فاطمة ناعوت
(مصر)

فاطمة ناعوت"ومن منا لم يؤخذ بالحس الصوفي العميق وبروح الطفولة البريئة في هذا المقطع: "في الماضي كان الله/يظهر لي حين تغيب الشمس/في هيئة بستاني/يتجول في الأفق الوردي/ويرش الماء علي الدنيا الخضراء." وأظن أن 'حلمي سالم' في قصيدته المذكورة، نظر إلي هذه الصورة، ولكن شتان بين (البستاني) هنا، و(القروي) هناك! فقوة الرمز في الصورة الأولي تفرض نفسها علي الحس وتفتح أبواب الخيال، بلا واسطة، أما في الثانية، فنحن نحتاج إلي محام، قد تقنعنا حجته، وقد لا تقنعنا!"

انتهى كلام الشاعر حسن طلب، في مجلة "أخبار الأدب" في عددها بتاريخ 15 أبريل 2007، في معرض مقارنته بين قصيدتين تناولتا الذات الإلهية بالترميز الإنسانيّ، أولاهما التي ورد مقتطفٌ منها عاليه ولم يبن من مقاله اسم شاعرها، والثانية للشاعر حلمي سالم. وقد حسم المقارنة، طبعا، لصالح الأولى. والشاهدُ أننا بالفعل لن تحتاج محاميًا ليؤكد لنا ما ذهب إليه طلب، فضلا عن أننا لن نجد هذا المحامي الأرعن عدو نفسه، بل سنأخذ رأسًا موقعنا إلى جوار الشاعر حسن طلب لنتبنى رأيه الفنيّ والوجودي. فالصورة الأولى تفرض نفسها على حِسِّنا كقراء وتفتح أبواب خيالنا، بينما الثانية تنفّرنا وتثير حفيظتنا المطمئنة. ذاك أن البستانيَّ رفيعُ الشأن أنيقه، إذا ما قارناه بالقرويّ الفج الخشن. فالأول يتعامل مع الزهور والرياحين وشقائق النعمان، فيما الثاني يداه مغموستان في الطمي وروث الماشية، وفي أحسن الأحوال، و"أشيكها"، تقبض هاتان اليدان على حزمة خضر أو سنبلة قمح أو عود كرفس. لا نحتاج إلى محام ليقنعنا بشيء، فالأمرُ محسوم لصالح القصيدة الأولى ومحكومٌ على قصيدة سالم بالعار والانهيار. الصورة الأولى "التي تفتح أبواب الخيال" أكثر أناقةً دون ريب لأن الزهرة "أشيك" من "الجرجير"، ولأن البستاني أكثر رومانتيكية وأعلى طبقةً من القرويّ الذي يندرجُ في أسفل درجات السلم الاجتماعي. البستانيُّ، وإن حُسب بشكل أو بآخر على الطبقة البروليتارية التي تعمل وتكسب قوت يومها من كدٍّ يديها، إلا أنه ينتسب بامتياز إلى طبقة البرجوازيين، بل والنبلاء، بوصفه منسّق حدائقهم وبساتينهم، وراعي زهورهم وياسمينهم، ومهدي صباياهم وردةَ الصبح الندية، قبل أن تقلّهن العرباتُ الفارهة إلى مدارسهن ونواديهن. بينما القرويُّ خشنٌ فظٌّ وحوشيّ، ولا يليق أن يُطرح اسمه أو لقبه أو شيءٌ من صفاته أو ما يدلّ عليه في قصيدة شعرية. ذاك أن الشعرَ الرفيع هو جملةٌ من الكلمات الرفيعة الأنيقة جيدة النظم واللضم. ما همَّ أن القرويّ هو الجنديّ المجهول الذي نقتات خبزنا من كدّ يده، وما همَّ أنه البنية الورائية للمجتمع، سيما إذا كان مجتمعًا زراعيًّا مثل مصر، وما همَّ أن من أجله انطلقت أعظم نظرية سياسية اجتماعية عرفها التاريخ، وما همِّ أن أُريقت من أجل حقوقه المهدرة أنهارُ دم مسفوح من أعناق الشرفاء وقلوبهم في كل زمن وفي كل بلد، وما همَّ أن معركة كمشيش اندلعت على شرفه وراح فيها خيرة شهدائنا مثل صلاح حسين وسواه، وما همَّ إن كان، ويظلُّ، القرويُّ مادةً أولى في مدونات النخب السياسية ورجالات حقوق الإنسان وهيئات العدالة الاجتماعية تزدان أوراقهم به بريقًا وألقًا، على المستويين: الحقيقي من جانب الحقيقيين، والزائف من جانب المزيفين الذين يتقنون لغة المزايدة واستثمار  فقر الخلق لتوسيع قاعدة ثرائهم. وما ضرَّ لو سُئل الشاعرُ حسن طلب نفسه أن يتضامن مع قرويي بلدته سوهاج وفقرائها في أن يسارع ليكون أول المتضامنين بوصفه الشاعر اليساريّ الكارهَ للحَيف الناشدَ العدالة والكمال، بل فقط بوصفه شاعرًا، أليس كلُّ شاعر في جوهره الأصل ناشدًا الجمال طالبًا العدالة؟ لا شك سيوقّع البيانات ويعاضد الفقراء قولا وفعلا. لكن الأمر سيختلف كليًّا حال الكلام عن الشعر. فالشعرُ مصانٌ في برجه العاجي السامق، ولا محلّ له من صغارات الأرض وهموم المعوزين. الشعرُ مادته الترفُ والنبالة والعلوّ. والنصرةُ للشعر الأنيق والكلمات الرقيقة وحسب. أما القرويون والسباكون والإسكافيون والسُّعاة والشحاذون والمجزومون والعميان فليس من مكان لهم في القصيدة. مكانهم أرضُ الواقع وبرامجُ النُخب والناخبين والمنتخبين. أما القصيدة فبيتُ النبلاء والحسناوات والوزراء والورود والعطور، والحرافيشُ يمتنعون. لو أن حلمي سالم كان أريبًا واستبدل بالقرويّ في قصيدته كلماتٍ من قبيل: الملك، الحدائقيّ، النبيل، الرئيس، إلى آخر هذا المعجم السامق، ما قامت عليه الدنيا، وما نُصبت له المقاصلُ ليبيعه الداني والقصيّ، لأنه هنا سيكون الشاعرَ الأنيق الرقيق الذي يعرف كيف ينتقي كلماته من معجم النبالة والشياكة والعلوّ الطبقي. أما الفظاظة والخشونة والحوشية في التعامل مع الشعر، ولو تحت مزعم الانتصار للمنسحقين تحت نير الطبقية، فعقابها، في أخفِّ صوره، أن يُقصى شاعرُها من جنّة الشعراء إلى حيث يباب المتعوسين في الأرض. أُثني وأصدّق على كلام شاعرنا الكبير الذي تضامن معه الجميع، وفي مقدمتهم حلمي سالم نفسه، إبّان مصادرة ديوانه "آية جيم" في ثمانينيات القرن الماضي. وأتفقُ تمام الاتفاق مع صاحب "المقدس والجميل" وأستاذ الفلسفة د.حسن طلب الشاعر الثوريّ الملتزم الذي يرى أن الشاعر يجب أن يراعي مشاعر البسطاء في قصائده باختياره مفردات تدغدغ أوداجهم وتهدهد أرواحَهم بدلا من أن تصدمها، الشاعر الذي فهم لعبة الشعر والشعرية والشاعرية على نحوها الصحيح. ذاك أن وظيفة الشعر مداعبةُ الروح واستنامتها وليس تفويقها والصدام معها!  يقول برتراند راسل: "مشكلةُ مجتمعاتنا أن الأغبياء يمتلكون اليقين، بينما الأذكياء لا يملكون سوى الشك"، لكننا لن نلتفت لقوله وسنفضّل أن نمتلك اليقين لأنه يحمينا ويحل لنا كل الغيبيات الكثيرة حولنا، وعلى ذلك شكرا لكل شاعر ومفكر يجعلنا ننعم براحة البال والنوم المطمئن عن طريق القبض على سدّة اليقين واحترام الثوابت. ونعم للرقيّ والأناقة وتوقير الطبقات، ولا للفجاجة والمساواة. وإذن، نعم للبستاني الذي يتجول في الأفق الوردي، ولا وألف لا للقروي ذي الجلباب الممزّق الرث التي تتساقط منه قِشَف الطين اليابسة.

القدس العربي
15 /5/ 2007