السلطة ، وهو الضمان الوحيد للوحدة والاستقرار وفاعلية الإدارة الرسمية ، وصون البلاد من التدخلات الأجنبية . وهذا يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة ، بحيث يكون الشعب مصدرا للسلطة ، وشريكا كاملا في تقرير السياسات العامة عبر ممثليه المنتخبين في مجلس الشورى ، وأن يكون غرض الدولة هو خدمة المجتمع وصيانة مصالحه والارتقاء بمستوى معيشته ، وضمان كرامة أفراده وعزتهم ومستقبل أبنائهم.لهذا فإننا نتطلع إلى إعلان ملكي يؤكد بوضوح على التزام الدولة بالتحول إلى " ملكية دستورية" ، ووضع برنامج زمني يحدد تاريخ البدء بالإصلاحات المنشودة والشروع في تطبيقها وتاريخ الانتهاء منها. كما يؤكد تبنيها للأهداف الكبرى للإصلاح ، أي : سيادة القانون ، والمساواة التامة بين أفراد الشعب ، والضمان القانوني للحريات الفردية والمدنية ، والمشاركة الشعبية في القرار ، والتنمية المتوازنة ، واجتثاث الفقر ، والاستخدام الأمثل للموارد العامة.ومما نراه في هذا الصدد أن يتضمن البرنامج الإصلاحي العناصر التالية:
أولاً : تطوير النظام الأساسي للحكم إلى دستور متكامل يكون بمثابة عقد اجتماعي بين الشعب والدولة. بحيث ينص على أن الشعب هو مصدر السلطة ، والفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والقضائية والتشريعية ، وكون السلطات محددة ، وربط الصلاحيات بالمسؤولية والمحاسبة ، وعلى المساواة بين المواطنين كافة ، والحماية القانونية للحريات الفردية والمدنية ، وضمان العدالة ، وتكافؤ الفرص. والتأكيد على مسؤولية الدولة في ضمان حقوق الإنسان ، وكفالة حق التعبير السلمي عن الرأي ، وتعزيز الحريات العامة ، بما فيها الحق في تكوين الجمعيات السياسية والمهنية.
ثانيا: التأكيد على مبدأ سيادة القانون ووحدته ، وخضوع الجميع - رجال الدولة وعامة المواطنين - له ، على نحو متساو ومن دون تمييز، وتحريم التصرفات الشخصية في موارد الدولة أو استعمالها خارج إطار القانون.
ثالثا: اعتماد الانتخاب العام والمباشر وسيلة لتشكيل المجالس البلدية ومجالس المناطق ومجلس الشورى ، ومشاركة النساء في الترشيح والانتخاب.
رابعا: إقرار مبدأ اللامركزية الإدارية ، وتخويل الإدارات المحلية في المناطق والمحافظات جميع الصلاحيات اللازمة لإقامة حكم محلي فعال ومتفاعل مع مطالب المواطنين في كل منطقة.
خامسا: تفعيل مبدأ استقلال السلطة القضائية، بإلغاء جميع الهيئات التي تقوم بادوار موازية خارج إطار النظام القضائي، وإشراف المحاكم على التحقيق مع المتهمين و أوضاع المساجين، وعلى هيئة الادعاء العام، و إلغاء التعليمات و الأنظمة التي تحد من استقلال القضاء وفعاليته، أو تحد من حصانة القضاة، أو تفتح الباب للتدخل في اختصاصات القضاء. كما يجب الإسراع بتدوين الأحكام وتوحيدها. وتقنين التعزيرات، واعتبار ما وقعت عليه حكومتنا من عهود ومواثيق دولية لحقوق الإنسان جزءاً من منظومة الأحكام القضائية.فكل ذلك يضمن العدل والمساواة والانضباط في تطبيق الأحكام. كما يجب تفعيل نظام الإجراءات الجزائية ونظام المرافعات لتحقيق ما ذكر، ومنع أي إجراء أو تصرف خارج إطارهما، أو انتهاك لحدودهما.
سادسا: التعجيل بإصدار نظام الجمعيات الأهلية الذي اقره مجلس الشو رى ، وفتح الباب أمام إقامة مؤسسات المجتمع المدني بكل إشكالها و إغراضها ، باعتبارها قناة لترشيد و تأطير الرأي العام ، وتفعيل المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار.
سابعا: رغم اتساع النقاش حول حقوق المرأة السعودية ، إلا أن الحكومة لم تتخذ ما يكفي من إجراءات للوفاء بمتطلبات هذا الملف المقلق ، لأن إهمال حقوق النساء أو تأجيلها يساهم في تعميق مشكلة الفقر والعنف ، كما يضعف من مساهمة الأسرة في الارتقاء بمستوى التعليم. والمطلوب اتخاذ الإجراءات القانونية والمؤسسية الكفيلة بتمكين النساء من نيل حقوقهن في التعلم والتملك والعمل والمشاركة في الشأن العام دون تمييز.
ثامنا: إصدار قانون يحرم التمييز بين المواطنين ، لأي سبب وتحت أي مبرر ، ويجرم أي ممارسة تنطوي على تمييز طائفي أو قبلي أو مناطقي أو عرقي أو غيره ، كما يجرم الدعوة إلى الكراهية لأسباب دينية أو غيرها. ووضع إستراتيجية اندماج وطني ، تقر صراحة بالتعدد الثقافي والاجتماعي القائم في المجتمع السعودي ، وتؤكد على احترامه ، وتعتبره مصدر إثراء للوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي . نحن بحاجة إلى إستراتيجية فعالة للاندماج الوطني تعالج وضع الشرائح التي تتعرض للإقصاء والتهميش أو انتقاص الحقوق لأي من الأسباب المذكورة أعلاه ، وتعويضها عما تعرضت له في الماضي.
تاسعا: لقد كان قرار خادم الحرمين الشريفين تشكيل هيئة لحقوق الإنسان ، والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان ، من الخطوات المبشرة التي علقت عليها الآمال. لكننا نجد الآن أن كلا من الهيئة والجمعية قد تحولتا إلى ما يشبه دائرة بيروقراطية تقوم بدور محدود في الدفاع عن حقوق المواطنين، وتغفل الكثير. ومن أسباب هذا التراجع تدخل الحكومة في تعيين أعضائهما ، فضلا عن رفض الكثير من الأجهزة الحكومية للتعامل معهما.لذلك يجب أن تكون صيانة حقوق المواطن والمقيم وحمايتهم من العسف و الإذلال في رأس الأولويات لأي حكومة ومجتمع. ولهذا نطالب بإلغاء القيود الحكومية المفروضة على الهيئة والجمعية ، وضمان استقلالهما في إطار القانون، كما نطالب بتشريع حق تكوين جمعيات أهلية أخرى للدفاع عن حقوق الإنسان.
عاشرا: لا كرامة من دون عيش كريم . لقد انعم الله على بلادنا بخير كثير ، لكن شريحة كبيرة من مواطنينا تشكو الفقر وضيق ذات اليد. وشهدنا تأخر الحكومة في علاج مشكلة البطالة والسكن ، وتحسين مستوى المعيشة، ولا سيما في المناطق القروية وحواشي المدن، وبين المتقاعدين وكبار السن، ولا نرى مبرراً للفشل في وضع حلول لهذه المشكلات. ونعتقد إن عدم طرح هذه القضايا للنقاش العام، و إغفال دور القطاع الخاص والمجتمع المدني عند التفكير في مثل هذه المشكلات ، والنظر إليها بمنظار تجاري بحت ، قد حولها من مشكلات إلى معضلات ، و أصبحت من ثم أسباباً لإذلال المواطنين والتضييق عليهم.
حادي عشر: كشفت السنوات الماضية عن تفاقم العبث بالمال العام ، وسوء إدارته ، الأمر الذي يستوجب قيام مجلس الشورى المنتخب باستخدام صلاحياته في مراقبة ومحاسبة كافة الأجهزة الحكومية. وله أن ينشئ الهياكل والأجهزة الإدارية المستقلة والقادرة على تأدية مهامها الرقابية، وإعلان ما تتوصل إليه للشعب، وخاصة ما يتعلق منها بالفساد الإداري وسوء استخدام السلطة و العبث بالمال العام من قبل الأجهزة الحكومية. ونؤكد في هذا المجال على ضرورة اعتماد مبدأ الشفافية والمحاسبة، و إقامة إطار مؤسسي لضمان هذين المبدأين ، يتمثل في:
أ) إقامة هيئة وطنية للنزاهة ، تتمتع باستقلالية وحصانة في المراقبة ، و إعلان نتائج التحقيق إمام الرأي العام.ب) تمكين المواطنين من الاطلاع على استخدامات المال العام من جانب الأجهزة الحكومية ، و إلغاء القيود التي تمنع الصحافة من كشف المعاملات التي يشتبه في كونها تنطوي على فساد.
ثاني عشر: لقد قفزت عائدات البترول خلال الأعوام الخمسة الماضية إلى مستويات عالية، وتوفرت للحكومة أموال طائلة، كان ينبغي الاستفادة منها، وترشيد إنفاقها ، بدلاً من تبذيرها في مشاريع باهظة الكلفة وقليلة الجدوى. لهذا نطالب بضرورة إعادة النظر في الأسس التي توضع على أساسها خطط التنمية الخمسية ، وتبني إستراتيجية طويلة الأمد للتنمية الشاملة ، تركز على توسيع قاعدة الإنتاج الوطني ، ووضع الأساس لمصادر اقتصادية بديلة ، وتوفير الوظائف، وتعميق مشاركة القطاع الخاص في تقرير السياسات الاقتصادية.
في الختام نؤكد على دعوتنا للقيادة السياسية ، لتبني برنامج الإصلاح المقترح.
ولكي يثق الجميع في صدق النية والعزم على الإصلاح فانه يتوجب البدء بأربع خطوات فورية :
إننا إذ نوجه هذا الخطاب لقيادتنا السياسية و مواطني بلادنا ، فإننا نؤكد على تضامن الجميع ، الشعب والحكومة ، في مواجهة الإخطار المحدقة بنا ، وتلافي أي مفاجآت غير متوقعة . ونثق في استيعاب الجميع للدروس المستفادة مما جرى في الدول العربية الشقيقة .إن مواجهة التحديات لا تتم إلا بإصلاح جدي وشامل وفوري، يجسد المشاركة الشعبية في القرار ، ويعزز اللحمة الوطنية، ويحقق آمال الشعب في وطن مجيد وجدير بكل خير.والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أسماء الموقعين على النداء
20 ربيع الاول 143223 فبراير 2011
بيان كتاب ومثقفي واكاديمي وحقوقي الشعب الليبي في الخارج
نحن كتاب ومثقفي واكاديمي وحقوقي وصحفي الشعب الليبي المقيمين في الخارج، ونحن نترحم على شهداء ثورة 17 فبراير الابرار ونحي جميع الثوار الذين يدافعون عن حقوق شعبنا المناضل، نعلن اعترافنا بالمجلس الوطني الانتقالي، في هذه المرحلة الانتقالية، كممثل شرعي ووحيد للشعب الليبي بكل فئاته في ليبيا وخارجها، ونطالب الاشقاء العرب شعوباً ومنظمات وحكومات، والجامعة العربية ومنظماتها ومنظمة المؤتمر الاسلامي والاتحاد الافريقي والامم المتحدة والمنظمات الدولية والاقليمية وحكومات العالم بالاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي، ونشدد على عدم التلكؤ بهذا الاعتراف لأنه يزيد من معاناة شعبنا. وندين بشدة الصمت العربي والاسلامي والعالمي، ونهيب بجميع الشعوب والقوى الحية لمساندة شعبنا في كفاحه لانتزاع حريته وحقوقه المشروعة في العيش في ارضه بكرامة وانسانية. إن ما يشهده شعبنا الليبي ليس حرباً اهلية وإنما حرب ابادة تشن من قبل نظام مستبد ومجرم فقد شرعيته ويستخدم المرتزقة وكافة انواع الاسلحة الثقيلة المحرمة دولياً ضد ابناء شعبنا الليبي المناضل. ونطالب بالتالي:
إننا نعتبر أن الخلاص من هذا النظام الطاغية يعيد ليبيا إلى وضعها الطبيعي في الاسرة الدولية كشريك في بناء السلام والاستقرار في المنطقة والعالم كمجتمع مدني ديمقراطي حديث. ونهيب أن لا ينصت المجتمع الدولي لاكاذيب نظام القذافي حول الهجرة غير الشرعية إلى اوروبا التي يستعملها كورقة ضغط وابتزاز، أو تلفيقاته عن وجود "القاعدة" والتي لا وجود لها في ليبيا، أو تهديده باندلاع حرب اهلية وحالة من الفوضى في حال غيابه. إننا نؤكد كليبيين على وحدة شعبنا الليبي بكل اطيافه وفئاته، ونبارك طموحه الشرعي في الحرية والعدالة والديمقراطية. وإننا اذ نشدد على اصالة ثورة 17فبراير نؤكد على ارتباط هذه الثورة في اهدافها وطموحاتها مع الثورات العربية المجاورة في مصر وتونس وبقية البلدان العربية لبناء مجتمع ديمقراطي، عادل وحر.
8 مارس 2011
****
بيان عمان
حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد – سلطان عمانالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد،بالإشارة إلى كل من:
أولاً: الأوامر السامية الصادرة بتاريخ 26 فبراير 2011م الخاصة بإعداد النظام الأساسي لهيئة مستقلة لحماية المستهلك، ودراسة جدوى انشاء جمعيات تعاونية، وإجراء بعض التعديلات في نظام مكافآت الطلبة.
ثانياً: المرسومين السلطانيين رقم 13/2011 م و 14/2011 م بشأن إجراء تعديلات على التشكيلة الوزارية.لقد استمعنا بذهولٍ شديد إلى ما جاء أعلاه من أوامر ومراسيم، وإننا هنا من منطلق الواجب الوطني الذي تحتِّمه صفة المواطنة الحقَّة، ومسؤليات هذه الصفة، نود أن نؤكد نحن الموقعون أدناه على ما يلي:
جلالة السلطان .. إننا نحن الموقعون أدناه، وعلى ضوء ما يحدث في هذه اللحظة من فوران شعبي في كلٍّ من صحار وصور وصلالة، وقبل أن تمتد هذه النار إلى هشيم ما اقترفته سياسات الحكومة ووزرائها حتى اللحظة بمختلف ولايات ومناطق عمان، فإننا ندعوك يا صاحب الجلالة في هذا البيان الموجَّه إليك، أن تقرأ هذه الأسطر بعينٍ عهدناها منك، ونتطلع لحكمتك في إحداث تغيير جذريٍّ مقنع، يطال بُنى النظام السياسي والاقتصادي، بعيدًا عمَّا تقترحه عليكم بطانةٌ طالما استنفذت، ولا تزال، من رصيد حب الشعب لكم، فلربما كانت هذه الكلمات آخر مناشدة تصل إليكم من شعب أنهكه الأداء الباهت لهذه الحكومة الهرمة المتزلِّفة، التي لا تألوا جهدًا أمام مصالحها الخاصة أن تُلقي بمطالب مواطني هذا البلد العزيز عرض حائط سياساتها الضيِّقة الأفق.حفظ الله عمان وجعلها وطناً آمناً حراً مستقراً.
والدعوة مفتوحة لكل من يرغب من مواطني هذا البلد العزيز [عُمان] في إضافة اسمه الصريح هنا، أو ارساله على الخاص لادراجه هنا، مع كبير الود وعالي التقدير.
****************
بيان صادر عن منظمات المجتمع المدني في البحرين بشأن الهجوم الوحشي على المعتصمينفي دوار اللؤلؤة بتاريخ 17/2/2011
اجتمعت منظمات المجتمع المدني الموقعة على هذا البيان والتي تمثل كافة أطياف المجتمع البحريني وتجسد الوحدة الوطنية، وأدانت بشدة الهجوم الوحشي المفاجئ بدون سابق إنذار وغير المبرر على المعتصمين سلمياً وهم نياماً، في دوار اللؤلؤة فجر يوم الخميس 17/2/2011، حيث تمت مداهمتهم وتطويقهم واستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع ورصاص الشوزن والمطاطي بهدف إلحاق أكبر الأذى والأضرار بينهم وليس بقصد تفريقهم، على الرغم من التطمينات الرسمية وتشكيل لجنة للتحقيق في تجاوزات القوات الأمنية في اليوم الأول من الأحداث، حيث نتج عن قمع هذا الاعتصام السلمي سقوط العديد من الشهداء ومئات من الجرحى والعشرات من المفقودين، كما جرى الاعتداء على الأطباء والممرضين وفرق الإسعاف، ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المصابين والذي يعد انتهاكاً للاتفاقيات الدولية بهذا الشأنلقد انطلقت هذه الحركة الجماهيرية بداً من 14 فبراير واتخذت طابعاً سلمياً للتعبير عن مطالبها المتمثلة فيما يلي:
وعليه، فإن منظمات المجتمع المدني الموقعة على هذا البيان تعتبر إنزال الجيش إلى الشارع تصعيداً خطيراً للأوضاع المحتقنة أساساً، وتطالب جلالة الملك بالتدخل الفوري لوقف عنف قوات الأمن ومحاسبة المتسببين في تلك الأحداث.الجمعيات الموقعة:
*************
بيان الحرية في البحرين
الجمعة 18 فبراير 2011
نحن كتاب وأدباء وفناني البحرين نؤكد على حق الشعب في التعبير السلمي عن مطالبه وندين بأقسى العبارات استخدام كافة أشكال القوة والعنف ضده والتي أفضى بعضها إلى إزهاق الأرواح في الأحداث الأخيرة.
الحرية للعالم العربيالجريمة والعقاب
بقلم عقل العويط
نقولها بكل واقعية وبساطة وفجاجة: ما يجري من وقائع في هذا الزمن العربي الراهن، لا شيء يستطيع أن يماثله تجسيداً وتشبيهاً، أو أن يرسم له صورة أمينة ومنجزة وثابتة: لا إذا وُصِف من طريق الأدب والسينما، ولا إذا وُصِف من طريق الثقافة النقدية، ولا حتى إذا وُصِف من طريق التحليل السياسي المباشر.هذا إذا كان ممكناً وصف اللامعقول الواقعي جداً، بالأدب والسينما أو بالثقافة أو بالتحليل السياسي المباشر.زمنٌ يشبه في واقعيته المفرطة والمتوحشة، زمنَ اللامعقول. بل هو اللامعقول متخذاً من جهة، شكل السقوط الكابوسيّ العميم، ومن جهة أخرى شكل المجزرة الدموية الكارثية. فهل نرى حقاً ما نرى؟ هل نسمع حقاً ما نسمع؟ وهل ما نراه ونسمعه هو حقاً ما نراه ونسمعه، أم ترددات صوره وأصدائه التخييلية فينا؟فلنصدِّق ما لا يُصدَّق. ولنعقل ما لا يُعقَل. الصمت ينطق، والخوف ينتصر على نفسه، والجدار السميك يصبح أشلاء متهاوية على الأرض. هذه كله يجري ها هنا، والآن، في ممالك اللامعقول العربية هذه، جمالك وممالك وإمارات ومشيخات وجمهوريات على السواء!حتى ليمكن القول إن اللحظات الراهنة هي الحاضر المجسَّد الذي كان ماضياً مستحيلاً ولامعقولاً، وقد أصبح هو الواقع المعقول، وهو المستقبل. وإذا أراد الواحد منا أن يواصل الهلوسة التخييلية، ففي مقدوره القول إن ما سنراه وسنسمعه مما لا يمكن تصديقه، إنما هو تتمة طبيعية لما كان طوال هذه الأزمنة العربية السوداء، غير قابل للعقل، وغير ممكن الحدوث والتصديق، في حين أنه صار الآن المعقول الوحيد، الثابت والأكيد معاً. من تونس، الى مصر، الى ليبيا، الى البحرين، الى اليمن، الى الجزائر، الى المغرب، الى الأردن، ولسنا ندري الى أين أيضاً، مشاهدات ووقائع يعجز الوسيط العقلي عن تدارك حقائقها الإعجازية وتغيّراتها المتلاحقة، حتى ليعتقد المرء أن ما يحصل إنما هو من نسج الهلوسة المنتشية أو التخييل السوريالي ليس إلاّ.سيقول قائل بين السياسة والتاريخ والثقافة: إنه زمن السقوط العربي لأكثر من خمسين عاماً، بل ستّين، مترعة بالكوابيس والأهوال والمشقات، وأشكال القمع والرعب والتخويف والتجويع، محمولة على أكتاف أنظمة سعيدة، توتاليتارية وأمنية وقوموية، مغلّفة بالشعارات والإيديولوجيات والأفكار، على أشكالها وأنواعها ومسمياتها. فهل هو حقاً زمن السقوط الكبير؟ نكاد لا نصدّق هذا الزمن، من فرط واقعيته غير القابلة للاحتمال!قارئ الأدب تتبادر الى مخيلته الروائية عناوين وحبكات وقصص مستلّة من روايات أجنبية وعربية، تصلح كمداخل لقراءات متتالية لبعض ما يجري في بلاد العرب المأهولة بمستحيلات الأمل والحرية والديموقراطية، تحت سطوة الخوف والهلوسة واليأس. فها هم الجنرالات يتخبطون في متاهات تلتهم المتاهات. وها هم الكولونيلات ولم يعد عندهم من يكاتبهم. وها هم القياصرة يُقادون الى المقاصل أو الى المنافي، أو – مَن يدري؟! – يُرمَون بالرصاص. وها هم الحكّام البطريركيون تهبّ عليهم رياح الخريف، ولا يملكون سوى أن يتابعوا مصائرهم القدرية نحو آباد الهاوية العظمى. هل نواصل قراءة أدب الواقعية التخييلية في أميركا اللاتينية، أم نهرع الى الروائيين الروس لنستدل الى العلاقة "الحميمة" بين الجريمة والعقاب، أم نعرّج على أوروبا الفرنسية والألمانية والتشيكية والألبانية، أم نسأل الرواية العربية كيف ينتفض الفينيق، وكيف تكون عودة الروح؟لا بدّ أن قرّاءً ما - بل القرّاء جميعاً نكاد نقول - قد تركوا الصحافة المكتوبة لأهلها، وشرّعوا أبواب عيونهم وعقولهم وحواسهم على شاشات الفضائيات ووسائط الشبكة الالكترونية لالتهام الوقائع المذهلة لحظة حدوثها. فأيّ قراءة هي هذه، وأيّ وقت هو هذا؟! رداً على مثل هذا السؤال، ثمة من يجيب: إنه وقت هذا النوع من القراءة، وقد صارت الرواية هي الواقع، والواقع هو الرواية، حيث تداخل الممكن بالمستحيل تداخلاً كيميائياً، ولم يعد ثمة وقت للأدب المترف، والتخييل المترف، ولا ربما ثمة وقت للنظر الثقافي أو السياسي "من فوق" الى ما يجري على الأرض. فالوقت، كل الوقت، لما يحصل على أرض الواقع في ليبيا، ولما حصل قبل قليل، وسيظل يحصل، في البحرين، واليمن، وتونس، ومصر، ولما سيظل يحصل عاجلاً أم آجلاً على ما يبدو، في كل مكان آخر من العالم العربي.لكن، أليس ما يجري في هذا العالم العربي، هو الأدب نفسه، هو السينما نفسها، وقد تخلّيا عن الترف؟وإلاّ كيف نفسر هذا الواقع الخلاّق وقد نفض عن جسمه أثقاله ومكبوتاته، مقترحاً جسماً جديداً، ولغة جديدة، ومرويات جديدة، وأبطالاً جدداً، لم يعد مطلوباً اختراعهم عبر الأدب والسينما، لأنهم يخترعون أنفسهم بأنفسهم بلحم هذا الواقع ودمائه وأحلامه؟!بعد قليل، ربما الآن، سيهتف هاتف، وسيسمعه الجميع، وسيراه الجميع، ولا التباس: إن ما يجري من وقائع في هذا الزمن العربي الراهن يمكن اختصاره بعبارة واحدة هي الحرية. فكل الحرية، إذاً، للعالم العربي، من لياليه هناك الى لياليه هنا. إنه زمن الجريمة، وقد آن الأوان لينال عقابه!
لؤلؤة الميدان… الشهيد علي المؤمن
علي الديري
كادر
في الخامسة والنصف تقريباً خط علي أحمد المؤمن مشاركته الأخيرة في صفحة «الفيسبوك» وقال: «دمي فداء لوطني» وقد تحولت بعد ساعات قليلة إلى واقع وحقيقة صعقت أباه وأمه وأخوته الستة، حينما تلقوا خبر استشهاده.علي يدرس في سنته الأخيرة هندسة بجامعة البحرين.علي كان مع أحد أخوته في ميدان اللؤلؤ مسالماً نائماً وعاد سالماً بعد أن هجمت قوات الأمن على المتظاهرين وسجل في الخامسة والنصف مشاركته الأخيرة في «الفيسبوك» (دمي فداء لوطني) ليعود للميدان مجدداً مع أخيه حسين ويستقبل جسمه الطلقات المطاطية ورصاص الشوزن المحرم دوليا، ليموت متأثراً بجراحه وحاملا آماله معهعلم أبوه وإخوته بإصابته عن طريق إحدى القنوات الفضائية بيد أنهم لم يتعرفوا في بادئ الأمر عليه لتغير ملامحه جراء ما ألم به.
1
كان الخميس ١٧فبراير يومان لا يوم واحد، يوم ما قبل الثالثة صباحا ويوم ما بعد الثالثة، يفصل بينهما رصاص الجيش، لقد نجح الجيش في مهمته المستحيلة، جعل لنا يوماً آخر لا ينُسى في يوم كان يمكن أن يُنسى، ما أعظمك أيها الجيش خلّاق في مهماتك المستحيلة، جعلت نهارنا طويلاً طويلاً.بفضلك أيها الجيش دخلتُ أنا - أنا الذي اعتدت رائحة الأوراق والكتب لا رائحة القتلى - في اليوم الثاني من اليوم نفسه مشرحة الموتى، إنها المرة الأولى التي أدخل فيها غرفة الموتى، دخلت كي أصدق أنك قمت فعلا بمهمتك المستحيلة، رأيت إنجازك العظيم مكتوباً على أجساد الشهداء، ورأيت أكثر مما رأته آلتك العمياء، رأيت كم أنك عارٍ من الوطن وعارٌ على الوطن.في مساء اليوم الثاني من اليوم نفسه، أتحت لي أيها الجيش الثقيل أن أرى وجه الشهيد الشاب المهندس علي المؤمن (22سنة)معلقاً فوق جدار الشهادة الافتراضي حين فتحت صفحته على الفيسبوك. لم أره لحظة أن ذهبت ظهراً للمشرحة، فقد استعصت ندوبه على خيوط الجراحين، بقوا ينسجونها ويرقعونها حتى المساء ودماؤه تتأبّى على التوقف. ربما كان أكبر من أن أراه هناك في مشرحة الموتى.
