فاطمة ناعوت
(مصر)

فاطمة ناعوتفي رواية "فيرونيكا تقرر أن تموت"، الصادرة عام 1999، أسس باولو كويلو مبناه الدرامي على منزع "الوعي بالحياة والوعي بالموت". يشكّل مقدار هذا الوعي لدى الإنسان كثافةَ وجوده ومدى استعداده للحياة أو للموت. في مصحة "فيليت" العقلية في سلوفينيا استطاع الطبيب أن "يحقن" فيرونيكا، المنتحرة الراغبة عن الحياة، بمصل "الوعي بالحياة"، إن جاز القول، عن طريق إيهامها أن ساعاتٍ قليلةً هي كل ما تبقى لها في هذه الدنيا فرغبت في الحياة وهزمت الموت.

الوعي بقيمة الحياة، والحُلم ومدى الإيمان به هي محاور الفيلم المصري "أنت عمري" الذي أعاد الكثير من ملامح الجمال التي خبتْ في السينما المصرية الراهنة منذ الستينيات من القرن الماضي. سوى أن الحلم هنا يختلف عما درج الإنسان على تعاطيه فلسفيًّا وإبداعيا. فأركان تحقيق الحلم، أو التوق الإنسانيّ لهدفٍ ما، تبدأ بالفكرة، وتمرُّ بالجهد المبذول عبر "زمن" محدد من أجل تحقيقها، وتكتمل بالإمكانات الشخصية الواجب توافرها في الشخص الحالم والتي من شأنها تحويل تلك الفكرة واقعًا وحقيقةً وحياة. وحسب بعض الثقافات يمكن أن نضيف إلى ما سبق ركنا آخر هو الحظ. الأمر اختلف في الحكاية التي شكلت هذه الدراما من تأليف محمد رفعت. إذ اقتصرت أركان حلميْ البنت والولد، بطلا الفيلم المصابان بسرطان الدم، على "الفكرة" وحسب، وبدلا من تبني عنصر الزمن، أو مرور الوقت، كركن يلزم توافره من أجل تحقيق حلميهما، كان البديل هو الرغبة في تحطيم هذا الركن ومصارعته كي يصلا.

الولد والبنت لديهما مفردات حلميهما كاملة بغير نقصان، سوى أن ما يفصلهما عن لحظة التحقق هو انتظار الموت الوشيك الذي غدا رابطًا مشتركا بينهما، لكن تباين المنزع الفرديّ بينهما بشأن الشرط الإنساني في درجة "الوعي بالموت" أو "الوعي بالحياة" هو ما اختلفا فيه وهو عقدة هذه الدراما.

الفتاة، الباليرينا المميزة نيللي كريم، تحلم أن ترقص أوبرا "جيزيل" مع فرقة البولشوي الروسية. حلمها متحققٌ تقريبا لأن البولشوي بالفعل اختارتها لتمثل اسم مصر في هذا العرض العالميّ، ولم يبق إلا أن يتأخر الموتُ قليلا كي يسمح ليوم العرض أن يسبقَه. أما الفتى، هاني سلامة، فكان حلمه أكثر سهولة وتحققًا: مهندس شاب ميسور الحال يحيا حياةً رغدة مع زوجته التي تبادله حبا بحب ومع طفله الصغير. أما حلمه فلم يكن إلا أن تستمر هذه الحياة وحسب!
التقليديُّ أن تحلم باليرينا ناشئة بأن تختارها أشهر فرق العالم لترقص ضمنها، فتعيش العمر تبذل الجهد من أجل تحقيق أمل قد لا يجيء، والتقليديُّ أن يحلم شاب حديث التخرج ببيت جميل وزوجة محبّة وطفل ما، ويقضي السنوات من أجل تحقيق ذلك أو بعضه. سوى أن الفيلم اختصر بنا تلك الأزمة، التي قد تشكّل متْنَ أو "عقدة" عمل درامي كلاسيكي قرأناه وشاهدناه كثيرا، ووضعنا رأسًا أمام عقدة من نوع آخر تتكئ على محاولة هدم الزمن أو تجميده.
نحن إذًا أمام نمط من الحلم جديد. أحلامٌ متحققة أو تكاد، وما من عدوٍّ لها سوى مرور "الزمن" بعكس الحلم التقليدي حيث تَحَرُّك الزمنِ للأمام أحدُ أركانه الركينة.

وضعتْنا دراما الفيلم أمام عنصر آخر لاكتمال أركان التحقق هو "الإيمان". إيمانُ "الحالم" بـ"حتمية" تحقق حلمه. وهنا انقسم الأبطال فريقين؛ تِبعا لتوجهاتهم الفكرية ونزعاتهم الوجودية وتبايناتهم الفردية في طرائق استقبالهم للأزمات وطرائق تعاملهم معها. فالبنت "آمنت" بحلمها وكان وعيها بالحياة حاضرًا، بينما كان وعي الولد بالموت أعلى.
لحظة معرفة المريض بحقيقة مرضه وحتمية موته هي اللحظة الأمرُّ، ربما أمرُّ من لحظة الموت ذاتها، إذ هي النقطة المفصلية التي تتبدل بعدها الحياة، القصيرة، القادمة. المعرفة ذات اتجاه واحد، لا يمكن تمريرها أو تجاوزها، بعد تلك المعرفة لا شيءَ يُفرحُ ولا شيءَ يُحزن، تغدو الحياة كاملة بلون الرماد المحايد انتظارًا للحظة النهاية. هكذا، إلا عند أولي العزم القابضين على أحلامهم حدَّ اليقين.