2
فتحت جدار صفحته في الفيسبوك، لم أكن أعرفه، لكن ضوء صورته اخترق كل حواسي كما لم تفعل وجوه الأجساد في المشرحة، بقيت متسمراً أمام صورته، وجدت هناك في عمقها شيئا يناديني لأكتبه.في محاولة عبثية طلبت منك يا علي إضافتي على صفحتك، وفي محاولة أكثر عبثاً رحت أنتظر أن تقبلني، وأعيد تنشيط الصفحة وأقول لعله فعلها، أو لعل شيئا خارقا يفعلها، كنت أريد أن أقول لك: أريد أن أكتب عن ضوئك الخاص الذي شدني إليك، امنحني شيئا من سيرتك لأفتح به كتابتي، لمّا تمنعت عن أن تجيبني، أرسلت لصديقك على هاشم الذي اكتشفت أنه في قائمتي أن يرسل لي ما يفتح حيرة تعلق مخيلتي بصورتك. فضولي لم يحتمل أن أنتظر، فرحت أبحث عنك في هذه الشبكة العنكبوتية التي صارت مقبرة لمن يظنون أنهم يمسكون كلّ الخيوط، ويظنون أنهم خالدون في أعشاش كراسيهم. وجدتك في (YOUTUBE) وجدتك حياً مفعماً بالحركة، تقدم ورشة لأناسك البسطاء الطيبين من أهل منطقتك بسترة. سمعت أسئلة ورشتك التي هي أسئلتي: كيف نختلف؟ كيف أختلف مع من يشاركني وطني، قريتي، عائلتي، ديني؟ تحسستُ أفق اختلافك الرحب الذي تؤمن به، ووجدت الآيات التي تتلوها لتأكيد قيم احترام الآخر، متسعة لوطن يحتفي بالمختلفين، ويكبر بشراكتهم، ويزهو بتعدد أشكالهم.كنت في ورشتك، تصقل مهارة الإلقاء والتقديم ضمن برنامج (أنا أتطور) . هل كنت تعي كيف سيؤول تطورك؟لم تكن تعرف أنك ستدخل في ورشة أكبر، ورشة بحجم الوطن، ستقودها بهؤلاء الناس البسطاء الذين يحلمون بكرامة المواطنة لا كرامة المكارم، بهؤلاء الناس الذين حملوا يوما ما زائرا كان يرسل إليهم من يحمل أبناءهم إلى الظلام، ويعدهم بالأيام التي لم يعيشوها بعد، كان يوم جنازتك منها.
3
في الموكب المهيب الذي حملتنا أنت إليه يوم عرس جنازتك، كان علم الوطن يلف جسدك الغض الطري، وكان الشبيبة المحيطين بتابوتك يُلوّحون بأعلام الوطن، يضمدون بها جروحك وجروح الآلف التي حملت أكفُها روحك، ما أجملهم وأبهاهم، حناجرهم الغاضبة من عناكب الوطن لم تفقد لحظة ثقتها في الوطن، كانوا يتلحفون به، ويلوّحون به، ويقودون به، ويفتحون الميادين به، ويموتون دونه.كانت موجعة تلك اللحظة التي توقّف فيها موكبك، ليلبي مطلب والدتك المفجوعة بزهرتك، كان مطلبها أن ننشد “يمة ذكريني من تمر زفة شباب.. من العرس محروم وحنتي دم المصاب شمعة شبابي من يطفوها..حنتي دمي والكفن دار التراب”
4
هل تعرف يا علي أننا هذا المساء في اليوم الثالث من زهرتك لم نكسر فاتحتك بل كسرنا طوق الميدان، وهناك في المكان الذي اغتالتك فيه جيوش الغدر، قرأنا لروحك الفاتحة، لتكون فاتحة عودتنا للميدان. بك يا علي وسّعنا ميدان اللؤلؤة، صار أكبر من ذلك المساء الذي وقفت فيه عارياً تحميه من غدر السلطة. لقد وسعناه بدمك الحر، صار غالياً وثمنه ليس دمك فقط بل حلمك أيضا، ألم تكن تحلم في ذلك الفجر الغادر أن شمسا جديدة ستشرق على هذا الميدان، ألم تكن تتطلع إلى أفق يأتي لنا بمستقبل جديد، لقد فاجأك رصاص العسكر، اغتالتك أرتالهم، لكن اطمئن لم يغتالوا حلمك بميدان الحرية، بقيت اللؤلؤة في قلوبنا، نحنو عليها من آلات العسكر، لقد زرعوا في قلبك رصاصة لكنها لم تصل للؤلؤة التي كنت تخبئها، ولم يكونوا يدركون أنك ستغدو بكلك لؤلؤة للميدان.نحن في الليلة الأولى الآن من عودتنا للميدان الذي لم تغادره أنت، عدنا لك، وعدنا بك. عدنا لك لأنك صرت جوهرة الميدان، وعدنا بك لأنك تلاحقنا في أحلامنا، تدفعنا نحو الميدان، باؤك قوتنا الدافعة، في كل شاب وجدتك، لقد اشتقوا من اسمك أيها المؤمن إيمانهم بأنهم سيعودون. الكبار لم يكونوا يمؤمنون، لقد زرعت أنت ورفقاؤك فيهم هذا الإيمان، فأعدتهم إلى دين الحرية.
5
لم تهدِنا دمك وحده، بل أهديتنا جوهرة نفسك في صدفة وطنية(نفسي فدا وطني). تركتها على الفيسبوك، معلقة هناك كوصية على جدار، جدار صارت كل الثورات تكتب حريتها عليه، أمست وصيتك شعاراً نعلّق عليه مستقبلنا، كان ثوار التسعينيات يكتبون شعاراتهم على الجدارن العتيقة، ويأتي في الصباح من يمحوها كي لا تشعل ثورة. جدارك الافتراضي اليوم عصي على المحو، عصي على الحجب، عصي على الجغرافيا والتاريخ، إنه عابر لكل الأشياء، جدارك يا علي وطننا الذي فديته بحق.صار شعارك أغنية الميدان، وقد رقصت أجساد الشباب العارية في اليوم التالي لرقصة جسدك، رقصوا أمام مدرعات الجيش وعلى مقربة من التراب الذي تقدّس بأنفاسك الأخيرة، رقصوا فداء وهم يقرأون نوتة الشهادة (نفسي فدا وطني) التي علّقتها على جدارك، صفّق لهم الرصاص الحي، صفّق في أجسادهم المنتشية طرباً، واختار الرصاص المواضع الأكثر فرحاً في أجسادهم، أحدهم اختار الرأس منه لأنه كان يهتف بالحرية، واختار القدم من أحدهم لأنه كان يشق طريقاً للؤلؤة، لؤلؤة الحرية البيضاء المعلقة في الميدان، وتحيّر في البقية، كيف يهزمها وهي تحمل شعارك وشعورك؟ فانهزم أمامها.
6
رحت أتعقبك في سيرة جنة أصدقائك، لعلي أعرف سرّ غرامي بك، في رواية أصدقائه استطعت أن أفسر شيئا من هذا الغرام الذي جعلني أدخل صورتك، وجدت في صورتك صورتي في أوائل التسعينيات، فتى مثالي يريد تغيير العالم، ومؤمن بألا مسافة بين ما يقرأ وما يعيش.يقول صديقه حسين الحواج: علي شخصية استثنائية وإلهامية وشفافة، مفتوح على المختلفين وتشبكه علاقات تتعالى على الجروح والفروق مع الطوائف الأخرى، يقرأ بشغف كبير لعلي شريعتي ومرتضى مطهري، يجمع أطراف مختلفة الأمزجة من الأصداقاء يوحدهم في قلبه، ويمنحهم من دفئه.صديقه علي البناء، رافقه في رحلة الميدان، كان يحدثه عن فقه الشهادة قبل أن يمنحه درساً تطبيقيا في اليوم التالي. يقول علي لقد فهمت درس الشهادة تماماً، فهمت كيف تكون مهيأ له وكيف تجعله قصة مشوقة، هذا ما فعله علي، لقد وصل إلى مستشفى السلمانية سالماً بعد أن تمكن من النجاة من المجزرة الأولى، لكن نداء الشهادة كان يشتغل في داخله ويدفعه نحو الميدان، عاد إلى الميدان في السابعة صباحاً، كانت حركته لافتة ومستبسلة للشهادة، وهذا ما أثار حنق القتلة، ليمعنوا في تشويه جسده الغض برصاص الشوزن والمطاط، لقد تهتك جسده، لكني أجزم أن قلبه لو عاد سيكون قادرا على أن يغفر لهاتيكه، فداء للوطن.وجدت في صوت أخيك وصديقك حسين المؤمن براءة صوتك، قال لي إنه يصغرك بعامين، ويكبر أترابه بعامين، لقد أضفت له من عامَيك ما جعله أكبر، عاش في عمرك يقول، وحين سألته عن رواية شهادتك، قال لي: إيمان علي بالشهادة من أجل الحرية يفوق إيماني، تعلم من علي شريعتي أن الشهادة حياة الحرية، وحين كتب جملته (روحي فدا وطني) في الخامسة والنصف صباحاً، قال لي إن الأرض التي دنّستها آلات العسكر في هذا الفجر، لن يطهرها غير دمي العاري من من آلات الفتك.لبس ما يليق بالحياة وخرجنا معاً، شكّلنا صفاً ملتحماً من الشباب، أخذنا نتقدم في وجه آلة الحرب، وحين هزمتنا الآلة كان علي قد انتصر عليها بدمه، وأمنيته التي رددتها معه في لحظاتنا الأخيرة (سر الانتصار تمني الشهادة). تشرّبت الأرض بكل دمه حتى آخر صبابة فيه، كان جرحه عميقاً، كما أراد لترتوي هذه الأرض بالطهارة. لم يتمكن الأطباء من شحن جسده بالدم، فجسده كان وفياً لإرادته، ظل ينزف كل قطرة تدخل فيه.
ليلة العقيد
بقلم خالد غزال
على خطى كل من تونس ومصر، اندلعت الانتفاضة في ليبيا في النصف الثاني من شهر شباط الجاري، وتحت شعارات مشابهة تركزت على إسقاط النظام الليبي ورحيل القذافي وتحقيق مطالب الشعب في الخبز والحرية والكرامة. وعلى غرار النظامين المنهارين، رفض القذافي استجابة مطالب الانتفاضة ولجأ الى اسلوب العنف والرصاص لإطفاء جذوتها، مكررا ما سبق له ان فعله في عقود سابقة، من دون ادراك طبيعة التغيرات الداخلية والاقليمية. باعتماد الاسلوب نفسه المواكب للرصاص، سلّط النظام الليبي غضبه على وسائل الاعلام وعلى مواقع الانترنت والهواتف الخليوية، فعطّلها لمنع التواصل بين المتظاهرين، وللتعتيم على ما يجري ومنع وصول صور الاحداث الى الخارج. وبما ان هذه الوسائل تسير من فشل الى فشل، عمد النظام، عبر نجل القذافي سيف الاسلام، ومن ثم عبر "القائد الملهم" نفسه، الى اطلاق اخطر التصريحات لما ينوي النظام فعله لقمع المتظاهرين ومنع الانهيار وبقاء القذافي وحاشيته في السلطة. فقد حذر هذا النظام من تكرار تجربتي تونس ومصر في ليبيا، وخيّر الليبيين بين الحوار والاصلاح وبين الحرب الاهلية، ملوِّحا بتأجيج الاقتتال بين العشائر والقبائل التي يتكوّن منها الشعب الليبي، مهدِّداً بسقوط آلاف القتلى وتفجّر أنهار من الدماء، وبأن القتال سيكون حتى آخر رجل وامرأة وطفل في سبيل الحفاظ على النظام. ولم يتورع القذافيان عن وصف الشباب المتظاهرين بأنهم يستخدمون المخدرات وحبوب الهلوسة قبل ان ينزلوا الى الشارع. وتحدثا ايضا عن مخططات لتقسيم ليبيا ثلاث دويلات، محذِّرين من سيطرة الحركات الاسلامية على هذه، الدويلات مما يعني عودة الاستعمار الى البلاد ونهب ثرواتها. ومع اطلاق التهديدات هذه، اوردت وسائل الاعلام أخباراً عن استخدام النظام لمرتزقة افارقة واطلاق قذائف الدبابات على المتظاهرين مما اوقع فعلا أعداداً كبيرة من الضحايا بين قتيل وجريح، اضافة الى اعتقال المئات من المتظاهرين. فكيف نقرأ ما يحصل في ليبيا، وما أوجه الشبه في الاسباب التي ادت الى الانتفاضة وفي المآل الذي قد تصل اليه؟استولى القذافي على السلطة في ايلول من العام 1969، أي قبل 42 عاما، في مرحلة أفول الناصرية ببرنامجها السياسي والاجتماعي والوطني، فتقمّص منذ اليوم الاول دور البطل الوطني والقومي، وقدّم نفسه وارث الناصرية قبل أن يكون عبد الناصر قد غيّبه الموت. تسلّم دولة تملك ثروات نفطية ضخمة، وتعيش في كنفها فئات اجتماعية محرومة وفقيرة، قبلت بسلطته وأيّدته في مواجهة عهد سيئ من الملكية. ورث دولة يقوم فيها تركيب عشائري وقبلي، وأعداد سكانية تصل اليوم الى حوالى ستة ملايين ونصف مليون مواطن. كان اول ما فعله، تكريس انغلاق ليبيا على العالم الخارجي، وتركيب نظام سياسي وفق مزاج القائد وتنظيراته "البهلوانية" المتتالية، انطلاقا من نظرية خصوصية الشعب الليبي بحسب مفهومه الذي بلوره لاحقا في "الكتاب الاخضر".
الدولة أنا وأنا الدولة
على امتداد العقود الماضية تصرف القذافي على اساس ان ليبيا ملكية شخصية، وان الشعب مجموعة من الرعايا يغدق عليهم العطايا، ويلهمهم النظريات بأنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم خلافاً لكل الانظمة السياسية القائمة. شكّل منذ العام 1972 ما يُعرَف باللجان الشعبية وقلّدها أداء كل الوظائف التنفيذية على مختلف المستويات في جميع انحاء البلاد. في المقابل، ركّز على اللعب على التناقضات القبلية والعشائرية، فأجج بينها الروح التنافسية بما يجعل لها مرجعية وحيدة هي النظام. خلال عقود من الحكم، كانت للقذافي ممارسات متناقضة، فقد كان مصابا بنوع من "جنون العظمة"، إذ جعل من نفسه "ملك ملوك أفريقيا"، ومارس "نطنطات" وحدوية، مرةً مع مصر والسودان، ومرةً مع الجزائر، وأخرى مع مصر وسوريا، تحت حجة استعادة النهوض القومي واسترجاع فلسطين، فيما لم يتورع عن طرد الفلسطينيين من ليبيا وتشريدهم. مرةً يعتبر نفسه بطل القومية العربية فلا يترك زعيماً الا ويطاوله بسوء كلامه، ومرةً أخرى ينعى العروبة ويصنّف ليبيا بلدا افريقيا لا علاقة له بالعرب. هكذا كان يتصرف بالدولة الليبية وهويتها وفق المزاج الذي يصيبه وليس وفق تاريخ البلاد ومصالحها. لم يتورع عن دعم حركات إرهابية ولا عن ممارسة الارهاب، من قبيل اسقاط طائرة "بانام" الأميركية فوق لوكربي في اسكتلندا في 21 كانون الاول 1988، الذي وضع النظام ورئيسه في خانة الابتزاز والاتهام، واجبر ليبيا على دفع ثلاثة مليارات دولار لأهل الضحايا. هذا فضلاً عن الصفقات التي كان يعقدها مع الشركات الاوروبية لاستثمار الموارد الطبيعية وكانت في معظمها على حساب المصالح الوطنية الليبية.اما على الصعيد الداخلي، فقد سعى الى اغلاق ليبيا عن العالم، والحجر على التطورات الفكرية، وخصوصا ما يتعلق بثورة التكنولوجيا في ميدان الاتصالات، التي باتت في متناول اجيال شابة من دون ان تكون في حاجة الى استئذان السلطات الحاكمة. خلال العقود الاخيرة، تكوّنت نخب شابة في ليبيا كانت على تواصل عبر الانترنت، وكانت تعي ايضا المعضلات الاجتماعية والبؤس الذي يعيشه معظم الشعب الليبي. وقد زاد الامور وفاقمها، ان النظام الليبي والعائلة والحاشية الصغرى تصرفوا على اساس ان الدولة الليبية والثروات النفطية هي ملك لهم، فراكموا الثروات ونهبوا المؤسسات، واشتروا بعض المحاسيب من القبائل والعشائر، فيما كانت الغالبية من ابناء الشعب تعاني الفقر والتهميش والبطالة والامية. هكذا، وعلى غرار ما جرى في تونس ومصر، ولأسباب مشابهة ايضا، شكلت الاسباب الاجتماعية المتصلة بالفقر والبؤس العنصر المركزي في نار الانتفاضة، حيث امكن القوى الاجتماعية من الشباب ان توظف تكنولوجيا الاتصالات في نشر المطالب وإذكاء روح التمرد. كما لا يمكن انكار الاثر الكبير الذي تركته انتفاضتا تونس ومصر ونجاحهما في إسقاط الحاكمين، الأمر الذي اعطى حركة الاحتجاج الليبية الثقة بإمكان تكرار التجربتين.
تاريخ حافل بالقمع
منذ تولّيه الحكم، نفّذ القذافي سياسة تقوم على ابادة المعارضة والمعارضين، مستخدماً شتى الوسائل الدموية. خلال الانتفاضة الحالية، لجأ الى ابشع وسائل الارهاب لقمع الانتفاضة، ووصل به الامر الى استخدام الطائرات الحربية في قصف المتظاهرين، وسلاح المدفعية والدبابات في تفريقهم، مما جعل ليبيا تسبح في نهر من الدماء. تحوّط القذافي مسبقاً لإمكان حصول تمرد داخل القوى المسلحة الليبية ولاحتمال رفض تنفيذ الاوامر ضد ابناء الشعب الليبي، فاعتمد سياسة تقوم على استجلاب مرتزقة أفارقة وإغداق الاموال عليهم وتكليفهم اطلاق النار على المتظاهرين. كما ان الزعيم الليبي سبق له ان شكّل ما يشبه ميليشيا من شباب كانوا قد انتزعوا من اهلهم مبكراً ووضعوا في معسكرات تأهيل للولاء للنظام وزعيمه، فوظّفهم على غرار المرتزقة في قمع التظاهرات. اذا كانت المأثرة الراهنة للزعيم الليبي اليوم تتمثل في قتل المئات بل ربما الآلاف من ابناء ليبيا، فإنها لم تكن الوحيدة في تاريخه. فقد سبق له الفضل في ارتكاب مجازر ضخمة خصوصا في 29/6/1996 حين نفّذ مقتلة جماعية بالسجناء السياسيين في سجن "بو سليم" حيث قضى على 1200 سجين كان سبق له اعتقالهم على امتداد سنوات خلت. ظل النظام ينكر هذه المجزرة حتى العام 2008 حين اعترف بحصولها، مما دفع اهالي الضحايا للمطالبة بجثث ابنائهم، من دون ان يتم حتى الان تسليم اي جثة. قبل ذلك التاريخ، وفي نيسان من العام 1976، واثر تحركات نفّذها طلاب الجامعات من اجل الحريات الفكرية والسياسية وحقهم في التنظيم النقابي، عمد القذافي الى الهجوم المسلح على الجامعات واعتقال اعداد كبيرة من الطلاب، ونصب المشانق لهم في باحات الجامعات وفي الساحات العامة. وفي احداث اخرى، عمدت ميليشياته الى دهم المساجد واعتقال الائمة والزج بهم في السجون وقتل آخرين واخفاء جثثهم. من جانب آخر، لاحق النظام كل خصومه في الخارج ونفّذ عمليات اغتيال في حق الكثيرين منهم، والزج بآخرين في السجون الليبية، مما دفع بكثيرين الى الهرب من البلاد واللجوء الى بلدان اوروبية. في علاقته بالقبائل والعشائر، اتبع اسلوباً مزدوجاً من الترغيب والترهيب، الذي مارسه في سياسته مع زعماء البطون والأفخاذ، حيث كان يستخدم التنكيل والاعتقالات، وأحيانا القتل، إضافة الى اتباع اسلوب إذلال زعيم العشيرة وتحقيره امام قومه، وهو امر له معان ودلالات لدى عادات القبائل والعشائر تجاه زعمائها.تحسباً لما يمكن ان يواجه النظام من تمرد عسكري، استخدم القذافي سياسة تدمير القوات المسلحة وخصوصا في السبعينات من القرن الماضي، إذ كان يسيطر عليه هاجس الانقلاب العسكري ضدّ حكمه، فقسم القوات المسلحة وحدات صغيرة، يتحكم في قيادتها عناصر من اللجان الثورية لا يحملون في غالبيتهم مستوى علمياً يرقى الى الشهادة الاعدادية، كما سلط على هذه الوحدات ميليشياته ووضعها في حالة ترهيب.
لم يقتصر عنف النظام وإرهابه على الداخل الليبي، بل امتد الى اكثر من دولة عربية، عبر إثارة فتن فيها أو قتل معارضين له، أو التعاون مع النظام الاخر في كبح المعارضات القائمة. لا ينسى في هذا المجال الدور الذي لعبه في إفشال الانقلاب العسكري في السودان عام 1970 فقد كان له دور فاعل في القبض على قائد الانقلاب هاشم العطا وتسليمه الى الرئيس السوداني يومذاك جعفر النميري، ثم مساهمته في تصفية عناصر الحزب الشيوعي السوداني وإعدام أمينه العام عبد الخالق محجوب، وهو دور ساهم فيه بفاعلية كبيرة الرئيس المصري آنذاك انور السادات. هذا فضلا عن إخفاء الامام موسى الصدر ورفيقيه عام 1978.كان من الطبيعي بالنسبة الى مثل هذا النظام القائم على القتل والارهاب، ان يمنع منظمات حقوق الانسان من الانوجاد على الاراضي الليبية لأنها تشكل في نظره عنصراً هادماً لفلسفة النظام وكاشفاً لسياساته الهمجية.
عصارة الفكر
على غرار زعماء عرب من نمط صدام حسين، قدّم القذافي نفسه ليس فقط زعيماً سياسياً وعسكرياً، بل مفكراً وملهماً وأباً روحياً وفلسفياً للشعوب العربية المتخلفة، ووصياً على الفكر العربي، وهادياً للزعماء العرب، مشدداً على ضرورة استلهام ما يقوم به. لم يكفّ عن المناداة بحكم الشعب للشعب ورفض المؤسسات السياسية غير المنتمية الى الشعب والعاملة بأمرته، لكنه في المقابل كان يمارس أبشع أنواع الديكتاتورية وفق سياسة لا علاقة لها بالشعب من قريب أو بعيد. لم تنفع هذه "التطهرية" التي كان يستخدمها دوماً في أنه بعيد عن الحكم أو زاهد فيه، مفوّضاً السلطات الى المؤتمرات الشعبية واللجان الثورية، فقد كانت بصماته على كل صغيرة وكبيرة، يعاونه هذه المرة ابناؤه، بعدما كبروا وشبّوا وبات في إمكانهم تجميع الثروات ومشاركة والدهم في الهيمنة على مقاليد البلد. في العام 1975، تفجرت عبقرية القذافي لتنتج للأمة العربية والعالم أجمع عصارة الفكر البشري في بناء نظام الحياة الجديدة، والعلوم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والهندسية، وذلك في "الكتاب الاخضر" الذي ألّفه العقيد في ساعات تجلٍّ وإلهام الهي. اعتبر القذافي ان هذا الكتاب يوازي الكتب الدينية المقدسة، وخصوصا القرآن عند المسلمين. فهو في نظره كتاب صالح لكل زمان ومكان، يحوي عصارة الفكر البشري وفلسفته في جميع المجالات. تقوم مقولة الكتاب الاساسية على ان "المجالس النيابية تمثيل خادع للشعب، النظام النيابي حل تلفيقي لمشكل الديموقراطية، فالمجالس حاجز شرعي بين الشعوب وممارسة السلطة، حيث عزلت الجماهير عن ممارسة السياسة واحتكرت السيادة لنفسها. اما الاستفتاء فهو تدجيل على الديموقراطية. واما الاحزاب، فمَن تحزّب خان، والحزب هو الديكتاتورية العصرية". هذه بعض نظريات "الكتاب الاخضر" ورؤيته السياسية.على غرار ما فعله ماوتسي تونغ في الصين في ستينات القرن الماضي، حين انتج للشعب الصيني وسائر شعوب العالم ما كان يُعرَف بـ"الكتاب الأحمر"، وجعله دستوراً للصين ونظام حياة لشعوبها، وضع القذافي كتابه الاخضر فوق كل الكتب والدساتير، وفرضه نظاماً على الليبيين، صغاراً وكباراً، وألزمهم دراسته وحفظه غيباً واللجوء الى مكنوناته لدى كل صغيرة وكبيرة. فرض تعليمه في المدارس والجامعات من الابتدائي حتى آخر مرحلة في التعليم، وكان في رأس المواد الخاضعة للامتحانات، حيث يقرر استيعاب مضمون الكتاب أو عدمه مصير الطالب في النجاح او الرسوب في المواد التعليمية. كما فرض على تلامذة المدارس ترديد عبارات منه قبل الدخول الى الصفوف، بديلا من تقليد إنشاد النشيد الوطني في بعض البلدان.من المثير للسخرية ان الزعيم الليبي كان يطبع ملايين النسخ من كتابه العظيم ويرسلها الى بعثاته الديبلومسية لتوزيعها على شعوب العالم لتثقيف النخب فيها بفلسفة الحكم والحياة الواردة في نصوصه. في زياراته لبلدان خارجية وخصوصا منها الاوروبية، كان القذافي يقدّم "الكتاب الاخضر" الى الزعماء الذين يزورهم، ويأخذ وقته في شرح فلسفته، حيث كان يُستقبَل من الزعماء الاوروبيين بالثناء على الزعيم وأفكاره، وهو نفاق غربي هدفه الحصول على الاستثمارات والموارد من ليبيا، وخصوصا ان هؤلاء الزعماء كانو يدركون ان رأياً سلبياً في الكتاب ومضمونه قد يطيح صفقات بمليارات الدولارات.المصالح الغربية ونفاق حقوق الانسانخلافا لادعاءات القذافي وبهوراته في مواجهة الاستعمار والامبريالية، فقد كان النظام يقيم أوسع شبكة من العلاقات الشرعية وغير الشرعية مع المصالح الاوروبية. فهو فتح ليبيا أمام الشركات النفطية، وتقاسم معها موارد البلاد ونهب ثرواتها، ودخل في علاقات مع مافيات السلاح والتجارات غير المشروعة. ومثل كثير من الحكّام العرب، كان خطابه العلني المندّد بالمصالح الغربية مختلفاً كلياً عن ممارساته الداخلية في العلاقة مع هذه المصالح. كان يشتري نظامه من التشهير بواسطة الصفقات المالية. تجلّت هذه السياسة في الانتفاضة الاخيرة حيث تردد عدد من الدول الاوروبية في التنديد بقمع التظاهرات في ايامها الاولى خوفا من ان يطيح موقفها صفقات معقودة مع النظام، فيما لو ان الانتفاضة فشلت وعاد القذافي للإمساك بمقاليد البلاد. لعل ما ادلى به رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني في الايام الاولى للانتفاضة من أنه "لا يريد ازعاج الزعيم الليبي" عبر التعليق على الاحداث، يشكل ابلغ تعبير عن المواقف الاوروبية. لم تدل الدول الغربية بتعليقاتها على الاحداث الليبية إلاّ بخجل، بعدما وصل القمع وقتل المدنيين وتهديم البلاد الى مرحلة بات من المعيب على الذين يدّعون الدفاع عن حقوق الانسان السكوت عليها.لم تُنتهك حقوق الانسان في ليبيا خلال الاحداث الاخيرة فقط، بل ان تاريخ هذا النظام هو انتهاك متواصل لحقوق الانسان. تدرك الدول الاوروبية خصوصا ما يجري في ليبيا من اضطهاد وقمع للحريات واعتداء على الحرمات وغيرها من الممارسات غير الانسانية التي برع النظام الليبي في ممارستها، لكن هذا النظام كان اقل الانظمة تعرضا للنقد من جانب الدول الاوروبية، وتجاهلاً لما يحصل داخله. كان التجاهل مقصوداً، لكون الدول الغربية وشركاتها غارقة في صفقات مربحة جدا في الاستثمارات النفطية او في شراء الطائرات والدبابات والاسلحة الثقيلة، وهو سلاح بدا ان وظيفته تنحصر في قتل الشعب الليبي وليس الدفاع عن البلاد في وجه الاعتداءات الخارجية المحتملة. هكذا اطيحت كل فلسفة حقوق الانسان، ولم تعد تشكل مطلبا، بل تحول الحديث فيها عبئا قد يطيح المصالح الغربية في هذه البلاد. كان القذافي يدرك قوته في هذا الجانب، ويعرف ان الدول الاوروبية ساعية الى رضائه، وان مبادئ حقوق الانسان تتوارى وراء المليارات الموعودة. لذا كنا نرى القذافي يتصرف بجلافة في زياراته الاوروبية ويفرض نمط سلوكه من دون اعتراض السلطات والمسؤولين في تلك البلاد.
الانتفاضة الى أين؟
لعل سؤال المصير المقبل للانتفاضة هو أصعب الاسئلة جوابا وتوقعات. لقد دخلت ليبيا في منعطف خطير من انتفاضتها وما يمكن ان تؤول اليه الامور. فهي تقوم في وجه نظام وزعيم لا يتردد في إبادة الشعب بكامله وتدمير كل انجازات البلاد من اجل البقاء في السلطة، وهذا ما تجري ممارسته اليوم بأبشع الطرق والوسائل. الانتفاضة تقوم في بلد يختلف كثيرا عن مصر وتونس من حيث تركيبه الاجتماعي ودرجة تطور المجتمع المدني فيه. فليبيا تتكون من قبائل وعشائر بدأت تنقسم على نفسها بين موالٍ للانتفاضة ومتمسك بسلطة القذافي، وهذا ما يهدد بصراع مسلح في ما بينها وادخال البلاد في حرب اهلية، لم يكن نجل القذافي سيف الاسلام قليل الافصاح عن هذا المصير، على غرار ما جرى في العام 1936، تالياً تقسيم البلاد. وهي سياسة كان الزعيم الليبي يمارسها خلال حكمه عبر "فرّق تسد" وتأجيج النزاعات والروح التناحرية والتنافسية بين هذه العشائر والقبائل. كما ان ليبيا تبدو مفتقرة الى مجتمع مدني ومنظمات اهلية يمكنها ان ترفد الانتفاضة بمطالب مدنية وسياسية تتصل بدولة القانون والحرية والديموقراطية وحقوق الانسان.يبقى السؤال عن دور الجيش وموقعه وما اذا كان في الامكان ان يحسم الموقف ويجبر القذافي على الرحيل، على غرار ما فعله الجيشان التونسي والمصري. ينظر كثير من المراقبين الى صعوبة هذا الاحتمال، لأن الجيش سيتفكك الى مكوّناته الاولى، العشائرية والقبلية، وقد يحصل تمرد في قياداته العليا، وهو ما يعزز النظرية الليبية الرسمية في ذهاب البلاد الى حرب اهلية بين مكوّناتها من قبائل وعشائر. يفاقم الامر صعوبة ان النظام الليبي عمد منذ البداية الى إضعاف الجيش ومنع تكوّنه كقوة حسم في البلاد، خوفا من طموحات الضباط السلطوية، وعمد في المقابل الى تطبيق نظرية "الشعب المسلح" في وصفه مبدأ مركزياً وارداً في "الكتاب الاخضر". هذه الميليشيا الشعبية تضم اليوم حوالى مليون ونصف مليون من الشباب المدرّب والحامل للسلاح، اي ما يوازي ربع الشعب الليبي. ان انقسام هذه الميليشيات والتحول في ولاءلات بعضها، يشكل احد عناصر الاقتتال الاهلي الواسع. لذا تبدو المخاوف كبيرة مما ينتظر ليبيا، وما اذا كان في إمكان قوى الداخل ان تتغلب على النظام واجهزته من خلال تواصل التحركات بشكل يومي. هذا في وقت بدأ النظام يتفكك من داخله، ويشهد استقالات لمسؤولين وديبلوماسيين فيه، وهو مؤشر جيد في سياق ازاحة النظام.لن يأسف احد على زوال هذا النظام الذي ينتمي الى اهل الكهف، ولن يذكره احد بأي فضيلة، لا في داخله ولا في خارجه. لكن الخوف ان يقترن زوال الطاغية بانهيار البلد وتفككه، بما يجعل من الصعب اعادة اللحمة الى ارضه. فهل تكون ليبيا البلد الثالث في شقّ الطريق نحو استنهاض عربي على قاعدة الحرية والديموقراطية؟ لن يتأخر الجواب كثيرا في هذا المجال
خريف "الكتاب الأخضر"
بقلم رامي الأمين
لم يكن مستغرباً البتة أن تنتقل عبر الإنترنت، صور لمتظاهرين ليبيين، وهم يحطمون نماذج اسمنتية لـ"الكتاب الأخضر" في مدينة بنغازي، التي بدأت منها الثورة الليبية المطالِبة بإطاحة العقيد معمّر القذافي. فهذا الكتاب، ألّفه القذافي في العام 1975، وهو بحسب موقع "ويكيبيديا"، الذي لا يمكن التحقق من صدقيته، يبدو منحازاً إلى القذافي، الذي استقى أفكاره، على ما يقول، من حضارات عديدة، ليقدّم نظرية يعتبرها "نظرية ثالثة"، تأتي بعد ماركسية كارل ماركس والرأسمالية كثمرة للتطور الصناعي وثورته. هذا "الكتاب الأخضر" في ليبيا هو كالقرآن في المساجد، يقرأ منه تلامذة المدارس، كما ينشد زملاؤهم في سوريا نشيد البعث كل صباح، بحسب ما يذكّرنا فيلم "الطوفان" للسينمائي الراحل عمر أميرالاي. هذا الكتاب، من وجهة نظر القذافي، يصلح لكل زمان ومكان، ففيه عصارة افكاره، في المجالات الهندسية والفلسفية والفكرية والسياسية والإقتصادية والعلمية، الى حدّ أن أحد الشبّان الليبيين اخترع سيارة، تم استعراض مزاياها على الفضائية الليبية، وعندما سألته المذيعة "كيف خطرت لك فكرة هذه السيارة؟"، أجابها بافتخار: "استلهمتها من الكتاب الأخضر". القذافي صاحب نظرية حكم الشعب من طريق الديموقراطية المباشرة، من خلال المؤتمرات الشعبية الأساسية التي هي أداة التشريع، ومن خلال اللجان الشعبية التي هي أداة التنفيذ. هذه النظرية، يقدم شرحاً وافياً عنها في "الكتاب الأخضر"، الذي افرغ فيه كل ذكائه، ويعتبره خلاصة التجارب الإنسانية التي مرّ بها عبر تجربته في العمل السياسي عندما كان طالباً، ويرى فيه أداة سياسية فريدة من نوعها تُعرَف باللجان الثورية، وليس من بين أهدافها الوصول إلى السلطة، وهي طبعاً بمثابة الحرس الثوري في إيران، في يدها كل السلطة التي يمنحها إياها القذافي، وتأتمر بأوامره.معمر القذافي معروف بالرجل الأخضر، على لون كتابه. لقب يبعث على الإعتقاد بأن الرجل يأتي من كوكب آخر، أو يوحي بأنه رجل بيئي بامتياز، على غرار رجال منظمة "غرين بيس"، أو أنه في أحسن الأحوال، أخضر نسبةً إلى الربيع. لكن شيئاً في شخصية العقيد القذافي لا يدلّ على أنه أخضر، سوى في الدولارات. اللون الأحمر قد يليق أكثر بالزعيم الليبي المتربّع على عرش الجماهيرية الليبية منذ اثنين وأربعين عاماً، حينما نصّب نفسه قائداً للثورة هناك، وهو منصب رمزي ليس إلاّ. ذلك ان القذافي لا يشغل عملياً منصباً سياسياً رسمياً، مع العلم أنه هو الحاكم المطلق للبلاد باسم نفسه، وباسم الشعب حسبما يدّعي. صفة الرجل الأحمر تليق أكثر بالقذافي، لا لأنه ثوري، بل لأنه دموي كما يدلّ تاريخه، وكما يشهد حاضره الدامي للتوّ خلال قمعه التظاهرات السلمية المطالبة برحيله. يعرض موقع "ويكيبيديا" لمرحلة الدراسة في حياة القذافي، فينقل "إنه منذ أن كان معمر القذافي طالباً في مدارس سبها أظهر حساً قومياً عالياً وقد عكست تظاهراته العديدة ضد الانفصال بين سوريا ومصر روحه القومية التي تبلورت في ما بعد في إنجاز العديد من المشاريع الوحدوية منذ وصوله إلى قيادة ليبيا وحرصه على أن يكون لها دور قومي متميز في الساحة العربية. وقد أطلق عليه الزعيم جمال عبد الناصر لقب أمين القومية العربية والوحدة العربية". اللافت أن القذافي كان متأثراً بعبد الناصر، ثم اختلف مع السادات، وكانت علاقته ممتازة بحسني مبارك، حدّ أنه وصفه قبل تنحّيه تحت ضربات الشعب، بأنه فقير لا يملك ثمن ملابسه. اللافت أيضاً وأيضاً أن القذافي عايش ثلاثة رؤساء مصريين، إثنان منهم استمرا في الحكم حتى وفاتهما، والثالث اطاحه الشعب بعد ثلاثين عاماً. مجموع السنوات التي أمضى فيه رؤساء مصر الثلاثة فترات حكمهم، هي فترة حكم معمر القذافي في ليبيا، وهذا بحسب رأيه دليل على حكم الشعب. عندما بدأ حراك الشعب الليبي ضد الديكتاتور، خرج القذافي عليه مستغرباً ما يفعله، وخصوصاً أن ما يطالب به الليبيون، بحسب رأيه، قد تحقق في 1960، حينما انتصرت الثورة. منذ ذلك الحين، يعتقد القذافي ان الليبيين يعيشون تحت خيمة الديموقراطية، التي تدوم بدوام القائد المفدّى، الذي نصب خيمته ونصّب نفسه حاكماً مطلقاً، وملكاً على ملوك أفريقيا، وأميراً للمسلمين، وخصّ أولاده وحاشيته وأزلامه، بالمال والجاه والسلطة والرهبة، وحصّنهم بالإخافة والبطش. اثناء زياراته الخارجية كان يرفض النزول في الفنادق المخصصة للملوك والرؤساء ويرفض تناول طعام المعدّ لهم، مصطحباً ناقته وخيمته التي ينصبها في حديقة الفندق ويربط امامها الناقة، وقد تسببت هذه الصرعة المجنونة بمشكلة له في قمة لعدم الانحياز عقدت في جاكرتا، اذ ابلغته السلطات الاندونيسية استحالة الموافقة على نزوله في خيمته خارج القصر المخصص للملوك والرؤساء لاستحالة توفير الامن المطلوب له والغذاء ايضاً. فبحسب القوانين البيطرية الاندونيسية، يجب ارسال الناقة اولاً الى الحجر الطبي البيطري لتقرير سلامتها وخلوّها من الاوبئة المعدية.من غرائب الرجل الأخضر وعجائبه، شهرته باعتماد حارسات لحمايته، فهو يختارهن لثقته بالنساء، ويختارهن بعناية بعد ان يقسمن يمين الولاء على تقديم حياتهن في سبيله وهنّ لا يفارقنه ليلاً او نهاراً. يشترط القذافي ان تكون حارساته عذراوات ويخضعن لتدريب في كلية خاصة في إطار برنامج قاس يخرّج النساء كمقاتلات محترفات وخبيرات في استعمال الاسلحة وفنون القتال. وهن مسؤولات عن لفّ ثوبه الذي يتجاوز الثلاثين متراً من القماش، ويقرأن جزءا من كتابه الأخضر له قبل أن ينام، ويرافقنه في أسفاره ومؤتمراته. هذا ليس كل شيء. للعقيد القذافي نظرية تشع ذكاءً، يعتبر أنها الحلّ للصراع العربي – الإسرائيلي. فهو بعدما رحّل الفلسطينيين إلى الصحراء، واعتبر أنه يساويهم بنفسه، ولا يظلمهم، إذ يسكنهم الخيام، ريثما يعودون إلى بلادهم، ابتكر اصطلاحاً مضحكاً هو "دولة إسراطين"، جامعاً مصطلحي اسرائيل وفلسطين، على غرار مصطلح التشاؤل الذي اخترعه الكاتب الروائي الفلسطيني إميل حبيبي، ويجمع بين التفاؤل والتشاؤم. قد يبدو هذا كله طريفاً ومضحكاً بالنسبة إلى كثيرين، ولن يكون ذا أهمية، إلا إذا كنت ليبياً ربما. فأن يكون رئيسك على هذا الغرار، ويقوم بما يقوم به القذافي، ويستعرض حماقاته على شاشات العالم، فذلك أمر لا يتمناه أحد لأيّ شعب من الشعوب. كل الطغاة يملكون عادةً روح الدعابة. حسني مبارك كان اشبه بعادل إمام في السلطة. زين العابدين بن علي حاول أن يكون طريفاً ولم يوفّق. حافظ الأسد كان ذكياً وطريفاً. صدام حسين كذلك، مع نسبة مرتفعة من الجنون، إضافة إلى كونه روائياً رديئاً. أحمدي نجاد "ستاند آب كوميدي" بامتياز. واللائحة تطول. لكن أكثرهم طرافة، بل أكثرهم بطشاً وعنفاً ودموية، هو القذافي. كنا نظن أن حسني مبارك سيفعلها، وسيقصف المتظاهرين المصريين بالطيران الحربي. ظننا ذلك عندما أطلق الطائرات الحربية المصرية في سماء القاهرة. لكنه لم يفعلها. زين العابدين بن علي ركب الطائرة ورحل هارباً بأمواله تحت جنح الظلام. فعلها في احد الأيام النظام السوري عندما قصف مدينة حماه بالطيران الحربي، لأنها لم تمتثل لرغباته. لكننا ظننا أن زمن الإبادة الجماعية قد انتهى، وأن زمن الـ"فايسبوك" سيجعل طغاة هذا العالم يخجلون قليلاً، لكن معمّر القذافي فعلها. فقد أطلق الطيران الحربي ليقصف معارضيه، ليقصف الشعب الذي منه تأتي السلطات، والحاكم الأول والأخير بحسب افكاره الخضراء. بعد إثنين واربعين عاماً من الحكم يبس الرجل الأخضر، واصفرّت أوراقه، وبدأت بالتساقط. الدم الذي يسيل، لن يروي ظمأ الرجل الأخضر إلى السلطة، بل سيزيد الخريف خريفاً، وستأتي عواصف الثورة في شتائها الغاضب لتقتلع الرجل اليابس من جذوره وترسله إلى الجحيم، ليأتي بعده ربيع ليبيا الذي ينتظره الأحرار، ولن يكون للديكتاتور ناقة أو جمل، ولا خيمة يتظلل فيئها
كان يوماً للفالنتاين... فما الذي تغيـّـر؟دم في الميدان
بقلم حسين المرهون
لا أعتقد أن هبّة شبابية ستحصل في البحرين، كان ردّي على الصديقة أمل النعيمي، ابنة المناضل اليساري الكبير عبد الرحمن النعيمي، حين سألت عن احتمالات 14 فبراير في البحرين قبل أيام من التوقيت الذي حدده الشباب البحريني موعداً لهبّتهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. ثمة أسباب لاعتقادي هذا، قلتُ، أولها أن التنظيمات السياسية القديمة عندنا قوية ولها أتباع. وعلى رغم أن النسبة العميمة من شعب البحرين تتكون من شباب فتي، فإن هؤلاء منضوون بقوة في التنظيمات المعارضة، بل وحتى الموالية. ثانيها، أن التنظيمات السياسية لا تودّ الذهاب نحو مواجهة في الشارع. هذا ما فهمته في الأقل، من مسألة تمسكها بالانخراط في القنوات السياسية المتاحة. بعد يومين من هذا اللقاء، أرسل اليَّ الزميل والصديق الصحافي رامي الأمين سؤالا في سياق تحقيق يعمل عليه عن احتمالات الثورة والـ"فايسبوك" في الدول العربية وبينها البحرين. حصل أنني أجبت بالوقوف على آليات عمل الفاعل الجديد الذي أخذ يدخل على خط التغيير في غير مكان في العالم، أعني الشبكات الاجتماعية. وقد صارت لدينا الآن تونس ومصر. هذا الفاعل لا يتطلب الانضواء فيه، قدرا كبيرا من الثقة. ولا يتطلب التزاما تنظيمياً صارماً، والأهداف التي يعمل عليها قصيرة، أي ليست طويلة الأمد، وهو يتوافر على قدر كبير من الفردية، وهذا الأهم. قلت إن الشبكات الاجتماعية في هذا المعنى، ليست منعدمة في البحرين، لكن تأثيرها في التنظيمات السياسية لما يزل بعد محدوداً. وكما فهم كثيرون منا من خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة 2010، فقد سددت التنظيمات السياسية القديمة والمنخرطة في العملية السياسية المتاحة، بشقيها المعارض والموالي، ضربة قوية لهذه الشبكات التي دعت مع اللجان الشعبية إلى مقاطعة الانتخابات التي ترى أنها بلا جدوى، نظراً لأن النظام يتحكم بمفاصلها من خلال صمّامات أمان عدة صمّمها ليسهل التلاعب بها، وقد جاءت المشاركة قوية (67 في المئة من مجموع من يحق لهم التصويت)، في حين كان ينتظر أن يأتي حجم التصويت ليثبت محدودية المشاركين أو المؤمنين بالمشاركة بعد سيادة حال من البرم الشديد في الشارع. أثبتت نتائج التصويت العكس: محدودية المقاطعين أنفسهم.
دعوة شبابية وغطاء حزبي
هكذا انتهى العام 2010. إلى أن جاءت اللحظة التي فاجأت الجميع. التقطت التنظيمات السياسية الزخم الملهم للثورتين التونسية والمصرية ووفرت غطاء سياسياً للدعوات التي أطلقها الشباب على شبكة الإنترنت للتظاهر في 14 فبراير. قالت إنها تدعم أي نشاط سلمي، وإن من حق هؤلاء التظاهر، وعلى الحكم النظر في مطالبهم. بدا أن ثمة إجماعاً لدى جميع قوى المعارضة على التظاهر في ذلك اليوم. فالدعوة التي انطلقت من على منصات المنتديات الحوارية على شبكة الإنترنت ومن فضاءات "فايسبوك" و"تويتر"، سرعان ما تلقفتها قوى سياسية غير مرخص لها، تعمل إلى حد ما بمنطق الشبكات، ولا تقبل بالتسجيل تحت أي قانون، وتعتمد أسلوب العمل الذي يقوم على تأليف اللجان الشعبية لخدمة أهداف موقتة، وهي ناشطة في فضاء الإنترنت بقوة، لتدخل بعد ذلك التنظيمات السياسية التي تعمل في إطار اللعبة السياسية، على الخط لتوفر غطاء للجميع.
لم يوافق الحكم على منح أي ترخيص لمسيرات معارضة في ذاك اليوم الذي وافق عيد العشّاق. على العكس، فهو كان يستعد لاحتفالات كبيرة بذكرى ميثاق العمل الوطني 2001 الذي تحولت بموجبه البحرين ملكية، وتم التصويت عليه في هذا اليوم أيضاً. بدا الأمر بمثابة صراع إرادات. شباب يرون أنهم قد تعرضوا لخديعة في هذا اليوم تحديداً حيث صوتوا على أساس أن التحول سيكون نحو ملكية دستورية تنشأ فيها سلطة تشريعية منتخبة كاملة الصلاحيات، فإذا بهم يرون السلطة التشريعية مشطورة قسمين بالمناصفة: قسم منتخب وآخر معيّن يختاره الملك. في المقابل، نظام يرى في هذا اليوم تدشيناً لعهد جديد انتقل فيه من المشيخة إلى الملكية واتسم بما اعتبره إصلاحات. كانت هذه، هي لحظة الانفصال البدئي عن مشروع الملك، وبدء لحظة الاستقطاب التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. وقد تجاهل الحكم نصائح كثير من العقلاء صارحوه بأن التحول بهذا الشكل قد أفقد الملكية صفة التعاقد بين الحاكم والمحكومين. على هذا، كانت إرادة السلطة في هذا اليوم بعد عشر سنين من الميثاق: احتفالية. وعلى العكس منها كانت إرادة الشباب: احتجاجية. وهكذا كان.
انتفاضة على رأس كل عقد
لدى البحرينيين اقتناع ترسخ بالتواتر مفاده أن بلدهم الذي يتوسط حوض الخليج ويشكل مركزاً لتجارة اللؤلؤ عبر العالم قبل الثورة النفطية، يشهد في كل عقد من الزمان هبة. هذا ما تحكيه مدوّنات التاريخ منذ عشرينات القرن الماضي. وقد كانت آخرها قبل الهبّة الحالية، ما يُعرَف في أدبيات البحرينيين بانتفاضة التسعينات. الانتفاضة التي انطلقت العام 1994 وقتل فيها حوالى 40 شخصاً بالرصاص الحي على أيدي قوات السلطة، كما زُجّ بالألوف على السجون، بسبب توقيعهم عريضة شعبية طالبت بسلطة تشريعية منتخبة. وعلى عكس مما أدلى به ماركس من أن "التاريخ يعيد نفسه على هيئة مهزلة"، فقد أعادت حركة 14 فبراير الموعد مع التاريخ مجدداً، لكن على هيئة انتفاضة جدية تماماً، اتفق أنها من الاقتناعات الراسخة في أذهان البحرينيين. لم يكن أحدنا ينتظر ثورة أو هبّة. كنا نظن أن الجروح التي خلّفتها انتفاضة التسعينات لما تزل طرية بعد، حتى مع معرفتنا بمشاعر البرم التي كنا نراها تتجذر في نفوس بعضنا برماً وقهراً. حصل أن توقعاتنا أخفقت كلها. الشيء الذي توقعناه حقيقة هو الآتي: في حال مرت مسيرة 14 فبراير من غير سقوط قتلى تكون قد مرّت. وفي حال أسفرت عن قتلى فقد وقع المحظور. وهذا ما حصل تماماً. وقع المحظور وسقط شاب مضرجاً. وفي صلف غير متوقع، ضاعفت السلطة العدد ليصبح اثنين في أثناء ضربها جنازة الأول. ثم كرّت المسبحة، حتى صحونا فجر الخميس على مجزرة أثناء دهم المعتصمين في اللؤلؤة تحت غطاء من الجيش البحريني. 5 قتلى ونحو 200 جريح في بلد لا يجاوز تعداد سكانه 720 ألف نسمة بحسب أحدث الإحصاءات الديموغرافية للعام 2010.