تجاوز الفيلم لحظة معرفة الفتاة بمرضها وموتها الحتميّ، لأن المُشاهد بوسعه استكناه طبيعة تلك اللحظة من خلال صلابة المريضة وتقبلها الرحب لفكرة موتها الوشيك بشرط تحقيق حلمها أولا. فبينما لم تزرفِ البطلةُ دمعةً واحدة طيلة المَشاهد، نجد المخرج قد توقف طويلا أمام اللحظة "الممتدة" التي اكتشف فيها البطلُ طبيعةَ مرضِه واقتراب أجله. ذلك التوقف كان ضرورةً درامية لتكشف لنا طبيعة هذه الشخصية سهلة الوقوع في شِرك اليأس والحزن وعدم الإيمان بأن الحياة أحيانا ما تخادع قانون الاحتمالات من أجل كسر منظومة التوقّع ومنطق الأمور، فقط كي تُبقي على دهشتها الدائمة لنا. لحظةٌ طويلة ممتدة من الصدمة، وكثيرٌ من الدموع ونظرات الشرود الفارغة من الحياة أجاد أداءها هاني سلامة فمهّد لنا اكتشاف التباين النوعيّ بينه وبين نيللي كريم في كيفية التعامل مع المحن. هي آمنت بحُلمها وآمن هو بموته. هزم إيمانُها الموتَ، فيما وأد الموتُ حُلمَه الذي كان يعوزه الإيمان. حلمُها صلبٌ متماسك، وحلمُه مُخترَق بثغرةٍ في كعبه نفذَ منها سهمُ الهدم.
ظلَّت الفتاةُ ترقص طوال الوقت كيما يداهمُها الموتُ فوق خشبة المسرح، مثلما قضت فيرونيكا- باولو كويلو ساعاتها الأخيرة تعزف على البيانو كي تموتَ فوق أصابعه حين قررت أن تموت.

أما عن الباليرينا نيللي كريم فقدمت رقصات فادحة الجمال، إذ مزجت بين ألوان وطعوم من الرقصات والثقافات والحضارات لم أكن أتخيّل أن تجتمعَ سويًّا لتشكّلَ قطعةً رفيعة من الجمال والثراء. استطاعت، هذه الواعدة، أن تنسج غزلها من خيوط الرقص الشرقيّ والغربيّ والرعويّ والبدويّ والهنديّ والإسبانيّ والأوبراليّ ثم أضافت إحساسها الخاص بالحركة والسكنة والتوقيع لتنتج لنا رقصات بوسعها أن تدشّن مدرسةً جديدة في الرقص. أما المخرج خالد يوسف فقد أجاد اللعب بالكاميرا وزوايا التصوير والأحداث وتقطيع المشاهد وملامح الأبطال والحوار العفوي البسيط فقدم لنا تقنية رفيعة ربما تعلمها من أستاذه يوسف شاهين غير أنه قد خلّصها من شطحات الأخير وجنونه الفني فخاطب قاعدةً أعرضَ من المُتلقّين عوضًا عن القاعدة الضيقة، النخبوية، التي تمثّل جمهور الفذ يوسف شاهين. ثمة صدعٌ وحيد في ردود أفعال الأبطال أتت به منّة شلبي حين اكتشفت مرض زوجها. هذه اللحظة، برأيي، لم تُشبّع دراميا كما يليق بزوجة تصف زوجها بأنه "الهواء الذي تتنفس"، إذ انزلقت بيسر إلى خانة المرأة الغيور على زوجها وقفزت فوق المحنة الأهم وهي فقدان هذا الزوج نفسه بالموت.
موسيقى الفيلم الراقية أبدعها كرم مراد ويحي الموجي. ويحي هو صديق طفولتي وجاري القديم بالعباسية، وكنتُ على ثقة، منذ سمعته يعزف الكمان للمرة الأولى، بأنه يحمل مثل معظم إخوته وأخواته "جين" الفن من الراحل العظيم محمد الموجي. فجاءت الموسيقى عنصرا أساسيًّا ومتمما للدراما والحدث.

من المشاهد الثرية في الفيلم وقوف البطلة مقابل البطل فوق كوبري قصر النيل تحكي له أنها بالأمس حلمتْ أن قابلتْ فارسًا وركضتْ معه تحت المطر، بينما رأى البطل الحلمَ ذاته من دون مطر، يركضان معا فتمطر السماء رغم فصل الصيف، ما يكرّس فكرة الفيلم الأساسية وهي "الإيمان"، ليس فقط بحق الحلم والحياة، بل بحتمية حدوثه. شكرًا لهذا الفيلم وشكرا لفريق العمل به لأنهم هناك.