أسمع صوت طلق ناري
كنت أحد الشهود الذين اتصلت بهم هيئة الإذاعة البريطانية BBC لرواية ما جرى فجر ذلك اليوم. ففيما كنت أخفّ إلى النوم لفتني أن الطائرة المروحية التي تراقب الأجواء في ميدان اللؤلؤة على مدار الساعة منذ بدء يوم الاعتصام، عدلت من مستوى تحليقها لتحلّق على ارتفاع منخفض. أقيم في قرية تطل من على مسافة كيلومتر واحد على اللؤلؤة، النصب المؤلف من 6 أعمدة، الذي بني في ثمانينات القرن الماضي ليرمز إلى الوحدة الخليجية. سرعان ما أخذت الطلقات تنهمر حوالى الساعة 3 فجراً فيما كان أغلب المعتصمين نياماً. كان الجو شتاءً والصوت يُسمع بوضوح. كتبت الكلمات الآتية في صفحتي على الـ"فايسبوك": "أسمع صوت طلقات نارية متواصلة وهدير تحليق مروحي منخفض. أعتقد أنه تتم مهاجمة اللؤلؤة الآن"، ثم انطلقت في طريقي إلى الميدان في الحال. حين اقتربت من الموقع كانت سيارات الجيب التابعة إلى قوات مكافحة الشغب وقوات الأمن الخاص تملأ كامل مساحات الكوبري المطل من فوق على ميدان اللؤلؤة إلى حد غلق حركة تدفق المرور. وكانت تطلق حمم النار بكثافة على المعتصمين. أكدت رسالتي السابقة على الـ"فايسبوك" برسالة أخرى تقول: "نعم، المعتصمون في ميدان اللؤلؤة تتم مهاجمتهم الآن. أنا في قلب الحدث". خطر لي لوهلة، أن عناصر الأمن تطلق النار من فوق الكوبري، وأنها تترك للمعتصمين خيار الفرار تحت، عبر الطرق المتفرعة من الميدان. ما جعلني أبادر إلى الاقتراب بسيارتي عبر طريق جانبي بحيث أستطيع أن أطل للحظة على الميدان. لم يتركوا لهم الفرصة للهرب، بل حوصروا من غير جهة ولوحقوا بالنار إمعاناً في إيذائهم. وقد شاهدت أعداداً هائلة من عناصر قوات مكافحة الشغب الأجنبية، وكذلك عناصر أمن باللباس المدني، يلاحقون مَن هرب من المعتصمين في الباحات القريبة، ويصبّون عليهم حمم النار. أمامي كان يجري دهس شاب والتنكيل به على الأرض على أيدي مجموعة كبيرة من قوات الأمن. آخرون منهم راحوا يدهمون الخيم ويضربون بوحشية من مكث فيها رافضاً الفرار من المكان. إحدى الزميلات الصحافيات شاهدت أمامها أحد عناصر الأمن الأجنبية يضع الفوّهة في رأس معتصم ستيني ويقوم بإفراغها فيه. وهو واحد من قتلى فجر الخميس الذين تداولت وكالات الأنباء صورته وهو مهشم الرأس تماماً. حين عدت إلى المنزل، وكان الوقت لما يزل بعد فجراً، كانت قريتنا قد تبدلت إلى لوحة قاتمة. أصوات نحيب النسوة وولولتهن من فوق سطوح المنازل راحت تبثّ صدى الذعر في الفجر. بعضهن خرجن في الأزقة معولات. ذلك كله، اختلط بصوت الرشقات النارية التي لما تزل تتوالى في الليلة الشتوية الباردة. لم أجد ما أعبّر به عن كل ذلك بسوى مشهد يوم الحشر. رحم الله قتلانا، قتلى إنجاز التحول إلى مملكة دستورية، الناس فيها مواطنون لا رعايا في مزرعة يجري نهب خيراتها
دوّار اللؤلؤة
بقلم محمود الزيباوي
اهتزّت مملكة البحرين بعد هبوب رياح التغيير من تونس الخضراء، إلى مصر، وصولا إلى اليمن وليبيا. سار البحرينيون على خطى المصريين، فجعلوا من دوّار اللؤلؤة في وسط العاصمة ميداناً للتحرير، ورفعوا أعلام وطنهم، وصبغوا وجوههم بألوانه. لكن مصر ليست البحرين، ومقارنة الدولة الكبيرة بالمملكة الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة تقتصر على هذه المظاهر الخارجية. تحتضن البحرين اليوم مقر قيادة الأسطول الخامس الأميركي، وتشتهر بأبراجها ومبانيها الحديثة. تحجب هذه الصورة المعاصرة تاريخاً ثرياً وحضارة عريقة تمتد بجذورها إلى عصور قديمة، من عهد سومر، إلى العصور الإسلامية المتتابعة. على مدى قرون طويلة، شهدت هذه الجزيرة صراعاً دولياً تبدّل أبطاله بين حقبة وأخرى، وبدت بحسب أمين الريحاني "كأنها بارجة راسية في جون متسع بين قطر والقطيف، بل كأنها عند مهد اللؤلؤ جوهرة كبيرة، فلا عجب إذا تسابق إليها الفاتحون من قديم الزمان".
تقع مملكة البحرين على الطرف الغربي من جنوب الخليج، وتحدّها المملكة العربية السعودية من الغرب، وإيران من الشرق والشمال، وشبه جزيرة قطر من الجنوب. تتكون من ثلاث وثلاثين جزيرة متقاربة تبلغ مساحتها مجتمعة أقل من سبعمئة كيلومتر مربع، الكبرى بينها جزيرة البحرين التي تشكل وحدها أكثر من ثمانين في المئة من مساحة المملكة التي سُمّيت باسمها. يتردّد هذا الإسم في كتب التراث، وهو في مؤلفات الجغرافيين العرب إسم إقليم كبير يمتدّ من البصرة شرقاً إلى عمان جنوباً، ومن اليمامة شمالاً إلى ساحل الخليج جنوباً. ذكره ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، وقال في تعريفه: "إسم جامع لبلاد على ساحل بحر الهند بين البصرة وعمان"، "فيها عيون وبلاد واسعة". تعدّدت الآراء في شرح أصل هذا الإسم، وقيل إنه يشير إلى موقع هذه البلاد بين بحر فارس وبحر عمان، وقيل إنه يرمز إلى نبع المياه العذبة وسط المياه المالحة، وقيل أيضا إن العرب "أثنوا البحر"، لوجود بحيرة "بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ"، كما نقل ابن منظور عن الأزهري في "لسان العرب"، واستعاد ياقوت الحموي هذا القول في معجمه، كما استعاده القلقشندي من بعده في "صبح الأعشى".
يصعب تحديد الحقبة التاريخية التي أصبح فيها هذا الإسم خاصاً بجزر البحرين دون شرق الجزيرة العربية. في القرن الرابع عشر، يذكر الرحّالة المغربي ابن بطوطة أنه حطّ في "مدينة البحرين، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأشجار وأنهار، وماؤها قريب المؤونة يحفر عليه بالأيدي فيوجد، وبها حدائق النخل والرمّان والأترج، يزرع بها القطن، وهي شديدة الحر كثيرة الرمال، وربّما غلب الرمل على بعض منازلها، وكان في ما بينها وبين عمان طريق استولت عليه الرمال وانقطع، فلا يوصل من عمان إليها إلا في البحر". ويبدو أن صورة البحرين لم تتغيّر عبر الزمن. تُعرَف هذه الجزيرة عند أهل الخليج بـ"أم المليون نخلة"، كما تُعرَف بـ"لؤلؤة الخليج"، ويُعتبر اللؤلؤ البحريني من أثمن أنواع الأحجار الكريمة، وذلك منذ قرون طويلة. تحدّث ابن بطوطة عن "مغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم"، وقال إن الغوّاصين يقصدونه في الربيع، "ومعهم تجار فارس والبحرين والقطيف". وذكر الكثير من الرحّالة من بعده عن هذا اللؤلؤ، ووصفوا الطرق المتبعة لاستخراجه من الأعماق. ارتبط اسم البحرين بلؤلؤها، وباتت هداياها لؤلؤية، وعندما نُصِّب أحمد شوقي أميرا للشعراء في عام 1927، كرّمه نائب حاكم البحرين الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة في دار الرابطة الشرقية في القاهرة، وقدّم اليه هدية بحرينية هي عبارة عن نخلة طولها ثلاثون سنتيمترا، جذعها وسعفها من الذهب، وثمرها من لؤلؤ بلاده.
عين الفرات
جمعت جزيرة البحرين منذ أقدم العصور بين عيون المياه الحلوة والمياه المالحة في البحار المحيطة بهذه العيون، وقيل إنها هي نفسها دلمون، التي تردّد اسمها في النصوص السومرية، وهي "أرض الأحياء" التي قصدها جلجامش باحثاً عن نبتة الخلود، و"ليس فيها مرض أو موت أو حزن". "نقي بلد دلمون، مقدس بلد دلمون". "بلد دلمون مغمور بالنور، متميّز بالإشعاع"، إليه يحمل إله الشمس "المياه الحلوة من الأرض"، ودلمون تشرب من هذه المياه بوفرة، فتنتج أطيانها وحقولها قمحاً، وتتحول مرفأ الأرض. بعد أكثر من ألفي سنة، بلغت سفن الإسكندر شواطئ البحرين وأطلقت عليها اسم تايلوس. تبدّل الإسم مع الزمن كما يبدو، وتحوّل قبيل ظهور الإسلام فصار أورال. ذكر ياقوت الحموي هذا الإسم في معجمه، وقال: "جزيرة يحيط بها البحر بناحية البحرين، فيها نخل كثير وليمون وبساتين". والبحرين كما أشرنا، هي في زمن ياقوت إقليم يمتد من البصرة إلى عمان. أما أورال، فهي الجزيرة التي عُرفت بعدها باسم البحرين. أورال، بحسب صاحب المعجم، اسم صنم على شكل ثور عبَده قديما أقوام سكنوا هذه البلاد منذ الجاهلية، وهي من بني بكر بن وائل وتغلب بن وائل. قبل ياقوت، ذكر المقدسي أورال في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وأشار إلى استخراج اللؤلؤ من المياه المجاورة لها، مما يعني أن هذه الجزيرة كانت تُعرَف بهذه الحرفة منذ نهاية القرن العاشر.
ربط البعض بين البحرين ودلمون، وربط البعض الآخر بينها وبين البحرين القرآنية. في مطلع القرن العشرين، ألّف شيخ بحريني يُدعى هبة الدين الحسيني الشهرستاني كتاباً عنوانه "الدلائل والمسائل"، وفيه تحدّث عن "عين الفرات في البحرين"، وقال: "رأيت هذه العين وشربت من زلالها العذب، وهي في نفس البحرين وليست في بحيرة. نعم هي حول قرى البحرين بقرب بلدة محرّق. وهذه العين ذات قوة في دفع معينها إلى نحو خمسين قدماً من خلال ماء البحر الأجاج المالح. والمرجّح عندي أن معينها ينزل من جبل بندر عباس غائراً في تجاويف صخرية بباطن الأرض إلى أن تنفجر من لدن البحرين". هذه العين هي التي أشار إليها القرآن في "سورة الرحمن" (19-22): "مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان. فبأي آلاء ربكما تكذبان. يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان".
تبدّلت أحوال جزيرة البحرين على مر العهود الإسلامية، غير أن صورتها الأولى لم تتغير. كتب أمين الريحاني في "ملوك العرب": "ليس بين مسقط والبصرة أجمل من مركز هذه الجزيرة، وليس أصلح منه للتجارة أو الحرب، فهي تتوسط الخليج في زاوية معينة منه، كأنها بارجة راسية في جون متسع بين قطر والقطيف، بل كأنها عند مهد اللؤلؤ جوهرة كبيرة، فلا عجب إذا تسابق إليها الفاتحون من قديم الزمان". شهدت البحرين صراع العباسيين والقرامطة في نهاية القرن العاشر، ثم تناوب على حكمها عدد من السلالات العربية، بعدها خضعت لحكّام فارس من الأتراك، وسيطر عليها حكّام هرمز حتى أوائل القرن الخامس عشر حيث تمكنت قبيلة الجبور من بسط سلطتها على بلاد الإقليم كلها، غير أنها لم تنعم طويلاً بهذا "الاستقلال". بلغ البرتغاليون الخليج في تلك الفترة، وباتت جزر البحرين تحت سيطرتهم على مدى ثمانية عقود، ثم خضعت للدولة الصفوية، وعانت طويلا من الحروب المتواصلة بين الصفويين "الشيعة" والعثمانيين "السنّة".
عام 1783، قامت قبائل العتوب بقيادة أسرة آل خليفة في قطر بهجوم بحري على البحرين، ونجحت في السيطرة عليها. واختلفت الآراء في تحديد نسبة هؤلاء العتوب، والشائع أن الإسم جمع "عتبي"، وهو حلف يضم أفخاذاً كثيرة تنتمي الى مجموعة من القبائل قدمت من نجد واستقرت على ضفاف الخليج، وتصاهرت في ما بينها حتى أصبحت تشكل حلفا يُعرَف بـ"العتوب". من هذا الحلف القبلي، تفرّعت أسرة آل خليفة في البحرين، وأسرة آل الصبّاح في الكويت. استقلّ آل خليفة بالبحرين، ودخلوا في صراع مع ما يُعرَف بـ"الدولة السعودية الأولى"، وتجدد هذا الصراع بعد قيام "الدولة السعودية الثانية"، في زمن امتداد نفوذ الأمبراطورية البريطانية إلى الخليج العربي وتحوّل المنطقة "بحيرة بريطانية". اعتبر الإنكليز البحرين "إمارة مستقلة"، وأرسلوا أسطولاً لحمايتها، وعقدوا سلسلة من المعاهدات مع شيوخ ساحل الخليج، فصار يُعرَف بـ"الساحل المعاهد". عام 1861، وقّعت بريطانيا مع البحرين "معاهدة سلام وصداقة دائمة"، وفي عام 1869، وقّعت معاهدة حماية مع الشيخ عيسى آل خليفة، وبهذه المهاهدة تمّ تأكيد سلطة آل خليفة على البلاد. ظلت البحرين محميّة بريطانية حتى 14 آب من عام 1971، حين أصدر الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة بياناً أعلن فيه استقلال البحرين وانهاء جميع المعاهدات السياسية والعسكرية التى تنظّم علاقات التحالف بين حكومة البحرين والحكومة البريطانية، معلنا بذلك البحرين دولة عربية مستقلة ذات سيادة. في اليوم التالي، تم تشكيل أول مجلس للوزراء في البلاد في رئاسة الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، وباتت دولة البحرين عضواً في جامعة الدول العربية. بين توقيع معاهدة الحماية البريطانية وإعلان استقلال الدولة، جاهرت إيران مراراً بحقّها في حكم البحرين. وفي عام 1970، أٌجريَ تحت إشراف الأمم المتحدة استفتاء صوّت فيه البحرينيون لبقاء البحرين مستقلة عن إيران.
التحوّل الكبير
تغيّرت معالم البحرين بشكل جذري في النصف الثاني من القرن العشرين، وجاء هذا التحول بعد اكتشاف البترول في أرضها عام 1932. استمر تدفق النفط، ونتجت من ذلك التدفق قفزة عظيمة في اقتصاد البلاد، وحركة عمرانية متسارعة تمثلت في ارتفاع الأبراج وناطحات السحاب وسط المنامة. رافقت هذا النمو انتفاضات عمالية، أولاها إضراب في العام الذي بدأ فيه تدفق البترول، وتلاه إعلان للعصيان في عام 1956، وصدام دموي في 1961، وتوقف الحياة البرلمانية في 1975. استقر الوضع في الثمانينات، وتوطّدت سلطة آل خليفة على الدولة. أُعلن الشيخ حمد بن عيسى أميراً على البحرين في آذار 1999، وتحولت البحرين مملكة في شباط 2002، بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني.
سار البحرينيون على خطى المصريين، وهم في غالبيتهم العظمى من الشباب الثائرين ضد القمع والفساد والحكّام العجائز. تعكس هذه الانتفاضة الجديدة صراعاً قديماً يتجلّى في قراءتين متباينتين لتاريخ هذه المملكة. ترى القراءة الأولى أن البحرين تحولت في العصر الحديث من مستعمرة إيرانية إلى إمارة عربية يحكمها آل خليفة الذين بنوا أسطولها التجاري ورعوا نموّها الإقتصادي. بينما ترى القراءة الثانية أن السلالة الحاكمة ما هي إلا أسرة دخيلة وفدت من "الخارج" واستولت على البحرين بفضل البريطانيين، وذلك منذ 1783 إلى يومنا هذا. تتحكم هذه الأسرة السنّية المذهب بشعب غالبيته الساحقة من الشيعة العرب، ويحيي هذا التسلّط صراعاً مستديماً يستمر منذ قرون. في زمن المماليك، مرّ ابن بطوطة بمدينة البحرين، ومنها قصد القطيف، وهي اليوم مدينة سعودية تقع في المنطقة الشرقية، في المحافظة التي تحمل اسمها، وكانت في أدوار مختلفة عاصمة للإقليم الذي عُرف قديماً باسم البحرين. توقف الرحّالة الآتي من طنجة في هذه المدينة، فوجدها "كبيرة حسنة ذات نخل كثير يسكنها طوائف العرب، وهم رافضية غلاة، يظهرون الرفض جهاراً لا يبقون أحداً، ويقول مؤذّنهم في أذانه بعد الشهادتين: أشهد أن علياً وليّ الله، ويزيد بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، ويزيد بعد التكبير الأخير: محمد وعلي خير البشر ومن خالفهما فقد كفر". يعلو صوت المعارضة في البحرين، بينما يتخوف الخليج من امتداد "الانتفاضة الشيعية" إلى المنطقة الشرقية من السعودية حيث يعيش نحو مليوني نسمة من الشيعة. ونجد أقليات شيعية في دول خليجية أخرى، مما يزكّي هذا التخوّف ويزيد من حدته.
يجدر القول هنا إن التظاهرات البحيرينة الأخيرة خلت من الشعارات "الإيرانية" الطابع، كما إنها لم تطالب بخلع النظام، واقتصرت مطالبها على المناداة بملكية دستورية حقيقية، وببرلمان منتخب من الشعب. وتبدو هذه المطالب محقة تماماً في ظل حكم يستند الى مجلس شورى يتولى أعضاؤه الذين يعيّنهم الملك الصلاحيات التشريعية الأساسية، وحكومة نصف أعضائها من عائلة آل خليفة المالكة. عام 1999، أطلقت السلطة مشروعاً إصلاحياً ترافق مع إطلاق حرية النشاط السياسي، ألا أنها عادت في عام 2002 وأدخلت تعديلات على الدستور شكّلت نكسة لهذا المشروع الإصلاحي. السؤال اليوم: هل تستعيد هذه السلطة المبادرة وتؤسس نموذجاً للانتقال إلى ملكية دستورية حقيقية تتوافق مع الديموقراطية في أبسط معانيها، أم تستمر في سياستها القديمة؟ في انتظار ما ستحمله الأيام، لا نملك سوى أمنيتنا بأن لا تسقط هذه الاحتجاجات المشروعة في المذهبية وتتحول حلقة أخرى من حلقات صراع ديني لا ينتهي
ما قبل المجزرة
بقلم باسمة القصاب
الثلثاء 15 فبراير 2011
طفلة صغيرة لا تتجاوز الخامسة، تجلس عند خيمة صغيرة مفروشة لحمايتها من البرد، تحمل لافتة كُتِب عليها "نحن أهل سلم". آخر يحمل علماً كبيراً للبحرين، يفوق طوله بكثير، تكاد لا تلحظه لولا أن ترى علماً يبدو كأنه يتحرك وحده. فتيات يلتففن حول مجموعة من الأوراق البيضاء الكبيرة، يكتبن عليها شعارات باسم الوطن. شبان يفترشون الأرض، بعد صباح طويل، يتناولون وجبة خفيفة، أسألهم: وماذا عن نظافة المكان؟ يقولون: الفضلات نلقيها في هذه الأكياس، لا تقلقي فالنظافة أولاً. ابتسم وأغادر. تلك بعض التفاصيل القريبة. لكن ما إن ترفع بصرك قليلاً، حتى تجد حولك ألوفاً، وقوفاً، يتحلقون حول شعارات وهتافات تصدح في دوّار اللؤلؤة، الدوّار المركزي في العاصمة الذي صار يوصف الآن بميدان تحرير البحرين، أو ميدان اللؤلؤ.الآن عصر 15 فبراير. المحتجون وصلوا قبل قليل إلى الدوّار قادمين من مراسم دفن الشاب علي مشيمع، الذي قُتل برصاص الأمن إثر خروجه في مسيرة احتجاج سلمية أمس. الصباح كان ملتهباً وغاضباً. السخط الشبابي على رجال الأمن بلغ أقصاه، انفجر بعد قتل شاب آخر هو فاضل المتروك في مسيرة تشييع الأول وسقوط جرحى. صار الأمر أكثر هيجاناً. الجميع يصر على عبارة "سلمية"، لكن الشعارات لم يكن ممكناً كبح جماح غضبها.
بعد عنف الأمن المتواصل من صباح 14 حتى صباح 15، انسحب رجال الأمن. تزامن ذلك مع خطاب الملك الذي أبدى أسفه على فقد الشابين وأمر بتشكيل لجنة تحقيق. الإنسحاب بدا مراجعة من الحكومة لعنفها، أو محاولة لامتصاص الغضب الذي بلغ سقفاً عالياً جداً. تُرك للمحتجّين أن يعلنوا شعاراتهم في دوّار اللؤلؤة. كانت هادرة ومنفعلة. مكبّرات الصوت لم تحضر الى الميدان بعد. جماعات كثيرة تتوزع المكان، كلٌّ منها تهتف بغضب.
لا تبدو الشعارات معبّرة عن المطالب الأولية التي دعت إليها البيانات السابقة لـ14 فبراير. المطالبة بـ"اصلاح النظام" تحولت بعد أحداث اليوم الأول مطالبةً بـ"اسقاط النظام". هذا عن الهتافات المتفرقة. لكن ماذا عن البيانات التي تمثل المعتصمين؟ لا تزال الرؤية غير واضحة في ذلك الصخب. لا شك في أن الألوف التي افترشت دوّار اللؤلؤة والمنطقة المحيطة، استلهمت الكثير من ثورة ميدان التحرير في مصر. سلمية الحركة هي الإلهام الأكبر. مع المساء كان ثمة تنظيم قد بدأ. مكبّرات الصوت تحضر إلى الميدان. يتشكل مسرح يلتفّ حوله المعتصمون والمشاركون. تختفي التجمعات الصغيرة هنا وهناك. يتحوّل الجميع نحو مركز واحد حول نصب اللولؤة. يُعلَن بدء تشكيل لجنان منظمة. يُدعى الجميع الى المشاركة. تُنصَب بعض الخيم. يُعدّ مسرح للخطابة. تُوضَّب شاشةٌ للبث المباشر. تُوفّر بطانيات ووجبات طعام. تبقى الشعارات التي تحتاج إلى أن تنفض عنها ارتجالها المنفعل. أن تأتي في مقياس يتسع للتنوع والتعدد والاختلاف. أن تأتي محمولة على قلب وطن. ثمة من يعد (من فوق المنصة) بتوحيد الشعارات وتقنينها. الوصول إلى الدوّار يصير أكثر صعوبة. كذلك الخروج. شباب ينظّمون حركة السيارات. يبدو الجميع كأنه يتقبل الازدحام بروح مرحة. المكان يبدو أريحيا على رغم سخونة الشعارات وانفلاتها. الوجوه تبدو أقل تجهماً وأكثر تبسماً. ربما شعور بأن شيئاً من الغضب أزاحته القدرة على التعبير. ثمة ما يوحي بأن الناس هنا بدأوا يتنفسون. الأهم، أن لا رجال أمن يهددون الكلام. الطقس يلهم الأنفاس أن تستحضر قلب الوطن.
الأربعاء 16 فبراير 2011
يوم قبل المجزرة. يصلّي المعتصمون سنّةً وشيعة، صلاة ظهر واحدة، صفّاً واحداً لا صفّين. اللؤلؤ يحمي ظهورهم، وفي عيونهم فضاء وطن. الشبان يعيدون طلاء نصب اللؤلؤة. أمس، كتبوا انفعالاتهم الهائجة بعد عودتهم من دفن الشهيد الأول. كتبوا: الشعب يريد إسقاط النظام. كتبوا: الله خلق الإنسان ليعيش حراً. لكنهم اليوم أكثر تعقلاً وأكثر هدوءاً. ها هم يعيدون النصب الى بياضه، بل يزيدونه نصوعاً لؤلؤياً.تمر مسيرة مناوئة تهتف باسم النظام. تحمل أعلام البحرين. من طريق الدوّار تحديداً تمرّ، حيث المعتصمون. إستفزازاً؟ ربما. هتافات تناقض هتافات معتصمي الميدان. تتعالى الأصوات. الشباب المعتصمون يتجهون نحو مناوئيهم: "سلمية سلمية"، يقولون. يمدّون اليهم شيئاً من الحلوى. يبتعد المناوئون عن الطريق. قبل المجزرة بساعات أرى خيمة تجلس عند بابها سيدة أجنبية. تجلس وحيدة وسط هذه الحشود المجتمعة. ألتقط لها صورة. تبتسم. أسألها ما إذا كانت صحافية، فتهز رأسها بالنفي: فقط أعيش هنا في البحرين. كيف ترين الحدث؟ أسألها. بانفعال سعيد تقول: رائع ما أرى، جميل هذا الحراك، الناس رائعون ولطفاء، أنا سعيدة بوجودي هنا.قبل المجزرة بساعات أيضاً، ألتقط صورة لفتاة تحمل حاسوبها الشخصي وتستند إلى جذع شجرة. ترافق عائلتها التي تجلس في طمأنينة بسيطة. قريباً منها، أرقب لجنة الاسعافات الأولية تعدّ نفسها. تنظّم أدويتها وأدواتها وترتدي ما يشير إليها. تتخذ لها مكاناً صغيراً، وخيمة. شبان وشابات في لباسهم الأبيض يجهزون لطارئ بسيط يأتي. هل كان أحدهم يتوقع لوهلة، أن الطارئ الذي سيأتي فجراً بعد ساعات قليلة، لن يحتمله مجمع طبي كامل (السلمانية)، وسيفزع له طاقم طبي كامل؟!قبل المجزرة بساعات أيضاً، بالكاد أستطيع الحركة داخل الدوّار. أخيراً أصل الى المنصّة بعد جهد وزحام. كلما اقتربت صار الزحام أشدّ، والحركة أصعب. المنصة هي هدفي عصر ذلك اليوم. مكّنني من الوصول، توقف الهتافات استعداداً للصلاة، وانفضاض الناس إلى حد ما عن المنصة. أطلب الإلتقاء بأحد المنظّمين. يسألني أحدهم: أي صحيفة تمثّلين؟ أجيب: صحافة حرة تمثّل نفسها. يأتيني أحد الشباب. نأخذ طرفاً من الحديث. أسأله في كثير من الأمور. أقف أكثر عند الشعارات التي تبدو منفلتة وغير مروّضة. يخبرني أنهم يعملون على التقنين. يشرح لي صعوبة التحكم في انفعالات الغاضبين: "للمرة الأولى نعيش تجربة كهذه. العدد كبير. وصل أمس في ذروته إلى ما يقارب 40 ألفاً. صعب أن نتحكم في الشعارات والهتافات الصادرة من هذا الجمع كله. نحتاج قليلاً من الوقت لنسيطر على الإنفعالات ونوجهها. نعد بذلك". أسأله الى أين تذهبون بشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"؟ يؤكد: "لا يتجاوز إسقاط الحكومة، نريد مملكة دستورية. هذا سقفنا المتفق عليه. الناس لبسهم الشعار لفرط ما ثبّتته التجربة المصرية. نحن نعمل على توجيه الشعار وتعديله بما يتناسب مع مطالبنا. لا نحتاج سوى الى قليل من الوقت".لكن الشعار لم يدرك الصباح ليصير مقنناً، ولم يدرك الميدانَ الصباحُ ليغسل وجهه بالضوء، ولم يوقظ النيامَ سلامُ الأذان، فقد كان الليل يخطط لاغتيال الفجر
المشهد المصري... في صنعاء -
بقلم نبيل سبيع
للوصول الى ساحة التغيير في العاصمة اليمنية صنعاء حيث يعتصم آلاف المطالبين بسقوط نظام الرئيس علي عبدالله صالح منذ الأحد الماضي، عليك المرور بسياجين أو ثلاثة من الشبّان الذين يتولّون تفتيش الداخلين ذاتياً وبعناية بحثاً عن أي سلاح ناري أو أبيض أو حتى هراوات. لا يبدو هذا المشهد المصري الوحيد في الحدث اليمني الرئيسي الجاري اليوم، بل هو يجري في مدخل مشهد مصري ثانٍ يحاول جاهداً تجنّب مشهد مصري ثالث يمكن حدوثه في كل لحظة.
اليمن ليست مصر، هي العبارة التي ترددت على ألسنة الأطراف كافةً هنا. ويبدو الرئيس صالح وإعلامه الطرف الأكثر ترديداً لها، في وقت لا يقول فيه مطالبوه بالتنحي عن السلطة التي يهيمن عليها منذ نحو 33 عاماً، إن اليمن هي مصر. غير أن مناوئيه لا يقيمون اعتصاماتهم بطريقة مصرية قدر ما يقوم نظامه بقمعهم على أيدي "مؤيدين" من نوعية "مؤيدي" الرئيس المصري المخلوع.وقد تكررت مشاهد هجمات "البلاطجة" التي شهدها ميدان التحرير في القاهرة، في ساحة التغيير بصنعاء صباح الثلثاء الفائت، بعد تعرض المعتصمين لهجوم بالسكاكين والهراوات والحجارة على أيدي العشرات من "مؤيدي" صالح، انتهى بسقوط سبعة جرحى وسط المناوئين، بعضهم إصابته خطيرة. وكما حدث في مصر، أحرق المحتجّون إحدى السيارات التي استخدمها "البلاطجة" في الهجوم، وألقوا القبض على أحدهم ثم قاموا بتسليمه الى قوات الأمن. وفي حين يبدو نظام صنعاء كما لو أنه يستخدم نسخاً طبق الأصل من أدوات القمع المصرية، فإن الاحتجاجات الجارية في بلد مسلّح كاليمن تحاول كما يبدو أن تصل الى خط النهاية بقدمين مصريتين من الإصرار على تحقيق مطلبها وطابعها السلمي.شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، الذي انتجته الثورة التونسية وترجمته الى واقع في 23 يوماً، ثم تلقفته الثورة المصرية وترجمته بدورها الى واقع في 17 يوماً، ينتشر مع عدد من الشعارات الأخرى التي صدّرتها الثورتان الى اليمن، جنباً الى جنب مع العديد من الشعارات المحلية على جدران الساحة واللوحات الثابتة الواقفة فيها، ويمكنك قراءة بعضها على ملابس بعض المعتصمين ووجوههم وأجسادهم. فجر الاثنين الماضي، كان أحدهم يدور بعلم كُتب عليه "ارحل يا علي" (يقصد الرئيس اليمني)، وهي العبارة التي تقرأها على ظهره مكتوبةً فوق جاكيت صفراء كان يرتديها، كما على بنطاله الجينز الأزرق.
بالعربية والانكليزية
كلمة "ارحل" هي الأكثر حضوراً في ساحة التغيير، مكتوبة أكانت أم منطوقة، إذ يرددها المعتصمون كفاصل بين الشعارات والخطب التي يلقيها قادة طالبيون وسياسيون. على جبينه، وبخطّ أحمر، كتب طفل في الثالثة عشرة من عمره كان موجودا في الساحة مساء الاثنين، كلمة "ارحل"، بينما خطّ على خده الأيمن مرادفها الانكليزي "GO OUT"، ورسم على الأيسر العلم اليمني الذي يتألف من اللون الأحمر والأبيض فالأسود من الأعلى. وحين توقفتُ لالتقاط صورة لوجهه، لفتتني الكلمة مكتوبةً على ذراعيه أيضاً، بالعربية على ذراعه اليمنى وبالانكليزية على اليسرى.لا تحضر كلمة "ارحل" جنباً الى جنب مع مرادفها الانكليزي "GO OUT" في وجه الطفل فقط، وإنما على أرض الساحة الاسفلتية أيضاً، حيث خُطّت كل منهما أكثر من مرة وباللونين الأبيض والأصفر.
لغة ثالثة
قد يبدو حضور المفردات الانكليزية في ساحة التغيير أمراً مفهوماً بالنظر الى عالمية هذه اللغة، لكن هناك لغة ثالثة حضرت بقوة في قلب الساحة من خلال كلمة وحيدة مهيمنة، حيث خطّت باللون الأبيض وبحجم أكبر من حجم أي كلمة أخرى: "Degage" التي تعني أيضا "ارحل" ولكن باللغة الفرنسية. فجر الاثنين، كان شابان يبدو أنهما نالا قسطاً من تعلم الانكليزية، يقفان عليها ويتأملانها باستغراب ويتداولان حديثاً حولها، حين اقتربتُ منهما ليبادراني بالسؤال عن معناها.لا يبدو حضور كلمتي "Degage" و"Go out" في قلب ساحة اعتصامات العاصمة صنعاء آتيا في سياق سعي المحتجين اليمنيين الى مخاطبة الغرب قدر ما يبدو في سياق آخر. أكثر من كونهما جزءاً من اللغتين الانكليزية والفرنسية، يبدو أن هاتين الكلمتين أصبحتا جزءاً من الثورتين التونسية والمصرية. وعلى الرغم من أن حضورهما يذكّرك أكثر بالفقر التعليمي الذي يعاني منه هذا البلد حيث تبلغ معدلات الأمية أعلى مستويات لها في الشرق الأوسط، إلا أنهما تقدّمان لنا لمحة قوية على برق الحداثة الذي يومض الآن بشدة كوعد قوي يمكن البناء عليه في سماء اليمن.لا تهيمن الثورتان التونسية والمصرية على وجه الاحتجاجات اليمنية المطالبة بإسقاط النظام وجسدها فحسب، وإنما على قلبها وروحها أيضاً. فعدا الشعار وأسلوب التعبير، أثّرت هاتان الثورتان في سلوك الأفراد المعتصمين كما يبدو من خلال قيامهم بالمبادرات الطوعية، كتولّي أعمال النظافة والتشارك في الأكل والمشروبات والبطاطين في ما بينهم. قد يبدو هذا مفهوماً على أنه تعبير عن الأثر البليغ الذي أحدثته الثورتان وسط شباب يمنيين من أبناء المدن المتعلمين الذين تتيح لهم شروط حياتهم فرصة للإطلالة على العالم، لكن هذا بالذات ما لم أخرج به من ساحة التغيير في أول ليلة أمضيتها هناك.
أبناء القبائل كانوا هنا
على العكس تماماً من ذلك، فإن كل من شاهدتهم يتطوّعون لأعمال النظافة، كانوا من أبناء القبائل الأكثر فقراً من أبناء المدن. لا يزال من المبكر جداً قياس الأثر الذي أحدثته ثورتا البلدين المتقدمين جدا في هذا البلد، لكن ساحة التغيير غنية بالمؤشرات القوية الى الغد اليمني الذي جاء المعتصمون من مختلف أحياء صنعاء كما من غالبية مناطق البلاد، من أجله. يقول شاب ينتمي الى قبيلة خولان، وهي إحدى القبائل اليمنية القوية في محيط صنعاء: "لا أستطيع الصبر حتى رؤية ثورتنا تنجح، ولم أعد قادراً على التفكير بأنني لا أزال أعيش في عهد علي عبدالله صالح. أصبح تفكيري كله يدور كأنني أصبحت في مرحلة ما بعد علي".بالنسبة الى عبدالله الذي يسير في منتصف العشرينات من العمر، فإن مرحلة ما بعد علي عبدالله صالح التي بدأ يعيشها من الآن، هي مرحلة الديموقراطية الحقة التي يكون فيها لصوته قيمة حاسمة وللشعب سلطة محاسبة حكّامه ومعاقبتهم. وقد لا يبدو عبدالله معيارا للقبلي اليمني، إذ ينتمي الى الطبقة الوسطى إن جاز لنا القول بوجود هذه الطبقة في بلد كاليمن، وهو متعلم أنهى تعليمه الجامعي، وإبن ضابط عسكري كبير شغل منصباً رفيعاً في الجيش اليمني (الشمالي) في سبعينات القرن الماضي حين كان تحصيل العلم والثقافة العامة لا يزال يشكل أمراً محموداً ومكوّناً من مكوّنات الشخصية العسكرية المرموقة. غير أن ما أتى الى هنا لأجله لا يختلف كثيرا عما أتى لأجله شاب من جيله ينتمي الى القبيلة نفسها، أمضى حياته كلها تقريباً في منطقته التي تفتقر الى كل مقومات الحداثة. يقول أحمد بكلماته الخاصة: "لسنا ملك علي عبدالله صالح وأسرته. نريد دولة عدل وقانون وديموقراطية".وصل أحمد ضمن مجموعة تألفت من العشرات قدموا من منطقتهم الواقعة في محيط العاصمة تحت قيادة شيخ قبيلتهم الشاب الى هذه الساحة، لغرض الاعتصام السلمي المطالب بإسقاط نظام صالح الذي يحجز مواقع متقدمة للغاية في صدارة أنظمة الحكم الأشد فساداً على مستوى العالم. ناصر بن شريف، شيخ قبيلة بني ضبيان، أعلن تأييده للتظاهرات الشبابية السلمية التي اجتاحت البلاد في أعقاب سقوط نظامَي الديكتاتورين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، قبل أن ينضم الى حركة الاحتجاجات السلمية في أول مشاركة من نوعها له ولقبيلته في تظاهرات سلمية. وكان الشيخ الشاب قد أيّد الاحتجاجات في سياق إدانته لأعمال القمع التي تعرضت لها من السلطات على أيدي "بلاطجة" يعملون لحساب الحزب الحاكم.تحضر بني ضبيان في مقدمة القبائل الشمالية القوية الشهيرة بالقتال. شأنها شأن سائر القبائل اليمنية المحاربة، فإن الاعتصام السلمي يبقى خارج الأساليب التي تلجأ اليها، سواء للاحتجاج أو للمطالبة التي اتخذت وجهين بارزين عبر العصور: الأول، سلمي يتم عادةً من خلال مؤتمر قبلي يدعو اليه شيوخ القبائل ويخرج بقرارات ملزمة لأفراد القبائل أو الدولة في بعض الحالات. والثاني، مسلح ويتخذ أشكالا عنفية مختلفة. لا يبدو انضمام هذا الشيخ الى الاحتجاجات السلمية في صنعاء مؤشرا الى تحوّل مهم في أسلوب الاحتجاج والمطالبة لديه وحده، بل إن هذا التحول أتى في سياق تحوّل عام تشهده القبيلة في اليمن ويبدو أنه من ثمار ثورتَي تونس ومصر.
قبائل من أجل التغيير
"قبائل من أجل التغيير السلمي"، هي المبادرة التي أُطلقت الأحد الماضي استجابة لنداء وجهه تحالف "وطن"، "نساء من أجل السلم الاجتماعي"، الذي خاطب الأبناء والشيوخ والعقال في قبائل اليمن بقوله: "نحن نؤمن أنكم كرماء، شرفاء، أعفاء وأن ما يحدث باسمكم ما هو إلا أمر تبرأون منه وتنكرونه، وثقتنا كبيرة بأنكم لا تقبلون إلا بتاريخ يشبهكم ويشبه اليمن وأهله. لكن هذا لن يكون إلا بوقفة جادة منكم تضع حداً قاطعاً وفوريا لسياسة البلطجة التي لا تستهدف إهانة الشباب والنساء والأطفال فحسب، بل تستهدف قبل ذلك إهانة سمعة القبيلة اليمنية ومكانتها على مر العصور". واستحثّ النداء القبائل قائلاً: "الأنظمة والحكّام يرحلون، هذه سنّة الحياة. لكن ما يبقى هو تاريخ الناس والقبائل والشعوب، إن كانت مواقفهم كريمة فسيكون تاريخهم أكرم، وإن كانت غير ذلك فتلك هي الخسارة والرحيل الكبير كما تعلمون".المبادرة، التي أتت مذيّلة بتواقيع 12 من أبرز مشائخ القبائل اليمنية وانضم اليها في اليوم التالي العشرات من الشيوخ، أشّرت الى بداية تحول جذري في علاقة القبيلة بالسلاح في اليمن وايمانها بالتعبير المطلبي السلمي. وقال البيان: "نحن مجموعة من مشايخ مأرب والجوف وصنعاء وذمار والبيضاء، مبادرة "قبائل من أجل التغيير"، تتمثل في أن ترسل كل قبيلة من القبائل المؤسسة أو المنظمة لهذه المبادرة مجموعة رمزية لا تقل عن خمسة شباب كحد أدنى وتزداد إلى خمسين شاباً من أبنائها أو أكثر بحسب ظروف كل قبيلة للانضمام إلى طلبة الجامعة والاستمرار معهم في المشاركة الدائمة في الاحتجاجات حتى تؤتي ثمارها المرجوة"، مؤكداً "أن المشاركين من جانب المبادرة عزّل من السلاح أو الهراوات شأنهم شأن كل المحتجين سلمياً بشكل حضاري وفق الدستور. وليكن هذا واضحا ومعلوما للجميع. وكل ما نستطيع أن نقوم به أن نقدّم أبناءنا جنبا إلى جنب بصدور عارية مع إخوانهم الشباب المحتجين، فكلنا أبناء وطن واحد لنا الجذور نفسها ولنا التطلعات نفسها ونعاني المعاناة نفسها".وانتقادا لموقف المعارضة الذي بات مترنحا بين اعلان الوقوف مع المحتجين سلمياً لإسقاط النظام وبين إعادة محاولة الحوار مع الرئيس صالح، نشرت "مأرب برس"، وهو من أبرز المواقع الصحافية في اليمن مقالا بعنوان "فيما القبائل بصدور عارية في صنعاء، المعارضة في اليمن: هل رأى الشعب سكارى مثلنا؟". لقد أصبح موقف القبيلة اليمنية في هذه الثورة محموداً وذا صدى سياسي واعلامي وشعبي يمكن ملاحظته ليس على عناوين الاخبار والمقالات ولكن أيضا في تعليقات متصفحي الـ"فايسبوك" شباناً وشابات ومن كل الطبقات المتوسطة على الإجمال. هذا التحول نحو التعبير السلمي والتظاهر الديموقراطي يشهده الإسلام الوهابي المتشدد، فقد كان موقف الزنداني السياسي متذبذبا في ما يخص أساليب التغيير التي صرح بوجوب أن تأتي من طريق الاصلاح والحوار وصناديق الاقتراع، إلا أنه دينيا قال "إن مهاجمة الشرطة والأمن اخوانهم المتظاهرين حرام ولا يجوز". وفي ساحة التغيير تلفت الزائر مشاركة عدد من طلاب جامعة الإيمان بلحاهم الطويلة، وقمصانهم القصيرة. التحول نفسه يشهده الاسلام الزيدي المتشدد متمثلا في بيان الحوثي الذي تبنّى التغيير السلمي وأعلن مسيرات سلمية خرجت في العديد من مديريات محافظة صعدة للتضامن مع الشباب المحتجين في مختلف المحافظات اليمنية في يوم 21 فبراير. ويحضر الآن الحوثيون جنبا الى جنب مع طلاب جامعة الايمان واليساريين والاصلاحيين المعتدلين والقوميين في ساحة واحدة سمّوها "ساحة التغيير".هناك تحول مهم في العلاقة بين القوى الاجتماعية والسياسية المسلحة، والديموقراطية، التي ظلت مناوئة لها على الدوام. انها تندفع اليها بسلاسة واقتناع كاملين نحو نبذ الخلاف والعنف.ومثلما يبدو أن مفردتي "Degage" و"Go out" لا تحضران في ساحة التغيير باعتبارهما جزءاً من اللغتين الفرنسية والانكليزية قدر اعتبارهما جزءا من الثورتين التونسية والمصرية، يبدو أن الديموقراطية وجدت طريقها أخيرا إلى ساحات القوى التي ظلت في منأى عنها في اليمن والعالم العربي باعتبارها مفردات مناوئة لها كالقبيلة أو المذهبية والطبقية والانتماء المناطقي
"تويتر" من أجل ليبيا -
بقلم سامر أبو هواش
عجقة -
بقلم ريمون جبارة
كذّاب كل عربي يدّعي أنه ضجران. العالم العربي هو وحده الضجران. ليصطفل. فنحن لسنا مسؤولين عنه. الله هو المسؤول ربما، لأنه لم يوفّقه برؤساء دول كالذين وفّقنا بهم. مصيبتنا أن العالم المتمدن، كي لا أقول الديموقراطي، اصابنا بعينه الحسودة فشقلب أوضاعنا. بدأت الشقلبة بالرئيس زين العابدين. يومها استنكر الرفيق معمّر ما يجري ضد زميله بن علي، ربما لحدس عنده ان دوره لا بد آتٍ. اشتعلت ليبيا بقسوة لم تعرفها تونس ولا مصر، ولا قسوة الحلفاء عندما دمّروا برلين بطائراتهم التي حملت القنابل آخر موديل. سمعنا ان فيدجي ستتحرك من غير شر، وكذلك السودان، وليست بعيدة عنها ابنة عمّنا ايران التي منذ اسبوعين انبسط حكّامها لما يجري في الدول العربية لغرض في نفوس يعقوباتهم. لم يطل الوقت حتى سمعنا ان الشعب الايراني يتحرك بدوره. في ايران، ابنة العم، تتحرك الاشياء من غير ان نشوفها، فالامور فيها تجري عالسكّيت، فلا مصوّر تلفزيوني اجنبي يبادلون به ضيوفاً ايرانيين في السجون الاجنبية.
وإذا قست ليبيا القذافي على شعبها من دون تمييز، فإن الجمهورية الاسلامية قست على الزعماء الاحرار فيها. كروبي وموسوي هما في نظر المرشد الإيراني خائنان يجب اعدامهما. لا نقول هذا الكلام للتشفي، فنحن نعتبر ان حذاء طفل، أياً تكن هويته، هو افضل من الف فوهرر شقعوا بعضهم فوق البعض. على ذكر الفوهرر، اتذكره اليوم بعدما شاهدت وثائقياً يروي تسلّقه الى السلطة على احدى القنوات، وهو يخطب في الشعب الالماني او يستعرض آخر فوج خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كان هذا الفوج من الشبان الذين لم يتجاوزوا العشرين من العمر. ومن غير ان اكون طبيب اعصاب، حكمت ان الرجل مجنون، ومثله نيرون وكاليغولا. واذا كان هوس نيرون مشاهدة روما تحترق، فإن سبب حقد هتلر على اليهود أنهم كانوا يسيطرون على صالات عرض الفنون التشكيلية، وهو كان يرغب في ان يصبح فنانا تشكيلياً ولم توافق أي صالة على عرض أعماله. لذلك عندما سيطر على المانيا كان الشعب اليهودي اول ضحاياه. لذلك حبذا لو يعمد حكماء كل شعب الى قياس صحة عقل كل من يرون فيه طامحاً الى قيادتهم يوماً ليتخلصوا منه قبل ان يتخلص هو منهم ومن اولادهم، حتى لو بقي العالم بلا حكّام. أما كان العالم اكثر هناء بلا عيدي امين دادا ونيرون والأخ معمر وآلاف النيرونيين الصغار الذين لم يذكرهم التاريخ او خاف ان يذكرهم، تاركاً للتاريخ المقبل هذه المهمة؟!
عزاؤنا ان الله يحضّر لهؤلاء المجانين نهاية تليق بهم.
في ضيعتي قصر كبير كان يملكه رشيد بك جبارة، الذي اخبرتني جدتي عنه انه كان متزوجا من كونتيسة فرنسية. وفي زمن الفرنسيين صار رشيد بك فرعوناً صغيراً على اهل الضيعة والجوار، فكانت جدتي واخوها (خال امي) يعملان في قصر البك لقاء طلمية (ما يشبه رغيف الخبز) في اليوم، وكان البيك اذا أعجبته عتبة بيت، هدم ذلك البيت ليضع يده على العتبة تشبيحاً وينقلها الى قصره. ماتت الكونتيسة قبله، وعندما مات اشتهى لقمة الخبز في آخر ايامه. هكذا اكتملت عدالة الله. فليطمئن الله الضحايا الذين ماتوا قبل البك
النهار الثقافي27 3-2011
ولّت أزمنة الطاعة
أحمد الملا (السعودية)
2011 عام الحرية، ليس في الشرق العربي بل إلى العالم أجمع، درس تلو درس وربما لن تتوقف العجلة إلا بتحرير شعوب وأوطان يختمر غضبها الآن في كل ميدان.شعلة البوعزيزي في سباق تتابع تنتقل من يد الى أخرى نحو الحرية. الاحتجاج الشعبي الذي انطلقت منه الشرارة في تونس، مصر، ليبيا، اليمن و البحرين لا يختلف كثيرا إلا في مدى تراكمه السابق في التظاهر والمعارضة، والشعوب تكسب معرفة الثورة في أيام وليال معدودات. أما الاختلاف الواضح فهو في مدى تخبط الأنظمة.
ان النظام القمعي في ليبيا كشر عن أنيابه المتعطشة للدماء على يد القذافي الإبن الذي اعتاد أن يظهر بقفازات حريرية، وأعلن النظام وحشيته في خطاب القذافي الأب الذي سيقاتل حتى آخر طلقة، خطاب من خارج التاريخ، في نبرته ومفرداته وتخبط لغته، درجة أنه كشف عن مدى احتقاره للبشرية، حتى ظننا عند ختام خطبته السريالية، أنه سينفجر من شحنة العنف: "الى الأمام الى الأمام ثورة ثورة" في لحظة سيذكرها التاريخ بالخزي والعار.. الغضب الذي رافقني ممزوجا بالنشوة في ثورتي تونس ومصر، يتضاعف ممتزجا بالأسى، الشعب الليبي في عزلة ويقاوم مجنونا مسلحا لن يترك كرسيه الا بالدم. قطرة دم واحدة من مواطن ليبي لن يعوضها حكم القذافي كله، هذا النظام الذي سقط منذ قطع الشعب حبل الخوف، أخشى أنه نظام من الفوضى تنفلت من عقالها.
مثل هذا الحكم كثير في شرقنا، هاهم يتساقطون تباعا، وكم ظننا أنهم سيتفهمون لغة التغيير ويقفزون الى الأمام للحاق باللحظة الراهنة، لكن وللأسف – وكأنهم يؤكدون الحتمية التاريخية - نراهم يصرون ويساهمون بغباء نادر في تفجر الأوضاع، اليمن ( قتلى معتصمين)، الجزائر ( اعتقال المتظاهرين)، البحرين ( أحداث دوار اللؤلؤة)، عمان ( شهيدان وجرحى في مظاهرة ) سوريا( أثناء كتابتي قمع الأمن السوري مظاهرة سلمية متضامنة مع الشعب الليبي) السعودية ( مطالبات حقوقية من مختلف فئات الشعب قدمت الى الملك)..
الخطاب السياسي للأنظمة العربية على اختلافاتها متخلف عن اللحظة الراهنة، وأكثرهم صلاحا ينطلق من عقلية تجاوزها الزمن، عقلية التخويف من فقد الأمن، والمكرمات أو التنازلات ودائما في صيغتها المادية، صورة طبق الأصل من تهديد القذافي الإبن بالحرب الأهلية، أو "مكرمة" القذافي بتقديم كامل ثروة البترول للشعب، في حين يتناسون أن الثمن صار أغلى، وبالذات عندما يسيل الدم، فالمطالب حينها لن تكتفي بالكرامة والحرية وحقوق الانسان سقفا.
ليس محتماً ان تتبّع الثورات العربية تجربتي تونس ومصر
المستقبل - الاحد 27 شباط 2011 - العدد 3924 - نوافذ - صفحة 9
يوسف بزي
على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية ودول الإتحاد السوفياتي، فإن الثورات الديموقراطية في العالم العربي تواجه أنماطاً متباينة من التسلط أو الديكتاتوريات أو الاستبداد. فمن الديكتاتورية «الدستورية» أو المقيدة إلى الديكتاتورية المطلقة، ومن الاستبداد المغلف بقفازات حريرية إلى الاستبداد السافر والوحشي، ومن التسلط المقونن والمنظم إلى التسلط الإجرامي والإرهابي.وهذا التباين ظهر جلياً في الفوارق ما بين ثورات تونس ومصر وليبيا. فما حدث أن الرئيسين المصري والتونسي وجدا نفسيهما مكبلّين في اللجوء إلى العنف، واكتشفا أن وسائل القمع التي يُسمح لهما باستخدامها، علناً، محدودة جداً. وإن أي تجاوز في مدى العنف أو في وسائل القمع يحولهما، توصيفاً، من رئيسين غير ديموقراطيين إلى «مجرمين ضد الإنسانية»، حسب سياسة معلومة، باتت مكرسة إلى حد بعيد منذ تسعينات القرن المنصرم.ويمكن القول إن ضعف الرئيسين حسني مبارك وزين العابدين بن علي في مواجهة الثورة، ليس متأتياً فقط من انفصالهما عن الواقع وعجزهما السياسي ولا من شمولية الانتفاضة الشعبية وتمرد أجهزة الدولة على أوامرهما فحسب، بل من التزامهما بعضوية «المجتمع الدولي» ومعاييره، بنسبة أو بأخرى. فصلتهما بدول الغرب وسطوة أميركا تحديداً عليهما، معنوياً وسياسياً واقتصادياً، فرضا عليهما، إلى حد بعيد، ان لا يذهبا بعيداً في العنف والقمع. بل أن الجيشين المصري والتونسي، عدا عن اتسامهما بصفات المؤسسة الدولتية وعنفوانهما المناقبي والأخلاقي، فهما كانا ضنيين اولاً بالشرعية الشعبية، وثانياً بعلاقات التعاون والدعم مع الإدارة الأميركية، التي أوحت لهما، على ما يبدو، بالابتعاد عن النظام لحظة سقوطه.ثم إن الرئيسين المصري والتونسي، كانا حريصين في «رسم» أو تدبير شرعية سلطتهما، وفق قواعد دستورية وانتخابية، ولو شكلية أو مزورة، يضاف إليها وراثة لشرعية تاريخية لها أسطورتها التأسيسية: فمبارك سليل مؤسسة الضباط الأحرار وثورة 1952، وبطل حرب 1973 وشريك السادات باستعادة سيناء وطابا. وبن علي هو وريث البورقيبية صانعة الاستقلال وصاحبة مشروع «التحديث».وعلى هذا، فان خيار الثورة السلمية المدنية، الاحتجاجية والتظاهرية الطابع، هو خيار ممكن وناجح إزاء سلطتي مبارك وبن علي، طالما أن عنفهما القمعي هو على هذا القدر من المحدودية.أما (الرئيس؟) معمر القذافي، فحاله مختلف تماماً. فهو يحكم من غير دستور او انتخابات أو صفة واضحة. يحكم من دون قانون حكم، بلا حدود لسلطاته وبلا تحديد لصلاحياته، جاء بانقلاب واستولى بالقوة على السلطة وعطل كل مظهر من مظاهر الحياة السياسية في بلاده، التي سرعان ما حولها إلى حقل تجارب لـ»هندساته اليوتوبية» تخريباً وتشويهاً وتهديماً من غير انقطاع، فاستحالت ليبيا إلى عجيبة سياسية اجتماعية محيّرة ومحزنة. وأما نظام حكمه (ويتردد القول عن حق «اللانظام حكمه«) فهو قائم على «شرعية ثورية»، أيديولوجية، كحال كوريا الشمالية وكوبا، حيث هناك كتاب لعين ما يسوق التاريخ إلى مهازله ومآسيه.لذا، فان ليبيا، كما قال سيف الإسلام وأبوه، ليست تونس أو مصر. والثورة فيها لن تكون على مثال جارتيها. هذا ما اثبته القذافي وأبناؤه في الأسبوعين الماضيين. إذ أن خيار الثورة المدنية السلمية لإسقاط السلطة القذافية يبدو صعباً أو مستحيلاً، إن لم نقل انه خيار خاطئ.فهذا النوع من الثورات البيضاء أو المخملية يستلزم سلطة مقتصدة في عنفها ومقيّدة في قمعها أو تتسم بعقلانية سياسية أخلاقية، لا تتوفر مطلقاً في النظام الليبي الذي شرع بمواجهة التظاهرات بشن حرب عسكرية حقيقية. فالدبابات التي تتزل إلى الشوارع لا لتخويف المتطاهرين بل لقصفهم. والقناصة الذين يواجهون المحتجين لا ينتقون الأكثر صخباًَ في الصفوف الأمامية لقنصه ترويعاً وترهيباً للآخرين، بل يطلقون النار على الجميع عشوائياً كما في الإعدام الجماعي.إن النظام هنا لا يبحث عن السيطرة بل عن مجزرة انتقامية. وإذا كانت السلطات المصرية والتونسية طامعتين بالاحتيال على الرأي العام، وباستعادة ولاء الناس ولو قهراً، لدرجة أن النظام المصري مثلاً كان يتعامل مع ثورة 25 يونيو بوصفها «ثورة شباب لهم مطالب مشروعة» وانها ليست موجهة ضد نظام الحكم بل ضد الحكومة.. إلا ان القذافي، على العكس من ذلك، لم يتردد في إعلان العداوة التامة مع الشعب الليبي بأسره، ومن غير مواربة، وجعل سلطته مناوئة للمواطنين وكارهة لهم، وهو شنّ حرباً مفتوحة على كل الليبيين الذين جردهم من صفاتهم البشرية وأنزلهم إلى مرتبة الحيوانات والحشرات والجراثيم، على نحو يسهل عليه تقتيلهم وتشريدهم بلا وازع.ورغم القول بجنونية هذا السلوك وغرائيبة أطوار صاحبه، إلا أن النظام الليبي بشرعيته الأيديولوية الثورية لا يشذ، في عداوته لشعبه وعنفه غير المحدود، عن سلوك السلطات الثورية المشابهة، سليلة الستالينية بالأخص، والتي رأينا أمثلة كثيرة عليها في كوريا الشمالية وفي كمبوديا الخمير الحمر، كما في أوغندا عيدي أمين أو عراق صدام حسين، حيث أحلام «الهندسة اليوتوبية» تبيح لمهندسها الملهم أن يتصرف بالبشر والعمران ما يحلو له، وحيث مشيئة الديكتاتور لا راد لها.ما فعله القذافي حتى الآن هو انه لم يُفشل الثورة، لكنه بلا شك أفشل سلميتها ومدنيتها، إذ أن طرابلس مثلاً «سقطت» مدنياً وسلمياً بيد الثوار في يوم واحد، ولكن سرعان ما خسرها هؤلاء عندما قرر النظام استعادتها بالقوة الميليشيوية، فتيبن أن أسلوب التظاهر والاحتجاج في الشوارع غير كاف لإقصاء السلطة، ما فرض على الثورة أن تتحول تدريجياً إلى تمرّد مسلح لم تكتمل جهوزيته التسليحية والتنظيمية ولم تتبلور بعد خياراته السياسية، إن على مستوى تسليح المواطنين أو على مستوى الإتفاق مع وحدات الجيش المتمردة على إعلان حرب العصابات المسلحة ضد النظام.مآل الثورة الليبية الصعب والدموي، ينبهنا إلى أن التحول الديموقراطي المفاجئ والمدهش في العالم العربي، ليس هو نفسه في كل مكان، ولن يكون دائماً بالسهولة المصرية والتونسية. فهو قد يكون تحولاً متعرجاً وبطيئاً وتسووياً على طريقة البحرين مثلاً، أو مؤجلاً وموقوفاً على طريقة الجزائر، أو جزئياً ونسبياً على طريقة المغرب والأردن، أو هو مشروع حرب أهلية وتقسيم كما في اليمن والسودان ولبنان، أو هو عنيف ودموي وتدخل عسكري أجنبي كما حدث في العراق وقد يحدث في ليبيا.جميع هذه الثورات تكشف لنا الآن سمة أساسية واحدة، مشتركة، تجمع ما بين تلك السلطات، على اختلاف شرعياتها ونظمها السياسية، هي جميعها من دون استثناء «ديكتاتورية أسرية» حيث العائلة (الأب، الزوجة، الأبناء) تشكل وحدها الحكومة الحقيقية الدائمة، التي تقرر كل شيء وتستولي على مقدرات البلاد، وتستغل نفوذها اللامحدود لتجميع الثروات بأرقام فلكية، وتنهب بشجع منقطع النظير موارد الدولة، وتهيمن على الحياة العامة وتصادرها، وتعبث فساداً مافيوياً، وتشيع أخلاقاً مافيوية، وتقيم مجتمعاً منقسماً بين أغلبية مسحوقة وأقلية منتفعة، فتنقشع أمامنا بلاد مدقعة ومواطنون مهانون على امتداد عقود.والمحيّر حقاً هو من أين أتت هذه الثورات؟ ما الذي تغير في دواخل الشعوب العربية وعقولها؟قبل عشرين عاماً بالضبط، قام الشعب العراقي بانتفاضة ضد نظام الديكتاتور صدام حسين، الذي واجهها بالدبابات والهيليكوبترات والحرس الجمهوري، فقتل عشرات الآلاف وشرد أكثر من مليوني مواطن عراقي. يومها لم يجد العراقيون المذبوحون من الشعوب العربية سوى التأييد والتعاطف والتبرير لـ»بطل العروبة» صدام حسين. أما اليوم، وهذا ما قد يعيننا على فهم ما تغير في وجدان الشعوب العربية، فان أمثال صدام حسين والقذافي، أو من هو «ألطف» منهما، لن يجدوا أحداً يساندهم أو يصدق رواياتهم عن المؤامرات الأجنبية وعن التصدي للصهيونية وعن خططهم للتنمية وعن دفاعهم عن العروبة والهوية.. الخ من أساطير.الذي تغيّر حقاً أن الديموقراطية، الغريبة والمشبوهة، إرتقت إلى سوية الإيمان في وجدان ليس من يسكن بيروت والقاهرة وتونس، بل أولئك القاطنين في آخر واحة ليبية على حدود تشاد. وهذه هي المعجزة.
المثقّف العضوي في ساحة شهريار
المستقبل - الاحد 27 شباط 2011 - العدد 3924 - نوافذ - صفحة 12
بغداد ـ شاكر الأنباري
المثقف عاد إلى واجهة الحدث، في تونس ومصر والعراق واليمن والمهاجر. لكنها عودة متأخرة على أي حال، والتظاهرات الجماهيرية في أكثر من بلد عربي أجبرت ذلك المثقف على النظر بجدية إلى ما يدور حوله، فحريته لا تنفصل عن حرية شعبه، مهما بدا أنه يتمتع بالامتيازات، أو يعيش في عزلة. لم يعد سكوت المثقف ممكناً ولا مقبولاً. حضرت واحداً من اجتماعات المثقفين العراقيين قبل أيام، وقد تكاثرت تلك الاجتماعات والتجمعات في الأسابيع الماضية حتى بدأت السلطات تحسب لها ألف حساب، كونها ملتحمة مع التظاهرات اليومية التي تنطلق في المدن العراقية يومياً، وبخاصة العاصمة. كل تلك التظاهرات ترفع مطالب مشتركة تقريباً، تبدأ بالمطالب المعيشية كتوفير الكهرباء والماء والخدمات، ولا تنتهي عند المطالب السياسية كحرية التعبير والحريات الشخصية ورفض المحاصصة الطائفية في الحكم ومعاقبة الفاسدين والمرتشين واللصوص. كان مكان تجمع المثقفين الذي دعيت اليه في شارع ابي نؤاس، وتحديداً عند نصب شهرزاد وشهريار الذي يواجه المنطقة الخضراء والقصر الجمهوري. عزمت على الذهاب إلى هناك مشياً فدخلت حدائق ابي نؤاس بمحاذاة نهر دجلة. ثمة أكثر من ساعتين على موعد التجمع، وكان الجو صحواً، وشمس بغداد في رحلتها الربيعية التي يحس بها المرء من خلال رائحة العشب والحرارة اللذيذة وسكون مياه دجلة.بغداد تبدلت كثيراً عن الأعوام السابقة، أصوات الانفجارات لا تسمع إلا نادراً، وايقاع الحياة اليومية عاد سلساً بعض الشيء، رغم الازدحام الشديد ونقاط التفتيش. للوصول إلى شهرزاد لا بد من اجتياز أكثر من ثلاث سيطرات أمنية، في مسافة لا تتعدى الكيلومترين أو أقل. هاجس الأمن ظل واحداً من الهواجس الضخمة في حياة العراقيين، ورغم الهدوء النسبي يظل الخوف من انفجار سيارة، أو عبوة، أو اغتيال بكاتم صوت موجوداً لدى الناس. في الشاطئ المقابل، على يميني، ترقد المنطقة الخضراء ساكنة هي الأخرى، بيوتها وقصورها تجثم تحت أشجار النخيل والزعرور، واللون الأزرق اللازوردي يلصف تحت شمس دافئة. إنها قباب القصر الجمهوري، تحيط بها المباني الحكومية ومنازل الطبقة السياسية الجديدة التي نجتمع لإدانة قصورها، وعجزها عن إعادة أعمار هذا البلد. الشيء البارز في المنطقة الخضراء هو سورها الممتد بامتداد شواطئ دجلة. سور مبني من صفائح خرسانية عالية جداً، حتى لتبدو وكأنها سور سجن عتيد.لا يمكن مقارنة المنطقة الخضراء، نظافتها، وشوارعها، وقصورها، وحدائقها، بمدينة بغداد المخربة الشوارع، والمقطعة الأوصال بالحواجز ونقاط التفتيش، والملوثة الهواء من كثافة المرور وكثرة السيارات وفوضى النقل. هناك خلف تلك الجدران ترسم، كما فكرت، سياسة العراق، وتبدأ المحاصصة الطائفية، ويتم التستر على الفساد، وتتشكّل التجاذبات السياسية والحزبية التي كان من نتائجها ذلك الخراب العميم المنتشر في كل المدن. تذكرت ذلك القول البليغ لواحد من الحكماء: لو دامت لغيرك ما آلت اليك، إلا أن الحكام لا يتعظون بالتاريخ على ما يبدو. ومثال مبارك والقذافي وبن علي وعلي عبدالله صالح وغيرهم ماثل أمام الجميع. كان هناك أطفال في حدائق ابي نؤاس يلعبون، وعوائل متناثرة تحت أشجار الزعرور جاءت لتستنشق هواء دجلة العذب في هذه الساعة، وتمتع بصرها بشواطئ النهر الممتدة شرقاً وغرباً.العمارات السامقة، والجسور، وقوارب صيادي السمك، والبيوت العتيقة التي تقبّل المياه، والمرافئ الصغيرة التي كانت ذات مرة مناطق تجمّع للعابرين عبر القوارب من الكرخ إلى الرصافة أو العكس. النوارس البيضاء تحلق في الأعالي. المنظر يدخل إلى الروح الإحساس بالتاريخ البعيد للمدينة، والانتماء إلى حاضر متشابك ورجراج. ثمة حزن عميق يستولي على بغداد. وثمة غضب أيضاً. مررت بتمثال ابي نؤاس الجالس على منصته ينظر إلى الماء، ومررت بمطاعم السمك المسكوف التي يشتهر بها الشارع، وتجاوزت جريدة طريق الشعب التي يصدرها الحزب الشيوعي العراقي، ثم انتهيت إلى مربع شهرزاد وشهريار، حيث انطلقت ذات يوم حكايات ألف ليلة وليلة من بغداد ولياليها لتنتشر في قارات العالم. شهريار يستلقي على البلاط وأمامه شهرزاد وهي تؤدي له رقصة ما، وشاء النحات محمد غني حكمت أن يستلهم حركة شهرزاد الراقصة التي تخفي الخوف من عينين فارغتين. الخوف من قتلها كما دأب الملك مع زوجاته السابقات. لون ذهبي يتناغم مع أشعة شمس دجلة، وهدوء مريب ينتظر المجتمعين الذين يريدون أن يعبّروا بطريقتهم الخاصة عن احتجاجهم على الأوضاع المتردية على أكثر من صعيد. صفت الكراسي، وأقيمت منصة بسيطة، وبدأ المثقفون يتوافدون من الكرادة، وحدائق ابي نؤاس، والجادرية، وشارع السعدون. مسرحيون مثل كاظم النصار وهادي المهدي. شعراء مثل أحمد عبد الحسين وحسام السراي وزعيم نصار. روائيون مثل أحمد خلف. مفكرون وصحافيون مثل ضياء الشكرجي وعدنان حسين. وسياسيون مثقفون مثل وزير الثقافة الأسبق مفيد الجزائري، أعرف بعضهم وأجهل أسماء البعض الآخر. وكانت هناك عشرات النسخ من البيان، موقعة من قبل مئات المثقفين العراقيين في الداخل والخارج، وسيقرأ البيان الباحث والمحقق قاسم محمد عباس، وبدأت وسائل الإعلام تتوافد على الساحة، وكان حشدهم كبيراً، وثمة ثلاث سيارات للجيش تقف في شارع ابي نؤاس لحراسة الفعالية. جاء ضابط برتية مقدم وأخذ نسخة من البيان، ثم بدأ قاسم بقراءته. وكان أول المطالب توفير الأمن. وأكد الموقعون أنهم مع شعبهم في توفير العمل لآلاف العاطلين، ومعالجة الأخطاء الاقتصادية والقضاء على الفقر وصون حرية التظاهر وإبداء الرأي وتطهير الدولة من الفاسدين والمفسدين واتخاذ إجراءات قانونية قوية لمعاقبتهم وتخليص إرادة الشعب من تلاعب الطائفيين والمعادين للديموقراطية والعملية السياسية. طالب المثقفون أيضاً ببناء دولة تحتكم للقانون والعدالة وتمنع المتاجرين بمؤسساتها وتوفير الغذاء والصحة والتعليم والخدمات وإصلاحِ التشكيلةِ الوزاريةِ على أساسِ الكفاءةِ والمهنيةِ والنزاهةِ، وإلغاءِ الحقائب والمناصب الوهمية التي تتسبب بإهدار المال العام، وفي محاكماتٍ علنيةٍ عادلةٍ للمتورطين بقضايا الفسادِ المالي والإداري، وتسريع إنجازِ القوانينِ والتشريعاتِ، وإجراءِ التعديلاتِ الدستورية بما يضمن الرفاهَ والازدهار. كما أكدوا على ضرورة تقديمِ الحكومةِ برنامجاً زمنياً معلناً عن خططها لإنهاءِ أزماتِ الكهرباءِ، والإسكانِ، والصحة، والتربية والتعليم، وإصلاح القطاعين الصناعي والزراعي وجميع الخدمات، وتأكيد مسؤولية الحكومة القائمة حالياً في حفظ أمن وسلامة المتظاهرين بشتى أطيافهم وتوجهاتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، من كل ما يمكن أن ينحرف بسلمية هذه التظاهرات إلى ما هو غير مدني وديموقراطي ودستوري، وحمايتِها من المتربصينَ بها من اللصوصِ والمنحرفينَ سيئي النيةِ والطامعينَ باستغلالِ مثل هذهِ التظاهراتِ للارتدادِ عن الديموقراطيةِ والمكاسب الدستورية. مطالب كثيرة وملحة، ويصعب تخيل تحققها من قبل حكومة محاصصة طائفية لم تشكل على أساس الكفاءة. حكومة انتشر في أروقتها الفاسدون واللصوص والمزورون، وأصحاب العقليات الظلامية من سدنة الإسلام السياسي الذي يعتقد أن الديموقراطية هي سلم للبقاء في الحكم، وتنفيذ أجندات تتستر بالدين. لكن هذا البلد يستحق أكثر من ذلك، بعد سنوات طويلة على التغيير الذي عصف بديكتاتورية البعث. ومن يتأمل في البيان يجد أن مطاليبه جاءت قبل ذلك على لسان المتظاهرين في البصرة، والكوت، والديوانية وبغداد والأنبار، تلك المظاهرات التي ألفها العراقيون منذ أكثر من شهر، وستتوج بتظاهرة كبيرة في ساحة التحرير وسط بغداد في الخامس والعشرين من شباط. ساحة التحرير التي تتوسطها جدارية النحات جواد سليم أصبح اسمها هو ما يوحد هموم المثقف العربي في أكثر من بلد. السكوت لم يعد ممكناً، كما يكرر الجميع تقريباً. يوم الخامس والعشرين من شباط، أي بعد شهر فقط من ثورة الشعب المصري على نظامه التي انطلقت هي الأخرى في الخامس والعشرين من كانون الثاني في ساحة التحرير وسط القاهرة. تظاهرات العراق، وبيانات مثقفيه، والمظاهرة الكبرى المزمع تنظيمها في ساحة التحرير، لا تنتسب إلى حزب أو طائفة، ومن هنا تأتي قوتها، وهي لا تريد الإطاحة بالنظام كما أكد أكثر من متداخل بعد قراءة البيان، بل تريد إصلاح الوضع العام. أجل لم يعد السكوت ممكناً أمام تدهور الحياة في العاصمة بغداد وبقية المدن، كما لم يعد السكوت ممكناً على التلاعب بالحريات، والفساد، والمحاصصة، وفرض الأجندات الإسلاموية في الجامعات، والشارع، والمؤسسات، والمرافق العامة.
جابر عصفور يكشف أسرار توزيره... واستقالته
جابر عصفور(مصر)
الآن، بعد أن هدأت الأحوال نسبياً، وسقط نظام قديم ليحل محله نظام جديد، وبعد أن قبلتُ منصب وزارة الثقافة، واستقلت منه بعد ثمانية أيام، أجد نفسي مضطراً لتوضيح أسباب قبولي لوزارة لم أمكث فيها سوى أيام معدودة، وأسباب استقالتي منها، على الأقل لأصدقاء أعزاء ومثقفين أصلاء على امتداد الوطن العربي، ساءهم قبولي هذا المنصب بقدر ما أبهجتهم استقالتي منه وقد طالبني من أحترمه منهم بتوضيح الأمر لهم، ولغيرهم من المعنيين من القراء، حتى لا يظل بعض سوء الظن عالقاً في أذهان الذين تظل لديهم أسئلة تحتاج إلى إجابة واضحة، في نوع من المصارحة الكاملة.
الحق أنني لم أندم على قبولي المنصب ولا على الاستقالة منه، على رغم سخط الكثيرين في الأولى وفرحتهم في الثانية، واسمحوا لي أن أبدأ منذ لحظة انفجار الأيام الخالدة التي ستظل مضيئة، ليس في التاريخ المصري وحده، وإنما في التاريخ العربي كله وكانت البداية في يوم الثلثاء الموافق الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير)، حيث تجمعت نواة من الشباب الصلب الوطني، تواصلت من طريق «النت» أداة هذه الحركة الشبابية، التي نقلت عدوى الثورة إلى فئات الشعب التي تعاطفت مع مطالب الشباب واتحدت معها، فالتفَّت حول حركتهم المباركة، ووصل عدد المتظاهرين إلى ما يقرب من خمسين ألفاً في ميدان التحرير وكان يمكن أي مراقب لمواقع «الفايسبوك» وغيرها أن يعرف أخبار هذه التظاهرة قبل يوم تجمعها وتضخمها اللافت، وكان المطلب الأساسي للمتظاهرين هو التغيير، والقضاء على الفساد الذي استشرى في كل مكان، وعلى الدولة البوليسية التي تسببت وحشية جنود أمنها في اغتيال الشاب خالد سعيد الذي تسمَّت مجموعة من مجموعات الشباب الثائر باسمه، وأخذت على عاتقها الثأر له، وتحقيق أحلامه الوطنية التي قُتِل دونها واستمرت التظاهرات الغاضبة إلى اليوم الثاني، بعد أن تحولت من تمرد شبابي إلى تمرد شعبي غاضب، أعدى بغضبه عواصم محافظات، مثل الإسكندرية والسويس والمحلة الكبرى التي هي قلعة صناعة الغزل والنسيج. وللأسف قام الأمن الذي هو المظهر الأول للدولة البوليسية بقمع المتظاهرين بوحشية بالغة، ولكنه لم يفلح في قمعهم على رغم مصفحاته وخراطيم مياهه ورصاصاته المطاطية، بل رصاصاته الحية أيضاً، فقد اكتسح الغضب الشعبي العارم كل الحواجز والمصفحات التي لم تنفع الشرطة وكان واضحاً أنه لا مفر من إحداث تغيير جذري لإرضاء المتظاهرين، وتحقيق مطالبهم العادلة، ولكن الغباء السياسي المعتاد الذي سمح بتزوير انتخابات مجلسي الشعب والشوري، وإشاعة الفساد في كل مكان، وتجويع الجماهير العريضة من الشعب الذي لم يعد يجد ملجأ ولا طعاماً أو دواء أو تعليماً، أقول استمر الغباء السياسي في سد أذنيه، وعندما أدرك عجز الشرطة استعان بالجيش، فكان احتجاج وزير الداخلية الخائن الذي أمر رجاله بالانسحاب من كل مواقعهم، وفتح أبواب السجون ليخرج ما يزيد على ثلاثين ألف سجين، مما أدى إلى قضاء المصريين ليالي من الرعب، بعد أن غاب الأمن تماماً، وكان ذلك في موازاة رئيس اتحاد عمال فاسد طالب رؤساء النقابات بالعمل على إجهاض التظاهرات العمالية، ولكن من الذي يستمع إلى كلام الفاسدين؟ لقد تواصلت التظاهرات التي شملت فئات الشعب كله وعندما نزلت القوات المسلحة لتعيد الأمن إلى الشارع المصري، أعلنت أنها لحماية المتظاهرين، ولا يمكن أن تطلق رصاصة واحدة ضدهم، فمهمتهم حماية الوطن من الأعداء وليس من أبنائه، وهتف الناس لوطنية الجيش الذي ظل يحمي الآلاف المؤلفة من المتظاهرين، وحماية الشوارع من المخربين والبلطجية الذين انفلتوا من سجونهم أو مناطقهم العشوائية وظلت ثورة الغضب الشعبي السلمية مستمرة لليوم الثالث، معلنة ضرورة التغيير الذي فرض نفسه على السلطة الحاكمة، فأقيلت وزارة أحمد نظيف التي لم تكن نظيفة، وأسند تشكيل وزارة جديدة الى أحمد شفيق المعروف بنزاهته وقدرته على الإنجاز.
وفي يوم الأحد الموافق الثلاثين من كانون الثاني (يناير) صدر قرار تكليف أحمد شفيق وتحددت مهام الوزارة في:
وقد أعلن في موازاة ذلك عن إعادة انتخابات مجلس الشعب في الدوائر المطعون فيها، وبدء حوار صريح مع جميع القوى السياسية من دون استثناء، وفي مساء هذا اليوم اتصل بي الفريق أحمد شفيق لكي أقبل القيام بمهمة وزير الثقافة والإسهام في حكومة إنقاذ وطني ولم أقبل في البداية، ولكنه أوضح لي أولويات الوزارة ومهامها، ولم يكن عندي ما أعترض به عليها، ولكنني قلت له إنني رجل صريح، ولا أقبل إلا ما أقتنع به، ولا أعرف لماذا فهمت من هذه المكالمة أن وزارة الإنقاذ الوطني هذه جديدة، وخالية من الوجوه القديمة، وأعتقد أن هذا الفهم الخاطئ هو ما ألوم نفسي عليه إلى اليوم، فقد كان واجباً علي أن أغلّب سوء الظن في هذا الموقف، ولكنني لم أفعل. وبعد أن أنهى الرجل كلامه معي، أخبرني بأنهم سيعاودون الاتصال بي غداً، وبقيت أسأل نفسي عن سبب اختياري، وتذكرت أنني كنت ذهبت مع مجموعة من المثقفين للقاء الرئيس السابق مبارك، بناء على طلبه، وعندما جاء دوري في الكلام تحدثت بإسهاب عن كارثة الثقافة المصرية، واستمع لي الرئيس السابق في صبر، وبعد أن انتهيت، سألني: وما العمل؟ فشرحت له ما أزال أتصور أنه استراتيجية جديدة للعمل الثقافي على مستوى الدولة كلها، وعلى نحو تتفاعل فيه وزارة الثقافة مع بقية وزارات الدولة من ناحية والمجتمع المدني بأحزابه وهيئاته وجمعياته من ناحية موازية، وقلت لنفسي لعل الرئيس السابق تذكر ذلك فاقترح اسمي، أو لعل رئيس الوزراء قرأ ما كتبت عن ذلك في «الأهرام»، فخطر اسمي على باله ولكن بقي الخوف من الذين يمكن أن يهاجموني لقبول منصب الوزير في هذا الظرف الخطير، ولكنني استفتيت قلبي كالعادة، وقلت إن أهداف وزارة الإنقاذ الوطني لا غبار عليها ما دام من مهامها الأولى الإصلاح السياسي، ومحاربة الفساد، وتحقيق العدل الاجتماعي وحتى لو كانت نسبة النجاح قليلة، فليس من الوطنية أن يتخلى المرء عن الإسهام في مهمة إنقاذ وطنه في مرحلة انتقالية عسيرة، أما عن أي اتهام يأتي بعد ذلك فلا بأس به عندما تتضح الحقائق الكاملة.
وهاتفني الدكتور زكريا عزمي رئيس الديوان الجمهوري، في صباح اليوم التالي، ليطلب مني الحضور لحلف اليمين، ولكي أطمئن سألته عن إمكان وجود حبيب العادلي القاتل الذي لا يشرفني الجلوس معه على منضدة واحدة، ولكنه طمأنني بأنني لن أجد أحداً من الوجوه السيئة السمعة، واطمأننت وتوكلت على الله ولكنني بمجرد أن شاهدت بقية زملاء الوزارة أصابني الإحباط، فكثير منهم يصعب إن لم يكن مستحيلاً أن أقتنع بالجلوس معه، ولا أستثني إلا قلة منها فايزة أبو النجا ومشيرة خطاب، وسمير رضوان وزير المال، وهو عالم جليل ونزيه وكدت أنسحب من المجموعة، ولكنني قلت لنفسي لقد تورطت بالفعل، فاصبر إلى اجتماع مجلس الوزراء، وعندئذ حدد موقفك النهائي، ومر اللقاء بعد اليمين في كلمات احتفالية، ولم يكن هناك مجال لنقاش جاد وكان المساء قد اقترب.
حماية المنشآت الثقافية
عدت إلى البيت مهموماً بما يمكن أن تسفر عنه الأيام القادمة وبدأت العمل مع زملائي في وزارة الثقافة وكانت الأولوية المطلقة لحماية المنشآت والمتاحف وقصور الثقافة والمسارح والأوبرا، واتفقنا على خطة أمنية على مدار ساعات اليوم، وكنت مرعوباً أن يقتحم البلطجية الذين انفلت عيارهم أي متحف... وعلى رغم كل الإحباطات، تم تدمير ونهب متحف مصطفى كامل في القلعة، وكذلك مسرح النيل في المنيل، ونحو عشرة قصور ثقافة ما بين تدمير جزئي وكلي على امتداد مصر، وظللت إلى أن رحلت من الوزارة مرعوباً من أن يقتحم أحد دار الكتب والوثائق القومية وغيرها، وفي وسط هذا الخوف، طلبت من زملائي أن يضع كل منهم تصوراً لتطوير جذري للمؤسسة التي يعمل بها، وبدأ العمل على تطوير مستويات الخطاب الثقافي، والانفتاح الكامل على ثقافة الشباب الثائر الذين كنت مع مطالبهم العادلة كلها، ولذلك لم أتردد في أن أطلب من رئيس الجمهورية السابق أن يستقيل من رئاسة الحزب الوطني الذي أفسد الحياة السياسية في مصر، وتبنى مؤامرة التوريث التي أطاحت بها أعاصير الثورة التي قادها شبابنا العظيم، محققاً آمال الوطن بكامل فئاته.مع حركة الشبابغرقت مع زملائي في دوامة العمل وقلوبنا مع حركة الشباب المتمرد التي سرعان ما تحولت إلى ثورة جماهيرية بكل معنى الكلمة، ولكن قوى الحزب الوطني الشريرة أبت إلا أن تضيف إلى شرورها القديمة ما هو أكثر فظاعة، فتحركت في يوم الأربعاء الدامي، واقتحمت ميدان التحرير في غزوة بربرية، هـدفها القضاء على الثورة السلمية للشباب المسالم الذي سقط منه الشهداء الذين تركوا جرحاً غائراً في نفوس المصريين جميعاً، وأسفاً بالغاً في داخلي على البقاء في حكومة تسمح بهذه الجريمة التي ارتكبها حزب مجرم بكل معنى الكلمة. وأذكر أنني يوم الأحـد الـسـادس من شباط (فبراير)، كنت أشاهد وزوجتي صور الشهداء يقدمها عمرو أديب، على إحدى القنوات الخاصة، وفوجئت بأنني أعرف بعضهم، فلم أملك سوى أن أذرف الدمع على هؤلاء الذين افتدوا الوطن ولم أنم إلا في الهزيع الأخير من الليل، وأستريح قليلاً للذهاب إلى أول وآخر جلسة حضرتها لمجلس الوزراء الذي ابتليت به.وذهبت مستفزاً بالفعل، وما أن فتح باب الكلام حتى سارعت إلى تفريغ ما في نفسي، فبدأت بشكر القوات المسلحة على حماية الشعب المتظاهر، وانتقلت إلى ضرورة التحقيق الفوري وعقاب الجناة في كارثة الأربعاء الدامي، وتحدثت عن مأساة فقد ثلاثمئة شهيد، وقلت إن لا خروج من الأزمة التي نحن فيها، ولا إنقاذ للوطن إلا بتعديل هذه الحكومة لتصبح حكومة ائتلاف وطني، تضم ممثلين للقوى السياسية في الوطن، والخروج من احتكار الحزب الوطني للحياة السياسية، وحكيت للحضور كيف بكيت عندما رأيت على شاشة التلفاز صور الشهداء الذين شاهدت في صورهم صور أولادي. وما أن انتهيت من كلامي حتى تنفست الصعداء وكنت أتوقع الهجوم علي من زبانية الحزب الوطني الموجودين في الوزارة، ولكنني لم أتخيل أن الهجوم يصل إلى أقصى درجات العنف والاستنكار الصارخ والظاهر على الوجوه معاً، فنبهني مفيد شهاب إلى أنني أخرج عن جدول الأعمال، أما وزير الصحة عضو لجنة السياسات فقد اتهمني بأنني أبالغ في أرقام الشهداء التي رأى أنها أقل من ثلث الرقم الذي ذكرت، وانفعل أنس الفقي الذي أفسد الإعلام المصري، وضرب المنضدة بيديه، وهو يصيح في اهتياج قائلاً هذه حكومة الحزب الوطني، وهي إذا استعانت ببعض الخبراء، فإن هذا لا يعني سوى أنها وزارة حزب وطني... ودمدمت وزيرة القوى العاملة، وامتعض وجه وزير البترول الذي رأى أن الشباب الذين وصفتهم بأنهم ضمير مصر، هم مجموعة من البلطجية، وأضاف وزير الخارجية أن الأصابع الخارجية هي المسؤولة عما يحدث، ولم يتعاطف مع ما أقول سوى الدكتورة مشيرة خطاب التي أرادت أن تؤكد ما أقول، فنهشوها نهشاً، وقوطعت مرات إلى أن سكتت مرغمة وقضيت بقية الجلسة صامتاً، وأنا أقول لنفسي ستخون دم أبنائك الشهداء الذين سقطوا في ميدان التحرير إذا بقيت في هذا المجلس الذي يضم أمثال هؤلاء الوزراء، وقررت الاستقالة من دون تردد ولكنني لم أستطع تنفيذ ذلك إلا بعد يومين للأسف، كان عليّ فيهما، أن أنهي بعض ما كان علي الانتهاء منه في الوزارة، ولم يكن من المعقول أن أتخلى عن إنجازه على رغم الغضب الذي ملأني، وجاء يوم التاسع من شباط، وأكملت ما كان لا بد من أن أكمله وأرسلت الاستقالة إلى رئيس الوزراء وقلت له فيها بالنص:
السيد الفريق أحمد شفيق رئيس مجلس الوزراءتحية التقدير والاحترام
أرجو التفضل بقبول استقالتي من الوزارة، وذلك لاعتقادي بصعوبة إن لم يكن استحالة التغيير مع وجود المستفيدين الذين أسهموا في الوصول بالبلاد إلى ما نحن فيه، والذين ما كان ينبغي أن يبقوا في مناصبهم. لقد تصورت يا سيدي أنني أصبحت عضواً في حكومة إنقاذ وطني، ولكنني فوجئت بغلظة الاعتراض على ما كنت أقول مخلصاً لبلدي، عن أهمية الائتلاف الوطني، في تكوين الوزارة، وفوجئت بالتنبيه الخشن إلى أنها حكومة الحزب الوطني، وأنا لا أنتمي إلى هذا الحزب الذي يبدو أن رموزه لم تستوعب درس ما حدث، وأنها مصرّة على المضي بالوطن في طريق مسدود، والحق أنني لست منتمياً إلى أي حزب، فأنا حريص على استقلالي الفكري حرصي على الإيمان بالائتلاف الوطني وحتميته، خصوصاً في هذا المنعطف التاريخي الخطير، ولذلك لا أجد مفراً أمامي من الاستقالة، وإذا جاز لي أن أقول شيئاً بعد ذلك فهو تجديد إلحاحي على ضرورة تعديل الوزارة لكي تصبح وزارة ائتلاف وطني، وليس حكومة حزب وطني، وقد سبق أن كتبت في جريدة «الأهرام» عن الضرورة القصوى للائتلاف الوطني الذي لا مفر منه، إذا أردنا إنقاذ الوطن.وتفضل سيدي رئيس الوزراء بتقبل عميق احترامي لشخصكم الكريم الذي لا أزال أجد فيه أملاً لتغيير حقيقي.
جابر عصفورأستاذ النقد الأدبيكلية الآداب - جامعة القاهرة
ومن المهم أن أضيف أن ليس ما أقصده بالائتلاف الوطني المعنى الكلاسيكي المستخدم في العلوم السياسية، وإنما الإلحاح على أن الإنقاذ الوطني لا يمكن أن يتم بقوة سياسية واحدة، وإنما بتضافر كل القوى السياسية، ما ظلت تؤمن بضرورة وجود دولة مدنية حديثة، قائمة على تداول السلطة، ومرجعيتها الوحيدة هي الدستور الذي يصوغه المواطنون لتحقيق دولة العدل الاجتماعي والتقدم بكل معانيه، ولقد ذهبت إلى منزلي، بعد أن أرسلت الاستقالة، واستغرقت في نوم عميق، فلم أسمع التليفونات التي لم تنقطع عن الرنين، بعد أن تسرب الخبر إلى الصحافة، فتناوب ابني وزوجته وزوجتي الرد، أما أنا فقد استيقظت في الصباح مرتاح الضمير، شاعراً أن كابوساً قد انزاح من على صدري وبدأت في الترتيب لعودتي إلى الجامعة، متخلياً عن أي منصب عام، فقد خدمت في مناصب بما يكفيني ويرضي ضميري، عاقداً العزم أن أتفرغ تماماً للقراءة والكتابة.وجاء العاشر من شباط وخبر الاستقالة لأسباب صحية، يملأ الصحف التي لم ينطلِ عليها السبب، وأوضحت الأخبار أن الاستقالة ترجع إلى عدم الاستجابة إلى الشروط التي اشترطتها، وكنت قد أبلغت محررها بأنني سأستقيل إذا لم يتحقق لي ما أريد... وتداعت الأحداث، في الأيام المقبلة التي تلت ذلك، وتجبر الثورة مبارك على التخلي عن سلطاته لنائبه، ولكن ثوار الشباب لم يكتفوا، فقد أصبح مطلبهم رحيل مبارك وبالفعل نجحوا في ما ظنناه مستحيلاً، وأعلن مبارك تنحيه يوم السبت (11/2) وترك سلطته للمجلس العسكري الأعلى الذي أعلن أنه سيعمل على وجود حكومة مدنية ديموقراطية قائمة على تداول السلطة، ولا يأتي يوم الأحد إلا بعد أن سهرت الملايين في ميدان التحرير وما حوله، محتفلة بالخلاص، وبعدها يعود الميدان إلى الهدوء نسبياً، بعد أن قام الشباب بتنظيفه، خصوصاً بعد أن نجحت ثورتهم التي لم يكن يتوقعها أحد، وتبدأ مسيرة ثورة قلبت الحياة السياسية المصرية، ووضعتها الوضع السليم، فأصبح ما قبل الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) يختلف كلياً عما بعده وبدأت عجلة الثورة تدور، لا يستطيع أحد إيقافها.أما أنا فأجلس في منزلي، منفرداً في غرفة مكتبي أرقب الأحداث المتسارعة، شاعراً بالتفاؤل ولا أشعر إلا بالرضا عما فعلت، فلو لم يكن في دخولي الوزارة واستقالتي منها إلا إسهامي مع زملائي في الحفاظ على ثروة مصر المتحفية، والتعجيل بإقالة من بقي من الوزراء الفاسدين.كانت تجربة مؤلمة، خرجت منها أقوى وأكثر عزماً على التفرغ للكتابة والقراءة، حيث عالمي الأثير وها أنذا أتطلع إلى المستقبل، وأرى استمرار تهاوي عروش الطغاة واحداً بعد الآخر، وانتصار ثورة الشباب التي حررتني من الداخل وحررت الحياة حولي في الخارج، وأخذت تجاوز حدود مصر إلى غيرها.
***
العَسْكر
حلمي سالم(مصر)
كنا نخشى العَسْكرَ،ونراهم مسكونين بشهوات السلطة،منقلبين، وقلابين،بغاةً، وطغاةً،حتى لو كانوا ضباطاً أحراراً، وحُرّين،فهم قتلة نيرودا،هم من رشّوا اللينّدي برصاص الغدر،ورشّوا لوركا برصاص الغدروصاروا آلهةً علويّين،وهم من فردوا أجنحتهمُ السوداءَ على الأشجار،لتغدو الأشجار خفافيشَ،ويغدو الزمّارون أساطين.كنا نكره رائحة العسكر،ونراهم أحذية قاسية الوطء،تدوس الزهرات المنفتحات بحقل الدنيا:إسلاميين، شيوعيين، وجوديين،ولكن العسكر في مصر الغضبانة صاروا مختلفين:أخذوا ورداً من صبيان الحارات،وحطّوه على ماسورات المدفع،مسرورين وحنانين،ابتسموا للفتيان وللفتياتوتركوا أيديهم تكتب فوق الآليّات:«زمانٌ زُورٌ راحَ،ونحن بشارة آتين».كنا نكره رائحة العسكر:عطناً، خيلاء، ونياشين،ولكن العسكر بعد ينايرصاروا أبناء شيوخ الميدانوآباء صغار الميدانووضعوا الطفلة فوق الدبابةفي كفّيها عَلَمٌ خفّاقٌ، وحمامات، وسحابةأجابوا ندهة مكسورين:«ليذهب قهر القهارين»وغنوا أغنية الجمع:«الشعبُ، الجيشُ:يدٌ واحدةٌ»كنا نخشى العسكرلكن العسكر في أم الدنيا معجزة،رنت فوق النيل الأهزوجةُ عاليةً:«أنا الشعب لا أعرف المستحيلاولا أرتضي للخلود بديلا»حينئذ،أدى العسكر للشهداء تحية حرب،ليصبر الشهداء بذاكرة المعمورة:أحياء، حيِّين.فسلاماً للجندي إذا انهزم على خط الناربفعل القوّاد المنهزمين،وسلاماً للجندي إذا انتصر على خط الناربفعل الطاقات المكبوتة في مكبوتين،وسلاماً للجندي إذا حفظ دماء الأهل.كنا نخشى العسكر،لكنهم الليلة حُراس الحلم:أمينين،ومأمونين.
صنع الله إبراهيم: ثورة 25 يناير أنهت يأسي من إمكان الإصلاح
القاهرة - سلوى عبدالحليم
«كنت يائساً من إمكان الإصلاح، وقادني ذلك اليأس إلى شعور عميق بالاكتئاب، حتى فعلها شباب الـ «فايسبوك» في تونس، ثم في مصر وبعدهما في ليبيا». هكذا استهل الروائي المصري صنع الله إبراهيم حديثه خلال حفلة توقيع روايته الجديدة «جليد»، التي أقيمت أخيراً في مكتبة «ألف» في القاهرة. ويذكر أن صاحب روايتي «ذات» و «تلك الرائحة» سبق أن رفض في عام 2003 جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية التي يمنحها المجلس الأعلى المصري للثقافة، على اعتبار أن وراءها «نظاماً فاسداً». وأضاف إبراهيم أنه كان يستخف بهؤلاء الشباب «لأن الفكرة التي كانت موجودة عندي وعند بعض الذين أعرفهم هي أن المتعاملين مع الـ «فايسبوك» هم غير مهتمين بالقضايا المهمة ومنشغلون طوال الوقت بأمور سطحية». واستطرد قائلاً: «المفاجأة الكبرى تمثلت في أن الناس استجابوا لدعوات الثورة التي أطلقها الـشباب عبر الـ «فايسبوك»، وعندما ذهبت إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة وجدت زحاماً شديداً، وأكـثر شـيء استوقفني هو عـدم وجـود حـالة تـحـرش جـنــسي واحـدة وسـط ذلك الزحام». وتابع: «كنت أظن أن خروج تلك الحشود الهائلة سيكون مدمراً، لكنها انفجرت بوعي وتـحضر». ولكن هل سيعكس صاحب رواية «العمامة والقبعة» ما حدث في عمل روائي؟ يقول صنع الله إبراهيم، رداً على هذا السؤال: «هذا الأمر قد ينعكس على الكتابة وقد لا ينعكس. فالكتابة فضاء واسع وضخم، والإبداع الأدبي عموماً عملية معقدة ومركبة تتحكم فيها مجموعة من العناصر والعوامل المتداخلة».وعن توقعه لشـكل العـلاقة بين المثقف والسلطة مستقبلاً، قال : «لا أتصور أنها ستتغير بدرجة كبيرة عن قبل، لأن الامتيازات والمنح والمزايا التي يمكن أن تمنحها السلطة ستظل موجودة، وأيضاً المثقفين الذين يسعون إليها سيظلون موجودين». وفي إشارة إلى الواقعة التي أسماها المصريون «موقعة الجمل» تهكماً من أساليب تصدي السلطة وأنصارها للمتظاهرين في مصر، قال صنع الله إبراهيم: «هناك فجوة شديدة بين عقليتين: عقلية تتعامل مع التكنولوجيا الحديثة بصورها كافة وأخرى تستخدم الحصان والجمل. في هذا اليوم ونتيجة لعمليات الترويع شعرت بالخوف الشديد وكنت أتوقع انتكاس تلك الثورة». واعتبر أن «الثورة لها أهداف أكبر بكثير من تنحي الرئيس، ومن ثم فإن ثورة مصر تعد في بدايتها ولا يزال أمامها الكثير لتنجزه»، مشيراً إلى أن هناك الكثير من «علامات الاستفهام حول المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر خصوصاً في ما يخص المميزات الهائلة التي يتمتع بها كبار قادة الجيش، إضافة إلى علامة استفهام كبرى في ما يخص طبيعة العلاقة بالولايات المتحدة الأميركية». وحول الجدال في شأن تعديل المادة الثانية من الدستور المصري والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، قال: «أظن أن مصيرها هو الإلغاء. هناك أشياء كثيرة لا بد أن تتغير، إن لم يكن اليوم فمستقبلاً. الأحداث التي مرت بها مصر طوال أيام الثورة أثبتت أن ليس من خصوصيتنا نحن المصريين التمايز الديني». وأكد أنه مع استمرار التظاهرات السلمية حتى تتحقق مطالب الثورة... بعض القائمين على أمر البلد الآن يعتبرون أن التظاهرات تعطل سير الحياة الطبيعية، فلماذا لا يستجيبون لمطالب المتظاهرين».وحول إمكان أن يتولى هو وزارة الثقافة في مصر، قال صنع الله إبراهيم: «هذا غير منطقي. عموماً أنا مع المطالبين بإلغاء وزارة الثقافة، وإطلاق حرية التعبير، وإلغاء الرقابة، لأنني كأديب أشعر طوال الوقت بوجود شخص يجلس فوق كتفي يراقبني وأنا أكتب. لا أرى أي مبرر لوجود الرقابة في شكلها القديم وتكفينا الرقابة المجتمعية فلو أن هناك مسلسلاً ما أو كتاباً ما قدم أفكاراً مشوهة في الشكل الذي قد يستفز الناس فإنهم سينصرفون عنه». وتحدث صاحب «تلك الرائحة» عن فكرة الـوطنية وتقدمها على فكرة الدين في الأيام الأخيرة، قائلاً: «تفـسير هذا الأمر قد يحتاج إلى باحث اجتماعي ولكن يمكننا الـقـول إنـه في الحالة التي يكون الوطن مهدداً أو في حالة من حالات القفز إلى الأمام فإن قضايا الدين والعصبيات تتلاشى تماماً مثـلـما حـدث خلال حرب 1973». ورداً على مداخلة حول فكرة توقف الأدب الذي ينتقد الواقع ويفضح سلبياته بعد ثورة 25 يناير، قال «لا يمكن تصور وجود مجتمع مثالي خالٍ من السلبيات. ستظل هناك التناقضات والاختلافات في الرؤى والأفكار. بالتالي سيظل المجال قائماً للتعبير عن الظاهرة الاجتماعية ككل».
الحياةالاربعاء, 02 مارس 2011
الأزمة العميقة في البحرين
عبدالله خليفة(البحرين)
قبل أكثر من قرنين دخلتْ قبائلٌ سنيةٌ إلى جزيرة أوال، وصارعتْ قوى ريفيةً شيعية تملكُ الأرضَ الزراعية والحياة الاجتماعية، وإنتزعتْ أملاكَها وجعلتَها تخدمها من خلالِ إقتصادٍ إقطاعي شديد التخلف.خلال قرنين جرتْ تغييراتٌ إقتصاديةٌ وإجتماعيةٌ كبيرة، فحاولَ الاستعمارُ البريطاني تخفيفَ هذا التباعدَ العميقَ بين من يعمل ويعيش فقيراً شبه متسول ومن يستولي على الدخل الأكبر، وعبرَ هذا سيطرَ على اللعبةِ الاجتماعية بين الفريقين.وضعَ الأنكليز أسسَ الدولة (الحديثة) التابعة ذات الأسس القديمة التقليدية، أي إستمرتْ الدولةُ الدينية - المذهبية ذات التاريخ الإقطاعي الإسلامي كما تكونتْ بعد زوالِ دولةِ الخلافة الراشدة.تنامتْ المدارس، وبزغتْ الثقافة الوطنية الجنينية متجاوزةً خندقي الطائفيةِ السني والشيعي، وتحولَ الاقتصادُ من الغوص بعلاقاتهِ القديمة إلى بناءٍ تغلغلتْ فيه علاقاتٌ رأسمالية، وتوسعت فئةُ التجار المستوردين، ونافستْ شيوخَ القبائل المهيمنين على الأرض، لكن كل ذلك لم يغير من طابع التضاد بين من يَحكمون بشكلٍ مذهبي محافظ، ومن يُحكمون ويعبرون بشكلٍ مذهبي محافظ كذلك.هيئةُ الاتحادِ الوطني، هذا التنظيم الذي هيمن عليه مثقفون من فئة التجار، وقام بنشر ثقافة وطنية توحيدية، لم يُنضجْ عمليةَ التغييرِ وقيادة الفئات الوسطى، وأسرعَ للصدام السياسي حتى دون أن يقفَ بصلابةٍ على الأرض.لعلَ الجزيرةَ العربيةَ كلَها دفعتْ بمدنِها الصغيرةِ البحرية الكويت – البحرين – دبي لمشروع رأسمالي ديمقراطي في محيطٍ محافظٍ متخلف فكان ناقصاً مشوهاً في كثيرٍ من جوانبه، ففيما توجهَ شيوخُ الكويتِ للتعاونِ مع التجارِ والعامة، نظراً لغيابِ قضيةِ الأرض الزراعية المسلوبة وتوحيدِ التجارةِ للأكثرية، لم يحدثْ ذلك في البحرين، التي إنقضَّ شيوخُها على الأرض وحدث تناقضٌ محوري جوهري بين من لديه السلطة وسلب الأرض ومن يعمل عليها ويعيش بفقر وبؤس، فإختلفتْ تجربةُ البحرينِ عن الكويت عبر وجودِ تناقضٍ محوري جوهري إشكالي: الأرض والحكم المنتزعان، والتباين المذهبي بين من يملكون ومن يعملون.هذا خلقَ هرماً إجتماعياً مستمراً عبر القرن العشرين بشكلٍ خاص، تقفُ فوقهُ إرستقراطيةٌ سنية، عاشتْ على التمايز عن الناس، وأغلبيةٌ شعبيةٌ شيعية في الأكثرية وسنيةٌ في الأقلية محرومتان من وسائلِ العيش المعقول.فاقمت هذا التناقضَ مجرياتُ التحولاتِ الاقتصادية والاجتماعية فتوجهتْ هذه التحولاتُ لضرب عالم الفلاحين الزراعيين والحرفيين والبحارة، فالأرضُ الزراعيةُ في حالةِ إنهيارٍ متصاعد، والمياه تشح، والسلطة البريطانية – المحلية تختارُ مواقعَ الريف للمشروعاتِ الإنمائيةِ المُجتَّثة للأسسِ الزراعية وللمياه وللتماسك الشيعي والبحريني عامة، كمشروعِ ميناءِ سترة لتصدير النفط وميناء سلمان في هذه المنطقة الزراعية(الشيعية) ثم المنطقة الصناعية التي كلها تتركزُ على هذه القرى، تاركةً جزراً كبيرةً في غرب البحرين فارغةً ومخصصة لزراعة الأسرة الحاكمة وحصد الفقع بعد نزول الأمطار وتربية الماشية و(صيد الغزلان سابقاً)، ثم فاقمتْ عواملٌ موضوعيةٌ من إنهيار الزراعة، وهذه كلها ظروفٌ أدتْ إلى إنسحاقِِ الريفِ وإنهيارِ إقتصادهِ الذي إستمرَ قروناً، فيما المناطق البرية (البدوية) تحتفظُ بنقائِها الطبيعي، وبقيتْ جزرٌ خاليةً من البشر!
الحدةِ في خلقِ التضادِ بين المدينة المُهيَّمن عليها من قبلِ الإقطاعِ السياسي الحاكم، والريف المُدَّمر إقتصادياً، إزدادتْ إتساعاً، نظراً لتولي إقطابِ السلطة عملياتَ الهيمنةِ على المشروعات الرأسمالية الحكومية الكبرى، كشركات النفط والألمنيوم والفنادق والبنوك وعمليات الدفان البحرية ونهب الأراضي وغيرها، والتي تجسدت سياسياً واقتصادياً بالسيطرة على مالية الدولة منذ أن تولى الشيخ خليفة بن سلمان إدارة المالية سنة 1957 حتى قفز لرئاسة مجلس الوزراء في أوائل السبعينيات، وهذا وفرَّ لهذا الإقطاع السياسي التوغلَ في العمليات الرأسماليات الحكومية الواسعة في مختلف جوانب الاقتصاد وأعطاه المزيد من المال والقوة والانتشار الاقتصادي المحلي و(العالمي)، وحددَ ذلك مقاييسَ النمو الاقتصادي من خلال قبض هذا الإقطاع السياسي على مقاليد السلطة، فجلبَ العمالةَ الأجنبية الواسعة فأكتسحتْ الشعبَ البحريني الصغير، وشكَّلَ المؤسسات الاقتصادية العامة وحتى بعض الشركات الخاصة حسب مقاييسه، فمن إقترب من السلطة كسبَ الجنةَ ومن أختلفَ معها ذاق مرارة الجحيم. وضد تغيير هذا الوضع البائس قامت تضحياتٌ كثيرةٌ وكبيرة.
أصبح كبارُ أفراد العائلة هم أكبر المستثمرين وغدتْ حتى الوزارات تحوي مكاتبَ خاصةً لمتابعة شؤون الكبار فيها من توصيل كهرباء ومياه وشق طرق وخدمات إسكان.
تحول الإقطاع السياسي إلى رأسماليةٍ حكوميةٍ متنفذة شمولية تخشى الوجود النقابي والمراقبة البرلمانية والمنظمات السياسية الوطنية أولاً ثم المذهبية السياسية بعد ذلك، وأسستْ ونشرتْ مذهبيةً محافظة سنية شكلانية، وتكرس ذلك أيضاً عبر مدة وزارةٍ أسطورية عابرة الحدود الزمنية تجاوزت الأربعين عاماً، فلم تتكلسْ إدارياً وإقتصادياً وسياسياً فقط بل لم تقبلْ بأحدٍ من نفس العائلة أن ينافسها في تنويع رئاسة الوزارة.
وإستمرتْ السياسةُ الدينية المحافظة (السنية)، تغدو قناعاً لسلطةٍ تجمعُ سيطرةَ المذهب وسيطرة رأس المال معاً، ومن هنا فهي تزيح المنافسين حتى على مستوى رأس المال من كبار التجار، وهذا الشكل المذهبي المُسيَّس يخفي علاقات الصراع الطبقي، فيحيلُ صراعَ الأغنياءِ الكبار ضد الفقراء، إلى صراعِ سنةٍ وشيعة.ومن جهةٍ أخرى بعد ضرب وتصفية الحركات القومية واليسارية الواسعة الانتشار في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات صار المعبر الوحيد للمعارضة هو المذهب الديني.وهذه الأدلجةُ المسيسة لها جذورٌ قديمةٌ وموادٌ كثيرة من التراث، كما لها تجسيداتٌ على الأرضِ من مؤسساتٍ عباديةٍ وعاداتٍ دينية مختلفة، وبالتالي فإن إستثمارَ هذه المواد في السياسة ليس بجديدٍ ولا هو إختراع عظيم، وقد بدأ قبل الاستعمار وفي إثنائه وغدا(معاصراً) ذا أكسسوراتٍ خاصةٍ تتغلغلُ في كلِ حي، وتغدو هي نظامُ السيطرةِ على مستويي الحياة الاجتماعية والإيديولوجية، فلا تستطيع فكرةٌ سياسيةٌ هامةٌ أن تتغلغلَ في نظامِ هذه السيطرة المحكم الثنائي ذي المستويين المختلفين (السني) و(الشيعي).وعلى مدى قرونٍ كانت الأفكارُ المحافظةُ الفقهية العبادية المحدودة هي التي تسودُ في كلا المذهبين السني والشيعي، وقد حالتْ ظروفُ الجزرِ البحرينية من هيمنةِ النسخةِ السلفيةِ الوهابية الحادة على المسرح الاجتماعي، بسبب بُعد الصحراء والانفتاح التجاري ومدافع الأسطول البريطاني، وهزيمة مشروع آل سعود في الهيمنةِ على كلِ الجزيرةِ العربية وخنق حرياتها البسيطة المختلفة.(علينا أن نتوقع مستقبلاً أن الأزمات التالية ستتوسع حين تنتقلُ الأزمةُ وتتفجر في شرق السعودية: في القطيف والأحساء وتحدثُ النسخةُ الأسوأ من صراع مملكة البحرين المعاصرة، فصراع الشيعة /السنة سينتقل من جنوب العراق حتى الإحساء وربما يغير الخريطة السياسية).إن المذهب الشيعي الإثناعشري الوريث للمذاهب الإمامية السابقة خاصة الإسماعيلية في صيغتها القرمطية والمتجاوز لها كذلك، فقدَ تكرسَ بشكلٍ محافظٍ كذلك. (راجع موضوعاتنا: الوعي والتطور في الجزيرة العربية، جريدة أخبار الخليج البحرينية). وداومَ الشيعةُ على إحترام آيات الله العظمى في النجف وقم، وكان هؤلاء الآيات يتسمون بالحنكةِ وبعدمِ التدخلِ المباشر في السياسة، ويتابعون شؤونَ رعاياهم بشكلٍ فقهي إيديولوجي مستقرٍ ومسالم، وتغدو التحولاتُ الإجتماعية بطيئةً داخل ذلك الشكل القديم، ولكن هذا الشكل المرن من جهة أخرى يتيحُ للشيعة من الجانبِ السياسي الاحتكاكَ والتأثرَ بالاتجاهات السياسية السائدة وخاصة الاتجاهات التحديثية، فيعطيهم بعض الحريات.وهكذا فإن فئات متعددة وأفراداً من الشيعةَ دعمت بقوةٍ في البحرين هيئةَ الاتحاد الوطني شبه الليبرالية بشكل جماهيري واسع وجبهة التحرير الوطني الماركسية والجبهة الشعبية القومية، وحزب البعث، بأشكالٍ فكريةٍ وسياسية متفاوتة، وليس بصفتهم شيعة مذهبيين بل بصفتهم مواطنين أحرار في إنتماءاتهم، لكن الجسمَ الكبير للطائفة خاصة الريفي بقي من الناحية الاجتماعية تحت المظلة المذهبية التقليدية، في ظروف شبه الاستقرار في الحياة الاقتصادية لزمنيةِ ما قبل الانهيار الاجتماعي للريف والحراك الإيراني السياسي الكبير.
تحولاتٌ على مستوياتٍ عدة الإنتماء الطويل للشيعة والأماميين السابقين لإيران مثله مثل إنتماء السنة للجزيرة العربية، تم ذلك عبرَ عدةِ قرونٍ من تبادل المواد الثقافية والدينية بين الساحلين العربي والفارسي، ونقل الأفكار السياسية الجديدة بصيغها الدينية.بمعنى أن الطوائف الشيعية لها مراكز قيادية في النجف وقم، وهي تقومُ بتبادلِ المعارفِ والاتجاهات والأموال، في حراكٍ تهيمنُ فيه المراجعُ الكبرى على العامة، مثلما تهيمنُ على صناعةِ الأفكار التي تتجلى عبر(تقليد) الشيوخ، والقيام بالزيارات الدينية، وتكريس العبادات المميزة وتغييرها، ونقل الأحكام الفقهية من بلدٍ إلى آخر، لكن هيمنةَ الآياتِ العظمى التقليديةِ بذلك النهجِ غير المتدخلِ بشكلٍ مباشر في السياسة إنتكستْ في إيران. فسيطرةُ الاستعمار الأمريكي عليها، ومحاولة تشكيل بُنيةٍ حداثية إلغائية لهيمنةِ رجال الدين خاصة في الأرياف المحافظة، إنكسرتْ في موضعٍ شديدِ الخطورة، حين بدأ الإمامُ الخميني يحولُ المرجعيةَ لصراعٍ سياسي مباشرٍ ضد هيمنة الشاه. هذه العمليةُ التي إستمرتْ عدة عقود وتضافرتْ مع نمو التجديدِ في الفكر الشيعي السياسي لدى محمد باقر الصدر وغيره، لم تحصلْ في العراق على إمكانيةِ تبلورٍ ثوري، بسببِ ضخامةِ الدولة الشمولية ودمويتها الشديدة وتعدد المذاهب في العراق والأديان والقوميات.
لكن في إيران وجدتْ الأزمةُ الموضوعيةُ المتناميةُ الشعبَ الموَّحدَ المتشيعَ: فثمة نظامٌ باذخ إرستقراطي متجبر، يغرقُ في أزمتهِ التحولية، غيرُ قادرٍ على إستخدامِ فوائضِ النفطِ الهائلة في إعادة تجديد المجتمع بشكلٍ ديمقراطي إجتماعي (عادل).
إن طرحَ مسألة ولاية الفقيه هي قفزةٌ على الفقهِ الشيعي المحافظ المسالم على مدى قرون، وبجعلِ الفقهاء في السلطة وسحبهم من العزلة التأملية العبادية والتعمق في الدين إلى بحار السياسة الهائجة الخطيرة!لكن الفقه الشيعي في إيران من جهةٍ أخرى مثّلَ القوميةَ الفارسية المناضلة ضد الغزو الأجنبي، فكانت الولايةُ هنا نضالاً تحررياً وطنياً، تحول إلى نظامٍ ديني غير ديمقراطي وأسس مجريات إيرانية قومية خاصة، وتفاقمت العملية مع تصاعدِ الدولةِ الدينية العسكرية ومشروعاتها في التغلغل السياسي في الدول العربية.
لكن هذه العملية من جهةٍ أخرى أدت إلى حراكٍ هائل في الطائفة الشيعية على مدى العالم كله وفي كل مكان تتواجدُ فيه سوف تستغلُ هذه الموادَ الإيرانية لحراكها الاجتماعي حسب مستويات نخبها السياسية، ومن جهة عامة ليس ثمة هنا تجديد في الفقه، وليس ثمة قراءات لأعادة النظر في العلاقات الاجتماعية المتخلفة التي تعيش فيها الطائفة، وخاصة أوضاع الفلاحين والنساء وحرية العقول.
فيما يتعلق بالبحرين كان رجالُ الدين الشيعة المحافظون يعيشون في حالةِ ودادٍ كبيرة مع النظام، وحركوا الهيئاتَ الدينية التابعة لهم بدءً من الخمسينيات ومع تفاقم المد القومي واليساري لسحب عامة الشيعة من أن تكون قواعد سكانية لتلك التيارات، فتوسعتْ الجمعياتُ الدينيةُ بأموالِ النظام(الخليفي) نفسه، خاصة جمعية الدراز الدينية التي كانت طليعة التسيس المحافظ للتشيع البحريني والتي رأسها وقتذاك الشيخ عيسى قاسم قائد الشيعة الروحي السياسي الآن.
كان ثمة إتفاقٌ بين الإقطاعِ السياسي السني الحاكم في الدولة والإقطاع الشيعي الديني الحاكم في الطائفة والمستولى على الأخماس ومساعدات المؤمنين، من أجل العمل المشترك ضد التيارات التحديثية المعارضة التي تتقد سيطرتيهما.في السبعينيات كان التماسُ والتداخلُ بين هذه التيارات المعارضة الوطنية والجماعة الشيعية السياسية داخل المجلس الوطني وهي الهيئةُ البرلمانيةُ المنتخبة وقتذاك، يساراً ويميناً لتعاون لم يتشكل ويتطور هدمته السلطة الحاكمة بالانقلاب على المجلس الوطني المنتخب سنة 1975 وقمعت التيارلاات الوطنية بشدة وروجت للتيارات المذهبية السياسية، ومنذ ذلك الحين مع تفاقم سرقاتها لأموال النفط المتصاعدة الأسعار بدأت جذور الأزمة الراهنة.كان المبنيان المذهبيان المحافظان السني والشيعي لم تحدث فيهما أية بذور عقلانية إصلاحية، وتفاقمت هذه الظاهرة مع تصاعد الثروة النفطية كذلك في كل من السعودية وإيران، حيث إنتشرت قوة المحافظة مع إتساع الجيوب بالأموال، وتصاعد الخوف من النضال المستقل للكادحين المسلمين، وحين حدثت الثورة الشعبية الإيرانية وخطفها رجالُ الدين، تفجرتْ مسألةُ ولاية الفقيه، وإكتسحتْ كالطوفان المجموعات السياسية البحرينية الصغيرة التي تتشكل مثل الطحالب بعد الأمطار.الحماس وإنعدام التوازن وعدم الدرس والتأني كل هذه السمات المرتبطة بجذور هذه التنظيمات جعلت هذه المجموعات السياسية الشيعية تتعرض لحصاد مؤلم سريع في البحرين التي إنتظرَ فيها الضباطُ الكبارُ في المخابرات طويلاً أي موسم عمل كثيف مليء بالنجوم والأموال، فإمتلأت السجون وكثر الضحايا.لقد جرتْ عمليةُ نسخٍ سريعة من قبل المنظمات السياسية الشيعية للتجربة الإيرانية ولنموذج ولاية الفقيه بشكلين: مباشرٍ ومضمرٍ، هذا النسخ السريع يتسم بالحماسة والعفوية والحدة وهيمنة(الوعي اليومي)وهي الجوانب النفسية الفكرية التي ستظل قوية ملازمة لهؤلاء الشباب حتى وهم يكبرون ويشكلون جيلاً جديداً ظل بنفس الخصائص النفسية والفكرية، بمعنى إن هيمنة أفكار ولاية الفقيه في البحرين ظلت تعزلهم عن ثمار التجارب الثورية الديمقراطية في العالم، فلا يستطيعون تطوير أدواتهم وتحليل الأوضاع وتشكيل جبهات مع بقية القوى السياسية البحرينية إلا بشكلٍ مهيمنٍ عليها وبدون خلق التمازج بين كتل الشعب الواحد.البنية الاجتماعية تتعقدفشلتْ صداماتُ التنظيماتِ السياسية الشيعية في مجابهة النظام الشمولي المحافظ في البحرين خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بسبب المجابهات العنيفة في القرى الصغيرة المعزولة، وبسبب أعمق هو رفض تلك التنظيمات قيام تطور سياسي نضالي مشترك عميق ومتدرج في بنية الشعب الموحدة، فأصرتْ على الشكل المذهبي السياسي التي يتيح لها الهيمنة على الحكم مستقبلاً، ومن خلاله فقط أرادت العمل ولم تفلح أية دعوات في إثنائها عن هذا الطابع رغبة منها في السيطرة المستمرة على العوام وتصعيد مشروعها السياسي.ومثلما أن الهيمنة الحكومية عملت على تفتيت الشيعة وتماسكهم المناطقي والسكني وجعلهم في مستوى عيش بائس، ومن خلال عقلية أخرى مضادة بذات التعصب، فعاشت البلد على صراع طائفي متخلف.مع وصول الشيخ حمد بن عيسى للحكم لم يستطع أن يتعايش مع هيمنة رئيس الوزراء المطلقة على السلطة والأخطاء الجسيمة في حكم البلد، فأبتكرَ الميثاق الوطني والدستور الذي يصعد سلطته ويكيف المجلس المنتخب مع الوضع في البلد ووضع المنطقة الخليجية المحفوف بتدخلات الحرس الثوري الإيراني، فنشأت المرحلة الجديدة ذات الحريات النسبية، وغيرت العديد من الظروف السابقة وفتحت صفحة جديدة من التغييرات السياسية والاجتماعية.كانت العمليةُ السياسية الجديدة هي تخفيف من هيمنة رئاسة الوزارة المهيمنة التي قادت البحرين لمأزق تاريخي دون تغييرها بشكل جذري فنشأت ثنائية مضطربة متناقضة قلقة.تمكن الملك الشيخ حمد من الصعود الشعبي وغدا مؤسساً لمرحلة جديدة مختلفة لم تستطع أن تحسم أمرها بقوة مع الماضي.فأشتغل ضد قوى الفساد ولكن مع وجود قوى الفساد في الحكم!هناك جوانب إيجابية في حركته التحولية فخفف الصراعات الحادة وأخرج السجناء وأطلق بعض الحريات وحاول تغيير مستوى المعيشة وأوجد مجلساً نيابياً مهماً لكنه غير قادر على مجابهة السلطة التنفيذية التي بقيت هي المهيمنة على الحياة السياسية والاجتماعية بخيوطها الممتدة إلى كل جوانب الحياة الاقتصادية.وقد نجحت كتلة سياسية شيعية من التأثير في الأحداث والوصول للبرلمان لكن اللعبة البرلمانية كانت أكبر من قدرتها.فشمولية التيارات الشيعية تحولت إلى شمولية ضد قوى شيعية أخرى وقوى الحداثة في هذه الطائفة نفسها، فظهرت كتلة واحدة فقط مهيمنة مجسدةً ولايةَ الفقيه الذي ظل هو الشيخ عيسى قاسم، ففقدتْ الطاقات المتعددةَ في الطائفة الشيعية كما فقدتْ قبلاً الطاقات العلمية والسياسية في الشعب ككل، فقدمت أداءً سياسياً هزيلاً في البرلمان وكان الشيخ حمد نفسه يحرضُها على نقد الوزارات وتقديم المشروعات فيما هم يُحضرون شباباً صغاراً بلا تجربة سياسية ويفرضونهم على الناس كمرشحين ونواب!أي أن التيار السياسي الشيعي المهيمن وجد نفسه في مأزق، فقدراته وطبيعة تركيبته التي قفزت من العامية السياسية والوعي الديني المحافظ إلى السلطتين التشريعية والبلدية لم تسعفهُ في إدارة التحول ونقد أداء الحكومة بعمق وكشف الأخطاء والبيروقراطية والفساد في القطاع العام. وهذا يحتاج لتشكيل جبهة وطنية عريضة من مختلف التيارات والجماعات خارج وداخل الدولة نفسها، ولكن عقلية ولاية الفقيه لا تستطيع أن ترتفع إلى ذلك فكانت أعمال مثل الوقوف ضد قانون الأحوال الشخصية المعقول بمظاهرة حاشدة تمثل عقلية القرون الوسطى، فكيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا قادة في دولة عصرية؟ ولم تُحشد مثل هذه المظاهرات ضد البطالة والطائفية وغيرها من المساوئ، أما إحتشادها ضد التجنيس فهو بسبب الخوف الطائفي من إمتلائها ب(السنة).وتنامت الشمولية ضد القوى الشيعية السياسية نفسها وبدا ذلك في طبيعة الانشقاقات السياسية العديدة التي نشأت في هذه التيارات، حيث لعبت العواملُ الفرديةُ أيضاً دورَها في تشكيل جماعات منشقة ضد الولاية إضافة لتعدد المرجعيات.في هذه الأثناء ازداد تطور البلد الاقتصادي، فقوى المال العام والخاص نجحت في الهيمنة على الاقتصاد المتنامي بشكل واسع، وفرضت شروطها وإستغلالها الكبير على إستخدام العمالة وتسعير السلع وإخراج الأموال وتوسيع الخصخصة ونهب الأراضي.فظهر قسمان مختلفان من السكان في هذه الجزر الصغيرة، فالأغلبية الشعبية ذات أجور محدودة وحياة معيشية صعبة، ولها خدمات تعليمية وصحية وإسكانية متخلفة في حين أن للقسم الغني خدماته الخصوصية الواسعة المتطورة سكناً وتعليماً وصحة، وهي سياسة أسستها رئاسة الوزراء بجعل الشعب البحريني يعيشُ على حافة الكفاف، من أجل أن يبقى ذليلاً دائماً باحثاً عن لقمته، ولا يتوجه للتطور الفكري السياسي، ففتحتْ الأبوابَ على مصاريعها للعمالة الأجنبية وهي سياسة تتفق ونمو القطاع الخاص خاصةً القطاع الخاص الفاسد الظاهر من داخل السلطة والذي تتاح له الإمكانيات من شراء الأرض الحكومية بأسعار متدنية ومعرفة الأراضي الجديدة ووضع اليد عليها حتى وهي مطمورة بالماء لم تُدفن بعد، وتأجير المباني الخاصة لمسئولي الدولة على الأجانب والشركات القادمة بإيجارات مرتفعة، وبوجود ميزانية خاصة ضخمة خفية للكبار من العائلة الحاكمة من أموال النفط وغيره، ومن إحتكار المؤسسات الاقتصادية الكبرى.اصبحت العمالة الأجنبية تصارع الأهالي في معيشتهم وأرزاقهم، فغدا الكثير من الأهالي بروليتاريا واسعة، مثقلين بالرسوم والايجارات وبشوارع ملوثة مليئة بالسيارات بدون خطط تنظيمية للطرق ومحصورين في بقع جغرافية بعينها، ومن هنا نجد ضخامة المؤسسات الأمنية والعسكرية المتعددة ذات الميزانيات الكبيرة لحفظ نظام بهذا الشكل المتناقض المضطرب والتي تشكل نزيفاً آخر للبلد،(فهناك جيش وحرس وطني وقوات شرطة وقوى مكافحة الأرهاب وحرس ملكي ومؤسسة الأمن الوطني وتكاثرت مباني الأمن هذه على شكل قلاع في كل مكان) فكان الاستنزاف من الميزانية العامة بأشكال عدة رهيبة بينما قواعد العمال لا تتجاوز رواتبها المائتي دينار، أي أقل من ألف دولار في بلد ذي أسعار مرتفعة.بطبيعة الحال كانت سياسة النظام طائفية- طبقية، فقد اعتمدت على القبائل ذات المكانة الارستقراطية ثم على تكوين (سني) عامي مدفوع للمؤسسات الإدارية والأمنية، فالمليارات التي يحصل عليها النظام جعلته ذا نهم شديد وخوف فحدثت مشكلة التجنيس السياسي بجلب العرب السوريين البدو وجعلهم قوات مسلحة إضافة لجماعات أخرى غير عربية أخرى، فتحول البلد إلى معسكرات مسلحة مليئة بالمرتزقة.وهذا من جهةٍ أخرى يتشكل بسبب الخوف من تنامي ولاية الفقيه وتماسكها وتغلغلها في السكان.طبيعة الأزمة الأخيرةلقد كانت أحداث الثورتين التونسية والمصرية ذات آثار كبيرة على العرب، وقد أهتم بها البحرينيون بقوة، وفجأة رأينا الجماعات السياسية الشيعية المختلفة تقرر أموراً خطيرة إنقلابية في نهج مشاركتها السلمي في البرلمان والبلديات.فمن دون الحوار مع أحد أو الجلوس مع الجماعات السياسية المختلفة، قررت الدعوة لايجاد مملكة دستورية حقيقية، أي بعد أن شاركت في مملكة دستورية غير حقيقية لعدة سنوات؟! وهذا جاء أولاً من حركة أحرار البحرين بالعاصمة البريطانية التي تضاءلت مكانتها بعد دخول كتلة الوفاق البرلمان، لكن مع بطء التغييرات وفشل ممثلي كتلة الوفاق في تغيير شيء عادت جماعة أحرار البحرين في الظهور ودفعت شباباً للأرهاب في الشوارع، لكن النظام قمعها بقوة، ومهد لانتخابات جديدة فازت فيها الوفاق مرة أخرى وبأداء أسوأ من قبل.وبدا واضحاً أن المجموعات الشيعية السياسية المختلفة قد نفد صبرُها من تلكؤ النظام في إجراء تغييرات ضد الفساد وضد هجمة العمالة الأجنبية وتحول البحرينيين بالفعل إلى مواطنين من الدرجة الثانية في بلدهم المليء بالخيرات!وكان الهدف في ذلك تلك المؤسسة الشائخة مؤسسة رئاسة الوزراء.أي أن تأثير الثورات العربية انتقل بسرعة وبدون درس وتنظيم إلى هذه الجماعات الشيعية وقررت الهجوم!قرار غريب ومفاجئ وكأنه قد ظهرت مشاعر قوية لنسخ التجربتين التونسية والمصرية.وفي هذه الظروف ظهرتْ عمليةُ إرتباك واسعة، فتراوحت الشعارات بين كتل الجماعة من دعوة لإسقاط النظام،(الشعب يريد إسقاط النظام) إلى دعوة لتغيير بعض مواد الدستور وتغيير طبيعة البرلمان الحالي الذي تشارك فيه.هذه التفاوتات تعكس أزمة الجماعة بشكل عام وأزمة الشعب البحريني في ظلِ نظامٍ فاسد متصلب غير قادر على القيام بالتغيير بسبب التباين بين مؤسستي الملك ومؤسسة رئاسة الوزراء وبسبب عدم قدرة الجماعات الشيعية السياسية على إنتاج معارضة مغيرة ديمقراطية توحيدية ومدركة للبناء الاقتصادي- الاجتماعي.إن التأثر الشديد بالنموذج العربي المبهر وتطبيقه في مكان غير مناسب يعكس عقلية الاستنساخ، فمن نسخ نموذج الثورة الإيرانية والأصرار على تطبيقها في بيئة عربية مغايرة لمدة عقدين مع الفشل المتكرر والنتائج المأساوية لها، يقوم بسرعة بجلب نموذج الثورتين التونسية والمصرية وخلال أيام وعبر جسد ولاية الفقيه المتواري كذلك.هذا من طبيعة هذه الجماعات المحدودة الوعي والعاطفية والتي لم تنتج خلال العشرين عاماً الأخيرة وهي في حومة السياسة دراسة واحدة للنظام وأية تحليلات لبنيته الاقتصادية الاجتماعية.وأظهر النظام من جهة أخرى صرعه السياسي الغريب والرهيب، ففجأة بعد معقولية في الإدارة السياسية العليا توجه إلى إصطدامات حمقاء غريبة شديدة العنف!فكانت مواجهة المظاهرات الأولى البسيطة التي إنطلقت من بضعة قرى بشكلٍ شرسٍ وعبر إطلاق نار كثيف!أما الهجوم على دوار اللؤلؤة فكان رهيباً بكل معنى الكلمة، فبعد الاعتذار عن الهجمة الأولى وتشكيل لجنة تحقيق، ينقضُ العسكرُ الحربي على المتجمعين لكن بعد أن تم تحذيرهم وطُلب منهم المغادرة وغادر أناسٌ وبقى أناس. لكن الهجوم فاق التصورات وتم مع إنزال المصفحات!هذه الهستيريا التي أصابتْ القيادة العليا غريبة وغير معروفة المصدر بشكل دقيق، فمن وراءها ومن أمر بهذه الأجراءات المنقطعة عن السيرورة السياسية خلال أعوام؟!لقد لُوحظ شيءٌ كبيرٌ من الهلع لدى الطبقة العليا أثناء الثورة المصرية خاصة، وجرت إتصالاتٌ وتأييد للقيادة المصرية السابقة وأسى لهزيمتها، ومع إنتشار الاستنساخات العربية للتجربة المصرية فقدتْ القيادةُ في البحرين أعصابَها السياسية كلياً!من المؤكد أن صراع الإقطاعين السياسي الحاكم والمذهبي الشيعي، سوف يستمر طويلاً بدون صعود طبقة برجوازية تحديثية علمانية ديمقراطية، يقويها حضورُ العمال الديمقراطيين، تغيرُ الاستقطابَ الصراعي الطائفي العائد للعصور الوسطى، وهذا أمرٌ بنيوي تاريخي، يحتاجُ لتغييراتٍ اجتماعية وتحجيم لحضور العمالة الأجنبية ويوسع الإصلاحات في أوضاع أهل الريف والسكان المدنيين.هذا هو حلٌ مطول بعيد المدى، ولكن الحل القريب يتمثل في دور الملك الشيخ حمد في إحداثِ نقلة إصلاحية جديدة، فيغير من رئاسة الوزراء ويعطيها لشخصية بحرينية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة والوطنية، وتكون من خارج الأسرة الحاكمة، وتقوم بقيادة المرحلة الجديدة على المستوى التنفيذي.وتعود عبرها الكتلة المنسحبة من البرلمان وهي كتلة الوفاق وتتحرك العملية السياسية ويتم الفصل بين السلطة ورجال المال وتستعد البلد لمرحلة أخرى من الانتخابات والتحولات.
البحرين
فوزية السندي(البحرين)
فوزية السنديwww.Fawzia-alsindi.com
يتبع . . .